أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - سعيد العليمى - حدود مفهوم استقلال القضاء فى المجتمع الرأسمالى - بيير بورديو















المزيد.....



حدود مفهوم استقلال القضاء فى المجتمع الرأسمالى - بيير بورديو


سعيد العليمى

الحوار المتمدن-العدد: 5476 - 2017 / 3 / 30 - 19:17
المحور: دراسات وابحاث قانونية
    


نحو سوسيولوجيا للحقل القانونى
أعطني الوقائع أعطك القانون ( )
يتميز العلم الدقيق للقانون عما يسمى عادة بالفقه Jurisprudence حيث يتخذ الأول الأخير موضوعاً لدارسته. حين يقوم بذلك، فإنه يحرر نفسه مباشرة من أسر الجدالات الفقهية المهيمنة التي تتعلق بالقانون، بين النزعة الشكلية formalism، التي تؤكد على الاستقلال المطلق للشكل القانوني في علاقته بالعالم الاجتماعي، والنزعة الأداتية instrumentalism التي تتصور القانون كانعكاس، أو كأداة في خدمة المجموعات السائدة.
ينظر الفقه الشكلي إلى القانون، كما يتصوره أساتذة القانون، خاصة هؤلاء الذين يطابقون تاريخ القانون مع التاريخ الداخلي لتطور مفاهيمه ومناهجه، بوصفه نظاماً مستقلاً ومغلقاً يمكن أن يفهم تطوره وفق "ديناميكيته الداخلية" وحدها.( ) يتمخض عن هذا الإلحاح على الاستقلال المطلق للفكر والعمل القانوني، تأسيس "نظرية خالصة للقانون" هي الحصيلة النهائية لجهد المفكرين الشكليين لإنشاء كيان مذهبي وقواعد مستقلة تماماً عن القيود والضغوط الاجتماعية تجد أساسها كلية داخل ذاتها.( ) وقد غدت هذه الأيديولوجية الشكلية –الأيديولوجية المهنية لأساتذة القانون- متحجرة ككيان "مذهبي".
تميل وجهة النظر الأداتية، على النقيض، لأن تتصور القانون والفقه بوصفهما انعكاسات مباشرة لعلاقات القوة الاجتماعية القائمة، يجري التعبير من خلالهما عن التحددات الاقتصادية، وبصفة خاصة، عن مصالح المجموعات السائدة: أي بوصفهما أداتين للسيادة. وتمثل نظرية الجهاز Apparatus، التي أحياها لوي ألتوسير، هذا المنظور الأداتي.( ) كيفما كان الأمر، يقع ألتوسير والماركسيون البنيويون ضحايا تقليد يعتقد أنه يفسر "الأيديولوجيات" عندما يقوم ببساطة بتعيين وظيفتها في المجتمع ("أفيون الشعوب" على سبيل المثال). ومن المفارقة أن يتجاهل هؤلاء البنيويون بنية الأنظمة الرمزية، وفي هذا الصدد، الشكل النوعي للخطاب القانوني. بعد أن أعادوا شعائرياً تأكيد "الاستقلال النسبي" للأيديولوجيات، أهمل هؤلاء المفكرون الأساس الاجتماعي لهذا الاستقلال –أي الشروط التاريخية التي تنبثق من الصراعات داخل المجال السياسي، مجال السلطة – الذي يتعين أن يوجد حتى ينشأ عالم اجتماعي (أي قانوني) مستقل، ومن خلال منطق اشتغاله الذاتي النوعي، ينتج ويعيد إنتاج متناً قانونياً مستقلاً نسبياً عن القيد الخارجي. ولكن إذا افتقرنا إلى فهم واضح للشروط التاريخية التي تجعل هذا الاستقلال ممكناً، فإننا لا نستطيع أن نحدد الإسهام النوعي الذي يقوم به القانون استناداً إلى شكله، حتى ينهض بوظائفه المفترضة.
عادة ما يشكل المجاز المعماري لمفهومي القاعدة والبناء الفوقي أساس فكرة الاستقلال النسبي. يستمر هذا المجاز في توجيه هؤلاء الذين يعتقدون أنهم يقطعون مع النزعة الاقتصادية بينما يقنعون ببساطة، لكي يعيدوا للقانون فعاليته التاريخية التامة، بالتأكيد على أنه "متراكب بعمق داخل لب أساس علاقات الانتاج". يجعل هذا الاهتمام بتعيين موقع القانون عند مستوى عميق للقوى التاريخية من المستحيل مرة أخرى قيام إدراك عيني للعالم الاجتماعي النوعي الذي يُنتج فيه القانون، ويمارس سلطته.
لكي نقطع مع الأيديولوجية الشكلية، التي أخذت باستقلال القانون والمهنيين القانونيين دون أن نسقط في الوقت ذاته في المفهوم الأداتي المناقض، فإنه من الضروري أن ندرك أن هذين المنظورين المتعاديين، واحد من داخل، والآخر من خارج القانون، يتجاهل كلاهما ببساطة وجود عالم اجتماعي كامل (وهو ما سوف أسميه "المجال القانوني")، مستقل نسبياً في الممارسة عن التحددات الخارجية والضغوط. ولا يمكن لنا أن نهمل هذا العالم إذا ما رغبنا في أن نفهم المغزى الاجتماعي للقانون، لأن السلطة القانونية تُنتج وتمارس داخل هذا العالم. فالممارسات الاجتماعية للقانون هي في الواقع نتاج اشتغال "مجال" يتحدد منطقه النوعي بواسطة عاملين: من ناحية: بواسطة علاقات القوة النوعية التي تعطيه بنيته والتي تنظم الصراعات التنافسية (أو بشكل أكثر دقة، النزاعات حول الكفاءة) التي تجري داخله، ومن ناحية أخرى، بواسطة المنطق الداخلي للاشتغال القانوني الذي يقيد دوماً نطاق الأفعال الممكنة، ومن ثم، يَحُد مجال الحلول القانونية النوعية.
يتعين علينا عند هذا الحد، أن ننظر فيما يميز فكرة المجال القانوني بوصفه فضاءً اجتماعياً عن فكرة النظام، التي جرى تطويرها على سبيل المثال في مؤلف نيكلاس لوهمان Niklas Luhmann.( ) تفترض نظرية الأنظمة هذه أن "البنى الفوقية" "ذاتية المرجع". يخلط هذا الافتراض البنية الرمزية، أي ما يسمى القانون بالمعنى الدقيق للكلمة، بالنظام الاجتماعي الذي ينتجها. تقدم نظرية الأنظمة إلى المدى الذي تعرض فيه تحت اسم جديد النظرية الشكلية القديمة عن النظام القانوني الذي يحّول ذاته وفقاً لقوانينه الخاصة، إطاراً نموذجياً للتمثيل المجرد والشكلي للنظام القانوني. كيفما كان الأمر، بالرغم من أن النظام الرمزي للقواعد القانونية والمذاهب الفقهية ينطوي على إمكانات موضوعية للتطور، وبالفعل اتجاهات للتغير، إلا أنه لا يحتوي داخل ذاته مبادئ ديناميكيته الخاصة.( ) إنني أقترح تمييز هذا النظام الرمزي عن نظام العلاقات الموضوعية بين الفاعلين actors والمؤسسات التي تنافس بعضها البعض من أجل السيطرة على تحديد الحق القانوني، لأنه إذا ما غاب مثل هذا التمييز، فلن نكون قادرين على فهم أنه، بينما يشتق المجال القانوني اللغة التي يعبر بها عن صراعاته من مجال المنظورات المتصورة، فإن المجال القانوني ذاته يحتوي مبدأ تغيره الخاص متمثلاً في الصراعات بين المصالح الموضوعية التي ترتبط بهذه المنظورات المختلفة.

