|
|
المقهى
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5714 - 2017 / 11 / 30 - 10:54
المحور:
الادب والفن
" نساء.. نساءٌ جميلات، أيها العجوز الأخرق! " هتفَ أحد الجنديين الشابين، مخاطباً من بدا أنه صاحب المقهى. الجنديّ الآخر، صاحَ بدَوره: " وأيضاً المزيد من الفودكا، يا رأس الشمندر! ". ولكنه قالها للصبيّ النادل، وكان هذا ذا شعرٍ أحمر وطويل. كلا الشابين، كان مهندماً بملابس عسكرية غريبة ومدججاً ببندقية مزوّدة بحربة. كانت ملابسهما أشبه بتلك، التي يرتديها عادةً الجنود المكسيكيون. لغتهما، في المقابل، كانت عربية ولو أنها ثقيلة بفعل الخمرة على الأرجح. إلا أنني اشتبهتُ كذلك بلكنة الساحل في لهجتهما. " آه، هيَ ذي إحداهن قادمة مع قوّادها.. "، قال الجنديّ الأول بحيوية غامزاً رفيقه. كان الجنديّ يومئ إلى رجلٍ طويل القامة نوعاً، نزل للتو من سيارة أمام مدخل المقهى. امرأة جميلة على شيء من البدانة، دلفت أيضاً من باب السيارة الخلفيّ. ما لبثت هذه أن لوحت بيدها، مودّعةً امرأة أخرى كانت قد قبعت كالشبح داخل السيارة. أضواء المدخل القوية، أتاحت لعينيّ أن تتفحصا شكلَ المرأة القادمة. تابعتُها بانتباه أكثر، فيما هيَ تدخل المقهى، طالما أن ملامحها لم تكن بالغريبة على ذاكرتي. على الأثر، انتفض داخلي بهذه الجملة: " إنها هيَ؛ فتاةُ ربيع الحياة، الآفل! ". وكأنما هناف داخلي قد تناهى إلى المرأة بطريقة ما. إذ رشقتني بنظرةٍ منتبهة، وكانت لحظتئذٍ تحاذي مجلسي في طريقها إلى إحدى الطاولات. في الأثناء، كان كلّ من الجنديين الثملين يلوح سلاحه بوجه الآخر في حركة استعراضية. بيْدَ أنّ عينيّ لم تحيدا عن المرأة، حدّ أنها رشقتني أخيراً بابتسامة لطيفة مقتضبة. أطرافُ جسدها الناصعة، المنبثقة من فستان السهرة الأنيق والباذخ، كانت توحي بعنفوان أعوام الأربعين، العارمة. ولأنني كنتُ أكبرها بنحو الخمس سنوات، فإن الملاحظة تلك أدخلت نوعاً من الطمأنينة في روعي. غيرَ أنّ مرافقها، ما عَتَمَ أن جلسَ بمواجهتي فعكّر صفوَ لحظاتي الرغيدة. " أسمح لي بالقول، أن نظراتك لصديقة زوجتي توحي بأنك تعرفها؟ "، قال لي الرجلُ وظل ابتسامة متهكمة يهمي من فمه الكبير والشهوانيّ. لم تزعجني ابتسامته الوقحة، بالنظر لانشغالي بفكرة مبهجة: " وإذاً، فإنها صديقة زوجته وليست شيئاً آخر! ". رأيتني بعد ذلك أتباسط معه في الحديث، ثم ما لبثت ضحكاتنا أن أثارت رضى المرأة مثلما بدا من نظراتها المشعة. ولكن بدا أن هذه الصداقة، الطارئة، جعلت مزاجَ الجنديين سيئاً. كلّ منهما راحَ يوجه سلاحه باتجاه موقفنا، فيما قهقهات عربدته تتصاعد في جوّ المقهى. جليسي، كان يعطيهما ظهره فلم ينتبه للأمر. من ناحيتي، كنتُ من القلق أن نهضتُ فجأة لأقول للرجل معتذراً: " عليّ أن أتوجه للحمّام ". أرتباكي، جعل خطواتي تتجه تلقائياً نحوَ صاحب المقهى كي أسأله عن جهة الحمّام. لقد كان واقفاً بالقرب من مجلس ذينك الجنديين، المهتاجين. أحدهما، كان يقول للآخر في تلك الهنيهة: " صدقني، هذا المكان كان في أول عهده قصراً لأحد الولاة العثمانيين. ويقال، أن الوالي دفن بأصل المكان كنزاً من العملات الذهبية والمجوهرات قبيل ذهابه لاسطنبول بلا رجعة أبداً " " لا ترفع صوتك، يا أحمق! "، همسَ الجنديّ الآخر لرفيقه وهو يرمقني بنظرة عدائية. تصنّعتُ مظهراً لامبالياً، فيما كنتُ أسأل صاحب المقهى عن بغيتي. فأشارَ الرجل إلى درجٍ عريض، يؤدي للدور الثاني. بعدئذٍ رأيتني ألجُ إلى رواق طويل، يحتوي صفين متقابلين من الأبواب الخشبية. رائحة مقيتة، كانت