أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد العليمى - من الأدب الفرنسي المقاوم للنازية - القسم الثانى والاخير















المزيد.....



من الأدب الفرنسي المقاوم للنازية - القسم الثانى والاخير


سعيد العليمى

الحوار المتمدن-العدد: 5716 - 2017 / 12 / 2 - 20:02
المحور: الادب والفن
    


كانت فراشات النار تتراقص امام عينى جولييت المغمضتين ، وظلت تواصل رقصاتها حين فتحت عينيها ، تجسدت شجرة عيد الميلاد خلال ألسنة اللهب الصغيرة ، وكانت تنتحى ركنا قصياً معتمة مفضضة ، وراح الشرر يلامس قبة السقف متقاطع الدعامات ، وظلت الشموع تحترق على المنضدة الخالية ، بينما كانت هناك نار داخل المدفأة ، تترامى ألسنة لهبها ، طليقة هنا وهناك ، كاشفة بين الأثاث ، والأبسطة والاغطية الصوفية ، واللوحات ، عن أحجار الحائط فى لون لؤلؤة رمادية . وفوق الأبواب كان هناك تمثال عاشقين من الحجر يمسكان بأكليل زهر ثقيل منحوت . وبدا عاشقين من الحجر فوق المدفأة العالية ، لكن فتحات الحائط الضيقة تختفى الآن خلف الستائر ، وكان العقد القوطى رقيق التشكيل ، يصلح الآن يكون عقد كنيسة . ويصدق ذلك أيضاً على الأثاث : كانت أرائك ومقاعد ذات ظهور عالية مستقيمة ، وأخرى يمكن للمرء أن يضيع فيها . بقدر ما هى عريضة ووثيرة (3) .

- الهواء ، والماء ، والأرض ، ومتعة الحب . الحب يحاصرك بين جدران مدينتى ...( أفينيون أيتها المدينة المجنونة ) ، انها مدينة مقدسة ، مدينة شيطانية ، منذورة للمعجزات ، وشر السحر ، للعذراء ، لفينوس ، للأبالسة ، يعانقها لهيب محرقة الأجساد وأعياد الليل ... اثام الشفتين ، والاستهتار ، وأشد النساء جمالا ، النساء المعبودات ناصبات شراك الغزل ، والرجال من نفس الفصيلة ... ها هى ذى لا ترفرف بأجنحتها الا للحب .... انه الحب المقدس ... الحب الخالد .... بينما الأديرة تغلق أبوابها على النساء اللاتى يهجرن هذا العالم ... سوف ترون ما معنى سحر أفينيون ... فى أى مدينة أخرى تجدون على أحد جدرانها نقوشاً تمجد ميلاد حب ، وكأنه ميلاد رجل عظيم : هنا، بترارك يحمل بين جنبيه من أجل لورا حبا ساميا يجعلهما خالدين ... لا تظنوا أن أفينيون تسقط تحت أقدام التاريخ ، فهذه المدينة منسوجة من الأساطير ، كل يوم يضيف اليها خيطاً ، هنا كل رجل بترارك ، وكل أمرأة لورا ... كم من حبيبين خالدين فى طرقات الحب هذه ، فى تلك المدينة المتصوفة ، المولعة بالغزل ... والآن ... نزع منا كل شئ ،... حتى أحلامنا بالحب ... لم يعد يقطن العالم سوى أحباء منفصلين ، سوى الحب الذى يمزق ويتمزق ، وذلك لان راياتهم على جدراننا ، جحافل الفاتحين .

كان ينظر من خلال النبيذ الاحمر فى قدحة ، بينما ارتدى سروال ركوب وحذاء طويل العنق . وسترة من المشمع دون أشرطة ، مفكوكة الأزرار ... له جسم ضخم ذو حركات مباغتة ، حتى ليتوفع المرء أن يقلب كل شئ ولكن لم يحدث شئ من ذلك ، وكانت له سمة الجواد الذى يتخطى الموانع دون أن يشتبك به ، له رأس مثل رأس كبير الملائكة رصين ، منهك ، وعين تومض جاحظة تحت حاجب شامخ ، لقد بدت النار ، تلك الحرارة الاستوائية للغرفة ، كما لو كانتا تنبعثان منه .

- وسط المجاعة ، والمسدس ، والسجن ، أين يجد الحب مأوى ... لقد انتقم لنفسه وفر بعيداً عنا ... لقد فقدناه ... سوف أذهب أنا ، وسوف تذهبين أنت بأقدام عارية فى الصقيع حتى ندع رفيقاً مجهولا يفلت من الموت ... نهم يقتلون ... الخونة ... انهم يقتلون دون أدنى خدش فى الروح أو فى القلب ... ما من مكان لحب غير الحب الذى يعرفه مقاتلو المقاومة ... رجال أضنتهم البطولة دون تألق ... دون أن يدفعهم أحد ودون جوقات موسيقية ... منهكين بالحرمان ، وفقدان الأوهام وبشاعة العدو والخونة ....

وتابعت جولييت طيران فراشات النار أمام عينيها ، وأحست بأن النار تملؤها ، حتى أصبحت أناءا مملؤاً بالنار حتى الحافة ، مثل هذه الجذوة التى أمامها ...

قال – صديقتى الرقيقة ، لقد استطعنا اليوم أن ننقذ ستة من رجالنا ... وأنت لم تأت راكبة مذنبا سماوياً ... ولا ممتطية جواد فروسية ، لقد ركبت القطار ، وواجهت رجال الشرطة ، وتناولت شطيرة من السجق ، مصنوعة من المطاط ، وأنا ركبت دراجتى ... لقد رأيت أناسا بؤساء مذعورين ... تاركين زوجاتهم وأطفالهم ، ليختفوا قابعين فى مكان ما ... المرء يفعل ما فى مقدوره ، المرء يدافع ، يهاجم ، يقول لنفسه أحياناً ، انه ليس أكثر من بعوضة على جلد فيل رمادى ... روز .. أنت لم تقولى شيئاً ...

- لا ... لا تقل روز ، بل جولييت ... أعطنى شراباً ، سوف اقترح عليك لعبة ... سنمثل دورين كما لو أن كلا منا يحب الآخر .
- وكيف بلعبون هذه اللعبة ؟
- كما يلعب المرء دور القيام بزيارة خاصة ، أو الذهاب الى الطبيب ... هكذا الامر ، أنت تعرف ذلك جيداً ...
- لست واثقاً جدا من أننى أعرف كيف ألعبها ...
- بلى ، أنت ستعرف ذلك جيداً ، أننى فى حاجة اليه .
- انك الشجاعة والأنوثة ذاتها ... بما أنك ياجولييت ، قد أصبحت منذ هذه اللحظة حبيبتى ، فان لدى ما أقوله لك .. هذا لأننى أحبك ، ولأننى ثمل قليلا : أول أمس ... قتلت رجلا ...
قالت جولييت – آه – أننى أحبك ...
لقد تعذب ... مقتولاً ... لقد قررنا تصفيته . وهو الآن فى نهر الرون ..
انها الحرب ...
- كان من الواجب ، ولعدة أيام ، تتبعه والتجسس عليه . وكان من الواجب أن تتملكنى الكراهية والايمان بعدالة حقى لكى أفعلها دون غضاضة .
- - ألم يشك فيك أحد ، اننى أحبك ، ولا أريد أن أفقدك
- جولييت....
انزلق سلستان على الأرض ... وجثا على ركبتيه ، وأخذ يقبل أقدام جولييت الصغيرة العارية .
قالت – الآن سأنام .
اعتمدت على ذراعها . وراح ذيل ردائها الداخلى الطويل يتبعها وهو رداء ذو أكمام منتفخة ... وكان لنصفة الأسفل ثنيات حول الخصر جعلت هذا الخصر يبدو واهنا على وشك الانهيار ... واختفت قدما جولييت العاريتين داخل خف ذى كعبين مذهبين وتألقت ثلاثة مصابيح صغيرة فى عاكسة الضوء ( الاباجورة ) ذات القوائم . وكان غطاء الفراش قد سوى . وقميص النوم قد بسط بينما تقاطع كماه المصنوعان من الدانتلا ... وكان السرير ذو الأعمدة يواجه مرآة داخل اطار مذهب .. وفى كل جانب من المرآة ، حامل جميل منحوت . واختفت النوافذ خلف ستائر الحرير البيضاء ، المطرزة بخيوط بيضاء ، وكانت هناك منضدة زينة بين النوافذ ذات غطاء مرفوع ، ولها مرآتان ، تزدحم بالقوارير ... والعلب متعددة الأشكال والألوان ... وكانت هناك بعض الأوانى المزخرفة موضوعة على المدفأة حيث مازالت النار مشتعلة وتناثرت الوسائد على المقاعد وعلى الأرض ... وكانت صورة فوتوغرافية معلقة على الجدار فوق منضدة الزينة ... وهى كبيرة الى درجة تثير الدهشة ، كأنها بالحجم الطبيعى ، لقد كانت صورة امرأة تجلس فى انتصاب حاد ، ذات نظرات مختلسة ، وذراعاها معقودتان فوق المائدة ، دون أن تعتمد عليهما بينما أرتدت ثوباً ذا ياقة عالية .

نظر سلستان فى عينى جولييت مباشرة وقال :
- لقد أردت أن تقيم معى فى هذا المكان حتى وهى غائبة عنه .
قالت جولييت – طابت ليلتك ياحبيبى . وفى صفاء ، أحاطته بذراعيها ... وقالت : الى الغد.
- الى الغد ، سوف تستريحين ، تنامين .........
ثم أخذ يغنى :
فى وسط الفراش
النهر عميق
حتى ليمكننا أن ننام فيه
حتى نهاية العالم ......
أغنية جميلة أهديها اليك ......
ضمها سلستان اليه وابحر فى سماء ليلة عيد الميلاد ، السوداء المزدانة بالنجوم . وجعلت العذوبة التى أجتاحته من الصعب عليه ان يجد القوة ليقول : انى احبك ...
- وقالت جولييت مرة ثانية ، طابت لبلتك .
- وخرج سلستان .
- عيد الميلاد ... عيد الميلاد .. عيد الميلاد
-
أحب الحديث عن أى مدينة ، بعد أن أكون قد غادرتها ، حين لا يعود بمقدورى أن أرسم لها صورة بالنظرات المباشرة ، وأسد مواضع ثقوب الذاكرة وأنا فى المكان نفسه . أحب أن يكون فى مستطاعى الحديث عنها بانطلاق . على مثال الصورة التى تتبدى فى داخلى عبر الزمان والمكان على مثال تلك الصورة التى تنعكس فى مرآة الذكرى التى تتطلع نحو السماء ... تبدو فى قلبى وأمام عينى مثل آلة ( هارب) موسيقية ضخمة ، أعلامها يلمس السماء ... وأسفلها يرتكز على قاعدة من الحجر الرمادى الفاتح . لقد جاست رياح أفينيون الرهيبة بين هذه الجدارن ، ويخيل الى أننى سمعت فيها نغمات ذات تآلف زائف لا تقدم خلاصاً .

لكن جولييت فى صبيحة النهار الذى أعقب الليلة الماضية ، وهى ليلة مرت دون أحلام فى السرير ذى الأعمدة ، كانت تمشى مع سلستان ، وقد تعانق الذراعان على ضفاف نهر الرون ، ولكنها لم تر وهو كذلك لم ير المنظر الطبيعى هناك . لا آلة الهارب الضخمة ، ولا الرون الذى ينساب فى عذابه المعتاد ، لقد رمقا فى شرود ذهن الاشجار والسماء ، فلم يسترع اهتمامهما الا ان يظل كل منهما غير بعيد عن الآخر ...... ولو بمقدار بوصة واحدة . ان الناس الذين يذهبون هناك متشابكي الذراعين ، يبدون وكأنهم يمارسون طقساً ، انه عيد ميلاد ناصع البياض ، ذو نجوم تبدو فى وضح النهار ، يحتضنهم جميعا بصليل أجراسه .

وكان الغداء الذى تناولاه فى المطعم غداء احتفال بعيد الميلاد . لقد بذل الناس جميعاً فى فرنسا كلها جهوداً مستيئسة لكى يحصوا على طعام شهى . أو باختصار . لكى يحصلوا على أى طعام ، كائنا ما كان فى هذا العيد ... وكانت هناك الديكة الرومية المحشوة بالقسطل ، وكان مئزر الخادمة منشى واستقرت على المائدة زهور القرنفل .. وفوق الرؤوس تدلت كرات من أغصان زينة عيد الميلاد . وفى الركن كانت هناك شجرة عيد الميلاد صغيرة ، والقاعة دافئة ، والحديقة من وراء النوافذ كانت تحتفل بالعيد ، وبعد أن احتسيا القهوة ، صعدا الى قلعة سان اندريه .

لقد كانت القلعة رمادية وحيدة فى سماء رهيبة ، نسر فوق صخرة ، بيد أن برجى المدخل كانا يشبهان منظاراً مزدوجاً يتطلع منه الى السماء مارد من علماء الفلك . وكان يتضخمان شيئا فشيئاً كلما تقدمت نحوهما ، ومرا تحت القبة بين هذين البرجين ، وكانت القلعة القديمة منزوعة السلاح ، تدع الأمور تسير فى مجراها ... وكانا وحدهما ، فلم يكن موسم السياحة قد حان بعد ، وربما لم يكن هناك أحد غيرهما فى حضن هذه الجدران ... كان الطريق مغطى بالحصى ، وخرائب منازل تعرت محتوياتها للعيان ، وبدت قطع القباب سليمة ماتزال ، والدرجات بقيت كما هى ، وفى بعض المواضع بقى درج بكاملة . وكانت هناك جدران تداعى نصفها ، بينما ظلت فيها نافذة أو باب ... وهذه الانقاض من الحجر بلون الصلصال الجاف الرمادى الفاتح ، الرمادى مثل اللؤلؤ . وتصاعد الطريق يشق المكان المسور ، وانتهى عند جدار أملس منخفض . من هذا الموضع يرى المرء البلد بأكمله بعيداً جدا ، بلد فى علو صومعة راهب وتقشفها ، يستدعى الرؤى والمعجزات ... واستنشاق هذا الهواء الذى يعصف بالرأس ، والكتف لصق الكتف ، ومرفقاهما على حافة الجدار ... ثم تبعا سور القلعة الضخم الملئ بالنتوءات ، الذى يبدو وكأنه يحاول أن يصون كل ما يتداعى داخل نطاقه . وبينما هما جالسان ملتصقين ، فى ركن عميق عبر احدى كوى اطلاق النار ، وكأنها ثقب رتاج ، استرقا النظر الى البلد المتألق – لقد كان هناك فى مأمن من الريح التى اشتدت فى هذه اللحظة وهى تهز الأدغال المضطربة فى جنون . الادغال كانها خضرة داكنة ... وحينما صعدا حتى أصبحا فى مستوى الكنيسة الصغيرة ، فتح المنظر لهما ذراعيه على اتساعهما . وشاهد المدينة السحرية : أفينيون !

