|
إبتسامة هاربة - قصة قصيرة
حيدر سالم
الحوار المتمدن-العدد: 5764 - 2018 / 1 / 21 - 15:16
المحور:
الادب والفن
الامطار غزيرة ، تتساقط ككلمات محروقة من شفاه خشبتها أصابع الصمت ، كلمات يابسة ، الطقس ينتحب طراوة تلاشت تحت غبار الازمنة ، لا المطر ، و لا سيلان السرعة الفائقة يمنح لحظة لدنة الى قلب " ابو عباس " المنسدح فوق كرسيه ، رافعا قدمه اليمنى فوق مكتبه ، المحل الذي أسدلت عليه أشباح الزمن ظلالها ، فوق جدرانه التي تآكلتها أنياب الرطوبة أو النسيان ، الباب الحديدي يكاد يغلق نفسه خجلا ، لم يزره و لا حتى ضجيج المارة ، فمحله بات " أنتيكة " قديمة ، حتى الخشبة التي خطت عليها اسمه " الأصالة بإدارة ابو عباس المصور " لا لون فيها ، إسمه الاحمر باهت ، أحمر مشلول ، لا يشحن العيون بوغزة لاهبة ، فمن سيتصور عنده و أحدث صورة التقطها لشاب في ثمانينات القرن الماضي ؟ هذه مزحة من يعرفونه ، يضاحكونه بها لكنها الجملة التي تقف في صدره منتصبة كخنجر ساخر ، الان عصر " السيلفي " ، الهواتف تلتقط الصور بدقة متناهية ، و تخزنها في ذاكرة وسع محله ، تلتقط أدق شعرة تنتصب في وجنة فتاة ، و لكنها لم تلتقط إبتسامة واحدة ! ، هكذا برر فشل كاميرته إزاء تضاحك الناس عليه . المطر يعزف نفسه على الزجاج ، يلوح كصوت بلاستيكي ، و كأنه توقف هناك ، في الثمانينات ، أما الآن فهذا سائل للزينة ، يبلل و يعزف لكن بدون صوت و طراوة ، يسقط متخشبا في زمن معدني ، الضوء الشحيح يفرش نفسه تحت إنعكاسات الابنية ، بين تلافيف الصمت الطافق ، يخترق عتمة السكون صوت طفل يتخبط في بركة صغيرة ، الشارع فارغ ، لا يعرف " ابو عباس " من يملئ رأسه الان و كل العالم صار فارغا منذ ثلاثين سنة . إرتفع صوت القرآن من الجامع القريب ، لم يعتد البقاء على كرسيه طوال اليوم ، إستكنت زخات المطر ، تحولت الى قطيرات متباعدة ، الهواء صاف ، كأن المدى غسل نفسه من أدران هذا العصر ، قذارة السرعة ، تكنولوجيا الاشباح ، لم تسقط كلمة " سيلفي " من شفتيه الا و هي مبللة بوابل من الشتائم ، هذه الكاميرا الأمامية التي قطعت رزقه ، لم تكن النقود شاغله الذي نبعت منه إغتراباته المسيجة ، فأبناؤه ينفقون على البيت ، لكن الخيط الذي نسجه في ثوب العالم أخذته الرياح الى مديات قاحلة ، مديات سوداء ، تأكله اللا إتجاهات داخل هبوب لا ينقطع . لا موسيقى في هذا العالم ، فوضى و ضجة تجدد نفسها ، كل ذرة ملعونة هنا تصرخ ، تنادي صوب إنقاذ لا ينفذ ، صرخة تمتد صوب كف قوضها الظلام ، الموسيقى لا تعرف طريقها إلى مدينته ، مدينة ينخرها وباء مبهم ، مدينة الثورة أو علبة الكبريت التي لا تنطفأ / لا تشتعل ، علبة الكبريت التي تحرق يديك ، و لا تضيء لك إلا تيهك الرابض فوق الخطوات ، ماذا ينتظر " ابو عباس " من هذا العالم الذي يكبس زرا وهمي فوق شاشة ملساء ليؤرخ لحظة ، تجمدها في أبدية لا يفتتها الانقضاء ، قال له مرة عجوز أثناء تصويره لعائلته في بداية الثمانينات ؛- إنه لو لا الاحفاد الذين أصروا على صورة جماعية لما قبل أن يقف أمام آلة مثل هذه ! -، تلك الاداة التي تسجن لحظة ما ، تقرفصها خلف القضبان ، تصخرها ، تشل حركتها ، تؤطر الهمسات المرفرفة ، الانفاس التي تشعل المكان بحميمية ناعسة ، و دفئ فاتر ، لكنه لم يكن ليقبل بهذا الحكم المتعسف على كاميرته القديمة ، و يقبله على الهواتف الذكية ! ، حيث السيلفي يظهر إعجازه بضغطة طفيفة ؛ تجميد لحظة ، لا الامساك بها ، بل التمسك بأصداء هروبها ، الصورة تلك الأصداء التي تركت مشهدها في سكون أزلي ، كان يشاهد الابتسامات التي التقطها ، و يعلق ساخرا على " سيلفيات " أحفاده إنها بدون إبتسامة ، ( السيلفي يخشب الإبتسامات يا أبنائي ! ) ، تذكر العحوز الذي كان رافضا لإلتقاط صورة لولا إصرار أحفاده ، لهذا الإصرار ذاته يمتلك " أبو عباس " عدة صور سيلفي ، أو عدة إبتسامات خشبية . وثب " ابو عباس " من سباته ، نافضا غبار الماضي من قدميه ، أحكم قفل المحل ، متقلدا كاميرته التراثية مثل كل يوم ، لعله يسمع نداء من فرد تفلت منه رغبة التصوير على الطريقة المندثرة ؛ يرفع دثار الغبارات