أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ناصر ثابت - كيف تنهض الأمة العربية من هذا الحضيض؟















المزيد.....


كيف تنهض الأمة العربية من هذا الحضيض؟


ناصر ثابت

الحوار المتمدن-العدد: 5757 - 2018 / 1 / 14 - 22:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أحداثٌ كثيرة وخطيرة توالت على الأمة العربية في العقد الأخير، أو في العقود الأخيرة، بطريقة لا تترك مجالاً للشك أن هذه الأمة تعيش شللاً شبه كامل وعجزاً خطيراً في قدراتها ليس فقط الدفاع عن نفسها، إنما إخراج ذاتها من هذا المستنقع الموحل الذي تعيش فيه.
بدت الأمة العربية عاجزة عن فعل أي شيء إزاء ما يحيق بها وما يحيق بأبنائها. وفي الحالات القليلة التي حاولت فيها أن تفعل شيئاً، بدت متخبطة ولا تملك الرؤيا ولا تستطيع أن تعرِّفَ المشكلة حتى تجد لها الحل. أما الأحداث التي نتحدث عنها فكانت متنوعة في تصنيفها، منها الاقتصادي، ومنها السياسي، ومنها العسكري، ومنها ما هو متعلق بالهوية، أو السيادة والكيانية. لا شك ان المؤرخين سوف يسجلون هذه الأحداث في سجل طويل سيكون من المؤلم جداً على الأجيال القادمة أن تقرأه. كما أن دارس التاريخ الذي سيأتي لاحقاً سيكون لزاماً عليه أن يدرسَ الكثير من التفاصيل غير المفهومة، ومن وجهات النظر المتضاربة حول كل حدث من هذه الأحداث.
إنه سجل مليء بالأخطاء والخطايا والانتكاسات والهزائم والخيبات. من سقوط الدول إلى الحروب الأهلية إلى صراع الأنظمة إلى انهيار القيم، وانتشار الظلم، والحصار والقهر، وفقدان الأمل واستبداد عواطف اليأس والانكسار.
ولكن ما هي الأسباب العميقة لهذه الهزيمة الكبيرة التي تعيشها الأمة؟ إذا نظرنا في الأسباب، فإننا نستطيع أن نحصيَ الكثير منها. هي أكثر عمقاً مما نسمعه في نشرات الأخبار. بل أكثر عمقاً مما نسمعه في البرامج الحوارية، التي سرعان ما تتحول إلى حلبات مصارعة بين الأقطاب التي يلقي فيها المشاركون باللائمة على خصومهم، متهمين اياهم بالتسبب في هذا الحال الذي وصلناه جميعاً.
الأسباب أيضاً أكثر عمقاً من نظريات المؤامرة التي اصبحت هي أفضل التفسيرات المتوفرة لحال الأمة.
ونحن في كل الأحوال ينبغي لنا أن ندرك أننا لن نخرج من هذه الحالة الخطيرة لا بالشعر، ولا بالشتائم المتبادلة، ولا بتراشق الاتهامات، ولا بالعرائض والصراعات حول من وقعها ومن لم يوقعها.
لن نخرج من هذه الهزيمة العميقة دون أن ندركها بعقلنا الجمعي، أعني أن نعرف في قرارة أنفسنا أننا مهزومون وتائهون. أن ندرك داخلياً أننا يجب أن نفعل شيئاً مختلفاً، وأن نفكر بطريقة مختلفة حتى نحقق نتائجَ مختلفةً. وحينها، سنظل في تلك الدوامة المؤلمة ندور، وندور، وندور، دون أن نجد سبيل الخروج.