كانت الة الهارب الضخمة تلمع فى السماء بأوتارها المشدودة المتألقة مستقرة فوق قاعدة من المنازل المختلطة بلون رمادى فاتح كلون الصلصال الجاف . وسرى دفء الشمس فى الريح حاملة شذى النباتات العطرية التى سحقتها خطواتهما . وتلالأ نثار من صقيع عيد الميلاد فى شريط الظل الضيق أسفل جدار الكنيسة ، ليذكرهما كل هذا بسر الصخب حولهما ...انه عيد الميلاد ، عيد الميلاد ... كان الجدار الذى يحيط بهما ضخما ، مضيئاً ببرجيه كقبضتى يدين تؤكدان قوتهما ، أما الهواء ، والأحجار والشمس ، وهذا العشب تحت أقدامهما ، الريح . فلم تحاول جميعاً أن تبدو وكأنها كفت عن القيام بالهجوم ، أنها تصرخ معبرة عن سلطانها السحرى ، أن هذه السطوة تحيط بهما وتمتكهما ....

قادتهما خطواتهما مرة أخرى قريباً جداً من السور . ورفعا رأسيهما ليعجبا بالمستطيلات الناتئة ذات الحواف التى تقتحم السماء الندية النقية . وانفتح باب أمامهما ، فدخلا قاعة حجرية ، ذات نوافذ بيضاوية جميلة ، وكان سلم البرج يصعد طوليا فى انحناءات حلزونية ..... ويمتد صحن السلم مسطحاً وينتهى بباب منفرج ، هذه غرفة من الحجر تكاد تكون زنزانة سجن ، لها نافذة فى أعلاها . وكان عليهما أن يعتادا الظلال ، آنذاك انكشفت الاحجار الكبيرة الخشنة ، وانكشفت حلقة من الحديد مثبتة فى الجدار ، وبلاط حجرى تحت أقدامهما .... جذب سلستان الباب . تناهى الى سمعهما فى صمت الأحجار فجأة صوت أطفال ، واضحا جدا ، صافيا للغاية ، كان البرج عاليا ، والأرض نائية . أخذ سلستان جولييت بين ذراعيه ، هذا الوجه الذى يستحق العبادة ، لن ينتهى أبدا من تغطيته بالقبلات .لا. ما هذا الا شكل من أشكال ممارسة الحب ... يجب تجاوز الحدود الانسانية ... واستندت جولييت وقد اعتراها الشحوب على الجدار وكان باردا ... باردا ...

قالت – انظر ان الذين يعشقون يكتبون على الجدار .

كان الجدار قد غطى تماما بالكتابات ، بالقلم الرصاص ، أو محفورة : الان ومارجريت ، السابع من يوليو سنة 1938 ... رينو من سانت سيسيل ، 1799... أربعة قلوب ، متداخلة ، لكنها متحدة المركز ، سوزان ، لوسى ، فيليسيان ، روبير ... أسماء أخرى ، تواريخ ، ويحيط بالباب عامود كبير من الكتابة بحروف الاستهلال الكبيرة تبدأ من أعلى بالكلمات الآتية :
5-6-26. لقد أتت
لكنهما تركا الجدار لقراءة ما على البلاط تحت أقدامهما : وكان محفورا فى الحجر ، ما يشبة مسلة ضخمة على رأسها قبعة فريجية (4) بينما القاعدة المربعة تحمل نقشاً كاد نصفه أن يطمس ولكن مازال ممكنا أن يقرأ منه ، الى الشهداء .... من .... وعلى بلاطة حجرية أخرى ، صليب خشبى ، فى جانبيه شمعدانان يحملان الشموع . عاليان علو الصليب ..... وبالاضافة الى ذلك ... نقش : عاش هؤلاء
..... الذين ... ثم قلوب ، وكثير من حدوات الخيل ، وايد بالحجم الطبيعى ، أصابعها متباعدة ... لوران درلى 1815 .... وكان يلف الأركان سواد مظلم ، فلم يعد ممكنا تمييز أى شئ . وعادا من جديد الى قراءة النقوش التى تغطى الجدار ، حيث يوجد الباب فى مواجهة النافذة ، وتمد الشمس نحوه الآن شعاعا شاحباً :
5-6-1926 لقد أتت :
وفى أسفل ، كانت هناك نفس الكتابة ، نفس حروف الاستهلال الكبيرة مكتوبة بقلم غليظ ، أزرق ... نعم ... أزرق ...
1-26-29- لقد أتت . 1929
24-7-31 لقد عادا .
وقلبه يرتجف دائما أمامها.
استندت جولييت على سلستان بثقلها ، وسألته :" هل هناك المزيد منها ؟ " . لقد كان هناك المزيد ...

لقد جاءا
مخلصين لهذا المزار المقدس
انه يحبها فأى جسارة
7 أعوام 1932
23-8-33- لقد أدركته الشيخوخة
لكن قلبه مازال وفياً
8 أعوام.

كانت الكتابة تهبط الى أسفل أكثر فأكثر ، ولابد للمرء أن يجثو على ركبتيه ، ليتمكن من حل رموزها ... وربما لا يوجد منها المزيد ؟ ولكن بلى

27-7- قلبه وحده بقى مخلصا
أدركته الشيخوخة وهى جميلة
يا الهى اجعل الحب
الذى يحمله لها خالدا
9 أعوام ...1934.
"جولييت، لماذا تبكين ... اننا متحابان .. قولى انك تبكين من الحب .. قرأت جولييت وهى جاثية على ركبتيها امام الجدار :

لقد تقدمت به السن .
وهى دائما جميلة .
آه لو يستطيع أن يموت .
قريبا منها
19 يوليو1936
وبحثا طويلا وهما جاثيان : لقد انتهى . ولكن عند نهوضهما وجدا مكتوبا عند أعلى الباب :

1937،30 أغسطس – لقد تقدمت به السن
وهى جميلة
وقد عادا

" جولييت ، لو أننى كنت هنا ، مقيدا فى هذه الحلقة الحديدية ، ما كنت سأشعر بأغلالى ، لأنك موجودة ، لأن أسمك يحيا ... كم أود أن أقول لك كل كلمات الحب القديمة ، التى أبلاها الاستعمال ، ومع ذلك كانت حقيقية ذات مرة فى حياة انسان ... فاذا قلت لك أننى أحبك حتى الجنون ... فانما اقول ذلك لأنه حقيقى ، فما أشد الجنون الذى سيدفعنى اليه هذا الحب ! " .

كان الجو الازرق المختلط بالبياض ، صاعدا نحو الشمس هاتفا باسم عيد الميلاد ، وقد استقبلهما وحملهما حتى أفينيون ، حيث احتوتهما الشوارع التى تشبه نسيج العنكبوت ، وفى منتصفها ، قصر البابوات ، مثل عنكبوت كبيرة تحمل على ظهرها صليبا . تجولا فى الطرقات الضيقة التى تتشابك كأنها أذرع ، دون أن يتباعدا بمقدار بوصة ، بين الأسوار التى تختلط فيها كل من فرنسا ، وايطاليا وأسبانيا ويحرس كل سور الأسوار الأخرى ، وكانت الأحجار تحمل مجدها وسقوطها بين أطواء ما فى الطراز القوطى من وعيد وكان ما فى الطراز الباروكى من ترف مجنون يبدو أحيانا وقد تشكل على غرار عجينة " الجاتوه" . أسوار قلاع ، كنائس ، فنادق قديمة سرية ، مسارب ... داخلية ، وحدائق خلف جدارن عالية ، تتراخى غصونها الخضراء .. ما من مكان آخر يمكن أن يكون فيه مثل هذا الصمت المخيم على هذه الكنيسة ، فى شارع ميت اسمة شارع الصباغين . وبدا أن مياة الفيضان التى اجتاحت الكنيسة ( منذ كم من القرون؟) والأمواج التى تدفقت هنا بمعجزة ، تثقب هذا الصمت المعتم ، مع نجوم القناديل الحمراء المكرسة للعبادة الابدية . وانتزعا ذاتيهما من هذا الصمت ، وتبعا مجرى قناة تشوب لون مياهها الخضراء زرقة . وعلى ضفافها عجلات النساجين والصباغين .. ضخمة بغير حدود ، بلا حركة ، وقد غمرتها المياة العطنة . وأستولت عليهما الشوارع ، فمشيا طويلاً ...

قال سلستان كأنه يخطب " ها هو السجن ، لكن أحدا لن يأخذنى اليه ما دمت تحبيننى ، وما دام يجب على ان أساهم فى تحرير وطننا من قبضة الشر ..."

وبدأت الشمس تهبط أمام الأسوار الضخمة ، وأحست جولييت ببرودة شهر ديسمبر ، وكان هناك جمهور لا يتحرك ، من الرجال ، والسيدات ، محملين باللفافات ، يقف منتظراً أمام البوابة المغلقة . واحتضنت ( كنيسة الرحمة للتائبين ) سور السجن .. وهو طويل ... طويل ضرير . وكانت الكنيسة بعيدة عن الجمهور الساكن ، ولم تكن واجهة الكنيسة بأعمدتها الساحرة ، والكوى الانيقة على النمط الفرنسى ، التى تشبة نظيراتها فى فندق صغير فريد ، الا فى وسط الطابق الأول ، وهو طابق يغمر داخله كله ، مجد متألق ، شاسع بغير حدود ، ففى وسطه رأس القديس يوحنا المعمدان ، تحمله الملائكة . وكان البهو الداخلى يصلح لأن يكون قاعة رقص : صفائح جدران مذهبة ومرمر ولوحات دنست قداستها اطارات ضخمة مذهبة ... وطلاء ذهب فى السقف .

وشرح لهما البواب ، قائلا " هنا ،ن كان بمقدور المحكوم عليهم بالاعدام أن يشتركوا فى القداس ... المحكوم عليهم بالاعدام ....!! لم تكن هذه أسطورة ربما كان الرجل الذى بجوارها محكوم عليه بالاعدام ... كان سيقيد بالسلاسل فى هذا السجن ، وكان سيحس بأغلاله ... وأختلطت جولييت بالجمهور أمام الباب ، وظهر لها من جديد طوال هذا النهار فيلم بيتر ابيستون ، لقد بكت كثيراً اثناء مشاهدة هذا الفيلم ، بينما كان الناس حولها يضحكون وتحتم عليها أن تنتظر قبل أن تعود للمنزل حتى لا يتكشف أمام الخالة الين وجهها الممتقع ، لقد كان بيتر ابيتسون وهو مقيد بالسلاسل , يضحك مع الملائكة ، أثناء التعذيب ذلك لأنه كان يحب . ولم يكن يستطيع ان يحس بشئ آخر غير الحب .. الحب الذى هو حاجة ملحة لحضور ما ... لقد قيل فيه وأعيد القول وتغنى به الناس وبكوا من أجله ...." منذ حمل الفجر يقينا – قبل الليلة التى لمحتك فيها ..." وعندما لا يمتلك الانسان هذا اليقين ، ما أقسى الضجر الذى ينقض على العالم ، الضجر فى كل ايماءة يمكن أن يقوم بها الانسان فى كل كلمة يمكن أن يقولها ، فى كل ما يراه ، فى كل ما يسمعه ، ولا يكون قد عرف بعد كيف يمكن له أن يتوافق مع الحياة ، مع الزمن الذى لا يمر ، انه ضجر يجعل الانسان يختنق فى هذا الابتذال بلا مذاق ، فى هذا الرماد ، فى هذه البقايا التالفة ... أما أن تكون مثل بيتر أبيتسون ، فهو أن تكون أقوى من الغياب ، فلا شئ يستطيع أن يفصلها عنه ، لانها تعيش فيه ، حقيقية ، مجسدة ، هازئة بقيوده ، مبتسمة له ، عاشقة أياه ... لقد قتل من أجلها ، ولكن سلستان حينما يقتل فلن يقتل من أجل جولييت ....! وقالت له " تعال".

صعدا نحو حرف الالف الهائل من كلمة أفينيون ، أى نحو قصر البابوات ، وكانت نظراتهما تبحث عن نهاية الاعمدة الهائلة التى تضيع فى السماء ، قلعة ، كاتدرائية ، قصر ، كعب القدم على الصخرة ، والرأس عال فى مدخل الميدان الطويل المرصوف ، فارس يرتدى السواد ، هبطا الى الشوارع ، فى حى منعزل متشبث بقدمى العملاق . وهنا ينمو العشب بين الاحجار المتباينة الحجم . وتحت القدمين ... كان المكان الصغير المربع هادئاً ومهجوراً مثل فناء مدرسة اثناء الفصول الدراسية ... بينما احتلت منتصفه مبولة عمومية .. مغطاة بالاعلانات، كأنها نافورة ، أو تمثال فروسية ، ولم يكن يبدو على النساء اللاتى يطرزن على عتبات الأبواب ، طارحات معاطفهن على الاكتاف ، أى نزوع الى العدوان . وعلى الواجهات ، كانت هناك حروف مرسومة " الى الصغير شابانيه " ...( عند مارجو) ، وامتد الشارع ، وقادهما دون انعطاف نحو حى الغجر . وكان الشارع من الضيق بحيث زاد من تلاصقهما ، سمعا لحنا يعزف ، منتشراً فى الهواء ، ثم ينقشع ويتكرر ... ثم شاهدا مجموعة من الغجر تجلس على الطوار ، وهم يرتدون خرقا ممزقة قذره . لكن أصابعهم على أوتار الجيتار ترسل انغاما تمزق الهواء الى الف قطعة ... وقال سلستان ،"آه" . كم احب هذه الآلة التى تثير الاشجان ، وأنت ... انصتى الى هذه الالحان ... ان لها أصداء جميلة ، لا يلحق أى منها بالآخر ، وكل مقطع منخفض من هذه المقاطع بمثابة هوة يسقط فيها القلب ، وانتهت الاغنية . لكن لا . لقد عادت ، بدأت من جديد ... أنصتى ... هؤلاء هم الذين يغنون ... تبعتهما الاغانى والحان الجيتار وهما يضيعان فى الطرقات . والآن أصبحا متأهبين للالتقاء ...