تقسيم العمل القانوني
-1-
المجال القانوني هو موقع منافسة لاحتكار حق تحديد القانون. تجري داخل هذا المجال مواجهة بين الفاعلين actors الذين يملكون كفاءة فنية ذات طبيعة اجتماعية بالضرورة وهي تكمن بصفة جوهرية في الأهلية المعترف بها اجتماعياً، لتفسير متن من النصوص يكرس رؤية صحيحة أو شرعية للعالم الاجتماعي. إنه لمن الجوهري أن ندرك ذلك حتى نُدخل في حسابنا كلاً من الاستقلال النسبي للقانون، والأثر الرمزي الدقيق لـ"سوء الإدراك" الذي ينجم عن وهم استقلال القانون المطلق في علاقته بالضغوط الخارجية.
تسهم المنافسة من أجل السيطرة على مورد المصادر القانونية الموروثة من الماضي في تأسيس تقسيم اجتماعي بين الناس العاديين والمهنيين بواسطة تعزيز عملية عقلنة متواصلة. هذه العملية نموذجية، لأنها تعمق تعميقاً ثابتاً الانفصال بين الأحكام المؤسسة على القانون والحدوس الساذجة عن العدالة. يبدو نظام القواعد القانونية نتيجة هذا الانفصال (لكل من يفرضونها وحتى لهؤلاء الذين تفرض عليهم) مستقلاً كلية عن علاقات القوة التي يعززها هذا النظام ويضفي عليها الشرعية.
يُظهر تاريخ قانون الرفاه الاجتماعي social welfare law (القانون الاجتماعي) بوضوح أن كيان القانون يسجل دوماً حالة علاقات قوة. لذا فهو يضفي شرعية على الانتصارات التي أحرزت على المسودين، والتي تحولت نتيجة لذلك إلى حقائق مقبولة. يتمثل أثر هذه العملية في تثبيت التباس في بنية علاقات القوة يسهم في فعالية الأثر الرمزي للقانون. فعلى سبيل المثال، حين تزايدت قوة الاتحادات العمالية الأمريكية، تطور وضعها القانوني: فرغم إدانة العمل الجماعي للعمال في بداية القرن التاسع عشر بوصفه "مؤامرة إجرامية" باسم حماية حرية السوق، إلا أن النقابات حققت قليلاً قليلاً اعتراف القانون الكامل بها.( )
يوجد داخل المجال القانوني ذاته تقسيم عمل قائم بدون أي تخطيط واع. إنه يتحدد بالأحرى من خلال المنافسة المنظمة بنيوياً بين الفاعلين والمؤسسات داخل المجال القانوني. ويؤلف تقسيم العمل هذا الأساس الحقيقي لنظام من القواعد والممارسات، تبدو وكأنها قد أرسيت بشكل قبلى a priori من زاوية عدالة مبادئها، واتساق صياغتها، وصرامة تطبيقها. إنها تبدو وكأنها تستلهم كلاً من المنطق الوضعي للعلم والمنطق المعياري للأخلاق، ومن ثم تظهر جدارتها بفرضها قبولاً عاماً عبر حتمية منطقية وأخلاقية في آن معاً.

-2-
بخلاف الهرمنيوطيقا الفلسفية أو الأدبية، فإن ممارسة تفسير النصوص القانونية من الناحية النظرية ليس غاية في حد ذاته. إنه يستهدف مباشرة بالأحرى موضوعاً عملياً ومقصوده ترتيب آثار عملية. وهو من ثم يحقق فعاليته على حساب الحد من استقلاله. لهذا السبب فإن الاختلافات بين "المفسرين المفوَضين" [بالتفسير] محدود بالضرورة، كما أن تعايش جملة من القواعد القانونية تتنافس الواحدة مع الأخرى هو بالتعريف أمر مستبعد من النظام القانوني.( ) القراءة هي وسيلة من وسائل الاستيلاء على السلطة الرمزية التي يحتويها النص كإمكانية كامنة. وهكذا، كما هو الحال مع النصوص الدينية، أو الفلسفية أو الأدبية، فإن السيطرة على النص القانوني هي الجائزة التي تُربح في الصراعات التفسيرية. رغم أن القانونيين قد يجادلون بعضهم البعض حول النصوص التي لا يفرض معناها نفسه أبداً كضرورة مطلقة، فإنهم يشتغلون مع ذلك ضمن هيئة منظمة على نحو قوي في مستويات مراتبية قادرة على حل النزاعات بين المفسرين والتفسيرات. أضف إلى ذلك فإن المنافسة بين المفسرين محدودة بحقيقة أن القرارات القانونية يمكن تمييزها عن الممارسات العارية للسلطة إلى المدى الذي يمكن لها فيه أن تتجلى بوصفها النتيجة الضرورية، لتفسير مبدئي للنصوص المتفق عليها فحسب. تُنظِم العدالة، مثل الكنيسة والمدرسة، وفق مراتبية دقيقة ليس فقط مستويات النظام القضائي وسلطاته، ومن ثم قراراته والتفسيرات التي يرتكز عليها، وإنما أيضاً القواعد والمصادر التي تمنح هذه القرارات سلطتها.( )
وهكذا يميل الحقل القانوني إلى الاشتغال بوصفه "جهازاً" إلى المدى الذي يكون فيه تماسك تطبع habitus المفسرين القانونيين الذي تآلف بشكل حر قد تقوى بانضباط هيئة مراتبية من المهنيين، توظف مجموعة من الإجراءات المقرة لحل النزاعات بين هؤلاء الذين تتقوم مهنتهم في فض المنازعات. فلدى أساتذة القانون إذاً إمكانية إقناع أنفسهم بأن القانون يقدم أساسه الخاص، وأنه مؤسس على قواعد جوهرية، كما يقال عن "قانون القوانين" أي الدستور الذي استنبطت منه كل القواعد القانونية ذات المرتبة الأدنى. يميل الرأي العام لأساتذة القانون (communis opinio doctorum) المتجذر في التلاحم الاجتماعي لهيئة من المفسرين القانونيين، من ثم، لإسباغ مظهر أساسي على الأشكال التاريخية للعقل القانوني وعلى الاعتقاد في الرؤية المنظمة للكل الاجتماعي الذي ينتجها.( )
يمكن أن يلاحظ الميل إلى تصور الرؤية المشتركة لجماعة تاريخية نوعية بوصفها التجربة الشاملة لذات متعالية في كل مجال من مجالات الإنتاج الثقافي. تظهر مثل هذه المجالات بوصفها مواقع يحقق فيها العقل الكلي ذاته، غير مدين بشيء للشروط الاجتماعية التي تجلى فيها. لاحظ كانط kant في تنازع الملكات أن "الأنظمة المعرفية الأسمى" –اللاهوت، والقانون، والطب- يعهد لها بوضوح بوظيفة اجتماعية. ويتحتم في كل من هذه الأنظمة المعرفية، أن تحدث أزمة حادة بصفة عامة في العقد الذي فُوضت به هذه الوظيفة قبل أن تبدأ مساءلة أساسها( ) في الظهور كمشكلة حقيقية تخص الممارسة الاجتماعية. ويبدو أن هذا يحدث اليوم.( )

-3-
تكشف اللغة القانونية بوضوح تام أثر الاستيلاء appropriation effect المكتوب في منطق اشتغال المجال القانوني. تقرن هذه اللغة عناصر مأخوذة مباشرة من اللغة العادية بعناصر غريبة على نظامها. ولكنها تحمل كل سمات البلاغة اللاشخصية، والحيادية. تسهم معظم الإجراءات اللسانية التي تطبع اللغة القانونية في إنتاج أثرين كبيرين. أثر التحييد neutralization effect الذي تخلقه مجموعة من الملامح التركيبية [الجمل] مثل غلبة البنى غير الشخصية والمبنية للمجهول. وقد صممت هذه، لتسم لاشخصية الكلام المعياري ولتؤسس المتحدث بوصفه ذاتاً كلية، غير متحيزة وموضوعية في آن معاً. وأثر التعميم universalization effect الذي تخلقه مجموعة من الإجراءات التي تلتقى عند بؤرة واحدة: اللجوء المنتظم للصيغة الإخبارية indicative mood للتعبير عن القواعد القانونية( )، واستعمال الافعال الإخبارية في الحاضر والماضي للغائب المفرد، وتأكيد التعبير عن الواقعي، الذي يميز بلاغة التقارير والتصريحات الرسمية (على سبيل المثال: "يقبل"، "يعترف"، "يلتزم"، و"وقد صرح")، استعمال التنكير والمضارع غير الزمنى (أو "المستقبل القانوني") المصمم للتعبير عن العمومية، أو الكلية الزمانية لحكم القانون، الإحالة إلى ما وراء القيم الذاتية التي تفترض مسبقاً وجود إجماع أخلاقي ("التصرف كوالد مسئول" على سبيل المثال) واللجوء إلى الصيغ والأساليب الثابتة التي تتيح حيزاً محدوداً لأى تباين فردي( ).
إن مثل هذه البلاغة عن الاستقلال، والحياد، والكلية، التي قد تشكل أساس استقلال حقيقي للفكر والممارسة هي أبعد من أن تكون قناعاً أيديولوجياً بسيطاً، إنها تعبير بالأحرى عن كلية اشتغال المجال القانوني، وبصفة خاصة، لعملية العقلنة التي يخضع لها نظام القواعد القانونية بصفة دائمة. وقد كان هذا صحيحاً لقرون. وبالفعل، يكمن ما يمكن أن نسميه "الحس القانوني" أو "الملكة القانونية" تحديداً في مثل هذا الموقف التعميمي universalizing attitude. يؤلف هذا الموقف تذكرة الدخول إلى المجال القانوني يصاحبه، بلا ريب، حد أدنى من السيطرة على المصادر القانونية التي راكمتها الأجيال المتلاحقة، أي، مجموعة النصوص القانونية، وأنماط التفكير، والتعبير، والعمل التي أعيد فيها إنتاج مثل هذه المجموعة القانونية ولا يزال يعاد إنتاجها. يدّعى مثل هذا الموقف الأساسي أنه ينتج شكلاً نوعياً من الحكم، متميزاً تماماً عن الحدوس المتذبذبة غالباً للحس العادي عن العدالة، لأنه مؤسس على استنباط دقيق من كيان من القواعد متسق داخلياً. إنه أيضاً واحد من قواعد التماثل التي تدفع المواقف الفردية إلى التقارب وتعزيز بعضها البعض، وتوحد رغم المنافسة من أجل الرصيد النهائي المهني نفسه، هيئة هؤلاء الذين يعيشون بواسطة إنتاج وبيع السلع والخدمات القانونية.