الواضح أننا نحتاج إلى أن نبحث هذا الأمر في مستوياته الفكرية والثقافية، وأن نسمع آراء المفكرين المبدعين وصناع الأفكار والفلسفات المخلصين، لا أن نسير على خطى من يجترون الأفكار الجاهزة ويكررون ما يحب أن يسمعه الجمهور.
نستطيع أن نضع الكثير من الأمثلة التي تدل على عمق الأزمة، وخطورتها، ولكن الأهم هو أن يتجرد القارئ من التفسيرات الغيبية ونظريات المؤامرة والفرضيات السهلة حتى يُدرك عمق المشكلة.
هل تنقصُنا الأمثلة على الإرهاب، وعلى ممارسته من قبل الكثيرين من أبنائنا؟ هل تنقصنا الأمثلة على الديموقراطية الفاشلة في الكثير من الدول العربية؟ هل تنقصنا الامثلة على الصراعات والحروب الأهلية؟ هل يصعب علينا أن نجد أمثلة على الظلم والفقر وسفك الدماء؟ هل من الصعب أن نتحدث عن الوهن الاقتصادي والبطالة وانعدام الفرص عند الأجيال الشابة؟
نستطيع أن نضع الكثير من الأمثلة وأن نغذيها بالنقاشات وندعمها بالأدلة والتفاصيل. ربما نفعل هذا في مكان آخر، ولكننا نود اليوم أن نسأل أسئلة مختلفة قليلاً: ما هي الأسباب؟ وما هي الحلول؟
وقبل أن نبدأ نُذكِّرُ القارئ الكريم أن كاتب هذه السطور لا يركن إلى التفسيرات المتحيزة ولا إلى الفرضيات المبنية على الظنون الواهية. فمثلاً، فرضية أن الإرهاب مصدره الغرب كمؤامرة على العرب والمسلمين، لا يمكن أن نركن إليها وأن نستعملها في الدراسة والتحليل إلا بعد أن يدرسَها الباحثون المحايدون ويناقشوها ويثبتوا صحتها. ولكن حتى ذلك الحين لا يمكننا إلا أن ننظر إلى الإرهاب، بصفته نابعاً من ذات الأمة ومن طريقة تفكير أبنائها ومن وعيها التاريخي المتغلغل في شخصيتها. وحتى في الحالات التي اقر فيها الغرب أنه استخدم الإرهابيين الإسلاميين العرب لمصالحه (القاعدة في افغانستان) فإننا يجب أن نعرف أن الإرهاب بحد ذاته بدأ عند العرب وأن الغرب استثمره استثماراً وشجعه. ومن هذا المنطلق يظل السؤال مشروعا، لماذا تركن الأمة العربية، شعوباً وحكومات، إلى الإرهاب؟
الجواب يكم في إحساس الأمة الكامن بأنها أمة مهزومة وضعيفة وأنها يجب أن تفعل شيئاً حيال هذا. ولكن المشكلة أن ما تحاول فعله يذهب عادة في دروب خاطئة ويستخدم أساليبَ مرفوضةً تماماً.
ما هي الأسباب التي جعلت الأمة تصل إلى ما وصلت إليه اليوم من الخراب؟ أزعمُ أنني أستطيع تلخيصها في: انعدام الديموقراطية، وانتشار الفساد، ورفض المبدأ العلماني.