كانت ترتدى رداء محبوكا يكشف عن عنقها وكتفيها ، قصيرا جدا ، كما لو كان الوقت أوج الصيف ، وامسكت باحدى النافورات ، معانقة ، والتصقت بها ، أحاطتها بذراعيها البضتين العاريتين ، بينما ظلت تحت رذاذها ، وبدت فى الناحية الاخرى جرة عالية . كانت رائعة ، وكأنها لوحة فى متحف أو قصر للبابوات ، أو حديقة دير ... توقفا مبهورين ، على حين راحت أصوات الغجر والجيتار تغيب ، ولم يبق سوى صوت النافورة وحده وهو ينساب ، واقترب رجل من النافورة ، رافعا الجرة الممتلئة باحدى ذراعيه ، بينما احاطت ذراعه الاخرى كتفى فتاة ، ثم مضيا هكذا ، تاركين وراءهما خطا مرسوما من قطرات . ولم تر جولييت ولم ير سلستان الرجل الا من الظهر ، كان يرتدى قبعة مستديرة وبدا معطفه مصطبغاً بلون الشفق ...

بعد ذلك نجدهما جالسين وجها لوجه فى حانة صغيرة جدا ، حتى يمكن أن يقول المرء عنها أنها واحدة من تلك اللعب الجميلة ، التى يفتتن الانسان بها ، ففيها كل شئ يقلد تقليدا متقنا ، الأشياء ذات الحجم الطبيعى مصغرة ، المقاعد،..... والستائر ، والأوانى ، كانت الجدران الوردية تختفى تقريبا خلف الاعلانات المرحة التى تشبه الرايات : لقد كان كل ما فيها لا يزيد على ست مناضد من الرخام المغطى بالتراب ، وكان على القصدير الذى يغطى مائدة دفع الحساب شديدة الارتفاع رسوم بارزة منقوشة على الحافة ، وخلفها تألقت الزجاجات من كل الألوان ، أما الفتاة التى كانت تقف عندها فقد بدت صغيرة جداً وكأنها تلعب لعبه خدمة الزبائن .

استراحا من عناء نزهتهما الطويلة ، اليدان فى اليدين ، العينان فى العينين ، وفوق المائدة الضيقة راح كل كل منهما ينظر الى الآخر ، تخيل أحدا لم تره ابداً الا على مبعده ، أوفى الحلم ، أو فى الخيال ، مثل : مدام بوفارى ، أنا كاريننا ، فيرتر ...جارى كوبر ، شارل بواييه ... ثم ها أنت تراه فجأة جالسا معك على نفس المنضدة . هذه الشخصيات التى يعرفها الواحد هنا تماما . الشخصيات المألوفه لنا والبعيدة عنا . التى لا يمكن الامساك بها ، اذ بها تمتلك بغته طابع حسن ، أو مرجا من الشعر ، أو أظافر ، أو شكلا خاصاً للأذن . وكل هذه التفصيلات التى لا يفكر المرء فى أن يتخيلها . ان كلا منهما يتأمل الآخر ، بدهشة وفضول . كما لو كان ذلك من خلال عدسة مكبرة ، المرآة الصغيرة التى أخرجتها جولييت من حقيبتها المرهقة ، أصبع أحمر الشفاه الذى سقط الطلاء الذهبى عن غلافه ، وقفازات الصوف المرتقة بعناية عند الابهام ... طريقتها فى وضع قبعتها على شعرها الأشقر الدقيق مثل شعر طفل ، وحين تمرر أصبعها خلف أذنها الرقيقة مكتملة الدقة ، والسلسة الصغيرة التى تحيط بالعنق ، وربما كان فى نهايتها ميدالية ، الهالة البنفسجية حول عينيها ، وأسنانها تلك الاصداف اللؤلؤية فى نصاعة السوسن ، أما هو فقد كانت له ، يدان جميلتان ، خشنتان ، أصفرت سبابتهما من أثر التدخين ، وخاتم عريض ... وقد كان هناك زر ناقص فى سترته ... وبعض التجاعيد تحت عينيه المستطيلتين . وكانت فيهما نظرته القلقة ، وشعره الذى يميل الى التبعثر .... والابتسام النادر ... كانت اقداح الشراب صغيرة الى درجة تثير الضحك ... وكأنها ... تلك الاقماع المعدنية الدقيقة حول أصبح الحائك . لذلك ارتفعت فوق كومة من أطباق الفناجين .

كانا يتناولان العشاء لدى سلستان , فى تلك الغرفة , ذات القبة , والنار المتوهجة , وكان سلستان قد أوصى خادمة بأن يخرج ما لديه من مؤن احتياطية فائقة القداسة ، علب السردين ، علب الاناناس المحفوظة ، وبقية أوزة البارحة ، ولذلك كان العشاء طيباً ، عشاء فاخراً .

وراح المذياع يعزف موسيقى المائدة التى تلائم المناسبة ، ومن ناحية النبيذ ، كان فى مقدور سلستان أن يفخر بقبوه . وقد كان به فخوراً ، لقد كانا مرحين بجنون ، بغباء ، وحين طرق الخادم الباب، كانا على وشك الشروع فى الرقص ...

قال الخادم – سيدى الكابتن ، أنه نفس الشخص مرة أخرى ، وهو يصر...

خرج سلستان بسرعة وجلست جولييت على مقعد تحرك كتفيها وترقص بمفردها ، تدور وتعتدل ... وأغرقها المذياع بالالحان التى تغرى بالرقص .. لكن سلستان لم يعد ... وكم كان الوقت طويلا, بدت شجرة عيد الميلاد فى قلب الغرفة كأنها حافة غابة ليلية معتمة ، بينما الشموع على المائدة تذرف دموعها الأخيرة ، وأصبح الراديو قتيلا . قابعا هناك عديم الجدوى مثل ليمونة أعتصرت .


وعاد سلستان ومعه وريقة مكتوب عليها : يامارشال ... ها نحن أولاء ، وذهب الى الراديو وأغلقه .

وقال – اننى مضطر للرحيل ، يحزننى أن اتركك هكذا ...اذا اردت أن تقضى الليلة هنا فانك فى منزلك ، اذا لم تفضلى الرحيل هذا المساء ... سوف يصحبك فرانسوا ألى المحطة ...


- ألم يحدث أمر سئ ؟
- لا، على الاطلاق ، أنه يرتبط ببساطة بتلك المهام التى تتوالى وتلح ، هل ستتجهين الى ليون مباشرة .
- سوف اتوقف فى فالانس
- هيه ، حسنا ياجولييت ، والآن أقول لك، الى اللقاء ، هناك قطار بعد حوالى ساعة ، وليس عليك الا أن تصدرى أوامرك الى فرانسوا ...
- سلستان !....
- خطا سلستان نحو أحد المقاعد ، ثم ترك نفسه يسقط على مقعد منخفض أمام المدفأة ، أما نظرته الغريبة ، التى كانت تقفز أحياناً ، وتثبت أحيانا أخرى ، فكانت الآن مثبتة مباشرة أمامه على النار .

- جولييت ، لقد قلت لى : فلنلعب !

- آه !

- وكانت تلك صرخة صغيرة .

- لعبة رهيبة ... لقد اعطيتنى فكرة عن كل ما لا أملكه ، وما لن أملكه أبداً ياجولييت أيتها المعجزة ، اننى أكثر تعاسة من ذى قبل ، واننى الآن اعرف ان لا شئ تحت الرماد ... لقد اعتقدت فى لحظة قصيرة أن ... لكن لا ، واذا كنت لم تستطيعى أن تكملى هذه المعجزة ، فلن يستطيع أحد أن يفعل ذلك ، جولييت لا تبك ، فما من أحد يستطيع أن يكون سيدا على قلبه ، اننى رجل صريح ...

قالت جولييت –" اننى لا ابكى " ، وجذبت قبعتها ووضعتها على شعرها ،" لقد عرفت دائما أن الحب ليس الا عمله مزيفة ، وان الاوهام وحدها هى الشئ الحقيقى ، لا أحد يحب ، لا أحد يحب أحدا ... اننى لا أحبك ... أين معطفى ؟
- اذن سترحلين هذا المساء
-
كان سلستان قد نهض ، وظل منحنيا قليلا ، ويداه عن مستوى قلبه .
- نعم ، سوف ابيت فى فالانس . ماذا فى ذلك ... اليس ملائما ؟
- بلى ... وداعا ، ياجولييت .
- لماذا تقول وداعا ؟ الى اللقاء ، هذا اكثر طبيعية اليس كذلك ؟
- اذن ، الى اللقاء...
- وتصافحت الايدى .
-
كان خادم سلستان يسير خلف جولييت ، حاملا حقيبتها ، بينما كانت الطرقات سوداء ، ولكن لم يكن احد فى حاجة الى ان يرى الجنود الألمان ، فالسمع يكفى ، ولم يكن احد سواهم يثير هذه الضجة الجهنمية التى تسببها الاحذية الطويلة العنق ، وكأنه مصنوعة من الرصاص أو سبائك حديد . لقد أصبحت أفينيون مدينة ألمانية ..........
*****

هاهى ذى جولييت نويل ، الكاتبة على الآلة الكاتبة ، فى القطار من جديد . فى قطار مزدحم مثل كل القطارات ، لقد كانت تجلس على حقيبتها الصغيرة . فى الممر المزدحم بالحقائب والناس ، على الرغم من وجود أربعة دواوين خالية فى هذه العربة ، ومغلقة بالمفتاح . وكان القادمون الجدد ، فى كل محطة ، يهزون هذه الابواب ، التى يمكن للناس أن يقرأوا عليها : مخصص للفرماخت ( الجيش الالمانى) فقط ، ومع ذلك فقد كانوا يهزونها ويحتجون ثم يمشون بعيداً ، لانه لا يمكن لاحد ان يتمكن حتى من الوقوف ، الى أن اعلن رجل كبير السن وكان يرتدى معطفا صارخ الاناقة ..ويضع لؤلؤة فى رباط عنقه ، وليس له داخل فمه الا سنتان فقط ، بصوت عال ، انه لو كان احد الالمان موجوداً هنا ، لكان سعيدا بأن يفتح الأبواب ويدع الناس يجلسون ، لأن الالمان يكونون سعداء للغاية حين يؤدون خدمة ، وانهم يتصرفون دائما التصرف ( السليم ) ... وحينما سمع كل من فى الممر هذه الكلمات . ( انهم يتصرفون دائما التصرف السليم ، رددوا فى الحال كأنهم جوقة من الجوقات القديمة : (آه. فلنتصرف التصرف السليم لان الالمان هم من يتصرفون التصرف السليم ).. فى هذه الاثناء فض احد الفتيان قفل احد الدواوين المخصصة للفرماخت بمبراة ، وقد شجعته نصائح المجاورين له ... وقالت جولييت بطريقة جعلتها رقيقة !- سوف يرمونك بالرصاص ..... بطريقة ( سليمة ) وقال الفتى المجاور لها الذى كان يسافر بتعقل تام مع والدته ، على الفور :- آه .. فلنتصرف نحن التصرف السليم لانهم يتصرفون التصرف السليم الى ان ظهر احد الناس ، واتى الى جولييت وهو يقدم ساقا ويؤخر أخرى .. وقال بصوت خفيض ، حتى تسمعه جولييت فقط :- هل رموا عددا كبيرا من الناس بالرصاص فى فالانس ... اجابت جولييت فى غير اكتراث :- فى بعض الاحوال فى فالانس او فى غيرها ... لم تغلق النافذة ابدا ، فكان احد الركاب يرفعها كل دقيقتين ، ولكنها تبدأ فى الانزلاق على الفور ، فى بطء . فى بطء ، ثم تسفع ريح ثلجية المسافرين فى الممر .
سألت جولييت ، قاطع التذااكر ، وكان فى مروره يسحق الناس على حواجز العربة :
- ألا تستطيع أن تفتح لنا هذه الدواوين الخالية ؟
- الا تعرفين القراءة ؟ انها مخصصة للمحتلين ...
وقالت جولييت – انى لا افهم هذه الرطانة ، وقهقهة كل من فى الممر ، وهز قاطع التذاكر كتفيه وواصل طريقه .
كان الناس يصعدون فى المحطات ، وهم يجرون الحقائب ، والاطفال ، بينما الحمولة كاملة كما يقال ... لقد كانوا يروحون جيئة وذهابا . ويهزون أبواب الدواوين الخالية . كان الناس سيمتنعون عن فتحها لو كان ذلك ممكنا ... ثم يأخذون فى الثرثرة
- ما هذا ... هل هى مخصصة للبريد ؟
- ألا ترى أن هذه مخصصة للألمان ؟
- شئ قذر !، مخصصة للالمان !
ثم يمرون ، ويتساءلون كيف ، لكنهم يمرون او يقفون على اقدام الآخرين ...
انغرزت يد الحقيبة الصغيرة وأقفالها فى لحم جولييت . وقد أحزنها ذلك كثيراً ، حتى ثارت أعصابها الى اقصى الحدود ، وراودتها الرغبة فى ان تعبر بصوت مرتفع ومفهوم ، عن كل هذه الأمور ، ولكن يجب الا يقال شئ ، فهى قد لاحظت من قبل الرجل الطاعن فى السن ، خاوى الفم من الأسنان يختلس اليها النظر . ان هذا الكائن المقزز تسيل من الخطب : (ارأيتم ما يرتدونه ؟ والعتاد الذى عندهم ؟ ما أعظم انضباطهم !.....).
وساورت جولييت رغبة فى ان تبصق فى وجهه.. بينما كان جوقة الممر تردد ( ما اعظم انضباطهم !... ) وهبطت النافذة تاركة الريح المبللة فى الليلة السوداء تتسلل .. وكان أمرا طيبا بالنسبة اليها ان الفتى الذى كان يسافر مع والدته يشير لها من بعيد ، فقد اصبح الان بعيدا بعد ان دفعه الناس شيئا فشيئا ، وبالاضافة الى ذلك . كان يحاول الاقتراب منها ، وهو يزيح الناس جانبا ، الى ان قال لها : (ياانسة ، هناك مكان تحتفظ به والدتى من اجلك ).
-شكرا .. هاهى ذى فالانس ، وسأنزل .