-4-
إن تطور كيان من القواعد والإجراءات يصاحبه إدعاء بالشمول، هو نتاج تقسيم العمل الناجم عن المنافسة بين أشكال مختلفة من الكفاءة التي تتخذ طابعاً عدائياً غير أنها تُكمل بعضها بعضاً في الآن نفسه. تشتغل أشكال الكفاءة المختلفة هذه مثل أشكال أخرى عديدة لرؤوس أموال معينة ترتبط بمواقع مختلفة ضمن المجال القانوني. سوف يعزز تاريخ القانون المقارن بلاشك وجهة النظر القائلة –إن الترتيب التدرجي لمختلف تصنيفات الفاعلين القانونيين، وللتصنيفات نفسها، قد تنوع إلى حد بعيد- آخذين في الاعتبار التقاليد القانونية المتباينة، واللحظات المتباينة ضمن التقليد نفسه، ارتباطاً بالفترات النوعية، والتقاليد القومية وبنطاقات التخصص التي يعيّنها -على سبيل المثال- القانون العام في مواجهة القانون الخاص.
تضع العداوة البنيوية، حتى في أشد الأنظمة تنوعاً، موقع "النظري" المتفرغ للإنشاء المذهبي المحض ضد موقع "الممارس" المعني فقط بمجال تطبيقه. توجد هذه العداوة في أصل صراع رمزي دائم تتواجه فيه تعريفات مختلفة للعمل القانوني الواحد مع الآخر بوصفها التفسير الرسمي المفوض لنصوص المجموعات القانونية. تميل الفئات المختلفة من المفسرين المفوضين إلى أن تنظم نفسها في قطبين متعاكسين. من ناحية هناك تفسيرات تلتزم بالتطور النظري الخالص لمذهب ما –وهذا احتكار أساتذة القانون المسؤولين عن تعليم القواعد التي تكون قيد التطبيق في أشكالها الطبيعية والشكلية. من ناحية أخرى هناك التفسيرات الملتزمة بالتقويم العملي لقضية معينة –وتلك مسئولية القضاة الذين ينجزون الأعمال القضائية، القادرين من ثم على الأقل في حالات معينة، أن يسهموا في الإنشاء القانوني. في الواقع، وعلى أية حال، لابد وأن يأخذ منتجو القوانين، والقواعد، والنظم في اعتبارهم دائماً ردود أفعال، وفي بعض الأحيان مقاومات، كامل الكيان القانوني، وخاصة من جانب الممارسين. يمكن أن يضع مثل هؤلاء الخبراء كفاءتهم القانونية في خدمة مصالح فئات معينة من موكليهم، ويضيفون قوة إلى التكتيكات العديدة التي يمكن بواسطتها لهؤلاء الموكلين تفادي آثار القانون. يتحدد المعنى العملي للقانون فعلاً في المواجهة فقط بين هيئات مختلفة (على سبيل المثال: القضاة، المحامون، الوكلاء) التي تحركها مصالح نوعية مختلفة. وهذه الهيئات نفسها منقسمة بدورها إلى جماعات مختلفة، تحركها مصالح مختلفة (تكون بالفعل، عدائية أحياناً) اعتماداً على موقعها في المراتبية الداخلية للهيئة، التي تتطابق دائماً على نحو وثيق مع مواقع موكليهم في المراتبية الاجتماعية.
والنتيجة هي أن التاريخ الاجتماعي المقارن للإنتاج القانوني وللخطاب القانوني حول هذا الإنتاج، يعيّن بشكل منهجي العلاقة بين المواقع التي اتخذت في هذا الصراع الرمزي من ناحية، والمواقع التي شغلت في تقسيم العمل القانوني من ناحية أخرى. يميز النظريون والأساتذة الميل إلى تشديد النبر على بناء القانون syntax of law بينما يغلب الانتباه إلى الجانب العملي عند القضاة. ولكن على التاريخ الاجتماعي أن يضع في اعتباره أيضاً العلاقة بين الاختلافات في السلطة النسبية لهذين التوجهين القطبيين فيما يتعلق بالعمل القانوني، والاختلافات التي تعتمد على المكان واللحظة التاريخية، والاختلافات في السلطة النسبية للمجموعتين في بنية سلطة المجال القانوني.
يبدو شكل المتن القانوني نفسه، وخاصة درجة شكليته وطبيعته، شديد الاعتماد على القوة النسبية لـ"النظريين" و"الممارسين" من أساتذة القانون والقضاة، من المفسرين والاختصاصيين القانونيين، ضمن بنية سلطة المجال في لحظة معينة من الزمان، وعلى قدراتهم الخاصة في فرض رؤيتهم عن القانون وعن تفسيره. قد تساعد الاختلافات في السلطة النسبية للمجموعات المختلفة في فرض رؤيتها النوعية للقانون على تفسير الاختلافات المنهجية التي تميز التقاليد القومية، وخصوصاً الانقسام الكبير بين ما يسمى بالتقليديين الروماني-الألماني، والأنجلو-أمريكي.
يبدو القانون في التقليد الفرنسي والألماني، خاصة القانون المدني وكأنه "قانون الأساتذة" الحقيقي حيث يرتبط بأولوية المذهب القانوني على الإجراءات وعلى أي شيء يختص بالإثبات أو بتنفيذ الأحكام. تعيد هيمنة المذهب هذه إنتاج وتعزيز هيمنة هيئة القضاة العليا التي ترتبط بوثوق بكليات القانون، على القضاة الذين اجتازوا المرحلة الجامعية، وهم أكثر ميلاً إلى الاعتراف بشرعية تفسيرات القضاة أكثر من الاعتراف بشرعية تفسيرات المحامين الذين تدربوا من خلال "الممارسة العملية". بخلاف ذلك فإن القانون، في التقليد الأنجلو-أمريكي، ذو طابع قضائي (يعتمد على السوابق القضائية)، وهو مؤسس تقريباً بشكل حصري على قرارات المحاكم وقاعدة السابقة القضائية. إنه مقنن بشكل واهٍ فقط. يقرر مثل هذا النظام القانوني أولوية للإجراءات، التي يتعين أن تكون عادلة ("المحاكمة العادلة"). يتحقق الاقتدار قبل كل شيء في الممارسة أو عبر الأساليب الفنية التربوية، التي تهدف إلى محاكاة شروط الممارسة المهنية بقدر الإمكان: على سبيل المثال، "منهج القضية"، case method الذي يستخدم في مدارس القانون الأنجلو-أمريكية. هنا لا تدّعي القاعدة القانونية أنها مؤسسة على نظرية أخلاقية، أو على علم عقلاني وإنما تهدف إلى تقديم حل في دعوى ما فحسب، واضعة نفسها عمداً عند مستوى الجدل الذي يتعلق بتطبيق معين. يغدو وضع مثل هذه القاعدة قابلاً للإدراك حين نعي أنه أياً كان الحال فإن القاضي المتميز، هو القاضي الذي ظهر من بين مراتب الممارسين.

