أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الظاء 2














المزيد.....

الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الظاء 2


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 5441 - 2017 / 2 / 23 - 01:19
المحور: الادب والفن
    


أندفعتُ وراء المرأة الماكرة، المصمّة أذنيها عن سماع ندائي. كانت تسير مترنحة نوعاً، وكأنما بفعل ثقل مؤخرتها الفادحة الفتنة، والتي كانت زمناً بمثابة فردوسيّ الخلفيّ. بدَوري، أحسستُ تثاقلاً بقدميّ، أحلته لأبخرة الشراب الناريّ، المتفشية في أعضائي. خطوة خطوة، كنتُ أقتفي عبقَ عطر المرأة المندفعة على غير هُدى وكما لو أنها هاربة من أشباح الماضي. حتى الأبنية العالية، المسكونة بسراة القوم، تحوّلت إلى ما يُشبه الأطلال وقد أحاطت بها العَرَصات المظلمة والموحشة. ضوضاء المركبات، أخذت بالتضاؤل شيئاً فشيئاً إلى أن تلاشت مع تناهي الخطى الهاربة إلى مشارف أسوار المدينة القديمة. برجاً برجاً، كانت خطاها تجتاز الأسوار دون أن تأبه بمداخلها ذات الأبواب المقوّسة. الأسواق الشعبية، اللائذة بحِمى الأسوار، كانت مقفرة تماماً من الخلق في هذه الليلة الربيعية، المُقمرة والحارّة. ولكن، إلى أين تمضي المرأة الماكرة، طالما أنها لا تكاد تفارق صُحبة الأسوار: فلو أنها كانت تبغي الإتجاه نحوَ الضاحية، فإنّ طريق فاس أضحى بعيداً على الطرف الآخر؟ إلا إذا كانت وجهتها باب خميس، أو باب إيلان، أو باب أغمات؟
هيَ ذي منتصبة القامة، تقف أمام مدخل باب خميس، المشكّل ساحة صغيرة متربة ورثّة. ثمة، كانت امرأة ملتحفة بأطمار سوداء، متكوّمة على أعضائها المتهالكة مثلما يفعل النسوة المتسوّلات في شوارع مراكش. ما أن رأتها أمرأتي، إلا ومضت نحوها بلهفة لتخرق الصمت بصيحتها: " للّا بديعة، للّا بديعة..! ". رفعت الأخرى رأسها، وقد بدت قسماتها المتناسقة مخددة بخيوط التعاسة. أشارت السيّدة إلى كوّة في باب السور، قائلة بوهن: " وعدتني الكاهنة بمنحي الشتلة المباركة، التي سبقَ لسيدي بلعباس أن حصل عليها آنَ وصوله غريباً إلى هذا المكان "
" أجئتِ إلى المقام، سعياً لإخصاب رحم زوجة ابنك؟ "
" لا، بل أنا أسعى لمعرفة مكان أهلي؛ ثمة، في مجاهل جبال السوس.. "، أجابت المرأة الملوّعة وهيَ تعود لتتطلع برجاء نحو الكوّة المغلقة. عاد الصمتُ ليشمل المكان. وحلّ الضبابُ، حدّ أنني خشيتُ أن تكون امرأتي قد أنسلت خِلَله لتختفي دونما أثر. وإذا بي أسمعُ ضحكتها المألوفة، المتهتكة، آتية من جهة قنطرة مدخل السور. كانت على الأرجح تتبادل الحديث مع الحراس، وفكّرتُ أنها لن تتورع عن إغرائهم بجسدها كي يفتحوا البابَ لقريبتها. بيْدَ أنّ ابتعاد امرأتي فجأةً عن المكان، أوحى لي بفشل محاولتها. عاد الأملُ إليّ، ولم ألبث أن ندهتُ باسمها مرة أخرى قائلاً: " نشدتكِ الله أن تسمعيني ". فعلتُ ذلك بنبرة رقيقة ومستعطفة، جعلت المرأة تتوقف لتراوح قدميها عند طرف الساحة. على الرغم من العتمة، والضباب المتكاثف، فإنني كنتُ أستطيع تمييز سحنتها الناصعة الأشبه بخنجر فضيّ مستلّ من غمده.
" أرأيتَ بنفسك؟ كلّ الناس يسعون إلى الحفاظ على صلة الرحم، إلا أنتَ! "، خاطبتني عن بُعد وكما لو أنها شبحٌ يكلم شبحاً. كلمتها، أثّرت فيّ لدرجة البكاء. أقتربتُ من موقفها بعينين مغرورقتين، مردداً كلمات تؤكّد ندمي وأنها حبّي وأملي وفردوسي. فكم كانت صدمتي شديدة، لما عقّبت هيَ على مناشدتي بجملة مقتضبة، مرعبة: " لم يعُد يربطنا شيءٌ سوى ابنة، فلو أردتَ أن تراها أتبعني.. ". ثم تراجعت، لتمضي هذه المرة بسرعة وكما لو أنها كانت تهرب من سماع جوابي. تبعتها مثلما أرادت، شاعراً بمخالب اليأس تنهش داخلي. كذلك فقدتُ الهُدى، بعدما كانت الأسوار بمثابة البوصلة. ابتعادها عن الأسوار، جعلني أتخبّط هنا وهناك محاولاً ألا أفقد أثرها. إلى أن وجدتها مجدداً تحت أنوار المصابيح القوية لشارع الحسن الثاني، مطوّقة بحشدٍ بشريّ. بعض هؤلاء كان يضرب على الطبول إيقاعاتٍ عشوائية، يصاحبها رنين الصنوج وقرع الدفوف. وهذه هيَ امرأتي تخترق الحشدَ، ماضيةً إلى أمام بالتصميم نفسه: " إلى المقبرة..! ". بدت عندئذٍ سامقة القامة، كأنها إحدى النخلات المظللة رصيف الشارع من جهته المؤدية إلى باب دُكالة وغيليز.
" إلى المقبرة، إلى المقبرة..! "، كان أفراد الحشد يتهاتفون وهم مندفعون خلفَ المرأة المتضخّمة. مؤخرتها، بدت كما لو أنها مغناطيسٌ يجذبُ هذه الكائنات ذات الأقنعة الحديدية. توقفتْ أكثر من مرة، لتلوّح لهم بحركات آمرة. وفي كل مرة، كان بعضُ الأقنعة يتساقط عن وجوه أليفة: أفراد من الأسرة المُحسنة؛ من جماعة الشاعر؛ من جماعة ورزازات؛ من جماعة الأوروبيين.. وأيضاً الخانم والأميرة والحيزبون والعراقيّ والطبيب والسكرتير.. وحتى صغار السنّ والفتية ـ كالطفل المسوخ والولد المعاق والبنت المصابة بالصرع..
كان الموكبُ يسير على ايقاع الآلات البدائية الصاخبة، تلاحقه كلاب الشوارع بنباحها المسعور. ركضتُ لاهثاً لأدسّ بنفسي بين الجموع، خشيةً من غدر أحد الكلاب. كنتُ ألتفت بين فينة وأخرى إلى الخلف، وإذا بي ألمحُ " للّا بديعة " وهيَ تُجاهد للحاق بالموكب. تعلقت عيناها بعينيّ، وما عتمت أن رفعت يدها بإشارة رجاء أن أنتظرها. تجاهلتُ إشارتها، فيما كنتُ أعاود النظر إلى أمام للإطمئنان على وجود امرأتي في مقدمة الجموع. ثمّ رأيتني أسير بين امرأة وشاب، وكان كلاهما يخفي وجهه بقناع حديديّ. في اللحظة التالية، رفعَ الشابّ قناعه لأتبيّن أنه " غني ". طلبتُ منه إذاك أن يساعد امرأة جدّه، والتي بدت جدّ منهكة. فما كان من الشاب إلا القهقهة، قائلاً للمرأة المقنّعة: " أسمعتِ، أمّاه؟ إنها بحاجة لمساعدتنا! ".



