|
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الغين 3
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5445 - 2017 / 2 / 27 - 10:48
المحور:
الادب والفن
مشهد " سفيتا "، وهيَ تكرر عليّ وصيتها بأن أهتم بأسرتها، ما يفتأ يعذّبني وأنا الآن في شقتي الصغيرة، في ستوكهولم، أملأ آخر أوراق هذه السيرة. ذلك القول، كان أيضاً آخر ما تفوهت به فتاتي في حياتها التعسة. لقد حضرت إلى شقتي، في تلك المرة الأخيرة، مرتدية معطفاً أبيض بنصاعة الكفن. خاطبني المحقق، على أثر إنهائي إفادتي، وهوَ يقرّب دفتره مني: " بإمكانك الإنصراف، بعد أن توقّع هنا على أقوالك ". ذلك، جرى بحضور شريكي في الشقة. إذ شاءَ مرافقتي إلى مركز بوليس جنوب غرب موسكو، بغية مساعدتي في الترجمة لو احتاجَ الأمرُ. لكأنما كان لشريكي يدٌ أيضاً في توقيع ورقة نهاية " سفيتا "، وبغض الطرف عن كونها نهاية مدبّرة من لَدُنها ـ كما كشفَ تحقيق البوليس. شريك الشقة، كان قد عاد من السفر في صباح ذلك اليوم، الذي تلى سهرة الإعترافات. عاد على غرّة، ودونما أن يبلغني مسبقاً بالهاتف. من وجهه المتجهّم، أدركتُ أنه على علم بموضوع استعادتي للساعة الذهبية. كان وجهاً صفيقاً ( أشبه بوجه دبّ )، يعبّر عن اللؤم والضغينة. طلبتُ منه أن يجلس في الصالة ريثما أوقظ فتاتي، فما كان منه إلا أن صرخَ: " ألم أقل لك قبلاً، بأنني لا أسمحُ لله نفسه باستعمال حجرة نومي؟ ". تغاضيتُ عن قوله، لكي لا يحصل شجارٌ أمام " سفيتا ". أفاقت إذاً، ثم توجهت إلى الحمّام. ولأن الوقت كان مبكراً، فإنني طلبتُ منها بعدئذٍ مواصلة الرقاد على أريكة الصالة المخصصة لنومي. من الحجرة الأخرى، تناهى إليّ صوتُ شريكي وهوَ يدمدم باللغة الكردية: " ملاءات سريري وسخة.. يا للقرف! ". كنتُ في الأثناء في طريقي إلى الحمّام، فلم آبه لزمجرة الدبّ الغاضب. فيما كنتُ أغتسل، إذا بي أسمع هذه المرة صوتُ فتاتي وهيَ تصرخ: " أخرج، أخرج..! ". هُرعتُ إلى الصالة ملهوجاً، لأرى الدبّ يُغادرها وقد رسمَ على وجهه ابتسامة شيطانية حاقدة. عند ذلك، علمتُ منها بتصرفه المشين، المفصح عن خلفيته الريفية المتخلّفة: كان قد وقف فوق رأسها، مخرجاً إحليلَهُ المنتصبَ من فتحة برنس الحمّام، الذي يرتديه عادةً عند النوم. لما نهرته هيَ، طالبةً منه مغادرة الغرفة، فإنه أجابها بلكمة على رأسها قائلاً: " أيتها العاهرة، الرخصة..! هل حصلتِ منه على أجر مضاعف، لكي تقبلي المضاجعة من وراء؟ ". على الرغم من أنها كانت تمسك بيدي، متوسلة إليّ ألا أبدي أيّ ردة فعل، إلا أنني أندفعتُ كالمجنون إلى الحجرة الأخرى. وقفتُ فوق رأس الدبّ، قائلاً له: " أنتَ حيوان، لا أكثر ولا أقل.. ". رمش بعينيه وقد اصفرّ وجهه، ولم يَزِد على القول: " كنتُ أحسبها عاهرة؛ فما يدريني أنها صديقتك؟ ". وعليّ كان أن أمسك نفسي، بعد أن قلّبتُ الوضعَ في ذهني. لم يكن لي مأوى بديلٌ، علاوة على أنني كنتُ قد وضعتُ لديه مبلغ ألف دولار كأمانة لحين سفري. أيام ثلاثة، على الأثر، ورأيتني أتوجّه إلى شقة " سفيتا " بعدما تكلمنا هاتفياً. كانت هيَ من فتحَ لي الباب. قبلتها في صمت، ثمة في الردهة. الغريب، أنني كنتُ يومئذٍ خالٍ من أيّ مخاوف، فلم أتذكّر حتى تلك " الوصية "، المشؤومة. خلال ساعة من مكوثي في ضيافة الأسرة، لم يفتني تأمل " سفيتا " المتألقة كالعادة بمظهرها المبهر، المُضفى عليه العذوبة والطمأنينة. وكالمألوف أيضاً، فإنّ " فيودور " الصغير والجميل عليه كان أن ينكأ جرحَ استعادتي لذكريات ابنتي. لما رافقتني " سفيتا " إلى باب الشقة، أخبرتها بأنّ الدبّ سافرَ إلى أوكرانيا ليقضي عملاً، وأنه لن يعود قبل أسبوع على الأقل. عقّبتْ بكلمة واحدة، كما التنهّدة: " حسناً ". لقاءنا التالي في شقتي، كان كذلك ليلةَ سبتٍ. قبله بيوم، أتصلت بي صديقتها " أولغا " لتطلب رؤيتي. لما أعتذرتُ، محتجّاً بموعدٍ مزعوم، فإنها ألحّت قائلةً بنبرة قلقة: " الأمرُ يتعلق بسفيتا. لقد ألتقيتها أمس، وكانت بغاية اليأس وأقرب إلى الهذيان. لو أنك تسمح لي بالمجيء، سأفضي تفصيلاً بما قالته.. ". لغبائي، فلم أرَ في كلام " أولغا " سوى مخاتلة، طالما أنني كنتُ قد انقطعت عن الاتصال بها مؤخراً. كذلك فإنني فكّرتُ في زيارتي الأخيرة لشقة " سفيتا "، وكانت هيَ تبدو في غاية الدِعة والهدوء. وهيَ ذي " سفيتا "، تحضر في الموعد المعلوم، مُتبدّية كقمر شتويّ شاحب. المائدة في الصالة، كانت مثلما في المرة الأولى، عامرة بألوان المأكول والمشروب. فضلاً عن ذلك، كان هناك مازوات تركية لذيذة، معلّبة، جلبها شريك شقتي من سفرته السابقة. بيْدَ أنّ شهية صديقتي لم تكن على ما يرام. بين كأسٍ وآخر، كانت تنكّس رأسها وتلوذ بالصمت. سألتها مرة: " سفيتا، ما الذي يشغل فكرك اليوم؟ " " اليوم..؟ إنه يومٌ جميل، لا يُرام "، قالت لي بنبرة غامضة. طلبت مني على الأثر أن أضاجعها، فقلت لها على حدّ المزح والجدّ: " لن يكون ثمة جديدٌ، سوى معرفتي بأنّ قبلاتك لي ستكون في حقيقتها موجّهة لشخصٍ آخر ". تألق وجهها بابتسامة لا تقل غموضاً، قبل أن تجيبني: " من قال لك ذلك؟ اليوم غير الأمس. أم أنك لا تعرف خلق المرأة الروسية، بالرغم من قراءاتك الأدبية؟ إنني أحبك أنت.. وحدك. أما الشخص الآخر، فإنني لا أطيق مجرد الاشارة إليه. فليأخذه الشيطان! إنه لا يسأل حتى عن ابنه، الطفل المريض. ولكن، دعنا من كل هذا ولنمارس الحب.. ". حين أصفُ ذلك المشهد، الآن على الورق، تنتابني القشعريرة علاوة على مشاعر تبكيت الضمير. وما يني سؤال واحد يدور في رأسي، بإلحاح ولجاجة: أكانت تقول الحقيقة، بتأكيدها يومئذٍ أنني الحبيب الوحيد في حياتها؟ أم أنّ الأمرَ مجرّد تبديدٍ لمخاوفي، لحين أن تنتهي السهرة بما عزمت هيَ عليه من تدبير؟ عليّ كان أن أعود فيما بعد إلى مجلدات دستويفسكي، ملتهماً إياها مجدداً، علّها تحيطني بإجابة عن سؤالي ذاك، مشفوعةً بمعرفة أكثر لخلق المرأة الروسية. أحد تلك المجلدات، كانت " سفيتا " قد أطلعتني عليه فيما مضى، عندما أرادت الاستشهاد بقول للمؤلف عن ثقته بقوة الإيمان وأنه سيهزم الإلحاد مستقبلاً.. إنه نفس المجلد، الذي وضعت فيه فتاتي المسكينة رسالةً تحمّل فيها نفسها وزرَ إنتحارها لكي لا يُتهم أحد بذلك. المشهد يُستعاد، إذاً. بعيدَ خروجنا من حجرة النوم، مبتلين بعَرق المعاشرة الجسدية، استدارت " سفيتا " إلى جهة الصالة وهيَ تسير مثقلة بكفلها الفاتن، العاري. رأيتها تبدأ بإرتداء ملابسها، فسألتها ما إذا كانت ستعود إلى البيت. أجابتني بكلمة مقتضبة: " ربما ". كنتُ في الحمّام، أهمّ بالاغتسال، آنَ سماعي صرختها المروّعة. تجمّدتُ من الرعب لوهلةٍ، قبل أن أهرع مندفعاً نحوَ الصالة. هناك كان يجب أن تمضي ثانيتان على الأقل، وأن يلفحني تيارٌ بارد فيوقظني، قبل أن أعثر على " سفيتا ". كانت يداها ممسكتان بالحافة البرانية للنافذة، فيما رأسها مرفوعٌ إلى الأعلى لتحدق فيّ عيناها بشكل وحشيّ. " لا تنسَ وصيتي..! "، قالتها ثم أفلتت يديها في فضاء العدم مطلقةً صرخة أخيرة.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الغين 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الغين
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الظاء 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الظاء 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الظاء
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الضاد 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الضاد 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الضاد
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الذال 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الذال 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الذال
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الخاء 3
-
سيرَة أُخرى 47
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الخاء 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الخاء
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الثاء 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الثاء 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الثاء
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء 2 التاء 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الجزء 2 التاء 2
المزيد.....
-
صدر حديثا ؛ حكايا المرايا للفنان محمود صبح.
-
البيتلز على بوابة هوليود.. 4 أفلام تعيد إحياء أسطورة فرقة -ا
...
-
جسّد شخصيته في فيلم -أبولو 13-.. توم هانكس يُحيي ذكرى رائد ا
...
-
-وزائرتي كأن بها حياء-… تجليات المرض في الشعر العربي
-
هل يمكن للذكاء الاصطناعي حماية ثقافة الشعوب الأصلية ولغاتها؟
...
-
-غزة فاضحة العالم-.. بين ازدواجية المعايير ومصير شمشون
-
الهوية المسلوبة.. كيف استبدلت فرنسا الجنسية الجزائرية لاستئص
...
-
أربعون عاماً من الثقافة والطعام والموسيقى .. مهرجان مالمو ين
...
-
أبو الحروب قصة جديدة للأديبة منال مصطفى
-
صدر حديثا ؛ أبو الحروف والمدينة الهادئة للأديبة منال مصطف
...
المزيد.....
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|