-5-
ترتبط السلطة النسبية لمختلف أنواع رأس المال القانوني ضمن التقاليد المختلفة بالموقع العام للمجال القانوني ضمن المجال الموسع للسلطة. يُعين هذا الموقع، عبر الوزن النسبي الممنوح لـ"حكم القانون" أو التنظيم الحكومي، حدود سلطة العمل القانوني على نحو دقيق. يتحد العمل القانوني في فرنسا اليوم بالسلطة التي أنتجتها الدولة والتقنوقراطيين بواسطة المدرسة القومية للإدارة Eclole Nationale d Administration التي تمارسها على قطاعات كبرى من الإدارة العامة والخاصة. من ناحية أخرى، فإن المحامين في الولايات المتحدة، الذين خرجتهم مدارس القانون الكبرى، قادرون على شغل مواقع خارج حدود المجال القانوني ذاته، في السياسة، والإدارة، والمالية، أو الصناعة. تنبثق القوة الأعظم للمجال القانوني في الولايات المتحدة عن اختلافات منهجية معينة، لطالما ذكرت منذ توكفيل Tocqueville، حيث تتجلى في الدور الاجتماعي للقانون، ويشكل أكثر تحديداً، في الدور المنسوب للخيار القانوني ضمن عالم الأفعال الممكنة، خاصة في حالة المنازعات المطلبية.
لا تعوق العداوة بين حملة أنماط رأس المال القانوني، الذين يرتبطون بمصالح وبنظرات للعالم غاية في الاختلاف عند أداء عملهم النوعي التفسيري، الممارسة المتكاملة لوظائفهم. تخدم مثل هذه العداوة في الواقع كأساس لبزوغ شكل حاذق لتقسيم عمل الهيمنة الرمزية division of the labour of symbolic domination التي ينجز فيها الخصوم المُشتركين موضوعياً الاحتياجات المتبادلة الواحد مع الآخر. تشبه المجموعة القانونية احتياطاً من السلطة يقدم الضمان للأعمال القضائية المفردة بالطريقة نفسها التي يضمن بها البنك المركزي العملة النقدية. يفسر هذا الضمان الميل الواهي نسبياً للتطبع Habitus القانوني لأن يتخذ أوضاعاً ومواقف نبوية، وميله، الملحوظ بصفة خاصة وسط القضاة، لتفضيل دور المرتل lector [قارئ الكتاب المقدس في قداس]، أو المفسر، الذي يحتمي خلف مظهر التطبيق البسيط للقانون، والذي، حين تنجز/ أو ينجز بالفعل عمل الإبداع القانوني، يميل إلى إخفاء هذه الحقيقة.) ) إن اقتصادياً ما، وبغض النظر عن انخراطه المباشر في الإدارة العملية، يبقى مرتبطاً بالاقتصاد النظري المحض، ولكنه يتميز مع ذلك عن الرياضي المحض بخصوصية إدراك أن أشد الاقتصاديين تفصيلية يرفد نظرياته. وبالمثل فإن أقل القضاة (أو حتى نتتبع العلاقة إلى رابطتها النهائية، حتى ضابط الشرطة أو حارس السجن) يرتبط بالنظري القانوني المحض، وبالاختصاصي في القانون الدستوري بواسطة سلسلة إضفاء الشرعية chain of legitimation التي تنأى بأفعاله عن أن تنتمي لفئة العنف التحكمي.( )
إنه لمن الصعب بالفعل ألا نرى اشتغال تكميلية وظيفية ديناميكية في النزاعات الدائمة بين الادعاءات المتنافسة، حول احتكار الممارسة الشرعية للسلطة القانونية. ويميل أساتذة القانون ونظريو قانون آخرين إلى جذب القانون في اتجاه النظرية المحضة، وترتيبه في نظام مستقل وكاف بذاته، متحرر مما هو غير يقيني أو من الثغرات التي تنبثق عند أصوله العملية من خلال اعتبارات التماسك والعدالة. من ناحية أخرى، فإن القضاة العاديين والممارسين القانونيين معنيون أكثر بتطبيق هذا النظام في حالات خاصة، وتكييفه بنوع من التحايل مع المواقف العينية. بدلاً من اللجوء إلى المقالات النظرية للقانون الخالص، فإنهم يوظفون مجموعة من الأدوات المهنية، تطورت استجابة لمتطلبات وإلحاحية الممارسة –مثل كتب الصيغ القانونية، ومجموعات القوانين، والقواميس، والآن قاعدة المعلومات القانونية.( ) يُشرف القضاة، الذين يسهمون مباشرة في إدارة المنازعات، والذين يواجهون مقتضيات قانونية متجددة بلا توقف، على تكييف نظام مع الواقع سوف يغامر بأن ينغلق في عقلانية فظة إذا كان قد تُرك للنظريين فقط. يُدخل القضاة من خلال حرية التفسير الواسعة التي منحت لهم بهذا القدر أو ذاك في تطبيق القواعد، تغييرات وتجديدات لا غنى عنها من أجل بقاء النظام. بيد أنه يتعين على النظريين عندئذ أن يدمجوا مثل هذه التغييرات داخل النظام ذاته. وينهض أساتذة القانون، من خلال عملية العقلنة والتشكيل التي يُخضعوا لها جسم القواعد، بمهمة التمثل الضروري لضمان تماسك ودوام مجموعة منهجية من المبادئ والقواعد. لا يمكن أن تختزل هذه المبادئ والقواعد أبداً بعد أن يكون قد جرى تمثلها، إلى سلسلة من أعمال القضاء المتتابعة، والمتناقضة أحياناً، والمعقدة، وأخيراً التي لا يمكن التحكم فيها. في الوقت نفسه فهي تقدم للقضاة، الذين تميل بهم مواقعهم وميولهم إلى أن يعتمدوا على حسهم بالعدالة فقط، وسائل تمييز أحكامهم عن التحكم الصارخ لقاضي الشرع Kadijustiz. ولا يقتصر دور أساتذة القانون، على الأقل فيما يسمى بالتقليد الروماني-الجرماني، على وصف الممارسات القائمة أو شروط اشتغال القواعد التي عدت ملائمة، وإنما بالأحرى صياغة المبادئ والقواعد المرتبطة بهذه الممارسات بواسطة تطوير مجموعة من القواعد، مؤسسة على مبادئ عقلانية ومكيفة للتطبيق العام. يشترك هؤلاء الأساتذة في نمطين من التفكير: اللاهوتي، وفيه يسعون للكشف عما هو عادل في نص القانون، والمنطقي، وفيه يدعون أنهم يمارسون المنهج الاستنباطي عند تطبيق القانون على قضية معينة. تتمثل غايتهم في تأسيس "علم نواميس منطقية" علم قانون وصناعة القانون الذي سوف يبين في مفاهيم علمية ما ينبغي أن يكون. كما لو أنهم قد سعوا لتوحيد المعنيين المنفصلين لـ"القانون الطبيعي"، لذا تراهم يمارسون تأويلاً يهدف إلى عقلنة القانون الوضعي بواسطة المتابعة المنطقية الضرورية لضمان تماسك المتن القانوني، وفي الآن نفسه، لاكتشاف النتائج غير المنظورة في النصوص، وفي تفاعلها، ومن ثم سادين ما يسمى بالثغرات في القانون.
لا ينبغي أن نقلل من قدر الفعالية التاريخية لعمل النظري القانوني، الذي بصيرورته جزءاً من موضوعه، يغدو واحداً من العوامل الرئيسة في تحوله. ولكن يتعين علينا أن لا نُضلل بالتمثلات المغالى فيها للأنشطة القانونية التي تقدم من قبل منظريها ذاتهم.( ) إن من لا يقبل مباشرة المفترضات المسبقة التي تأسس عليها اشتغال المجال القانوني، سوف يصعب عليه تصديق أن الإنشاءات المحضة لأساتذة القانون، وبقدر أقل قرارات القضاة العاديين، تتفق مع المنطق الاستنباطي الذي هو مسألة شرف معنوية لكل هؤلاء القضاة المحترفين. كما بين "الواقعيون القانونيون"، فإنه من المستحيل تطوير منهجية قانونية عقلانية بشكل كامل: إن تطبيق حكم القانون على حالة معينة هو في الواقع مواجهة بين حقوق متعادية على المحكمة أن تختار من بينها. لا يمكن أبداً "لقاعدة" استخرجت من سابقة قضائية أن تطبق ببساطة وبشكل مجرد على حالة جديدة، مادام لا توجد هناك أبداً حالتان متماثلتان تماماً، ومادام يتعين على القاضي أن يقرر ما إذا كانت القاعدة التي طبقت في الحالة الأولى يمكن أن توسع بطريقة يمكن لها بها أن تستوعب الثانية.( ) بإيجاز، ما أبعد القاضي عن أن يكون ببساطة منفذاً، فدوره هو أن يستنبط من القانون النتائج القابلة للتطبيق مباشرة على قضية قائمة، لأنه يتمتع باستقلال جزئي لاشك في أنه أفضل معيار لموقعه في بنية توزيع الرأسمال النوعي للسلطة القضائية.( ) إن قراراته مؤسسة على منطق ونظام للقيم غاية في القرب من ذلك الذي يوجد في النصوص التي يتعين عليه أن يفسرها، ولها حقاً وظيفة الإبداعات. بينما ينحو وجود القواعد المكتوبة بلا شك إلى تقليل قابلية السلوك للتغير، وبينما يمكن أن تراجع وتخضع بدقة سلوك الفاعلين القانونيين بهذا القدر أو ذاك لمتطلبات القانون، تبقى في الوقت نفسه درجة من التحكم في القرارات القانونية وفي كلية الأفعال التي تسبقها وتعينها مسبقاً، مثل قرارات الشرطة فيما يتعلق بالقبض. يمكن أن تعزى هذه التحكمية إلى متغيرات تنظيمية مثل تكوين الهيئة المقررة، أو هوية الأطراف.