تخنق المكان. الأدهى، أن بعضهم كان يقضي حاجته تاركاً باب مقصورته مفتوحاً. ولأنني لم أكن في حاجة حقة للحمّام، فإنني أتجهت نحو المغاسل. ثمة وجدتُ رجلاً ملتحياً، وكان منحنٍ على مغسلة ذات صنبورين. يداه، كانتا تستعملان كلا الصنبورين. قلتُ حانقاً بصوتٍ عال: " الإسلامُ أخلاقٌ، وليسَ فقط وضوء وصلاة! ". الرجل، حَدَجني بنظرة صارمة قبل أن يفتح فمه: " هيا يا بني، حان دورك للوضوء "، قالها لصبيّ يقف بجانبه ولم أكن قد انتبهت لوجوده قبلاً. مُحرجاً، درتُ على نفسي لأتجه نحو مغسلة أخرى. الرائحة الكريهة، جعلتني أشعر بالغثيان. بصقتُ في مغسلة حاذتها خطواتي، وإذا بأحدهم يدمدم خلفي: " حسبيَ الله ونعمَ الوكيل ". ألتفتُ لأرى صبياً آخر، يرفع يده الملوثة ببصاقي. سحقني الخجل، فانطلقت هارباً من المكان. " ما به هذا الرجل، الذي يهرول ملهوجاً وكأنه أحد المطلوبين؟ "، أرتفع صوتُ أحد الجنديين وكنتُ إذاك أمرق من مدخل المقهى في طريقي إلى الشارع. كلماته، أحلت في نفسي الجزعَ بموقع الحَرَج. صرتُ أغذ الخطى، محاولاً أن أبدو هادئاً. وإذا بعيني تلحظ شيئاً على الأرض، وكان يلتمع في العتمة ببريقٍ عجيب. أنحنيتُ لألتقط اللقية، لأفاجأ من ثمّ بأنه خاتمٌ ذهبيّ مرصع بالماس. كنتُ أهمّ بدسه في جيبي، لما أنطلق من جهة المقهى صوتٌ مرعدٌ: " هل رأيته وهوَ يلتقط الخاتم؟ ذلك ولا شك من ذخائر الكنز! ولكنني أعرف أن ذلك الرجل المطلوب سيمضي بالخاتم إلى الصخرة الكبيرة، المشرفة على المرسى، كي يخفيه في أصلها ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيرَة أُخرى 55
-
العربة
-
سيرة أخرى 54
-
المبنى المهجور
-
سيرة أخرى 53
-
سيرة أخرى 52
-
سيرة أخرى 51
-
الأغراب
-
الإشارة الحمراء
-
أردوغان ولعنة الكرد
-
سيرة أخرى 50
-
مسؤولية الرئيس بارزاني
-
تركيا؛ دولة غاصبة
-
سيرة أخرى 49
-
الإرهابيون؛ من تنظيمات إلى دول
-
تشي غيفارا؛ الملاك المسلّح
-
سيرَة أُخرى 48
-
الفردوسُ الخلفيّ: الخاتمة
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الغين 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الغين 2
المزيد.....
-
مصر.. إصابة الفنان أحمد سعد في ظهرة ومنطقة الفقرات بحادث سير
...
-
أول تعليق لترامب على اعتذار BBC بشأن تعديل خطابه في الفيلم ا
...
-
من الوحش إلى البطل.. كيف غير فيلم -المفترس: الأراضي القاحلة-
...
-
من الوحش إلى البطل.. كيف غير فيلم -المفترس: الأراضي القاحلة-
...
-
لقاء خاص مع الممثل المصري حسين فهمي مدير مهرجان القاهرة السي
...
-
الممثل جيمس فان دير بيك يعرض مقتنياته بمزاد علني لتغطية تكال
...
-
ميرا ناير.. مرشحة الأوسكار ووالدة أول عمدة مسلم في نيويورك
-
لا خلاص للبنان الا بدولة وثقافة موحدة قائمة على المواطنة
-
مهرجان الفيلم الدولي بمراكش يكشف عن قائمة السينمائيين المشار
...
-
جائزة الغونكور الفرنسية: كيف تصنع عشرة يوروهات مجدا أدبيا وم
...
المزيد.....
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
/ د. أمل درويش
-
مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز.
...
/ السيد حافظ
-
إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
بيبي أمّ الجواريب الطويلة
/ استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
-
قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
/ كارين بوي
-
ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
/ د. خالد زغريت
-
الممالك السبع
/ محمد عبد المرضي منصور
المزيد.....
|