أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - البُرَاق














المزيد.....

البُرَاق


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 5732 - 2017 / 12 / 19 - 05:08
المحور: الادب والفن
    


ليسَ بالأمر السهل أن يؤوبَ المرءُ إلى بلده، بعد عقودٍ من أعوام الغياب، ليجد كلّ شيء قد تغيّر. ولكن، لِمَ كان عليّ أن أراني في مكانٍ ناءٍ من الحارَة، وكما لو أنني قُذِفت من الطائرة وهيَ ما تفتأ محلقة في سماء المدينة؟
رأيتني إذاً أمام المنحدر الوعر، الذي أعتدتُ في زمن الطفولة تَسَلُقَ صخوره مع رفاق الزقاق في طريقنا إلى المغارة السوداء. آنذاك، كنا نعتقد أنّ مسالكَ المغارة، الغامضة، ممكن أن تُفضي بنا إلى أقصى بلاد الله. بينا أنا أستعيدُ ذلك الزمن، مررتُ برجلٍ رث الهيئة كان ينتهر بغلظةٍ ما بدا أنه حماره. أمسكتُ يدَ الرجل، راجياً إياه أن يرحمَ الحيوان المسكين. إذاك التفتَ هذا الأخير برأسه نحوي، ليرمقني بنظرة امتنان. قال لي صاحبه بلهجة متهدجة: " ليتك تشتريه مني، يا أخ، فيُريحني الله وإياه. كيفَ لي أن أعلفه، وأنا عاجزٌ عن إطعام عائلتي؟ ". لم يُساومني الرجل على ثمن حماره، وإنما طلبَ حَسْب أن أنقده بالدولار. وإذا بطفل صغير يظهر من خلف الرجل ليمد يده إليّ، قائلاً بأنه جائع. هاجت عبراتي للفور، حينَ تذكرتُ مشهداً على إحدى الفضائيات الإخبارية لولدٍ كان يشكو أمام مراسلها بأنه لم يذق طعاماً مذ عدة أيام. فأخرجتُ من جيبي قبضة من الأوراق المالية، فدسستها بيد الطفل. عند ذلك، تمتم الرجلُ ساخطاً أنّ هذا عبثٌ. إلا أنني حاولتُ صرفَ نظره عن الطفل، بأن طلبت مساعدته في ركوب الحمار.
" يمكنك أن تدعوه بالبُراق؛ هكذا أنا كنتُ أفعل. صدقني إنه دابة مباركة. ولم أكن لأقبل بيعه مقابل مال الدنيا، لولا جوع عائلتي "، قال لي الرجل. ما أن امتطيتُ ظهرَ الحمار، إلا وخيّل إليّ أنه يطير بي. مع ابتعادي رويداً عن صاحبه، فإن هذا ردد قائلاً بأنني أستطيع أيضاً تشغيل المقود وكابح السرعة. غيرَ أنّ الرجل لم يكن يمزح. فهأنذا أقبضُ فعلاً على المقود بيديّ، فيما قدماي تجربان الفرامل. الدابة، وقد أضحت دراجة هوائية، راحت تسير بي هَوْناً عبرَ درب زقاقٍ منعوتٍ باسم مسجده. ومن ثمة أنفتحَ أمامي الدربُ العريض، المُفضي في منتهاه إلى زقاقنا. مررتُ على الأثر حِذاءَ منزل العمة، فَفَغَمَ أنفي عبقُ عطرٍ أنثويّ، قديمٌ وحميم. وهوَ ذا المنحدرُ الأكثر وعورة في الدرب، يباغتني بظهور امرأة على طريقي. نجحتُ في تجنب الاصطدام بها، إلا أنّ قدميّ تعثرتا آنَ ضغطهما على الفرامل. هكذا فقدتُ السيطرة على الدراجة المفترضة، إلى أن أنقذني ظهورٌ طارئ. كان ذلك زميل المدرسة الإعدادية، الداغستانيّ الأصل، ومَنْ احتوى الدراجة المسرعة بقبضتيه القويتين. وجدتني بعدئذٍ أنحدر بروية وطمأنينة في النزلة المؤدية إلى منزل جدتي، قبل أن أنتبه إلى ظهورٍ أليفٍ آخر.