-6-
يؤدي التفسير إلى تأريخ القاعدة القانونية historicization of the norm بتكييف المصادر لظروف جديدة، باكتشاف إمكانيات جديدة داخلها، وباستبعاد ما جرى إلغاؤه أو غدا مهجوراً. إذا ما اعتبرنا المرونة الاسثنائية للنصوص، التي تصل إلى حد عدم التحدد الكامل أو الالتباس، فإن العملية التأويلية لـ(الحكم) declaration تستفيد من حرية ذات وزن. إنه ليس أمراً نادراً بالنسبة للقانون، بوصفه أداة طيعة، قابلة للتكيف، مطواعة، أن يُخضع للعقلنة بأثر رجعي ex post facto قرارات لم يسهم فيها. يمتلك القانونيون والقضاة سلطة ذات درجات متنوعة لاستغلال تعدد المعاني أو التباس الصيغ القانونية باللجوء إلى الأدوات البلاغية مثل (التضييق) restricto، وهو إجراء ضروري لتفادي تطبيق قانون، إذا ما فهم حرفياً، لا يتعين تطبيقه، و(التوسيع) extensio، وهو إجراء يتيح تطبيق قانون، إذا ما أخذ حرفياً، لا يتعين أن يطبق، وسلسلة كاملة من الأدوات الفنية مثل القياس والتمييز بين الحرف والروح، التي تنزع إلى زيادة مرونة القانون، وحتى تناقضاته، والتباساته، وثغراته.( )
في الواقع، ليس تفسير القانون أبداً وببساطة العمل المنعزل، لقاضي معني بتقديم أساس قانوني لقرار ليس مرتبطاً، في أصله على الأقل، بالقانون والعقل. ولا يتصرف القاضي بوصفه مفسراً مدققاً مطبقاً بأمانة قاعدة قانونية (كما يعتقد جادامر Gadamer)، ولا كمنطقي مقيد بالدقة الاستدلالية لـ"منهجية في التحقق" (كما يدعي موتولوسكي). إن المحتوى العملي للقانون الذي يظهر في الحكم هو نتاج صراع رمزي بين المهنيين الذين يملكون مهارات فنية ونفوذاً اجتماعياً غير متساو. وعلى ذلك فليس لديهم قدرة متساوية على ترتيب المصادر القانونية المتاحة من خلال اكتشاف واستغلال "القواعد الممكنة"، واستخدامها بفعالية، كأسلحة رمزية، لكسب قضيتهم. يمكن أن يُكتشف الأثر القانوني للقاعدة – أي معناها الحقيقى – باستبار علاقة القوة النوعية بين المهنيين. إذا افترضنا أن المساواة المجردة للمواقع المتناقضة التى يمثلونها هى نفسها؛ فقد يمكن التفكير فى علاقة القوة هذه بوصفها مطابقة لعلاقات القوة بين أطراف القضية.
عند منح مكانة الحكم لقرار قانوني الذي يدين أكثر بلا شك للنزعات الأخلاقية للفاعلين منه لقواعد القانون المجردة، تزود عملية العقلنة القرار بالفعالية الرمزية التي يملكها أي فعل يعترف به، هذا إذا افترضنا أننا تجاهلنا تحكميته، بوصفه شرعياً. تعتمد مثل هذه الفعالية، على الأقل جزئياً، على حقيقة أنه إذا لم يمارس نمط معين من الاحتراس، فإن الانطباع عن الضرورة المنطقية التي يمليها الشكل تنحو إلى إفساد المضمون كذلك. وتسهم الشكلانية العقلانية (أو عقلنة) قانون عقلاني، التي ميزها فيبر وآخرون عن الشكلية السحرية للطقس وعن الإجراءات القديمة للحكم (مثل القسم الفردي أو الجماعي)، تسهم في الفعالية الرمزية للقانون عند أقصى عقلانيته.( ) يعزز الطقس الذي صمم ليجسد سلطة فعل التفسير – على سبيل المثال القراءة الشكلية للنصوص، وتحليل ونطق الحكم – الذي استدعى دائماً منذ زمن باسكال وما يليه اهتمام المحللين، يعزز فقط العمل الجماعي للتسامي [التحويل] الذي صمم ليشهد على أن القرار لا يعبر عن إرادة أو نظرة القاضى إلى العالم وإنما عن إرادة القانون أو المشرع (VOLUNTAS LEGIS أو LEGISLATIORIS ).

مؤسسة الاحتكار
-1-
تتضمن مؤسسة "الفضاء القانوني" في الواقع تأسيس خط حدود بين الفاعلين. إنها تفصل بين هؤلاء المؤهلين إلى أن يشاركوا في اللعب، وهؤلاء الذين قد يجدون أنفسهم في وسطه، إلا أنهم مستبعدون في الواقع بسبب عدم قدرتهم على أن ينجزوا تحويل الفضاء العقلي - وخاصة الوضع اللساني – الذي يُفترض بالدخول في هذا الفضاء الاجتماعي. إن تأسيس كفاءة مهنية بالمعنى الدقيق، والتمكن الفني من كيان رفيع من المعرفة يناقض غالباً الآراء البسيطة التي يكونها الحس العام، ويستتبع إطراح حس غير الإخصائيين بالعدالة، وإبطال فهمهم الساذج للوقائع، و"نظراتهم عن القضية". إن الاختلاف بين النظرة العامية للشخص الذي يوشك أن ينطوي تحت ولاية القضاء، أقصد العميل [الموكل]، والنظرة المهنية للشاهد الخبير، والقاضي، والمحامي وفاعلين قانونيين آخرين، هو أمر بعيد عن أن يكون عرضياً. إنه أمر جوهري بالأحرى في علاقة قوة يتأسس عليها نظامان من المفترضات المسبقة، نظامان من المقاصد التعبيرية، ونظرتان للعالم، ومن ثم ينجم هذا الاختلاف، الذي يمثل أساس استبعاد غير الإخصائيين، عن مؤسسة نظام الأوامر [القضائية] من خلال بنية المجال، ونظام مبادئ الرؤية والتقسيم المكتوبة في قانونه الجوهري، وفي تكوينه. هناك افتراض في قلب هذا النظام لموقف خصوصي شامل، مرئي بصفة خاصة في العلاقة باللغة.
بينما قد نوافق على أن اللغة القانونية، مثل أي لغة متخصصة (اللغة الفلسفية على سبيل المثال) تتألف من استعمال نوعي للغة العادية، إلا أن المحللين قد واجهوا كثيراً من الصعوبة في اكتشاف المبدأ الحقيقي لهذا "الخليط من الاستقلال والتبعية".( ) لا تكفي الإحالة إلى أثر السياق أو إلى "الشبكة"، الذي ينزع الكلمات واللغة العادية من معناها العادي بالمعنى المقصود عند فتجنشتين. يرتبط التحويل الذي يؤثر على كل السمات اللسانية باتخاذ موقف عام هو ببساطة الشكل المندمج لنظام ذي رؤية وتقسيم. تؤلف هذه المبادئ المجال الذي يتسم هو ذاته باستقلال تحقق في ومن خلال التبعية. كان أوستن فيلسوف نظرية الفعل الكلامي مندهشاً من أن سؤال لم ندعو "الأشياء المختلفة بنفس الاسم " لم يسأل أبداً، ويمكن لنا أن نضيف سؤالاً لم لا يسبب لنا مشكلة أن نفعل ذلك. إذا كان يمكن للغة القانونية أن تبيح لنفسها أن تستعمل كلمة لتسمية شيء مختلف تماماً عما تعنيه في الاستعمال العادي، فذلك سببه أن الاستعمالين يرتبطان بمواقف لسانية متنافية جذرياً مثلهما في ذلك مثل الوعي التصوري والتخيلي عند الظاهرياتية. النتيجة هي أن التضارب الجناسي (أو سوء الفهم) الذي قد ينتج عن التواجه بين دالين داخل الفضاء نفسه بعيد الاحتمال لحد بعيد. ومبدأ التمييز بين الدالين، الذي نعزوه عادة إلى أثر السياق، ليس شيئاً غير ازدواجية الفضائيين العقليين المعتمدين على الفضائين الاجتماعيين المختلفين اللذين يعززانهما. هذا التنافر المواقفي postural discordance هو الأساس البنيوي لكل سوء الفهم الذي قد يحدث بين مستعملي نظم عالمة (على سبيل المثال بين الأطباء أو القضاة) والناس العاديين البسطاء، حول البنى اللغوية، وكذلك على المستوى المنطقي المعجمي. إن الأشد مغزى بشأن سوء فهم كهذا هو ذلك الذي يحدث حين تشكل كلمات مأخوذة من الاستعمال العادي بغرض الانحراف بها عن معناها المعتاد بواسطة الاستعمال المتعالم، وهكذا تتقوم وظيفتها بالنسبة للشخص العادي في أنها تظهر بوصفها "أصدقاء مزيفين".( )