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الظاء
- الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الضاد 3
- الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الضاد 2
- الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الضاد
- الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الذال 3
- الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الذال 2
- الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الذال
- الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الخاء 3
- سيرَة أُخرى 47
- الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الخاء 2
- الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الخاء
- الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الثاء 3
- الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الثاء 2
- الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الثاء
- الفردوسُ الخلفيّ: الجزء 2 التاء 3
- الفردوسُ الخلفيّ: الجزء 2 التاء 2
- الفردوسُ الخلفيّ: الجزء 2 التاء
- سيرَة أُخرى 46
- سيرَة أُخرى 45
- الفردوسُ الخلفيّ: الجزء 2 الشين 3


المزيد.....




- باريس تودّع كلوديا كاردينال... تكريم مهيب لنجمة السينما الإي ...
- آخر -ضارب للكتّان- يحافظ في أيرلندا على تقليد نسيجي يعود إلى ...
- آلة السانتور الموسيقية الكشميرية تتحدى خطر الاندثار
- ترامب يعلن تفاصيل خطة -حكم غزة- ونتنياهو يوافق..ما مصير المق ...
- دُمُوعٌ لَمْ يُجَفِّفْهَا اَلزَّمَنْ
- جون طلب من جاره خفض صوت الموسيقى – فتعرّض لتهديد بالقتل بسكي ...
- أخطاء ترجمة غيّرت العالم: من النووي إلى -أعضاء بولندا الحساس ...
- -جيهان-.. رواية جديدة للكاتب عزام توفيق أبو السعود
- ترامب ونتنياهو.. مسرحية السلام أم هندسة الانتصار في غزة؟
- روبرت ريدفورد وهوليوود.. بَين سِحر الأداء وصِدق الرِسالة


المزيد.....

- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفردوسُ الخلفيّ: الجزء الثاني الظاء 2