وفى فالانس ، لم تكن هناك تدفئة فى غرفة الفندق ، على سبيل التغيير ، ونامت جولييت نوما مضنيا ، وهى قلقة الى حد ما ، تترقب كمينا ، لانها كانت قد ملأت استمارة الفندق باسم روز توسان ( لأن الدكتور قد أمرها بحزم أن تفعل ذلك لانها تحمل معها (أشياء ) ولأن بطاقة هويتها المزيفة لم تكن جاهزة بعد ، وحين تحصل عليها لن تخاطر بشئ ، وأخذت تحلم بسراديب حجرية للموتى لم تتمكن من الخروج منها ، فالجدرات داكنة ، خشنة ، بينما الظلال الرمادية تتأرجح حولها وتهمس لها بأنها لن تخرج منها أبدا ، أبدا ...! وهل كانت فى حاجة لان يقال لها ذلك ، لقد كانت تعرفه تماما ، لم يكن هذا سوى مغالاة فى احساسها بالعذاب ، كان مكتوبا على جدار سجن الكابوس بحروف الاستهلال الكبيرة: ( لقد عادا ). وهذا اليأس الذى كانت تشعره ، لم تكن تعرف أيرجع الى انهما قد عادا أو الى انها أدركت أن الجدران ستسجنها الى الابد، وأخذت جوليت تصلى فى حلمها قائلة :
( أيها القديسون عشاق أفينيون الذين فى السماوات – هبونى من لدنكم رحمة وعونا ..)
وفى اليوم التالى ، أثناء انتظارها الساعة التى تعرف أنها ستلتقى فيها بشخص معين فى الموعد المحدد ، أخذت تتسكع فى الطرقات . كم هى كبيرة مدينة فالانس . بها محطة كبيرة .. مقاه كبيرة ... محلات كبيرة .. دور سينما كبيرة ... وألمان وايطاليون أيضاً ، أعداد كبيرة وما أغرب هيئتهم ..آه ليس على هذا النحو اذن ، أنهم مضحكون ، فليس من الجدية أن يتزين الرجال بريش الديك .. كانت جولييت تشعر ببرودة قدميها الى درجة تدفعها الى البكاء ... ومن حسن الحظ أن موعد اللقاء يقترب بما أنه فى مقدورها أن تذهب الى هناك ابتداء من الساعة الحادية عشرة صباحا ...
كان الموعد فى مقهى قريب من المحطة ، أحد المقاهى المزدحمة بالطرود التى تودع هناك :
- لا ... لا أريد شراب ليمون محلى بالسكرين ، ان الجو بارد ، أريد قهوة شديدة السخونة ... هل ترغبين فى قرميدة ساخنة تدفئ قدميك يا أنسة ؟. أوه ، نعم ، كانت تريد ذلك حقا ... وبينما كانت تنتظر قدح القهوة رأحت تنظر الى الرجل الواقف خلف المنضدة المعدنية ، لابد أن يكون هو . ولكن كان هناك شرطى يتناول قدحا من القهوة وهو واقف ، بينما جلس شرطيان آخران على احدى الموائد ... ثم نهضا ، وذهبا ، كانت بدانتهما تحتجز الهواء . يطعمونهم جيداً فى هذه البلاد ، بل يحشونهم حشوا وذلك مما لا يفترض فى حراس يتنقلون كثيراً ، وكان هناك ضابط ألمانى فى مواجهة جولييت يحتسى قدحا من القهوة . بجواره سائل أصفر فى قدح صغير . وكان له وجه هزيل ، شاحب ويدان بارزتا العظام ، ولم يكن برميلا ضخما من براميل الحرب .
نهضت جولييت وذهبت الى منضدة دفع الحساب :
وقالت : هل يمكن أن تعطينى قدحا صغيراً مثل الذى يحتسيه هذا الألمانى ؟ أن الدكتور أرنولد يبعث اليك بتحياته الحارة ... قال صاحب المقهى :- أن المشروب الذى يحتسيه ليس بالشئ الممتاز . هل تريدين أن تضعى حقائبك فى الخلف بالقرب من دورة المياة ؟ وقالت لها زوجة صاحب المقهى وهى تتبعها – أفعلى ذلك سريعا فربما أتى أحدهم بين لحظة وأخرى ... أخرجت جولييت من حقيبة يدها بطاقات التغذية ودفنتها زوجة صاحب المقهى ودستها فى صدرها ثم قالت : ( اذهبى ياانستى الصغيرة ، سوف أقدم لك قهوة شديدة السخونة ، وقدحا صغيراً من شراب منعش ... غير مغشوش)

وكان الضابط الألمانى هناك دائماً ، والشرطى على منضدة الحساب أيضاً . وكان هناك رجلان يلعبان الورق . خشب الاثاث ، واللون الأصفر الذى يصبغ الجدارن ، والبنى الذى يصبغ المقاعد ، والسترتان الجلديتان للاعبى الورق ،... ورباط عنق أحدهما ، ووشاح الاخر الأصفر ... كان كل ذلك يحتاج الى لمسة واحدة من اللون الاصفر لتتألق أمامها لوحة الفنان العظيم المعروفة : لوحة لاعبى الورق .

وكان هناك قطار بعد الظهر ، وتناولت جولييت غذاءها فى مطعم حقير ، كئيب ، عفن الرائحة ، مزدحم ، واحتست قدحا من القهوة فى مكان آخر . كان الجو باردا ، والثلوج فى طريقها الى الذوبان تحت الأقدام ، وكان هذا هو الجو الذى يعقب الاعياد ، قاسيا مثل العودة فى الفجر ، بعد ليلة حافلة صاخبة ، مثل مائدة لم تعد عليها الا بقايا الوليمة ، وتوقفت جولييت أمام احدى دور السينما : كانت هناك حفلة فى فترة ما بعد الظهر ، وعلى الفور ... دخلت جولييت .

لقد كانت سينما جميلة ... تقارب فى جمالها سينما بارامونت فى باريس .. كانت خالية ، خالية تماما ، ودافئة ، واختارت جوليت مكانها فى المنتصف تماما على مسافة معقولة من الشاشة ، وكان المقعد المغطى بالقطيفة مريحا ، ولم يكن بجوارها أحد . ولم يكن هناك أحد يشغل نفسه بها ، وقد أحبت جولييت هذه اللحظة الا يهتم بها احد ... لم يكن هناك الا شاب ، يبدو كأنه طالب ، يقرأ جريدة يجلس خلفها ، أما عاملات السينما فقد كن واقفات بلا حراك مستندات على الجدار . ودخل ثلاثة صبية فى صخب ، لكنهم نسوا على الفور صخبهم فى هذا الصمت الذى يشبة صمت الكنيسة ، وما أعذب الدفء ، وجلس الصبية بالقرب من الشاشة ، ويستطيع المرء فى هذا الصمت المذهب أن ينسى المنزل الجبلى ، والحذاء الموحل ، والغجر وقهوة الشعير ، وجنود الاحتلال وهم القمل الرمادى فى خصلات شعر الطرقات . لقد كانت جولييت دافئة ، هانئة ، على وشك النعاس ... وكانت قد بدأت فى الاغفاء حين تحرك شئ ما .. جفلت جولييت وهى تشم رائحة الخطر ، وواصلت من ناحية الشاشة أصوات مختلطة ، أخذت تتجسم ، وأصبحت موسيقى :
صوت اديث بياف وهى تغنى كما تغنى دائما
..... كان عظيما ، كان جميلا
وهو يستمتع بالرمال الحارة.........

ويمكن القول بأن دفء هذه القاعة ، قد أذاب ما فى قلب جولييت من جليد ، وأن قطراته الذائبة هى تلك التى تسيل من عينيها ، آه ... كم يكون مؤلما أن يعود الدم الى عضو من أعضاء الجسم كان قد تجمد ... هل جربت جولييت قبل ذلك أن يتجمد طرف أذنيك ، أو أصبعك ، وأنت تقوم بالتزحلق على الجليد على سبيل المثال ، لا يشعر الانسان بشئ طالما كان متجمدا ... فى لون بياض الثلج , غائب الدماء , لكن حين تعود اليه الحياة يصبح مؤلما ...مؤلما جدا ، حتى ليحس بوخز آلاف الابر الملتهبة ... يا الهنا ... ما أقصى عذاب قلبها . وما أقسى وحدتها فى هذه السينما الضخمة المذهبة ، وقد دفنت حية فى هذا التابوت الهائل . أيها القديسون عشاق أفينيون صلوا من أجلها !
ظلت القاعة أثناء عرض الجريدة الناطقة أيضا نصف مضيئة : ربما كانوا يخافون أن تقوم جولييت بمظاهرة عند مرأى هؤلاء الجنود المثاليين فى أرديتهم البيضاء الجميلة وهم يصلحون خطا تليفونيا أثناء هبوب عاصفة ثلجية عنيفة ، بينما الروس الاشرار غير المرئيين ، يطلقون عليهم النار من أعلى . وبدأت بعد ذلك تتبع الفيلم الاساسى ، الذى كان رديئاً ، حتى أنها استطاعات أن تغفو ، ولا تفكر فى شئ .. حتى كاد أن يفوتها القطار .
*****
- جولييت .. ألست مريضة ؟
- مريضة ؟ ... لماذا ؟
- يبدو هذا على وجهك ! هل حدث شئ ما ؟ ألم تجر الامور على ما يرام .
- خلعت الخالة الين عنها معطفها ،وأحاط جوزية بذراعيه ركبتيها كان مبتهجا:
- - لقد عادت جولييت ! لقد عادت جولييت .
- ألا تريدين أن تقولى عما اذا كانت الامور على ما يرام ؟
- بلى ، ياخالتى الين ، لو عرفت كيف يكون السفر فى هذه الآونة ... يامعبودى الصغير جوزيه ، ياقلبى الصغير ، سوف تخنقنى هكذا .. هل كنت ولدا عاقلا؟
- دع جولييت لتستريح ! أذهب وجهز المائدة . مثلما يفعل صبى كبير مثلك ، أذهب بسرعة ...
تبعت الخالة ألين جولييت داخل الغرفة .. وقالت لها :
( ياطفلتى . ( بينما جولييت تخلع ثيابها وتلبس ردائها المنزلى القديم وخفها ) ياطفلتى ، يعلم الله انى ابارك كل ما تقولين وما تفعلين . لكنى امرأة عجوز ... لم أعد أستطيع المزيد .. لو كان بمقدورى فقط أن أتبعك .. لكن الانتظار!! ومع كل خطوة على السلم أقول لنفسى : لابد أنها الشرطة .. وأقول لنفسى أنك لن تعودى بعد ذلك ، وأنهم قد أخذوك ... ألا تستطيعين أن تتوقفى ،حتى تتنفسى قليلا فحسب ، فكرى فى جوزية ، ماذا يصبح بدونك ...)