-2-
يشتغل الوضع القانوني مثل فضاء محايد neutral space يحيد الرهانات في صراع من خلال عدم التحقق de-realization، والإغراب المتضمن في تحويل الصراع المباشر بين الأطراف إلى حوار بين الوسطاء. يقدم الوكلاء المتخصصون للقانون بوصفهم طرفاً ثالثاً بدون رهانات مباشرة في النزاع (وهو ليس الشيء نفسه، مثل المحايد)، والمستعدون لإدراك الوقائع المكثفة للحاضر بالإحالة إلى النصوص القديمة، والسوابق القضائية التي اختبرها الزمان، مسافة تحييد لا يستهدفونها أو حتى يدركونها. وهذا نوع من الواجب الوظيفي في حالة القضاء، على الأقل، ولكنه واجب مكتوب في أعمق مستوى للتطبع habitus. تظهر دائماً وتتعزز المواقف الزهدية وكذلك الأرستقراطية، وهي التجلي المستبطن لمتطلب التحرر، تظهر دائماً وتتعزز بواسطة مجموعة شرفاء سرعان ما تدين وتراقب هؤلاء الذين يتورطون بشكل مكشوف في التعاملات المالية أو المسائل السياسية. بإيجاز، فإن تحول نزاعات المصالح الشخصية غير القابلة للتوفيق بينها إلى معاملات تستند إلى قاعدة ملزمة من خلال الجدالات العقلانية بين أفراد متساوين هو [أمر] تكويني constitutive في صلب وجود هيئة متخصصة مستقلة عن الجماعات الاجتماعية التي يدور النزاع بينها. هذه الهيئة مسئولة عن التمثيل العام public representation للنزاعات الاجتماعية وفقاً للأشكال القائمة، ولإيجاد حلول معترف بها اجتماعياً بوصفها نزيهة. تقبل الحلول وتعتبر نزيهة لأنها تتحدد وفقاً للقواعد الشكلية المتماسكة منطقياً لمذهب يتصور مستقلاً عن العداوات المباشرة.( ) يصور التمثيل الذاتي الذي يصف المحكمة باعتبارها فضاءً منفصلاً وملتزماً والتي تتحول النزاعات داخلها إلى حوارات اختصاصية، والمحاكمة كتوجه منظم ناحية الحقيقة( )، يصور على نحو دقيق واحداً من أبعاد الأثر الرمزي للنشاط القانوني بوصفه التطبيق العقلاني الحر لقاعدة قانونية معترف بها علمياً وكلية.( ) يحتوي الحكم في طياته كمساومة سياسية بين مطالب لا يمكن التوفيق بينها، وعرضه بوصفه التركيبة المنطقية لأطروحتين متعادلتين على الالتباس التام للمجال القانوني. إنه يدين بفعاليته، لإسهامه المتواقت في منطق مجالين منفصلين: السياسي الذي يتسم بالتعارض بين الأصدقاء (أو الحلفاء) وأعدائهم، حيث يظهر الميل فيه إلى استبعاد تدخل أي طرف ثالث بوصفه محكماً، والعلمي، الذي ينزع إلى منح أولوية عملية للتعارض بين الحقيقة والخطاً، مانحاً سلطة صنع قرار فعالة للاتفاق بين الإخصائيين.( )


-3-
المجال القانوني هو فضاء اجتماعي منظم حول تحول النزاع المباشر بين طرفين معنيين مباشرين إلى جدال قانوني بين المهنيين العاملين بمقتضى وكالة. إنه أيضاً الفضاء الذي يشتغل فيه مثل هذا الجدال. يشترك هؤلاء المهنيون في معرفتهم وقبولهم لقواعد اللعبة القانونية، أي القوانين المكتوبة وغير المكتوبة للمجال ذاته، حتى تلك التي يتطلبها تحقيق الانتصار على حرف القانون (وهكذا ففي رواية المحاكمة لكافكا، المحامي مخيف مثله في ذلك مثل القاضي). جرى تعريف القاضي في غالب الأحيان من أرسطو وحتى كوجيف، بوصفه "طرفاً ثالثاً وسيطاً". والفكرة الأساسية في هذا التعريف هي الوساطة، وليس القرار. وتتضمن الوساطة غياب أي تبني حال ومباشر من القاضي لـ"القضية" التي أمامه. وهكذا تظهر سلطة أعلى أمام الخصوم في الدعوى، سلطة تتعالى على المواجهة بين النظرات الخاصة للعالم، والتي ليست شيئاً سوى البنية والفضاء الاجتماعي المؤسس الذي يسمح فيه لهذه المواجهات بأن تجري.
يتضمن الدخول في المجال القانوني القبول الضمني للقانون الأساسي للمجال، وذلك تحصيل حاصل جوهري، يستلزم إمكان حل المنازعات قانونياً، داخل المجال، أي وفقاً لقواعد وأعراف المجال ذاته. لهذا السبب يعيد مثل هذا الدخول تحديد التجربة العادية تماماً، وكذلك كامل الموقف موضع الرهان في أي منازعة Litigation. إن تكوين المجال القانوني، شأنه في ذلك شأن أي "مجال"، هو مبدأ تكوين الواقع نفسه. ويعني الاشتراك في اللعب، والموافقة على لعب اللعبة، وقبول قانون حل النزاعات، يعني ضمنياً تبني نمط من التعبير والمناقشة يتضمن رفض العنف البدني والأشكال الأولية للعنف الرمزي، مثل الإهانات. إنه الاعتراف قبل كل شيء بالمتطلبات النوعية للإنشاء القانوني للمسألة. مادامت الوقائع القانونية تعد نتاجاً للإنشاء القانوني، وليس العكس، فإن إعادة ترجمة كاملة لكل مظاهر الجدال تعد ضرورية، وذلك كما قال الرومان لأجل ("طرح" القضية) ponere causam، أي لتأسيس الجدال بوصفه دعوى، وكمشكلة قانونية يمكن أن تغدو موضوعاً للجدالات القانونية المنظمة. تستبقي إعادة ترجمة كهذه كجزء من القضية كل شيء يمكن أن يجادل فيه من وجهة نظر ارتباطاته القانونية، وهذا فقط، أي ما يمكن أن ينهض كواقعة أو كدليل هو الذي يُستبقي فحسب.