انعدام ثقافة الديموقراطية

لا يزعم أشد المعجبين بالديموقراطية أنها دائما تنتج الأفضل، الأمثلة كثيرة على عكس هذه المقولة، نجدها في انتخاب ترامب في الولايات المتحدة، وانتخاب مرسي في مصر، وانتخاب حماس في فلسطين. وهؤلاء برأيي ليسوا بقادرين على إدارة البلاد، والحفاظ عليها وعلى علاقتها مع دول العالم.
أنا أتفق مع نيتشة في سخريته وانتقاده لديموقراطية الجموع كما أسماها، وهي التي قد تجلب الغوغاء للحكم وتقصي المفكرين والعباقرة لأنهم يمثلون الأقلية، لكن الديموقراطية تساهم في اشراك الجميع في الحكم، وتضمن طريقة سلمية وسلسة ونظامية لعملية الاختيار نفسها.
الديموقراطية تترجم الإرادة الشعبية. هذه الأرادة ليس بالضرورة أن "تعرف مصلحتها" دائماً، ولكن ترجمتها على أرض الواقع وإنفاذها يمنح الشعب حقه في أن يكون صوته مسموعاً.
وهذه بحد ذاتها تجلب الاستقرار، وتضع المسؤولية على الفائز، وتمنح الخاسر الفرصة للتجريب مرة أخرى بعد انقضاء الدورة الحالية، بناء على ما أنجزه (أو لم ينجزه) الفائز الحالي بالإرادة الشعبية.
أعتقد أن العملية الديموقراطية هي أفضل ما توفره الحضارة البشرية الحديثة من أنظمة لاختيار حكام البلاد. واليوم، نستطيع أن نقول إن معظم الصراعات السياسية التي تسيطر على الوطن العربي في وقتنا الحالي ناتجة عن انعدام ثقافة الديموقراطية. غني عن القول إن الديموقراطية ليست مجرد صندوق انتخابات. بل هي ثقافة تبدأ في البيت والشارع والمدرسة وتمتد إلى الصندوق والبرلمان والمجتمع.
اكثر المجتمعات ممارسة للديموقراطية تعرف أن هذه الثقافة نسبية. حتى في أمريكا وفرنسا وغيرها من الديموقراطيات العريقة يعرف المواطنون أن ديموقراطيتهم هذه ليست كاملة تامة، بل هي نسبية تماماً. هذا في المجتمعات الديموقراطية فكيف بالمجتمعات التي لا تعرف من الديموقراطية إلا صندوق الانتخابات؟
فلو أن هذه الثقافة موجودة لاستطعنا بسهولة ان نضمن استقراراً ولو نسبياً في مصر واليمن وسوريا وغيرها من الدول العربية. وحتى أريح القارئ الكريم فأنا لا أتحدث عن الموضوع من جانب الأنظمة فحسب إنما يشمل كلامي الانظمة والشعوب.
إن الفكرة المسيطرة في مجتمعاتنا، تتلخص في أن الأنداد السياسيين يعتقدون أنه من حقهم حماية الوطن من سيطرة خصومهم. فالسيسي وانصاره يظنون أنهم يحمون مصر من سيطرة الإخوان (حتى لو جاؤوا بالصناديق)، وحركة حماس تظن أنها خلصت الشعب الفلسطيني من خيانات حركة فتح في غزة، والنظام السوري يظن أنه يحمي سوريا من المعارضة والحوثيون يظنون أنهم يخلصون الوطن من الرئيس هادي ومجموعته، وهكذا.
لو كانت ثقافة الديموقراطية متجذرة في مجتمعاتنا لكان الإخوان المسلمون قد أعطوا فرصتهم الكاملة للحكم، ولتركت حركة فتح لحماس حق التشريع بشكل كامل، ولعُقدت في سوريا انتخابات نزيهة واحترم الجميعُ نتائجها مهما كانت، وهكذا.
مع ملاحظة أن هذا الأمر لن يحل مشاكل هذه البلدان في لمح البصر، لكنه سيكون عاملاً مهما في استقرارها، وانسياب الحياة فيها دون الكثير من التخبط والعداء. والاستقرار مهم جداً للتنمية، للاستثمارات القادمة من الخارج، للسياحة، للحفاظ على بيئة مناسبة للشباب للبقاء في وطنهم والمساهمة في بنائه، بدل البحث عن الهجرة بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة.