غسلت جولييت يديها .. عدد قليل جدا من الناس هم الذين يقومون بالعمل ... يقال ان الناس جميعهم موافقون ، لكن حين يتعلق ذلك بعمل شئ ... هل جوزية راض عن جواده ؟ هل استمتعتما بعيد ميلاد طيب ؟ كيف أعددت الأرنب ؟ لا تنشغلى ابدا .. ياخالتى الصغيرة ، أننى حذرة للغاية والآن ، على اى حال ، حين أرجع الى الجريدة فلن أعود للسفر بعد ذلك .
- أنت تقولين هذا ... نعم سوف ترين ، انك شاحبة وتفزعيننى ستسقطين مريضة ...
- أن أفكارك هى التى تشغلك ... اننى فى حالة طيبة جدا ... ومن الواضح أننى متعبة للغاية ... وأننى مبتهجة بعودتى .
صاح جوزية :
- جولييت . جولييت ، أسرعى !
- *****
-
قال لها رئيس التحرير وهو يملى عليها الرسائل :
- تبدين متعبة يا انسة . ألا تريدين أن تستريحى يوما أو يومين ؟
كانت جولييت تثير رقة الرجال دائماً .
- لا يا سيدى اننى فى حالة طيبة للغاية ، شكراً ... هذا يعود إلى أننى لا أحب مدينة ليون.
وقال رئيس التحرير وهو يتنهد – أنا أيضا لم أعد أحبها ...
وجعلت لوعة الحنين الى باريس وهى لوعة استشعرتها جولييت منذ بداية المنفى ، كل مكان لا يطاق بالنسبة لها لمجرد انه ليس باريس ، وقد تفاقم هذا الشعور فى مدينة ليون كذلك ، فأحست بها ، مدينة خانقة مغلقة ، مثل ألم خفى لا خلاص منه ، مدينة تعجز عن أن تقدم عزاء ، ووصل الامر بجولييت الى المدى الذى جعلها تبغض هؤلاء الذين كانوا يتظاهرون بأنهم معجبون بمدينة ليون ، وتعتبرهم كائنات شاذة ، قد تربت على التعاسة وتجد فيها متعة كئيبة . ما الذى يمكن أن يحبه المرء فى هذه المدينة ، المنازل ... هذه المكعبات التى لا لون لها ولا ملامح ، أو الطرقات التى تشكلها مثل هذه المنازل ، أم هى بعض الاشياء المريبة . أشياء البرجوازى الصغير ... والتاجر ، التى تجعلك تفكر فى شوارع باريس الخارجية ؟ أيحب سلالم المنازل ؟ كل هذه الدرجات التى يصعدها المرء على أنها سلم الخدم . أم صفوف صناديق الخطابات الصغيرة التى تستقر على جدران فى لون الوحل ، ذات حواف بنية . أم درابزين السلم المصنوع من قضبان السجن ، أو ربما هى الشقق بمخادع نومها والمخادع داخل المخادع ، والمخادع داخل المخادع . وهى تظلم شيئا فشيئا ... وهى تستتر شيئا فشيئا ، أم هو الولع الجنونى بما هو ضيق وسرى وغير مغسول ؟ ... لم تكن جولييت قد قرأت روايه ( سجينة بواتييه ) ، لكن الاحساس الذى كانت تحس به نحو مدينة ليون والمعجبين بها ، يمكن أن يقارن بهذا الذى أحست به السجينة . وأنا أتخيل ( المغارة الصغيرة ) أو ( مالامبيا الصغير ) أى فراش السجينة .
هل كان عليها أن تحب ليون ؟ مناخ الضباب ، الوحل والجليد الذائب ..؟ ففى باريس لا يتابع الانسان حالة الطقس الا ليكتشف ان الجو جميل فلا يعتزم العودة للمنزل حتى لا يفقد قطعة صغيرة منه .. أليس الخروج الى الطريق فى باريس يعنى الولوج فى احداث مثيرة مدهشة .. بينما السير فى طرقات ليون .. يعنى خوض الوحل البارد ... ومحاذاة الثكنة الرمادية ذات العلم متعدد الالوان الذى يرفرف على البوابة .. بينما يذرع الطوار حارسان المانيان فى ملابس الميدان الرمادية ، مرتديين خوذتيهما ، مسلحين حتى الاسنان .. ورؤية البحارة الصغار الذين يتسكعون فى طرقات ليون فى خطوة عاطلة .( ولماذا يوجد البحارة بادئ ذى بدء فى مدينة ليون .. هل عليهم أن يطوفوا قليلا بكل مكان ؟... لكن جولييت ، رأتهم فى ليون ...) لقد فقد البحارة الصغار لونهم الزاهى ... فلم يعودوا متأنقين ... ولا متألقين ... لم يعودوا كذلك ... وكل هؤلاء البحارة يسيرون على غير هدى ... هذا الجيش الذى نزعت منه دروع شرفه وعلاماته العسكرية وهو مدحور ، مهان ، مثل ضابط عجوز عن الدفاع عن شرفه . يظهر على وجهه الذى حال لونه غضب أولئك الذين انحدروا الى قاع الضعف وسلب منهم كل شئ . وكان مكتوبا هناك على الجدران : 1918و1918و1918 ... مثلما حدث فى باريس دون شك ، مثلما حدث فى باريس ، مثلما حدث فى كل مكان عام 1918... الجرى خلف الترام أو انتظاره الى ما لا نهاية والشعور بالبرد ينفذ حتى العظام ، الوقوف على السلم ، واليدان مثلوجتان على وشك ارخاء القبضتين ... آه من دفء المترو الممتع ، والنساء اللاتى فى ملابسهن الجميلة ، والرجال يتخلون لك عن مكانهم ، وما أبشع الترام فى ليون ... نهر الرون الشاحب المأسوى مثل كم قميص خال من ذراع .. مبتورة ... لا ، انه لا يقارن بنهر السين الذى ينساب فى رشاقة ، ولا يسبب قشعريرة مماثلة .. ولا فائدة لنا فى معرفة ان ليون كانت فى الاوقات الماضية جنة فن الطهو ، وأن هذه الحانات والمطاعم الحقيرة ، وحانات الخمر حيث ينسحق الانسان انسحاقا لكى يتمكن من أن يصيب فتاتا مصنوعا من دقيق عفن يلتصق بسقف الحلق ، كانت بمثابة معابد لحضارة الذوق المرهف فى متعة الطعام والشراب !
لكن يعلم الله أن ليون ليست هى التى أضفت على جولييت هذا الشحوب ، وهذه الهالات التى تحيط بالعينين ... وتثير اهتمام رئيس التحرير ، لقد كانت مدينة مظلومة .. فالآنسة جيرار وهى كاتبة آخرى على الآلة الكاتبة تعمل فى الجريدة ، سمراء صغيرة ، كانت جولييت قد ارتبطت بها . قالت ايضاً :- جولييت هل ترغبين فى أن أعنى أنا بصناديق الخطابات .. اذهبى واستريحى .. وسأتدبر هذا الأمر .. ان مظهرك يخيف .. – اننى أؤكد لك يامارى ... أن صحتى حسنة لأقصى حد ... ولست مريضة ... اننى أعانى .. وكلما لاحت النهاية زادت معاناتى ... ان الامر الذى لا احتمل التفكير فيه هو أن الناس يهلكون عشية النصر ... وهمست لها مارى جيرار قائلة : لقد أخذوا بيرو ، عامل التعدين الشيوعى – الصغير – لقد ذهب الجستابو الى المنزل الذى يقيم فيه . وضربوه بوحشية فى الحانة ، على مرأى من كل الناس .. ثم آخذوه ... انه طفل .. بالأمس كانوا يفتشون عند بينوا ، ولم يكن قد عاد بعد ، بالصدفة ... فأقتادوا زميلا كان ينتظره .

لقد كانت الصغيرة جيرار هى التى قامت بالحديث الأول مع جولييت عن المقاومة ، وفعلت ذلك فى البداية من خلال كلمات حذره .. لأنها لم تكن تعرف الكثير عما يدور فى ذهن هذه الفتاة الرقيقة جدا ، المتحفظة ، المتباعدة.. لكن فى اليوم الذى وصل فيه نبأ استشهاد شقيق جولييت فى ليبيا .. اقترحت عليها السمراء الصغيرة بصراحة ، من مدخل الألم المبرح والشفقة أن تعمل ... ودم الشقيق كان يحمل ضمان الثقة بجولييت . لقد مر على هذا اليوم ما يزيد على العام وهى منخرطة فى العمل ، لقد وجدت جولييت نفسها وقد احتوتها الدمامة وقد أمكن لهم استخدامها اكثر فأكثر ، لأنها كانت متروية هادئة ، دقيقة ، لا ترفض ابدا أية مهمة .. فى وقت كثرت فى الاعمال . كانت الأنباء التى يجب أن يتبادلها الذين يعملون بالمقاومة كل يوم .. مثل كلمات السر ، أخبار الاعتقالات ، أخبار حركة الانتفاضة ، اعمال التخريب التى تمت والتى ستنفذ ، اكتشاف جاسوس ، أو وشاية ، التخريب الذى يقوم به الجستابو ، الادب السرى .. كانت الانباء تجمع وتوزع ويتم الاتصال عن طريق صناديق البريد ، وكان جيش المقاومة ينظم صفوفه .. ويتسلح سرا بأسلحة ، تم الاستيلاء عليها ، القليل بعد القليل من كل مكان : تلك التى سرقت من مصانع الأسلحة ، أو التى خبئت من عام 1940 ، أثناء وقف اطلاق النار ، أو التى أنزلها الانجليز بالمظلات .. كان قلب الوطن يخفق .. وشاركت جولييت نويل ، الكاتبة على الآلة الكاتبة ، أيضاً فى عملية دفع الدم ، وتشكلت جبهة وطنية فى مواجهة المحتل بمثابة خط ماجينو حى ، دام ، موجع ، يقوى على مر الايام .

عرفت جولييت الآن كل خبايا ليون ، فورفيير ، لاكرواروس ، سان جان ، فيل أوربان، لم يعد لدى هذه الاماكن ما تخفيه عنها .. لقد عرفت كل خطوط الترام ، والقطار الصغير الازرق ، المقاهى ، الحانات ، مقاعد الميادين ، الحارات ، هذه الانفاق الضيقة ، التى تخترق فى كل اتجاه مجموعة من المنازل القديمة ، المشهورة كأقصر الطرق ، ( بعض الحارات لها حوالى ستة أو سبعة منافذ . تؤدى الى كل الاتجاهات ، لو كان الانسان سيبقى هناك ليلعب لعبة الاستخفاء ) واصلت جولييت القول ( اننى لا أحب ليون ... ) ولكن ربما لم يعد هذا حقيقيا الى درجة بعيدة .


أصبحت ليون شريكة فى حياتها ، وفى عملها ، فوهة المنازل المغلقة ، منافذ الحارات الخفية ، افتقاد الاناقة .. وابتذال هذه الاسوار الضخمة البرصاء وما ينسج خلفها من ترف ، وما يراكم من كنوز وما يحاك من مكائد ... وفى هذا اليوم الطلق من أيام شهر فبراير حين تسنمت ذروة لاكرواروس ، مستندة على جدار صغير فى أعلى سلك المصعد ، وقفت تشاهد المنظر ، ورأت العذوبة تسرى فى مشاعرها ، والشمس تورد وجه ليون قليلا . هذا الوجه الشاحب الاسود من الفاقه ، ان لم يكن ممتقعا تحت تأثير شهية نهمة أنانية ، وكانت أمامها مجموعة من النوافذ متحاذية على جداران ضخمة ... لم يكن لديها ما تقدمه سوى هذه المجموعة من المستطيلات السوداء ...وكانت تراها من خلال غابة من المداخن، العالية الحجرية ... التى لا يتصاعد منها دخان ، غابة مأسوية ، لكأنما النار بقدرتها على الاتلاف قد مرت هناك ، وجعلتها عارية ، وفى الغور ... كان هناك نهر الرون بالابنية الضخمة على ضفتيه ، وكانت مجاورتها للنهر تضفى عليها جلالا وأهمية وقد جعلها ذلك جميلة . وهناك بعيدا ، كانت ناطحات سحاب . فيل أوريان تشرب كل الضوء . كانت جولييت تتأبط تحت ذراعها لفافة وهى تحلم ، كان الجو جميلاً ، عذبا ... ماذا يوجد خلف هذه الجبهة الرصينة ، الأحلام ؟ وهذه كانت تعرفها جولييت ... مررت جولييت أحدى أصابعها خلف أذنها ، ثم أدرات ظهرها للمنظر الطبيعى . كانت قد تأخرت وعلى وشك أن تنسسى الوقت !

بدت ضجة الأنوال وكأنها حركة التنفس التى تقوم بها منازل تضج بالحياة ... ولم يكن لدى منازل النسيج الضخمة هذه ، شئ آخر سوى النوافذ ، وحركة التنفس ، وأرتادت جولييت عددا من الشوارع ... وحينما كانت تشق طريقها ، انفتحت السلالم أمامها ، عريضة ، عارية ، لا متناهية ، مهيبة ، وكأنها معطف طويل من الحجر ينسدل على كتفى عملاق جليل ... بدأت جولييت فى هبوطها ، ولم تستغرق الا برهة قصيرة ، وبحذاء المنازل كان يهبط درابزين من القضبان المستقيمة ، السوداء ، كما لو كانت مثبتة على نوافذ سجن ... وخطت جولييت عند أول السلم بعض الخطوات ، ثم غاصت فى احدى الحارات .


كانت هذه الحارة ، مثل كل الحارات ، تبدأ ... بجزء أول بسور تقشر طلاؤه على نحو غريب ، وقد استقرت عليه صناديق الخطابات ، وكان كل صندوق صغير يحمل اسما على لافتة نحاسية ، أو على بطاقة زيارة ، أو على قطعة من الورق ، ولكل صندوق صغير قفله الصغير ، ويشهد عدد هذه الصناديق الصغيرة على كثافة سكان المنزل ، وقد احتفظ كل سكان بمفتاحة الصغير حتى يؤمن سرية مراسلاته ، وكان أحد الصحفيين فى الجريدة التى تعمل بها جولييت ، تطارده أمرأة تكتب له رسائل عديدة يومياً ، وكانت خطابات الحب هذه التى كتبتها امرأة مجنونة ، توضع دائما فى ثلاثة أو أربعة مظاريف بعضها فوق بعض ، كل واحد منها قد ألصق بعناية ، ولم يكن هذا منفصلا عن الروح ، ان لم تكن روح أهل ليون ، فربما كانت روح مساكنهم وبدت الحارة التى سلكتها جولييت تكشف القناع عن سرها فى فناء مربع : فقد كان فى منتصف الفناء سلم . لأن الفناء منقسم الى بسطتين مختلفتى الارتفاع الى حد ملموس – ان هذا السلم وشبكة الحديد المطروق السوداء التى تسد مدخله ... والفانوس الموضوع على ارتفاع ، وأفاريز الشرفات الداخلية الخالية من النتوءات التى يشكلها السلم الصاعد فى طوابق المنزل : تضفى بأجمعها على هذا الفناء مظهر السجن ، مظهر التعاسة ، وغاصت جولييت بعد السلم الكبير الذى يقع فى منتصف الفناء ، فى باطن المنزل ، وهبطت بعض الدرجات الغروية التى تبدو كأنها تفضى الى أحد الأقبية ، لكنها كانت تقفز الى ممر آخر ينتهى بصناديق الخطابات ، ويطل على الطريق . وعبرت جولييت هذا الشارع ( كانت له جدران عالية ، فيها نوافذ مستطيلة ولا شئ غير ذلك )... ثم سلكت حارة أكثر ضيقاً ، أكثر قذارة ، وأشد ظلاما من الحارة الأولى ، بأركانها المنزوية ، ودرجاتها ، ومنعطفاتها الملتوية بفنائيها الضيقين المظلمين مثل جوف مدخنة المزدانين بذلك السلم الذى يشكل فى كل طابق شرفة خلف أفريز من قضبان السجن ... هبطت جولييت حتى ميدان تيرو ، وهناك ركبت الترام .