-4-
من بين المتطلبات وهي شروط ضمنية في العقد الذي يحدد الدخول في المجال القانوني، هناك ثلاثة شروط يتعين ذكرها خصوصاً على ضوء أعمال أوستن. الأول هو الحاجة للوصول إلى قرار – قرار "أبيض أو أسود" نسبياً، لصالح المدعي أو المدعى عليه: مذنب أم غير مذنب، مسئول قانوناً أم غير مسئول. الثاني ضرورة أن يمتثل الاتهام والدفاع لواحدة من المقولات الإجرائية المعترف بها والمستقرة في تاريخ القانون. تبقى هذه المقولات، رغم عددها، محدودة جداً، ومقولبة، بالمقارنة مع الاتهامات والدفاعات التي توجد في الحياة اليومية. يمكن أن يقال إن كل ضروب المنازعات والجدالات، التافهة، ليس لها أن تبلغ وضع ما هو قانوني، بل تكون خارج الإطار القانوني، بسبب قصورها عن تجاوز حد الاتهام الأخلاقي. الثالث، يتطلب الدخول إلى المجال القانوني الإحالة إلى السوابق والامتثال لها، وهو متطلب قد يستتبع تشوه المعتقدات، والتعبيرات العادية.( )
Stare decisis* أي الامتثال لحكم السابقة القضائية، وهي القاعدة التي تفرض سلطة القرارات القانونية السابقة على أي فعل راهن، وعلاقتها بالفكر القانوني، وأثرها، يماثل علاقة قاعدة دوركايم "تفسير الاجتماعي بواسطة الاجتماعي" في الفكر الاجتماعي: إنها ليست سوى طريقة أخرى لتأكيد استقلالية وخصوصية الاستدلال القانوني والأحكام القانونية. تضفي الإحالة إلى مجموعة من السوابق القضائية المعترف بها بوصفها تشتغل كفضاء من الحلول الممكنة للقضية القائمة، تضفي الشرعية على القرار بجعله يبدو كأنه نتيجة تطبيق موضوعي محايد لإجراءات قانونية نوعية، على الرغم من أنه قد تحفزه في الواقع اعتبارات مختلفة كلية. تستخدم السوابق القضائية كأدوات لتبرير نتيجة معينة كما أنها تخدم بوصفها محددات قرارا معيناً، حيث يمكن للسابقة القضائية نفسها، حين تفهم بطرق مختلفة، أن تُستحضر لتبرير نتائج غاية في الاختلاف. أضف إلى ذلك يمتلك التراث القانوني تنويعة واسعة من السوابق القضائية والتفسيرات التي يمكن للمرء أن يختار منها الأشد ملائمة لنتيجة معينة( ). لهذه الأسباب فإن فكرة الامتثال لحكم السابقة القضائية stare decisis يتعين بالتأكيد ألا تتصور بوصفها نوعاً من المسلمة العقلانية التي تتضمن تماسك القرارات القانونية، وقابلية التنبؤ بها، وكذلك موضوعيتها، باشتغالها كحد مفروض على تحكمية التحددات الذاتية. لا ريب أن القابلية للتنبؤ والقابلية للحساب التي عزاها فيبر لـ"القانون العقلاني"، تنشأ أكثر من أي شيء آخر من تماسك وتجانس التطبع habitus القانوني. إن الميول السائدة للتطبع القانوني التي تشكلت من خلال الدراسات القانونية، وممارسة المهنة القانونية تشتغل على أساس نوع من التجربة الوراثية العامة، مثل مقولات الإدراك الحسي والحكم فيما يتعلق بالنزاعات العادية، وتكيف العمل الذي يحولها إلى مواجهات قانونية.( )

-5-
حتى وإن لم نقبل تماماً المفترضات المسبقة لمنهجية "نظرية النزاع" فإنها قد تكون مفيدة لتزويدنا بوصف للعمل الجماعي "للتصنيف" الذي يتجه إلى تحويل مظلمة متصورة أو غير متصورة، إلى ضرر يمكن تعيينه بوضوح ومن ثم تحويل نزاع بسيط إلى دعوى. ما من شيء أقل طبيعية من الحاجة إلى القانون"، أو حتى نضع ذلك بشكل مختلف، أكثر من الانطباع الذي يتولد عن ظلم ما ويؤدي بأحد ما لأن يلجأ إلى خدمة مهني. من الواضح أن الشعور بالظلم أو القدرة على تصور تجربة بوصفها غير عادلة ليس موزعاً بطريقة موحدة، إنه يعتمد بشكل وثيق على الموقع الذي يشغله المرء في الفضاء الاجتماعي. إن تحويل ضرر غير متصور إلى ضرر متصور، مسمى، ومعين بشكل نوعي يفترض مسبقاً عمل إنشاء للواقع الاجتماعي الذي يقع إلى حد كبير على عاتق المهنيين. ويعتمد اكتشاف الظلم بوصفه كذلك على شعور المرء بأن له حقوقاً ("مزايا"). ومن ثم تكمن قوة المهنيين القانونيين النوعية في كشف الحقوق، وكشف المظالم بواسطة العملية نفسها –أو، على النقيض، في منع وجود شعور بالظلم مؤسس على حس بالإنصاف فقط، ومن ثم في عدم تشجيع الدفاع القانوني عن الحقوق الذاتية. بإيجاز، تكمن قوة المهنيين في استغلال التطلعات القانونية، فهم يخلقونها في حالات معينة، ويبالغون فيها أو يقللون منها في حالات أخرى.( ) يخلق المهنيون الحاجة لخدماتهم الخاصة، بإعادة تحديد المشاكل التي جرى التعبير عنها باللغة العادية بوصفها مشاكل قانونية، مترجمين إياها إلى لغة القانون ومقترحين تقويماً مستقبلياً لفرص نجاح مختلف الاستراتيجيات. مما لا ريب فيه أن ما يدفعهم في عملهم فيما يتعلق بإنشاء النزاعات هو مصالحهم المالية، غير أنهم مدفوعين أيضاً بواسطة ميولهم السياسية والأخلاقية، التي تشكل أساس صلاتهم الاجتماعية مع عملائهم. وفوق كل شيء فهم مدفوعون بواسطة أشد مصالحهم نوعية، التي تتحدد في علاقتها الموضوعية مع المهنيين الآخرين. تتجلى هذه المصالح، على سبيل المثال، في قاعة المحكمة ذاتها، وقد تنهض سنداً لمفاوضات ضمنية أو ظاهرة. وينزع اشتغال المجال القانوني لفرض أثر الانغلاق، ويظهر ذلك في ميل المؤسسات القانونية لإنتاج تقاليد نوعية حقيقية، وفي مقولات الإدراك والحكم التي لا يمكن لها أن تترجم تماماً إلى مقولات غير المهنيين. تنتج المؤسسات القانونية مشاكلها الخاصة، وحلولها الخاصة، وفقاً لمنطق سحري غير متاح للناس العاديين.( )
يضمن تبدل الفضاء العقلي المشروط عملياً ومنطقياً بالتغير في الفضاء الاجتماعي، لهؤلاء الذين يملكون مؤهلات قانونية التحكم في الوضع mastery of the situation. فهم وحدهم يستطيعون أن يتبنوا المواقف التي تتيح تكوّن الأوضاع وفقاً للقانون الأساسي للمجال. أما هؤلاء الذين يتنازلون ضمنياً عن توجيه نزاعهم بأنفسهم بقبول الدخول في المجال القانوني (متخلين، على سبيل المثال، عن اللجوء إلى العنف، أو إلى محكم غير رسمي، أو عن السعي مباشرة لإيجاد حل ودي) يُختزلون إلى وضع العميل. يحول المجال مصالحهم التي لم تتبلور قانونياً إلى قضايا قانونية، ويحول المؤهلات المهنية التي تضمن التمكن من المصادر القانونية التي يتطلبها منطق المجال نفسه إلى رأس مال اجتماعي.