ولنقارن بين مصر والولايات المتحدة كمثالين واضحين على ما تفعله الديموقراطية، بين أن تكون مجرد صندوق انتخابات (مصر) وأن تكون ثقافة أصيلة عميقة في المجتمع (الولايات المتحدة).
في مصر، انتخب الشعب الإخوان في انتخابات نزيهة، وضعتهم على سدة الحكم في الرئاسة ومجلس الشعب. من حق خصومهم أن يشعروا بالهزيمة، ولكن ليس من حقهم أن يضعوا العراقيل أمام الفائزين في الارادة الشعبية، وذلك احتراما لهذه الإرادة مهما كان. مرة أخرى أنا شخصياً ضد الإخوان ولم أكن لأنتخبهم لو كنت في مصر وكان لي حق التصويت، ولكن مجرد أن يفوزوا في الصناديق فيتوجب علينا أن يتركهم يمارسون حقهم الكامل في إدارة البلاد حتى لو قادوها الى كوارث. ولنتذكر دائما أن الشعب اختارهم ويجب على الشعب أن يتحمل مسؤولية اختياره، وهو الذي سيتعلم من هذا الخطأ في الاختيار وسيعدِّل في مزاجه العام في الدورة القادمة. ولكن هذا لم يحدث واستطاع خصومهم أن يزعزعوا حكمهم وأن يقيموا "ثورة" عليهم وكل هذا أدى إلى إشاعة جو من عدم الاستقرار والمليء بالكثير من التخبط الذي ينبئ بانهيار خطير.
أما في الولايات المتحدة، فقد أدى النظام الديموقراطي المعمول به هناك إلى فوز واحد من أسوأ الرؤساء الأمريكيين على الإطلاق. ترامب كان دائما مثالاً للفساد الأخلاقي وللجشع وللتعصب والعنصرية، والأهم أنه لا يملك من الخبرة السياسية شيئاً، وأن شخصيته لا يمكن أن تصلح لقيادة أقوى وأهم دولة في العالم. ولكن المتابع للشأن الأمريكي يعرف أن خصومه الآن تركوا له سدة الحكم وأنهم بدأ يعملون على إعادة تأهيل أنفسهم للفوز في الانتخابات القادمة، بدل أن يضعوا العراقيل أمامه، لأنهم يعرفون أن هذا سيجلب عدم الاستقرار لبلدهم. لكن هذا لا يعني ألا يعارضوا سياساته، وهذا من حقه بل وهو من صميم الممارسة الديموقراطية، ولكنهم يفعلون ذلك تحت قبة الكونجرس، وفي الصحافة، وفي المحاكم إن لزم الأمر. ترامب سيظل في الحكم أربعة أعوام كاملة ولن تتم تنحيته إلا بقوة القانون والدستور إذا صدر عنه ما يعارض القانون والدستور.
هذان المثالان يوضحان أن المشكلة ليست في الخيار الشعب، إنما في طريقة التعامل مع هذا الخيار، واحترامه، أو عدم احترامه.
والمشكلة تزداد عمقاً إذا علمنا أن انعدام ثقافة الديموقراطية يرافقه انتهاك خطير للحريات العامة والخاصة. والحرية مهمة جداً للتنمية والإبداع والبحث عن أسباب التقدم والازدهار والتحضر. يجب على المجتمعات العربية، أفراداً وحكومات أن تقر بأهمية الحرية، كقيمة بشرية رفيعة المستوى، لا تقوم الحضارات دون أن تُصان، ولا يحدُّها إلا القانون الذي يضبطُها ويمنع البشر من إساءة استخدامها. وإساءة الاستخدام تأتي إذا استخدمت الحرية لإيذاء الآخرين والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، وخرق القوانين المعمول بها، وارتكاب الجرائم.
نعم، تحتاج الأمة العربية إلى ان تفهم أولا أهمية الحرية المطلقة، وأن تعمل ثانياً على احترامها وصيانتها، وأن تجعلها من المقدسات التي يمنع انتهاكها، وأن تغلفها ثالثاً بالقوانين التي تحميها وتحافظ عليها وتعاقب من يسيء استخدامها.