كانت قد دقت جرس الطابق الارضى ، حين خرجت امرأة البواب ( كان بيتا جميلا ، حديثا ، له أبواب ) من غرفتها . وقد كانت هذه المرأة شاحبة الوجه . وهى تقول لها لاهثة – يا آنسة ... أنهم هنا .. أنا لا أعرف ماذا أتيت تفعلين هنا ... ربما كان من الضروى ألا تذهبى هناك ... أنهم خمسة ... من الألمان ، فيما أعتقد ... وأقتربت خطوات خلف الباب ، وحين فتح الباب ، لم يكن أمامه أحد ، وكان باب المدخل الثقيل مغلقاً ...

جرت جولييت فى الطريق ، أعنى أنها لم تجر ... لقد مشت بسرعة جدا ... مثل جواد يترك الخبب لينتقل الى الركض . وقد أحست بألم فى جنبها . ها هو ذا ترام يأخذها الى كورديليه ... كانت الطرقات قد أظلمت ، وهى منسحقة تحت وطأة الاظلام الكامل . ولو لم يكن هناك أحد ... وبدأت فى الركض ... ياللخسارة ...

كان الفناء الصغير مضاء بالنوافذ التى ينساب من خلفها الضوء ... وفى أحد الاركان مقاعد المقهى ، المستديرة ، موضوعة بعضها فوق بعض .. بينما صفت صناديق فى مدخل السلم ، حيث أستطاعت أن تقرأ على باب زجاجى ، على الضوء البرتقالى الذى ينبعث من الداخل : ( بار مدخل الموردين ) ، تعثرت جولييت بصنوق قمامة ، ثم صعدت وهى تتحسس طريقها ، ودقت الجرس بعدد المرات المتفق عليها ... وفتح لها دومينيك بنفسه :
- قال وهو يجذبها من ذراعها – ماذا حدث ؟
- أنهم يفتشون ، الشارع ..
أدخلى ..
وكان فى مؤخرة الغرفة مخبأ حقيقى . كان هناك رجل نائم مرتديا ملابسة بالكامل على حشية مبسوطة فوق ارض ... فقفز على قدمية ، ومرر أصابعه فى شعره المشعث ... بينما أحاط الأحمرار بعينيه، وكان خداه مجوفين بشكل فظيع ...
- لم يتح لى الوقت لاسلم الصندوق ، فقد كانت متأخرة ، ستدركنا رحمه الله وها هى ذى رسائل .
ووضعت على المنضدة اللفافة التى كانت تتأبطها تحت ذراعها .
- يجب تغيير كل عناوين صناديق الخطابات – ارتدى دومينيك سترته الجلدية ، كان طرف سرواله قد تداخل فى جنزير الدراجة ، فبدا ردئ المظهر ... وقال مواصلا حديثه ، جولييت اذهبى وأخطرى الدكتور ، قولى له أننى سأراه غدا فى استشارة طبية .. هيه .. والسيد جورج .. لا كل الناس أسمهم جورج ... السيد أميديه ... هيا ، لتذهبى الى هناك ... ألم يتبعك أحد؟
- لا أعتقد ، لقد أطلقت ساقى للريح .
ضرب الدكتور أرنول بقبضته المكتب فى حده ، صرخ قائلا: " الأوغاد ، سوف نقتص منهم !- ضرب المكتب بقبضته مرة أخرى وقال :- لدى الآن يقين بأن هذا الفعل النذل لم يصدر الا عن جاك ، انها نفس الضربة التى وجهت الى لافون ... سيكون حسابه عسيراً ... هذا الكلب ... هذا الكب ... غادر الغرفة ، وسمعته جولييت يقوم باتصال هاتفى ... فتح الباب بهدوء ، لقد كانت زوجة الدكتور هى التى دخلت ، وهى امراة صامته لا يحس أحد بوقع أقدامها ( تكبر زوجها بنحو عشر سنوات )...قالت ( - أى حظ سئ ياآنستى المسكينة نويل ، ألن يكون لهذا نهاية أبداً ... ثم أنخرطت فى البكاء دون ضجة ... وأنهته قبل أن يعود الدكتور ...

قال لها – ياجولييت الصغيرة .. ياطفلتى أى مصادفة سعيدة أنه لم يقبض عليك ... قولى ، هل من الكثير أن أطلب منك أن تذهبى لحجز غرفة لزميل سوف يصل بعد غد ... انه يدعى سلستان على وجه التحديد ، لكن انتظري ، لم أفكر فى ذلك ، انك تعرفينه، لقد رأيته فى مدينة أفينيون – هل تتذكرين .. هذا أمر حسن يمكنك أن تذهبى الى المحطة لتأخذيه ، إذا لم تكونى مشغولة ، بطبيعة الحال ..
قالت جولييت .. انى غير مشغولة .
- رائع ، يجب أن نضعه فى هذا الفندق الذى نمت أنت ذات ليلة فيه ...
اتصلت جولييت هاتفيا بالجريدة ، لكى تقول أنها مصابة بالانفلونزا ... وكذلك فهى متعبة للغاية .. وخلصها هذا من حكاية التفتيش .

رأته يأتى من بعيد – لانه كان أعلى قامة من جمهور المسافرين حين وضعت يديها على كم سترته ، كانت نظرة سلستان واحدة من هذه النظرات السريعة ، التى كانت احدى خصائصه ، لم يتوقع أن يراها ، لكن أى آهة ... من الدهشة .. وأى بسمة تدل على تعارف سابق لم تستطع أن تجعل قبضة يده أقل خشونة :

- هل أتيت من أجلى .
- نعم من أجلك .. لقد طلب منى الدكتور أن أحجز غرفة ، وأن أذهب الى المحطة لأبحث عن شخص يدعى سلستان ... سوف تنام فى فندق قريب ، ستكون هناك فى وضع طيب ، لقد سبق أن قضيت فيه ليلة ، ولا أحد يسألك أن تملأ أستمارة الفندق .
- هل نركب الترام ؟
- لا ، انه على بعد خطوتين
- له كل المميزات ... وخلاف ذلك ؟ هل أحوالك على ما يرام يا...جولييت ؟
- هل نسيت أسمى ؟ ان أحوالى على ما يرام – وأنت ؟
- لا ، أنا لم أنسى أسمك ... لكن لا أعرف ان كان فى مقدورى أن أسمح لنفسى أن أدعوك دون كلفة باسمك الأول ؟
- تستطيع أن تفعل ذلك .. سيكون ذلك طبيعيا أكثر أمام صاحب الفندق ... انى مضطرة للصعود معك ... فلدى خطاب لابد أن أسلمه لك ، أما زال الألمان يوجدون بنفس القدر فى مدينة أفينيون ؟
- أكثر ، بقدر ما يستطيعون
أخذا يحصيان كل الفنادق التى فتشها الالمان ... وتحدثا ... عن المكتبة الألمانية التى فتحوها فى شارع الجمهورية ... الى آخره ... الى آخره ...
قالت جولييت – ها هو الفندق – أنظر ، ان له ثلاث مخارج ، أو ثلاثة مداخل ، كما تشاء أن تعتبرهم ، أحدهم فى الفناء ، وهو الرئيسى ، والآخران مختفيان عن النظر لا يسهل معرفتهما ، أنظر أحدهما هناك بالقرب من دار السينما ، والآخر يطل على الطريق من الخلف ...

لم يظهر صاحب الفندق ولا كلباه أيضاً .. نظرت خادمة ناعسة بلا مبالاة الى جولييت ، التى أخذت المفتاح المعلق على اللوحة . وكانت الستائر مسدلة فى الغرفة . وهى من الساتان الأزرق .. ذات أزهار زرقاء . وكان للسرير العريض غطاء من نفس الساتان الازرق ... والبساط المفروش على الارض كان أزرق أيضا . كانت المرايا تعكس هذه السماء المزهرة . الاضواء المتسربة ... لقد كان هناك دفء الجنة ، حتى ليمكن للمرء أن يعيش فيها الى ما شاء الله .

سألت جولييت – هل يلائمك هذا ؟
- أى قصر فى قصص الجنيات الخيالية لا يمكن أن يحقق أمانى مثلما يحققها هذا الفندق ...
- عبرت ابتسامة وجهه القائم الذى يشبه وجه كبير الملائكة ... بعد هبوطه على الارض .
- هل تريدين اعطائى الرسالة ياجولييت ؟
بسطت اليه رسالة ، أخرجتها من بطانة معطفها .
- الدكتور يقول لك أنه التقطها من المذياع هذا الصباح ، لقد ظن أن من الممكن أن تكون قد رحلت ، ونقل اليك نصها ، أما ما عدا ذلك فلا أعرف ...
فض سلستان المظروف – ثم مشى حتى النافذة ، لكن لا ، فقد كانت تطل على جدار ... كان عليه أن يكتفى بلوح الزجاج المغبش الوردى .. قرأ بسرعة صفحتين صغيرتين ، وهو ينظر الى جولييت بعينين تائهتين ، ثم أحرق الوريقة فى الحوض ، وترك الماء يتدفق حتى يزيل الرماد – وكان مازال يرتدى نفس السترة .
قال : - سوف أخرج أنا أولا ، انتظرى خمس دقائق ... عشرة ... الى اللقاء ياجولييت ، مادمت لا تحبين أن أقول لك وداعا . وشكرا لك .

خرج . واستراحت جولييت على غطاء الأريكة الازرق ، كانت الغرفة بالساتان المصنوع من القطن ، بفراشها العريض ، والمرايا ، تثير احساسا بأنها مكان للقاءات الغرامية ... بدأت جولييت فى الضحك بهستيرية ... لقد كان جميلا .. فردوسها المفقود ! الضحك ، ثم البكاء ...آه .. كم يؤلمنى هذا من أجلها ، من أجل كل النساء ... جولييت لابد من قليل من الوقار حتى حينما لا يراك أحد ...أيها القديسون عشاق أفينيون ، من أجل حبكم للحب ..أغفروا لها .. ها هى ذى قد بدأت فى الهرطقة لقد هتفت قائلة :( لقد عادا ، لقد عادا) لا، اننى أفضل ألا أسمع ، ألا أعرف ... لابد أن هذا هو أرهاق الشهور الأخيرة ، مجرد أجهاد الأعصاب .

حين خرجت جولييت نويل من الفندق ... لاحظت فى الطريق ... دون أن تأخذ ذلك بجدية ، رجلا يرتدى معطفا فاتحا وطويلا جدا ... كان يراقب من الطوار ، الذى يواجه بوابه الفناء الذى يختبئ فيه الفندق .. فكرت بغته ... حين ، كانت قد وصلت الى ميدان بلكور ..وأستدارت ، تماما ، لقد كان هناك ، مع رجل آخر .. ربما لا يعنى هذا شيئاً ... ربما .. وأستدرات أيضاً مرة أو مرتين خلسة ، كانا يعبران الميدان خلفها .. حسنا ستركب الترام ... حتى تتأكد جيداً ... توقف الرجلان بالقرب منها ... لماذا يتبعانها ...أبسبب سلستان .. أم صناديق الخطابات ... لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يتولد لديها أنطباع بأن أحدا يتبعها ، وقد كان الانطباع دائما ثمرة خيالها ...أو بسبب رجال كانوا يغازلونها ، ليس من الممكن أبدا التمييز بين البوليس السرى والمغازلين ممن يتبعونها .. هاهو الترام ... أسرعت جولييت .. وتركت نفسها تندفع .. هل سيركبان هما أيضاً .. لا يبدو ذلك .. بدأ الترام فى الحركة .. ركضت جولييت ، وتشبثت بالسلم ، وحينئذ انتزعتها يد. وقال الرجل الذى يرتدى معطفا فاتحا " لا نريد فضائح بصفة خاصة ، ولا أحد يريد بك الضرر ".
كان يتحدث الفرنسية بطلاقة ودون لكنة . وأحاط بها الرجلان ولم يبد أنهما يفعلا ذلك ، لكنهما أمسكاها بقوة .. وكان للثانى أنف طويل .. وشعر أشقر مشوش .. يواصل رفع قبعته الملساء فوق رأسه . وقد قال بضع كلمات باللغة الالمانية ...

قالت جولييت لنفسها ( أنا كائن لا قيمة له . ماذا يوجد معى .. لا شئ يثير الدهشة ... الشبهة ... لا ... لاشئ .. معى بطاقة الهوية المزيفة وأدعى روزتوسان .. أعتقد ذلك على الأقل .. اننى لفى غاية التأكد .. لقد حصلت على بطاقة هويتى المزيفة بفضل سلستان .. ياللحظ السئ ... لقد أعطتنى الخالة ألين بطاقة التغذية لاتناول القهوة فى النهاية .. مادمت ذاهبة الى المدينة ... حين تبدأ خالتى البائسة الين فى أن تلح عليك .. يبدو العالم وكأنه يدور حول هذه القهوة . خالتى البائسة الين .. كم شاخت .. لم تكن هكذا فى الزمن .. الخالة البائسة الين لن تحصل على القهوة ... أتمنى لو لم تكن معى هذه البطاقة على الأقل . سأقول أنها لاتخصنى .. وأنها تخص جولييت نويل ، احدى صديقاتى ... وربما كان هذا اشد بساطة .. لن يستدرجنى أحد الى أن أفضى بشئ .. أبدا سأقول أننى فتاة تذرع الارصفة ..

- سوف تقولين لنا برقة اين وفى أى ساعة تلتقين بعشيقك هذا هو كل ما نطلبه منك .. وفور ذلك تستطيعين الذهاب
وارتقوا مرة ثانية طريق الجمهورية ، وكانت جولييت دائما بين الرجلين ..
- أى واحد من عشاقى ؟
- يا آنستى العزيزة – لا تمثلى دور البلهاء ، أنه الرجل الذى كنت تبحثين عنه فى المحطة .. ثم دخلت معه الفندق .
- واذا لم أقل لكما ؟
- هل سمعت قبل ذلك كلاما عن الفندق ترمينو؟
- لماذا.
- الجستابو ، ياآنسة ، الجستابو ، الا يعنى هذا شيئا لديك . هناك ، سوف يجعلونك تمرين باستجواب شديد الوطأة .. هل تودين أن تقولى لنا برقة وعلى الفور .. أين موعد لقائك ...ومتى ؟ .