المطبقة فوق عدسة الكاميرا ، سار متمتما بلعنات لا تنضب ، تدفق غضبه نهيرات من العرق المملوح فوق جبينه الأسمر ، تذمر من الشتاء الجديد ، شتاء لا يبرد الجلد ، و يترك للعرق أن يتصبب ، كل شيء فقد سماته ، المطر بلا صوت ، الشتاء بلا برودة ، لا طراوة في هذا العالم البلاستيكي ، هذه الكلمات كانت عزاؤه الهش ، العزاء الذي تكسره أي نأمة من واقع فظ . مضت نصف ساعة على دورانه بين الشباب ، ينادي بينهم ، ( صورة بالف ) ، كان " أبو عباس " أيقونة التصوير في أيام الجمع ، في صلاة الحمعة ، ينتسج مع حشود الناس قرب محله ، الصلاة التي تقام في مكتب السيد الصدر ، شاهد الصورة الكبيرة التي كان صدام حسين مرسوما عليها قبل 2003 ، الان يتوسطها جمهرة أناس يهتفون ، يخرجون من مرقد علي بن ابي طالب ، يعتلي الصورة من اليمين السيد محمد باقر الصدر ، و من اليسار محمد صادق الصدر ، بحلق في الصورة طويلا ، كيف غير الزمان ذلك الوجه الجامد ، وجه صدام الذي طالما تخيله سرمديا ؛ بهذه اللوحة الحالية ؟ لماذا لم تتغير الصور التي التقطها ؟ إبتسم وناجى السيد شاكيا إليه المصلين الذين لم يلتقطوا الصور منذ مدة طويلة ، بقي داخل مناجاته ، يتهادى فوق إبتسامته التي هربت من بقايا عالم يتداعى ، جلس فوق العشب الندي ، لم يكن العشب طريا ، الاشياء صلدة ، ملفوفة بصلابة عصية على الهدم ، أطال النظر الى المراهقين المدخنين ، تمدد مثلهم ، فكر في النجمة التي تعاند الغيوم للظهور خلفها راقصة ، يهزهزها صفاء يرسم فوق تقاسيمه لحظة هنيئة ، - ماذا لو كانوا يهنئون بلحظة واحدة في هذه الحياة ؟ لو تعتلي ملامحمهم إبتسامة طرية واحدة في هذه الحياة ؟ - حمل أسئلته في قلبه أو سلة الخوص البالية ، و خرج الى الشارع ، كانت الارصفة تضغطها حركة هوجاء بدأت بعد توقف المطر ، السيارات تزداد أو علب الريح المتلاهفة ، تلوك الشارع بإنارة لا تضيء ! ، الرذاذ يمسح وجهه من خيبة لا تحذفها المعجزات ، ما كاد يقطع الشارع حتى على صوت الإنفجار فوق هواجسه القديمة ، صار تحت عجين بشري ، الأذرع تتوسد بطنن ، حلقت ساقه اليسرى في مكان ما سيعرف بعد سويعات ، كانت أضواء " فلاشات الكاميرات " من الهواتف الذكية تغرق المهشد ، جميع الشباب الذين نجوا يلتقطون لهم الصور ، يؤرخون دمى الموت المتفحمة ، ينطفئ الفلاش فتعلو وجهه إبتسامة هاربة من زمن لا يعود ، يضيء الفلاش فتختفي الأبتسامة في ظلام زمن لا ينتهي ، سالت فوق كاميرته قطرة مطر ، كانت تعتلي صدره كقلادة فرعونية يسافر بها الى عالم الغياب ، نزلت القطرة كطراوة هاربة من زمن بعيد ، طراوة تبلل شفاه العصر المعدني .
#حيدر_سالم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العنف اللغوي في الاغنية العراقية
-
برستيج العامل الجديد
-
عن سوق مريدي (3 ) / مروءة أهل العراق البلاستيكية
-
الأخطل الصغير و دماء الورد !
-
الابنودي أصابع الطين - مقال
-
باليه فوق الجثث - قصة قصيرة
-
كافكا و جليل القيسي
-
مهرجان الغايات و الوسائل
-
عن جدي و الشهد و الدموع
-
عجين مريدي - قصة قصيرة
-
عن سوق مريدي - مقال
-
عن سوق مريدي ( 2 ) - مقال
-
جدار الاوراق _ قصة قصيرة
المزيد.....
-
-انطفى ضي الحروف-.. رحل بدر بن عبدالمحسن
-
فنانون ينعون الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن
-
قبل فيلم -كشف القناع عن سبيسي-.. النجم الأميركي ينفي أي اعتد
...
-
بعد ضجة واسعة على خلفية واقعة -الطلاق 11 مرة-.. عالم أزهري ي
...
-
الفيلم الكويتي -شهر زي العسل- يتصدر مشاهدات 41 دولة
-
الفنانة شيرين عبد الوهاب تنهار باكية خلال حفل بالكويت (فيديو
...
-
تفاعل كبير مع آخر تغريدة نشرها الشاعر السعودي الراحل الأمير
...
-
مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 158 مترجمة على قناة الفجر الجزائري
...
-
وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبدالمحسن عن عمر يناهز 75 عاماً ب
...
-
“أفلام تحبس الأنفاس” الرعب والاكشن مع تردد قناة أم بي سي 2 m
...
المزيد.....
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
المزيد.....
|