وما أن يتعلم المجتمع العربي ثقافة الديموقراطية، وهذه بحد ذاتها تحتاج إلى إفراد مساحات كبيرة للخوض فيها (أقصد كيف ننشر ثقافة الديموقراطية الحقيقية في الوطن العربي)، ما أن يتعلم ذلك، ويعلي قيمة الحرية الفردية والعامة، حتى يصبح احترام حقوق الإنسان تحصيلاً حاصلاً.
إن اعترافنا لأي فرد من أفراد المجتمع بأنه إنسان، يعطيه الحق في أن نحترم حقوقه بالعدل والمساواة أمام النظام، وبعدم انتهاك حقوقه القانونية في محاكمة عادلة، والحفاظ على كرامته في حالات الاعتقال، واحترام حقه في قول رأيه وعدم الاعتداء عليه بسبب هذا الرأي.
الإنسان هو رأس المال الحقيقي للأمة، وهو المصدر الطبيعي الأول، وهو الذي يرفع الدولة على أكتافه، فتحقق هي مصالحه ويعطيها هو من عمله وعرقه وضرائبه وخدمته في الجيش. لذلك فإن الحفاظ على حقوق الإنسان كما أقرتها المواثيق الدولية هو أمر في غاية الأهمية، وإن انتهاك هذه الحقوق، كما هو منتشر وبشكل فج في المجتمعات العربية، يؤدي إلى خسارة الدولة لرأسمالها الحقيقي، ولمصدرها الطبيعي الأول، فيبحث الشباب عن فرص العمل في الخارج، ويفضلون الغربة والعيش بكرامة على البقاء في وطن ينتهك كرامتهم وإنسانيتهم.
من حق الإنسان أن يأكل ما يشاء، وأن يشرب ما يشاء، ومن حقه أن يقول ما يشاء وأن يرتدي الثياب التي يحبُّها وأن يعيش في المكان الذي يختاره هو.
من حقه أن يمارس الديانة التي يريدها أو ألا يمارس أية ديانة. من حقه أن يكون اتجاهه الجنسي ما يريد، سواء كان مثلياً أم غير ذلك. من حقه أن يصوم في رمضان أو ألا يصوم. من حقه أن يؤمن وأن يكفر كما يشاء، ومن حقه أن يسمع خطاب الحاكم أو لا يسمعه. من حقه أن ينتقد الرئيس أو لا ينتقده، ومن حقه، بل ومن واجبه أن ينتخب وأن يحاسب الذين ينتخبهم، وهكذا.
لكن الفرد العربي يعيش حالة من انعدام الإحساس بالمواطنة، على المستوى الشخصي والجمعي. والمواطنة هي الاحساس بالانتماء إلى الوطن، والمحافظة على ما يتبع ذلك من الحقوق والواجبات. المواطن لا يلقي النفايات في الشارع لأنه يحب وطنَه، والمواطن لا يعبث بالممتلكات العامة مهما كان الدافع. الممتلكات العامة، من اسمها، هي ملك الجميع والمواطن الصالح هو الذي يصونها ويحترم حق اخيه المواطن الآخر فيها. أنت لا تكون مواطنا صالحاً، مثلاً، إذا أوقفت سيارتك في منتصف الطريق وتسببت للآخرين بألا يكونوا قادرين على استعمال هذا الطريق الذي هو ملكهم أيضاً. المواطن الصالح يدفع الضرائب، ولا ينكر حق الدولة في ماله، موقنا أن هذه الضرائب تساهم في أن تقديم الخدمات له.
هذا بخصوص ثقافة الديموقراطية. أن يحترم الناس نتائج التصويت حتى لو لم تكن على هواهم. إن هذه الثقافة تزدهر وتعطي ثمارها عندما تكون في بلاد تحترم الحرية والفردية وحقوق الإنسان والمواطنة. وهي قيم أساسية لا غنى عنها يتوجب على الشعوب العربية أن تعيد كتابة دساتيرها لكي تنص عليها بشكل واضح لا يقبل التأويل، ومن ثم أن تكون هناك محاكم دستورية عليا مهمتها المحافظة على هذه الدساتير، ومنع الأفراد والحكومات من أية ممارسات تنتهكه، ومنع المشرعين من إقرار أية قوانين لا تحترم بنوده.