فكرت جولييت " ياالهى .. أن طرقك عصية على الادراك .. لهذا لم يكن على أن أراه مرة أخرى .؟.. من يعرف .. تحت وطأة التعذيب .. يممكننى أن أكون هادئة ، لن أقول شيئا : ليس لدى مواعيد ".

- لماذا لا تذهبان لأخذه من الفندق – أنتما تفهان ان هذا ليس امرا خطيرا بالنسبة لى ..
- لانه لن يعود الى هناك .. هذا تبرير كاف اليس كذلك .. أسرعى بأعطائنا المعلومات التى نطلبها منك .
- اننى لست على موعد محدد ! انه لم يعد يرغب فى .. لقد قادنى الى الفندق ثم أهملنى
- قال الرجل الأشقر ذو الأنف الطويل ... من جديد ، شيئا بالألمانية .. ثم نظر الآخر الى جولييت فى استرابة :
- هيا ، ان هذه مجرد حكايات .. فالمرء لا يهمل فتاة جميلة مثلك .. أن للكابتن ذوقا طيبا بالتأكيد .. مثل كل الفرسان اذا لم تعرفى ما تفعلين فى هذا الأمر .
- ضحك الاثنان بشدة ... ولكزها الالمانى بمرفقه فى خصرها على سبيل المداعبة .
- قالت جولييت – اننى لا أعرف قطعا مذا فعل فى هذا الأمر .
- أوه ..أوه..أوه.. ألا تعرفين كيف تقومين بالامر ؟ اذا كنت تصرين ، فسوف نقودك الى الفندق ونلقنك درسا ! هيا ، هل ستتكلمين ؟
- تأوهت جولييت – انكما تسببان لى ألما . وتحولت نحو الرجل وعيناها تمتلئ بالدموع : لقد كانت دموعا فاخرة تلك التى تملأ عينيها حتى الحافة .. دون أن تسيل .. مثل دموع الجلسرين الحلوة ، التى تشاهد فى السينما .. مما غير سحنته : حقا ، لقد كان لدى جولييت نوع من الجمال يؤثر فى كل الرجال .
- قال – لا يجب أن تبكى – فليس خطؤك أنك وقعت على عصفور مثل سلستان .. مرة أخرى سوف تكونين أكثر حذرا .. أليس كذلك ؟
- قالت جولييت – أوه نعم ، ومع ذلك فأنا حذرة للغاية كعادتى .. لكن ماذا كنت أستطيع أن أفعل ... هل الأمر خطير جدا؟
- لا،لا ، خذينا اليه ، وسوف نشرح لك أمرنا بأقصى سرعة .. هيا ، هيا ، مجهود صغير ، لن يسبب أحد ضررا لرجلك .. تنهدت جولييت – أوه .. هذا فظيع .. لقد كان لدى موعد معه .. لكنكم تعرفون .. أنه ليس دقيقا فى مواعيده دائما ، ربما كان ضروريا أن ننتظر .. لقد وعدنى بأن يأتى تحت أقواس الاوبرا خلال نصف ساعة ، أوربما ساعة ..
كانت مناضد الحوانيت موضوعة فى الممر ، والناس يتوقفون أمام الواجهات ، بينما حركة الذهاب والاياب تزحم أقواس أوبرا " الجراند تياتر " .. وهى شبيهة بأقواس الأوديون فى باريس ، ولكن الفرق أن هنا يباع القليل من كل الأشياء : البطاقات البريدية المصورة ، النظارات ، الملابس الداخلية .. وكان لمجموع الاشياء جو من الغموض .. والسرية .. تستطيع ليون أن تدخل فيه ببساطة شديدة .

قال الرجل ذو المعطف الفاتح " يمكننا أن ندعها ، فلا فرصة أمامها للهرب " وكان الناس يدفعونهم من كل الاتجاهات لأنهم واصلوا السير فى صف ثلاثى واحد ، تحت أقواس المسرح وكانت الفتحات المستديرة بين الأعمدة مغلقة الى نصف ارتفاعها بحواجز حديدية .. وترك الألمان ذراع جولييت بضيق واضح : ولكنه أخذ يلتصق بها أكثر فاكثر .. وقال لها " الى الامام (5) .. سيرى أمامنا ...." مشت جولييت فى المقدمة .. والرجلان فى أعقابها ، لم تكن تعرف ، ما الذى جاءت تفعله هنا تحت الاقواس ، ولكن لقد كان عليها أن تدع زمن المعجزات يعود الى التحقق ..

توقفت أمام صانع نظارات .. وتطلعت بانتباه الى النظارات .. وواصلت سيرها حتى النهاية الآخرى للأقواس ، حيث كانت الأغانى معروضة على مسطح رأسى ضخم ، وبدأت جولييت تستغرق وقتا طويلا فى قراءة للعناوين : مسيرة ناسجى الحرير ... التانجو الرائع ... مارجو تبقى فى القرية ..آه ملعونة هى الحرب ( بنجاح كبير )... وأصبحت الأغلفة التى بقيت فى الهواء والتراب منذ زمن طويل صفراء ملطخة بالبقع ، وتجعدت أوراقها الرقيقة وكان المطر قد سقط عليها .. واصلت جولييت القراءة ، والموت يملأ روحها ، رقصة الكان كان (( طريق حبنا )) هذه هى أغنية " يافارسى " وعليها رأس المغنية الشابة " بياف " بلون بنفسجى .." الزهور هى كلمات الحب .." ، كيف أفعل ، ماذا أفعل ، لم ترى أدنى فرصة للنجاة ، ولا بارقة أمل .. لقد كان الرجلان خلفها .. فى صلابة بابا السجن وامتلائه بالضغينة ، اتهمس بكلمة الى أحد المارة ، أتصرخ ، ولكن الصرخة سرعان ما تذبح وسط هذا الزحام ... "كمان فى الليل " .. "قلبى يبقى معك " .." مارش اللورين " .." أحلى أغنياتى " . كانت تشعر بأن البرد شديد الى درجة تيقنت منها أنها لن تحس الدفء بعد ذلك أبدا .. يجب أن تشدد من عزيمتها ولا تدع اليأس يمسك بخناقها .. مادامت على قيد الحياة . ثم تحولت الى الاتجاه الآخر.. والرجلان خلفها .. لكى تصل الى نهاية النهاية ثم تعود ... النهاية والعودة .. قال لها الالمانى : انتظرى وتوقف أمام محل لأدوات الكتابة .. وأنحنى بأنفه الطويل وقبعته الجاثمة فوق شعره الكثيف .. على صوان زجاجى موضوع فوق منضدة .. سأل الرجل ذو المعطف الفاتح التاجر العجوز الذى كان يرتدى نظارة ذات اطار ذهبى ، عما اذا كانت هناك بطاقات بريدية مصورة . وكانت هناك بطاقات بالداخل .. ودخل الالمانى هناك .. لقد كان هذا التاجر العجوز يبدو شجاعا .. ولو انه عرف فسيساعدها حتما ، اذا استطاع .. لانه ، حتى اذا عرف ..

قالت جولييت – اننى متعبة – ذهبت لتجلس على الحاجز الحديدى لفتحة فى القوس بطريقة ركوب الحصان . وفى الطريق كانت منازل قذرة ، وعربات نقل ودراجات، جمهور من المارة .. هذا الحى بالعلامات التجارية لحوانيت تجارة الجملة ( تجارة المنسوجات الحريرية .. تجارة المنسوجات الحريرية ..) يشبة ممر باريس ( سنتييه دوبارى ) أو سلع باريس مصغرة ، لقد استقرت هذه البيوت التجارية التى مدت فروعها فى كل أنحاء العالم ، فى هذه الأماكن القذرة ..( لقد أرادوا أن يلوثوا سمعه مؤسسات المواد الفاخرة وكثيرا ما تمتلئ وتفيض فتعوق حركة الذهاب والاياب بالبالات ، بصناديق البضائع ، وتسد الطرق الضيقة التى كان لها طابع تجار التجزئة والباعة المتجولين .. وهنا كانت الحوارى تتشابك ، بسلالها الممتدة فى كل الاتجاهات ، محصورة بين الحجر والحديد .. بدعاماتها .. وممراتها ، ومنافذها التى تفضى الى مداخل ذات سلالم .. وبالابواب ذات اللافتات التجارية ، تجارة المنسوجات الحريرية .. تجارة المنسوجات الحريرية .. وصناديق الخطابات .. هذه الحوارى التى يتحتم فيها صعود طوابق معتمة حيث يجب الانعطاف ثم النزول والعودة القهقهرى ، من أجل العثور على مخرج المتاهة . وكانت هذه الحوارى مدعمة أيضا فى بعض الأحيان بالشبكات الحديدية العالية ، ذات الفتحات الضيقة للغاية ( بخلع قضيب أو قضيبين ) .. بحيث يمكن للمرء أن يمر من خلاله بانحراف .. لكنه لا يمرر صندوقا ولا بالة صغيرة .. احتياطات .. كما يقال ، فى التعامل مع المنسوجات الحريرية .
وقال حارس جولييت – لقد تركك عشيقك تنتظرين .
كان فى الاتجاه الآخر من الحاجز ، درجات من السلالم الحجرية تفضى الى الطريق ، بينما بدت الأقواس عالية للغاية فوق الرصيف ، وخرج الالمانى من المكتبة .. واخذ يكتب على بطاقات البريد المصورة بعد أن سندها على الجدار .

قالت جولييت – هل لى أن أمشى قليلا ؟ وبد الاثنان مرة أخرى فى ذرع الخطى تحت الأقواس .. هى والرجل ذو المعطف الفاتح ، ورأت أمامها ، أقلام الحبر ، والأشياء المصنوعة من الليف ، حوافظ بطاقات التغذية الصغيرة .. كيف تتعلم البريدج فى عشرة دروس .. العاب الحظ .. كمان فى الليل .. النظارات .. ولحق بهما الالمانى بعد أن أنتهى من كتابة بطاقاته البريدية المصورة .. تحدثا الآن فيما بينهما بصوت خفيض ... يعلم الله ماذا كان يدبران ...
قال الرجل الذى يرتدى المعطف الفاتح مازحا:
- قولى ياآنسة ... ان زميلى يسألك عما اذا كنت لا ترغبين فى أن تتقبلى تذكارا صغيراً .
أى تذكار ؟ وانقبضت جولييت فى داخلها : فما هذا الخطر الجديد ؟
- لا تخافى ! انه يريد أن يقدم لك هدية صغيرة – ماذا ... لا يجب أن تغضبى ، أن جيوبه مليئة بالماركات ..
- أننى لا أعرف حقا .. أى هدية صغيرة ؟... التى يختارها بنفسه .. لتكون مفاجأة ، بينما هناك ...
عاد الالمانى الى محل الادوات الكتابية وجلست جولييت على الحاجز من جديد :
قالت – أعتقد أن صديقك سوف يحتاج الى مشورتك ... وكان من الممكن أن ترى داخل المحل الالمانى وهو يتبادل حديثا طويلا مع التاجر ، وقد رآه الرجل ذو معطف الفاتح أيضاً .
قال فى مزاحه الدائم - سيتملص من وعده ...
وقذفت جولييت ساقيها فى الاتجاه الآخر من الحاجز ، وقفزت من قمة الدرجات الى قلب الطريق ...
- لا استطيع أن ادعك ايضا بمفردك هنا .. يمكنك أن تأتى الى صحبتنا ..
وغاصت جولييت مثل طلقة مدفع الى حارة تبدأ من المنزل الذى يواجهها.
بعد أن وصلت الى الفناء .. توقفت فى بلاهة .. لم تعد تفهم شيئاً.... وعرفت بصعوبة اين هى .. اتهبط ام تصعد هذا السلم .. هل هذا ممر ام مجرد فناء .. سكتت كما لو كانت فى لحظة واحدة قد وجدت نفسها ذاهلة وسط موضع شديد الخطر ، تنعطف فيه العربات دون تبصر . وظهر رجل يحمل بالة صغيرة ...
- عفوا ياسيدى هل هى حارة ؟
- نعم ياآنسة ، تلك حارة ، وتلك حارة ، وتلك حارة ...
ومن حارة الى حارة ... كان يجب أن تعبر الطرقات التى تخترق الحارات ... لقد ألقت بنفسها فيها كما لو كانت تلقى بنفسها فى الماء .. ولكنها الآن ... اصبحت واثقة من امرها ... حتى لو حاولا ان يتعقباها ... فان شبكة الحارات ستقتنصهما .