" إنه أبو سليمان؛ المتطوع في سرايا الدفاع وصاحبُ محل بيع الخمور "، خاطبني داخلي بتوجّس. كان الرجلُ منتصباً أمام مدخل المحل، وقد فتحَ سترته العسكرية على منظر صدره العاري. رمقني بنظرةٍ متفحصة، فيها ما فيها من مكر وريبة. تهيأ لي أنه صارَ أشبه بملة الروس منه إلى أهل ريف الساحل. لما اجتزتُ هذه الفكرة، طالعتني مفاجأة أكثر جدّة: " يا ربّي..! أليسَ هذا خال أمي الكبير، وهوَ من توفيَ لما كنتُ بالصف السادس الابتدائيّ؟ "، قلتُ في سري. طالعني الخالُ إذاً بسحنته الكئيبة، المغطاة بالشيب الناصع. ما أن ابتعدتُ عن موقفه، حتى ظهرت قريبة لي مرتدية هندام المرحلة الدراسية الإعدادية. كانت برفقة صويحباتها، وأغلبهن من الشركسيات المُعرّفات بالجَمال. خاطبتني قريبتي متضاحكة: " مبروك الحمار، ابن خالي! ". فانطلقت عندئذٍ قهقهات البنات. خجلي وارتباكي، جعلاني أكاد أفقد زمامَ الدابة حالَ ركوض ولد صغير باتجاهها. لحقه والده، فأمسك به مخاطباً إياه بلهجة منطقة " كرداغ ". شئتُ عند ذلك أن أحيي الولد بلغته: " تشاوايي كرّو؟ ". فتبسم لي الأب، قبل أن يخاطب ابنه بما معناه: " لماذا لا ترد، أيها القشمر؟ ". ثم لم ألبث أن انتبهتُ إلى رنين هاتفي الجوال، فكبحت الفرامل واستندتُ إلى عمود نور ينتصب إلى جانب الدرب. كان ذلك صديقي، المقيم في مدينتي السويدية الأولى، يسألني عن موعد عودتي إلى ديارهم. رحتُ أكلمه، فيما الدراجة تنساب ثانيةً على الدرب إلى أن اقتربت من المنحدر المؤدي للزقاق المطلوب. هممتُ ضغطَ الفرامل بقدمي اليمنى، وإذا بها تنعقد مع شقيقتها. ملهوجاً، أخبرتُ صديقي بالأمر وأنّ عليّ إنهاء المكالمة. رد عليّ بنبرة جدية: " أعطني الحمارَ لأكلمه، وهوَ سيخبرك بما عليك عمله كي تحل المشكلة! ". التفتَ الحمار برأسه نحوي، وكانت نظرته توحي أنه فهمَ كلام صديقي بخصوصه. فما هيَ إلا لحظة، وكان كل شيء على ما يرام. لم يبقَ لوصولي إلى الزقاق سوى اجتياز الجادة الضيقة، والتي يذهب مفرقها الآخر إلى الشارع العام. كي أتجنب حركة السيارات، فكّرتُ أن أنعطف إلى أول دخلة مررت بها. إلا أنني تجاوزتها إلى الدخلة الأخرى، دون أن أحيد عن درب الجادة. وإذا بسيارة بيضاء اللون، من نوع " بيجو ستيشن "، تسدّ عليّ الدربَ عن بعد. تمتمتُ وقد تملكني رعبٌ طاغٍ: " إنهم رجال المخابرات..! ربما أنّ مخبراً ما قد أعلمهم بوصولي ". فما عَتَمَت صورةُ ذلك العسكريّ أن انطبعت أمام عينيّ بنظرته الماكرة، فيما كنتُ هذه المرة أبكّت نفسي يائساً: " كان عليّ ألا أتردد في الانعطاف إلى إحدى تينك الدخلتين؛ عليّ كان أن أفعل ذلك لأنجو! ".



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيرة أخرى 61
- سيرة أخرى 60
- سيرة أخرى 59
- سيرة أخرى 58
- سيرة أخرى 57
- شادية وأدب نجيب محفوظ
- الكردي كمال جنبلاط
- القاعة رقم 1000
- سيرة أخرى 56
- المقهى
- سيرَة أُخرى 55
- العربة
- سيرة أخرى 54
- المبنى المهجور
- سيرة أخرى 53
- سيرة أخرى 52
- سيرة أخرى 51
- الأغراب
- الإشارة الحمراء
- أردوغان ولعنة الكرد


المزيد.....




- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - البُرَاق