رفض العلمانية

وتخضع المجتمعات العربية لسيطرة الأديان وترزح تحت حكم رجال الدين. ويقوم هؤلاء بتلقين الإنسان كل شيء، ويعلمونه رفض الحرية والديموقراطية، ويزورون التاريخ ويزيدون الخلافات السياسية تعقيداً.
والعلمانية في الوطن العربي تُحارب بشكل لا مثيل له في العالم. مع أن الدول الحديثة لم تنهض إلا بعد أن تخلصت من سطوة الدين. حتى لو كان هناك بعض الرموز الدينية المنتشرة هنا وهناك في الدول الحديثة، إلا أن هذا لا يعني أبداً تدخل الدين في سياساتها.
على الدول العربية أن تعرف أنها لن تنهض ولن تخطوة خطوة واحدة على سلم الحضارة إن لم تتبنى العلمانية الكاملة في مؤسسات الحكم المختلفة. عليها أن تقر العلمانية (صراحة أو بالمعنى) في دساتيرها وعليها أن تعيد الدين إلى مؤسسات العبادة. هناك حيث يستطيع المؤمنون أن يمارسوا ما يرونه مناسباً من الأديان والعبادات، دون تدخل من أحد ما داموا يلتزمون القوانين. وهنا يرجع الدين ليصبح حقاً فردياً للإنسان، وتصبح ممارسته واحدة من الحريات المصونة.
كما أنه يجب تخليص المناهج من سطوة الدين، والغاء حصة الدين من اليوم الدراسي للطلبة في جميع المراحل الدراسية.
وهذه العلمانية هي الأساس في تحسين الواقع القانوني للدول العربية، وفي فهم التاريخ بشكل أفضل وفي وفي تشجيع البحث العلمي وإعادة الاعتبار للغة، بصفتها أداة تعبير هامة يستوجب أن تكون بعيدة كل البعد عن الدين وتعابير الدينية.
الحوارات بين الداعين إلى العلمانية والداعين إلى الحكم المبني على الأديان أخذت وقتها في العالم العربي، واستمرت عقوداً طويلة، وصار من الواجب أن نتركها خلفنا وأن نخطوة خطوة أخرى في طريق الحضارة، وهذه الخطوة هي العلمانية والتخلص من تدخل الدين في الحكم وأدواته.
وهذه يتبعها منع استخدام الدين في تشكيل الأحزاب، ومنع استخدامه في الخصومات السياسية. كما يتبعها أيضاً عدم استخدامه في فهم التاريخ، لأنه يؤجج الصراعات والمشاكل ويجعل التعايش في الوقت الحالي أكثر صعوبة.
فمثلا، استخدام الدين في تفسير التاريخ يجعل العرب المسلمين القدامى فاتحين لمصر ويعطيهم الحق في حكمها على هذا الأساس ويعطيهم درجة على المواطنين الأقباط، الذين بدورهم سوف يستخدمون تقوقعهم الديني حول بعضهم البعض للدفاع عن حقهم في الوطن، ولو أوقفنا استخدام الدين في فهم التاريخ، فإننا سوف نجعل كل المواطنين المصريين سواسية أمام الدولة والنظام والحكم، كلهم مواطنون سواء كانوا أبناء "الفاتحين" المسلمين أو الأقباط الذين كانوا فيها قبل دخول المسلمين.
والكلام ينطبق على العراق وسوريا وفلسطين وبقية الدول. حتى لو كان هذا التعايش هو التعايش الذي يجب أن نتوصل إليه بين العرب واليهود في فلسطين، إما في دولة واحدة أو في دولتين منفصلتين.
إن علمانية التاريخ تؤدي بنا إلى أن نفهم الوجود العربي في فلسطين بصورته الصحيحة، وإلى أن نفهم الوجود اليهودي فيها أيضا بصورته الصحيحة، وأن نفرض عليهما التعايش معاً، وذلك أفضل من أن يسيطر القوي، الذي سوف يضعف يوما ما وسيتم القضاء عليه من القوي الذي سوف يأتي بعده.
ونحن لا نقصد الدعوة إلى صورة وردية فانتازية لا وجود لها، إنما هي دعوة للتعايش بين جميع الديانات والأعراق والتي يمكنُها أن تحتفظ بهويتها الثقافية والدينية كما تشاء ولكن دون اقصاء للآخر ودون أن تفرض عليه معتقداتها.