هذه حانة صغيرة ، وهاتف ..
- أريد أن أتحدث الى الدكتور ارنولد .. دكتور .. اننى مدام روزتوسان ... هل يمكنك أن تقولى لزوجى أننى حين خرجت من الفندق اصابنى المرض ... أننى اعتقد ان هذه هى الآلآم الاولى ..الامر خطير للغاية .. خطير تماما ، هل ستراه ...
صاح الدكتور – نعم ، نعم ... هل مازال بأمكانك أن تأتى ، أواثقة من انه ليس هناك خطر ما .. أتودين أن يأتى أحد لمرافقتك .
- سوف آتى .
وقادتها الخادمة مباشرة الى غرفة الدكتور وحين رأوها تدخل ، الشفتان شاحبتان ، مثل الوجنتين . والعينان كشقائق النعمان التى أصبحت بنفسجية .. تلقفها الثلاثة جميعا ، الدكتور وزوجته وسلستان .. ووصلت الى المقعد تكاد أن تكون محمولة على أيديهم ...
وروت .... كل شئ ، فى كثير من التفصيل :

-......آنذاك قلت لنفسى : يجب أن أتحدى ، وقفزت ، مثل الممثل السينمائى دوجلاس فيبربانكس ، ولو كان لحذائى كعب عال. لحطمت وجهى ..... ان رحمة الله واسعة ، كنت قد ارتديت حذائى الجديد فى الصباح ، وكنت غاضبة حينما رأيت رذاذ المطر ... وأن ذلك يقتضى ان ارتدى مرة اخرى حذائى البغيض الذى لا كعب له .. قلت لنفسى : لو كان بمستطاعى ان اصل الى احدى الحارات .. ولهم أن يركضوا ، فهو ليسوا من أهل ليون .. انهم المان . ابدا لن يأخذونى من هناك .. وها انا ذا أمامكم ..
قال الدكتور – هذا عادى ... سوزان ، أتودين ، أن تجهزى لها مشروبا كحوليا ساخنا ، انها ترتعد ... تعالى ياصغيرتى سوف تتمددين وقتا قصيرا فى الغرفة تحت غطاء شديد الدفء ، مع زجاجة ماء ساخن ... ثم تتناولين مشروبا كحوليا ساخنا .
- لا أفضل أن ابقى معكم ...
- سوف نكون فى رفقتك فى الغرفة ولن نتركك ..ابدا...
- وسلستان ؟ الايخاطر ببقائه هنا ؟ - استطاعت جوليت ان تتحدث بصعوبة ... لان اسنانها كانت تصطك .
- اننى لا أخاطر بشئ ياجولييت .. ولقد أتت ، لم أعد أخاطر بشئ...
سمعت جولييت وهى راقدة تحت الأغطية ، الأصوات فى الغرفة ، وكأنها تأتى من بعيد مع أنها حين فتحت عينيها رأت الدكتور وسلستان بالقرب من فراشها ، وكانت تستشعر دفئاً رائعا ، ودارت رأسها من الارهاق والخمر ..
- .. لقد قبضوا على دومينيك ، وكان قد أفلت من بين ايديهم فى المرة الاولى ... حين كان مختبئا فى غرفة يستأجرها فى احدى الضواحى ...والغريب فى القصة أنه كان لديه مسدس من طراز كولت .. ورشاش صغير ، محشوان ... ومع ذلك لم يستخدمهما ... لابد أنه أعتقد أن الشخص الذى أتى اليه صديق ... خائن ... خمسة أشخاص كانوا يعرفون مخبأه . وكان هناك قتال .. والدم على الجدران ... لقد قادوه فى احدى عربات الجستابو التى كانت تنتظر فى الطريق .. هذ عادى ..
- اننى أريد أن أبقى لا لشئ الا لا كشف الخائن ...
- ولكنك سوف تمنحنى فرصة أن تهرب .. دون حكايات .. كل شئ معد ... وأنت تعرف خط السير ... الطائرة ستهبط فى ...
- ليس لدى رغبة فى الرحيل ... لقد عادت ...
- لكنك سترحل رغم كل شئ ... أننى أقول لك ذلك ، وعند الضرورة سوف ، أستخدم القوة ... هل تعتقد أنه لا يكفى ما حدث لدومينيك ، كل مناطق الهبوط قد أحترقت ... اننى لا أتحدث عن رجلنا ... اننى على وشك البكاء ... ماذا سنفعل بجولييت ؟
- هل تعتقد أن هناك خطرا عليها ؟
- اننى أتساءل .. فهم يستطيعون التعرف عليها ببساطة فى الطريق ... انها جميلة جدا بالنسبة للمهنة التى تعمل فيها ... وهى لا يمكن أن تمر دون أن يلحظها أحد ... ان ليون ليست كبيرة ... فكل الناس يلتقون كل لحظة ...
- ألا تعتقد أن بمقدورها أن ترحل معى ؟ لقد عادت ...
- قال الدكتور - كيف ؟...
- خيم صمت طويل .
- واصل الدكتور – لا .. لا يتوفر الا مكان واحد ... شئ آخر : لقد رأيت الشيوعى الذى أرسلته لى ... انهم معتدون بأنفسهم هؤلاء الشباب ... هناك تنسيق فى بعض الأمور معهم ...
- نعم ... بعد الحرب ، لابد من أن نعلق أهمية عليهم ... لانه لا يمكن لأحد أن يحكم البلاد دون حزب المناضلين الذين أعدموا بالرصاص ...
- وخيم الصمت طويلا من جديد .
- قال الدكتور : الأفضل أن نخفى جولييت لبعض الوقت ، وعلى أى حال ، والآن ربما لن يكون هذا الا لبضعة شهور .
- قالت جولييت من تحت الأغطية :
- والخالة الين ، وجوزية ؟
- ألم تنامى ؟ سنهتم بأمرهما .. انك تفكرين كثيرا ... هذا المساء ، يمكنك أن تنامى .. من الممكن مثلا ، عند ... ادرينوبولى ... أو ماذا تدعى هذه المرأة الشجاعة .. انه مكان مأمون لأقصى حد .
- وقالت زوجة الدكتور فجأة وكانت هى أيضا داخل الغرفة :
- اننى لن أسمح بهذا ، لن ترسل هذه الطفلة الى استراحة القوافل هذه ، حيث لا يوجد سوى الرجال فى عنبر نوم واحد ... أن هذه لفكرة رجل حقا ...
- نظر اليها الدكتور فى خجل وحيرة ...
- واسترسلت زوجة الدكتور – سوف آخذها عند ابنة عمى مارتا.
- ماذا عند ابنه عمك مارتا ؟ زوجة تاجر الحرير ؟ والآن ياسوزان ، ما قولك ؟
- نعم سوف تكون فى حالة طيبة .. هناك حديقة كبيرة ... وسوف تقيم فى الغرفة الوردية ...لأنى سأطلب من مارتا أن تعطيها الغرفة الوردية .. انها غرفة ابنتها الصغيرة ... وقد كنت دائما أنام فيها فى الايام الماضية قبل زواجى ... حيث تظهر الأشجار أمام النوافذ ، والشمس تملؤها ، أما الأثاث فأبيض اللون ، ورسوم الطيور تحيط بالسقف كله .. وبها عصافير . أن ابنة عمى تتمتع دائما بذوق رفيع ، وهناك أيضا دولاب صغير جميل .. ومقاعد صغيرة بالغة الجمال ... يمكن للانسان أن يحلم فيها بعمق ... ولا يمكن للمرء أن يحلم فى أى مكان مثلما يحلم فى هذه الغرفة ... والخدم مدربون للغاية... وللمرء أن يأكل هناك مثلما كان يأكل فى زمن السلام .
- كانت تتحث فى طلاقة .. بينما توردت وجنتاها قليلا ..
- وسأل الدكتور فى استحياء – وتاجر الحرير ؟
- تاجر الحرير ؟- هزت كتفيها فى كبرياء – كما لو كان هذا يعينه !
أن مارتا هى سيدة منزلها ! وهى تفعل ما تريد والمنزل كبير بما يكفى ...
وأستسلم الدكتور – حسنا ... سوف أدعك تفعلين ذلك ياسوزان .. وربما كان هذا حلا ممتازا . اذا كنت تعتقدين أن ابنة عمك ستوافق على ذلك .
قالت سوزان – تعالى ياطفلتى .. انهضى .. اننى انتظر بقارغ الصبر أن آراك مقيمة هناك . بعيدا عن كل هذا الرعب .
انحنت ، والتقطت حذاء جولييت ، وبدأت تساعدها فى ارتدائه .
- أوه ياسيدتى ! وقفزت جولييت خارج الفراش .. كانت الارضية تتحرك بشكل خطر تحت قدميها ... لكنها بذلت مجهودا يائساً ، حتى أستطاعت أن تتكلم فى صوت طبيعى وهى ترتدى معطفها ، وتضع قبعتها على شعرها :
- اننى أعتمد عليك يادكتور فى أن تنبئ خالتى .. هذا المساء ، اليس كذلك ، على الفور .. عليك أن تقول لها أننى فى مكان أمين ... وأننى فى حالة طيبة للغاية .. سوف تذهب ، أليس كذلك ؟
- يمكنك أن تثقى فى ذلك .
- الى اللقاء ، يادكتور ، الى اللقاء ياسلستان ...
- الى اللقاء ، ياجولييت ، هل تسمحين لى بأن أقبلك ؟
- وأخذها الدكتور بين ذراعية ، وقبلها ، وأمسك سلستان بيديها ،وكانت ترتدى قفازا فى يدها اليسرى ، بينما كانت اليمنى عارية .
قال : انه مرتق دائما عند الابهام ؟ وقبل يدها اليسرى عند الابهام المرتقة .. أما اليد اليمنى فقد وضعها على وجنته .. وأستقرت نظرته الوالهة عليها ... وقال لها – ياألهى اجعل الحب الذى يحمله لها خالدا .
سحبت يدها وبلغت الباب الذى تركته زوجة الطبيب مفتوحا من أجلها . وكانت متعجلة ، متعجلة لأن يقودها الى الغرفة المزينة برسوم الطيور حول السقف ... حيث الأشجار أمام النافذة .. فهناك يستطيع الانسان أن يحلم أكثر مما يستطيع فى أى مكان آخر ...
أما الأحلام ... فجولييت تعرفها جيداً .

*****




كتبت فى فبراير 1943 .. وأترك للتاريخ أن يسبق أغنيتى الى هدفها .
هوامش


(1) كلاريسا هارلو: بطلة رواية ريتشاردسون عام 1748. عن الانثى الفاضلة تطاردها شهوة الذكور وشرورهم . وفى الرواية يقع لافليس فى حبها ، وأسرتها تناصبه العداء . وترفض كلاريسا الخطيب الذى تقدمه لها أسرتها لانها لم تستطع أن تحبه . وتحيا سجينه فى بيت أسرتها ولا ترضخ للضغظ العنيف . ولكن لافليس يختطفها ، وهى تحبه أو كان من الممكن أن تحبه لو كان فاضلا مستعدا للندم على ما فعل . وتقاوم كلاريسكا محاولات مختطفها فى غضب ولكنه يغتصبها بعد أن يخدرها . وفى النهاية ترفض كلاريسا الزواج منه على الرغم من توسلاته وتوسلات اصدقائه واسرته . ويستولى الهزال عليها الى ان تموت .


(2) أميرة كليف : بطلة رواية مدام دى لافاييت المنشورة عام 1678 ، واميرة كليف تشعر باحترام لزوجها الذى لا تحبه ، وتقع فى غرام الدوق دى نيمور ، وعلى الرغم من ان الدوق على وشك الزواج من ابنة الملك ، فهو يحاول اغراء اميرة كليف ، ولكنها تقاومة وتعترف بقصتها لزوجها طالبة منه أن يأخذها الى الريف . وهو يتحقق من براءتها ولكن الغيرة تعذب حبه البائس لها وتنتهى به الى الموت . ويحاول الدوق اغواءها مرة ثانية ، وعلى الرغم من انها اصبحت حرة الآن ، ألا أنها ترفضة وتختم حياتها فى دير .
(3) بالأسبانية فى الأصل .
(4) قبعة فريجية : قبعة الحرية ، مخروطية وجزؤها الاعلى ينثنى الى الامام .
(5) بالألمانية فى الاصل.

ظهرت الطبعة الأولى من عشاق أفينيون سرا عن مطبوعات منتصف الليل فى باريس ، فى 4 أكتوبر 1943 باسم مستعار هو لوران دانييل . وكان لهذا الاسم المستعار أهمية خاصة عند المؤلفة ، فقد كان بمثابة اهداء الى لوران ودانييل ك
ازانوفا . ففى الوقت الذى كانت تكتب فيه هذه الرواية ، هرب لوران كازانوفا من الاسر فى المانيا وانخرط فى صفوف المقاومة الفرنسية ، على حين نفيت زوجته الى سيليزيا ، وهناك قضت نحبها فى معسكر الاعتقال الالمانى ( أوشفيتز)



#سعيد_العليمى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من الأدب الفرنسى المقاوم للنازية - الفسم الأول
- من الأدب الفرنسي المقاوم للنازية - مقدمة
- المنظور اللينينى للقانون - ى . ب باشوكانيس
- المنظور الماركسى الطبقى للقانون - جانيجر كريموف
- الحراك الشعبى والمزاج الجماهيرى - حزب العمال الشيوعى المصرى
- فى ذكرى حرب العاشر من رمضان ( ملاحظات حول حرب أكتوبر 1973)
- عن بعض وثائق حزب العمال الشيوعى المصرى فى المكتبات العالمية
- كارل كاوتسكى ونظريته عن العرق اليهودى
- آليات خطاب السلطة الحقوقى - سامى ادلمان ، كين فوستر
- علم النفس السياسي البورجوازى - نقد العقل القمعى وميتافيزيقا ...
- المقولات القانونية ونشأة الراسمالية - يفيجينى ب . باشوكانيس
- حول مفهوم تأويل النص القانونى - بول ريكور
- بعض المنظورات الماركسية حول الدولة والايديولوجية القانونية - ...
- القانون واستبطان العنف - جاك دريدا
- حدود مفهوم استقلال القضاء فى المجتمع الرأسمالى - بيير بورديو
- فى ضرورة تهيئة الشعب للثورة - تشرنيشفسكى - ترجمة فيتولد ليبو
- فى معنى المقاطعة الايجابية للانتخابات
- العجز والتشوش ف . ا . لينين ( ملاحظات )
- المفاهيم النظرية والسياسية وانعكاس امزجة الثورة المضادة فى ص ...
- التفسخ الايديولوجى والانقسام فى صفوف الاشتراكيين الديموقراطي ...


المزيد.....




- “اعتمد رسميا”… جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024/1445 للش ...
- كونشيرتو الكَمان لمَندِلسون الذي ألهَم الرَحابِنة
- التهافت على الضلال
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- الإيطالي جوسيبي كونتي يدعو إلى وقف إطلاق النار في كل مكان في ...
- جوامع العراق ومساجده التاريخية.. صروح علمية ومراكز إشعاع حضا ...
- مصر.. الفنان أحمد حلمي يكشف معلومات عن الراحل علاء ولي الدين ...
- -أشقر وشعره كيرلي وحلو-..مشهد من مسلسل مصري يثير الغضب بمواق ...
- شجرة غير مورقة في لندن يبعث فيها الفنان بانكسي -الحياة- من خ ...
- عارف حجاوي: الصحافة العربية ينقصها القارئ والفتح الإسلامي كا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد العليمى - من الأدب الفرنسي المقاوم للنازية - القسم الثانى والاخير