انتشار الفساد في كل المستويات

والفساد في العقلية العربية أصيل، يسيطر على تفكير الأفراد قبل الحكومات، ولكننا تعودنا ان نكثر من ذكره في حال الحكومات لأن اصحاب المناصب يمتلكون من النفوذ ما يمكنهم من الوصول إلى المال العام، وإلى تسيير المؤسسات العامة لمصالحهم الخاصة.
لكن لو كان الفساد ممارسة حكومية فحسب، لكان بإمكاننا التخلص منه بسهولة باستبدال الحكومة أو استبدال أفرادها الفاسدين. غير أن استبدال الحكومات في تونس ومصر واليمن لم يساهم في القضاء على الفساد.
والأمثلة على الفساد كثيرة ومتشعبة، نذكر بعضها هنا على سبيل المثال لا الحصر.
في فلسطين، تنتشر المحسوبيات، حيث يمكنك مثلا أن تظفر بوظيفة لا تستحقها لمجرد انك ترتبط بعلاقة بأحد المسؤولين. الفاسد هنا ليس هو المسؤول فحسب، إنما هو الفرد الذي سمح لنفسه أن يستولي على هذه الوظيفة دون وجه حق ودون أن تكون هناك منافسة شريفة ومتكافئة مع مرشحين آخرين لنفس الوظيفة.
هذا النوع من الفساد منتشر في البلاد العربية كلها تقريباً.
مثال آخر، في سوريا يمكنك أن تنجز أية معاملة تريدها مهما كانت إذا قدمت الرشوة للمسؤول أو لموظف الشباك أو ما شابه.
وحتى نحافظ على المستوى الصحيح لما نكتبه هنا، نؤكد أن ما نقوله هنا ينطبق على المواطن العادي والمسؤول الحكومي على حد سواء. وقد أظهرت دراسة كبيرة جرت في مصر في عام 2011 أن الفساد يمارسه الكبار والصغار والأغنياء والفقراء على حد سواء في معظم أروقة الدولة المصرية.
والفساد أمر نسبي، فلا يوجد دولة نظيفة من الفساد بشكل كامل، والدول تعاني منه بنسب متفاوتة. الفروقات أن بعض الدول تحاسب الفاسد بشدة، مهما علا مركزه فيها، وبعض الدول لا تعاقب الفاسد ولا تحاسبه، وبعض الدول تجد فيها من يتباهى بفساده ويتحدث عنه دون خجل.
في اسرائيل مثلا يعاقبون أقوى رجال السياسة والحكم إذا مارسوا الفساد ويخضعون القادة والوزراء لتحقيقات الشرطة، مثلهم مثل أي مواطن عادي. أما في الدول العربية فلا يُحاسب الفاسد، وربما إذا قررت الدولة البدء بمحاسبة الفاسدين فإنها ستبدأ بالحلقات الأضعف، من المواطنين العاديين أو المسؤولين الذين تريد التخلص منهم، أما المسؤولون الأقوياء فلا يقربونهم. بل وفي أحيان كثيرة تستخدم شماعة محاربة الفساد في القضاء على الخصوم السياسيين من أجل اقصائهم وإخلاء الساحة لمن يدعي أنه يحاسب الفساد.
والفساد في العالم العربي ليس مجرد أنه مشكلة كبيرة تؤدي إلى إهدار المال العام، واستباحة مؤسسات الدولة من قبل المسؤولين المتنفذين، بل يتعدى إلى ما هو أخطر من ذلك، من انتشار الظلم وانعدام الأمان وتفشي الأخلاق السيئة، وانعدام المواطنة الصالحة. إن انتشار الفساد في المجتمعات العربية يمنع التنمية ويؤدي إلى فشل المشروعات وإلى التأخر في ايجاد الحلول للمشكلات المستعصية.
والدعوة للمواطنة الصالحة، ونبذ الفساد تؤدي بالضرورة إلى احترام القانون والنظام، بدءً من المواطن نفسه، قبل الحاجة إلى فرضه على الناس.
إن انتشار الفساد في العالم العربي يشكل علامة فارقة بين تخلف هذه المجتمعات ونموها. وإن محاربة الفساد بصدق وإخلاص، ومكافحته على كل المستويات سيأخذ هذه المجتماعت خطوة متقدمة في درب الحضارة.
كيف نحارب الفساد في العالم العربي؟ سؤال كبير يحتاج إلى مساحة كبيرة من التحليل والدراسة. غير أننا نستطيع أن نلخصه فيما يلي: نبدأ باختيار حكام البلاد بطريقة ديموقراطية سليمة مبنية على القانون والدستور، واحترام خيارات الشعب مهما كانت، ثم نترك للمؤسسات المنتخبة أن تمارس حقها في سن القوانين والأنظمة، التي تراعي المبادئ الأساسية للدولة ودستورها، ومن ثم تقوم هيئات مهنية تختارها المؤسسات الشرعية بالتحقيق في ملفات الفساد، بداية من أعلى الهرم حتى قاعدته، وفي النهاية يأتي دور القضاء للبت في هذه الملفات واصدار الحكم النهائي فيها.
والفساد جريمة من الجرائم، لذلك لا تتم محاربتها بالتوعية فحسب إنما بالقانون والقضاء.

وماذا بعد؟

هذه كانت المشكلات الأساسية التي تسيطر على الوطن العربي في وقتنا الحالي، ونحن نزعم أن السيطرة على هذه المشكلات والعمل على حلها سوف يؤدي بشكل عام إلى تحسن واضح في المستوى الثقافي، والى احياء اللغة، وانطلاق البحث العلمي والتنمية.
نحتاج إلى أن تهدأ الصراعات مع الآخر، وأن تتراجع حالة العداء مهما كانت. ونحتاج إلى أن نبحث عن الاستقرار، وأن نستثمر في علاقاتنا مع الأمم الأخرى بطريقة فيها من التعاون والندية أكثر من الكراهية والخلاف. وأن نستفيد من تجارب الدول النهوض والتقدم، والأمثلة كثيرة ومتنوعة في العالم من حولنا. كلهم سيقولون لنا: عليكم بالاستقرار، واحترام القانون، ثم الاستثمار في الإنسان، واحترام حقوقه المنصوص عليها في كل الشرائع.
بعدها سينطلق الإبداع، وستدور عجلة الإنتاج لتوازن ما هو سائد من الاستهلاك. فكل المجتمعات في العالم تستهلك المنتوجات الحضارية المختلفة، ولكن الفروقات بين المجتمعات تكمن في قدرة أحدها دون الآخر على الإنتاج والإبداع.



#ناصر_ثابت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رسالة أبي عبيدة بن الجراح إلى أهل ايلياء
- رحمَ الله امرءً عرفَ قدرَ نفسِه
- تاءٌ مربوطة
- نعم إرهابية، وليست -استشهادية-
- المشي ليلاً
- مهما فعلتَ ستهزمك عناصر العدم
- الهواء من حولي مالح
- قصيدة من وحي اللاشيء
- عن الموت والحياة والروح.
- مؤتمر آخر لفتح، المزيد من الضبابية والتشرذم
- -التطبيع- - ديكتاتورية اللغة ودورها في قمع الأفكار.
- تصحيح المسار، فلسطينيا. كيف يكون؟
- لستُ صوت أي شيء
- التعارض بين العقل والإيمان، إلى أين يقودنا؟
- حجر على جنب الطريق
- الخط الفاصل بين الموج الأزرق والرمل
- آلان كردي، ومأساة ضميرنا الجمعي
- تعذيب الساعدي القذافي، على طريقة الربيع العربي.
- المدينة هي الزمان، والصباح هو المكان
- قهوة خفيفة السُّكَّر


المزيد.....




- قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا ...
- أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق ...
- الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي ...
- موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق ...
- الرئاسة الفلسطينية تحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية أي اقتحام ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: وعود كييف بعدم استخدام صواريخ ATAC ...
- بعد جولة على الكورنيش.. ملك مصر السابق فؤاد الثاني يزور مقهى ...
- كوريا الشمالية: العقوبات الأمريكية تحولت إلى حبل المشنقة حول ...
- واشنطن تطالب إسرائيل بـ-إجابات- بشأن -المقابر الجماعية- في غ ...
- البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ناصر ثابت - كيف تنهض الأمة العربية من هذا الحضيض؟