-6-
إن تكوين المجال القانوني غير قابل للفصل عن مؤسسة الاحتكار المهني لإنتاج وبيع الصنف النوعي لمنتجات الخدمات القانونية. وتتضمن المؤهلات القانونية سلطة نوعية تتيح السيطرة على الدخول في المجال القانوني بتقرير أي النزاعات جديرة بالدخول، ومحددة الشكل النوعي الذي ينبغي أن ترتديه حتى تتشكل بوصفها منازعات قانونية بالمعنى الدقيق. يمكن لمثل هذه المؤهلات وحدها، أن تقدم المصادر الضرورية لإنجاز عمل الإنشاء الذي يتيح للواقع من خلال اختيار المقولات وثيقة الصلة بالموضوع، أن يُختزل إلى الحكاية المفيدة التي نسمى تعريفها القانوني. وتتحدد هيئة المهنيين بواسطة احتكارها للأدوات الضرورية للإنشاء القانوني. هذا الاحتكار هو ذاته استيلاء: يعتمد حجم الأرباح التي يضمنها السوق لكل مهني على الدرجة التي يستطيع بها الاحتكار أن يتحكم في إنتاج أعضائه، من خلال التدريب وقبل كل شيء من خلال ترخيص الفاعلين القانونيين المخولين ببيع الخدمات القانونية. بهذه الطريقة، يُنظم عرض الخدمات القانونية.
يمكن أن يوجد أفضل برهان على هذه التأكيدات في الآثار الناتجة، عن الأزمة في النمط التقليدي للدخول في المهنة القانونية (وبالفعل، في هيئة الأطباء، والمهندسين المعماريين، وحائزي مختلف تنويعات الرأسمال الثقافي) في كل من أوروبا والولايات المتحدة. يمكن أن نذكر في هذا الصدد، على سبيل المثال، الجهود المبذولة لتحديد عرض الخدمات المهنية بواسطة الإجراءات التي تزيد صعوبة الانخراط في المهنة، وكذلك الجهود المبذولة لتحديد آثار المنافسة المتزايدة لعرض الخدمات القانونية، مثل هبوط الدخل. من ناحية أخرى، يبذل المهنيون جهوداً لزيادة الطلب، عبر وسائل غاية في التنوع. واحدة من هذه الوسائل هي الإعلان، وهي أكثر حدوثاً في الولايات المتحدة منها في أوروبا. وهناك وسيلة أخرى هي فعاليات المجموعات المناضلة التي يتمثل تأثيرها (وذلك لا يعني غرضها) في فتح أسواق جديدة للخدمات القانونية بواسطة مساندة حقوق الأقليات المهضومة أو عبر تشجيع الأقليات على الضغط من أجل حقوقها. وتسعى جهود مماثلة بشكل أوسع إلى إقناع السلطات العامة بأن تسهم مباشرة أو غير مباشرة في تعزيز ما يمكن أن يسمى "الطلب القانوني".( )
يتيح لنا التطور الراهن للمجال القانوني من ثم، أن نلاحظ مباشرة عملية التكوين الاستيلائي – مقترنة بالإقصاء المتلازم للناس العاديين – التي تميل إلى خلق الطلب عبر إدراجها ضمن المجال القانوني لمنطقة تعايش اجتماعي كانت قبل ذلك خاضعة للأشكال ما قبل القانونية لحل النزاع. فعلى سبيل المثال، قدمت مجالس التحكيم العمالية في حالة النزاعات التي تتضمن أنوعاً عديدة من عقود العمل، تحكيماً مؤسساً على حس بالعدالة، وفقاً لإجراءات مبسطة، يترأسها أفراد ذوو خبرة في مجال النزاع. وقد ألحقت هذه المنازعات بشكل بطيء بالنطاق القانوني.( ) فمن خلال مشاركة موضوعية بين موظفي الاتحادات الأكثر تعليماً وقانونيين معينين، فقد وسعوا السوق لخدماتهم الخاصة، بفضل اهتمامهم الكريم بمصالح أعضاء المجتمع المحرومين، حيث اندمجت تلك البقعة المحصورة للاستقلال القانوني بشكل بطيء في السوق القانوني المهني. بحيث يضطر أعضاء مجالس التحكيم العمالية مراراً وتكراراً، إلى أن يحتكموا إلى النظام القانوني حتى يصلوا إلى قرارات مسوغة، وذلك بسبب ميل المشتكين والمدعى عليهم خاصة إلى اللجوء إلى المحاكم وإلى الاستعانة بخدمات المحامين. إن تعدد الاستئنافات قد اضطر مجالس التحكيم العمالية أيضاً لأن تذعن لقرارات صادرة عن محاكم الاستئناف. نتيجة لذلك، فإن الدوريات القانونية المهنية، والمحامين الذين تُجري استشارتهم مراراً وتكراراً، من قبل الإدارة أو الاتحادات، قد ربحوا إلى حد بعيد.( ) بإيجاز، تتجسد عملية التعزيز المتواصل: تخلق كل خطوة نحو جعل بعد من أبعاد الممارسة "قضائياً" حاجات قانونية جديدة، ومن ثم مصالح قانونية جديدة عند هؤلاء الذين يملكون المؤهلات النوعية الضرورية (في هذه الحالة المعرفة بقانون العمل) حيث يجدون في هذه الحاجات سوقاً جديدة. ويؤدي تدخل مثل هؤلاء الممارسين إلى زيادة في شكلية الإجراءات القانونية، ومن ثم يساهمون في زيادة الحاجة إلى خدماتهم ومنتجاتهم الخاصة، مما يؤدي إلى استبعاد الناس العاديين عملياً. وهذا يضطرهم لأن يلجأوا إلى استشارة المهنيين القانونيين، الذين ينتهون تدريجياً إلى الحلول محل الشاكين والمدعى عليهم. يغدو الأخيرون بدورهم لاشيء أكثر من مجموعة من الأفراد وقعت تحت ولاية المحاكم.( )
سوف تتأثر المسافة من المواقف العامية التي تحدد العضوية في المجال بأي دفاع شديد العاطفية عن مصالح الشاكين. وتؤدي نزعة الإبقاء على هذه المسافة بعناية بالوسطاء شبه المهنيين الذين يشتغلون في آلية التفاوض بشكل متزايد، إلى أن يسهموا في العملية بطريقة فنية لكي يدللوا على انفصالهم بشكل صارخ عن هؤلاء الذين يدافعون عن مصالحهم. إنهم يميلون من ثم إلى أن يوحوا بطابع سلطوي ومحايد لحججهم، ولكنهم يفعلون ذلك مخاطرين قبل كل شيء بأن يقوضوا عين منطق عملية التفاوض الودي.( )
قوة التسمية
-1-
إن محاكمة ما، هي مواجهة بين وجهتي نظر فرديتين، لا يمكن لجوانبها التقويمية والإدراكية أن تميز تماماً عن بعضها البعض. تُحل المواجهة بواسطة حكم منطوق مستوف للشروط القانونية من قبل "سلطة" منحت قوتها اجتماعياً. هكذا تمثل المحاكمة إخراجاً نموذجياً للصراع الرمزي الكامن في العالم الاجتماعي: صراع تتواجه فيه نظرتان مختلفتان للعالم، متعاديتان بالفعل، الواحدة مع الأخرى. كل تسعى، بسلطتها الفردية، لنيل الاعتراف العام ومن ثم لتحققها الذاتي. ما هو موضع رهان في هذا الصراع هو احتكار سلطة فرض مبدأ معرفة عن العالم الاجتماعي معترف به شمولياً – مبدأ تقسيم أضفيت عليه شرعية.( ) تعرض السلطة القضائية في هذا الصراع، من خلال الأحكام المصحوبة بالعقوبات التي قد تتضمن أعمال التقييد البدني مثل انتزاع الحياة، أو الحرية، أو الملكية، وجهة النظر الخاصة، التي تتعالى على المنظورات الفردية – رؤية الدولة ذات السيادة. لأن الدولة وحدها هي التي تسيطر على الاحتكار الشرعي للعنف الرمزي.
إن السب الذي يتفوه به شخص خاص بوصفه كلاماً خاصاً، يورط المتحدث فقط ويملك بالكاد فعالية رمزية. بخلاف ذلك، ينتمي حكم المحكمة الذي يقرر في النزاعات أو المفاوضات التي تتعلق بالأشخاص أو الأشياء، بالإعلان العلني للحقيقة حولها، إلى فئة أعمال التسمية أو التأسيس Acts of naming´-or-instituting في التحليل الأخير. يمثل الحكم الشكل الجوهري لكلام مفوض، عام، رسمي، نطق به باسم ولكل أحد. هذه الأحاديث الإنجازية، والقرارات الجوهرية – بالتعارض مع الإجرائية – التي تصاغ علانية من قبل وكلاء مفوضين يتصرفون باسم الجماعية، هي أعمال سحرية تنجح، لأن لها سلطة أن تجعل نفسها معترفاً بها عمومياً.( ) وهي لا تخفق من ثم في خلق وضع لا يمكن لأحد أن يرفض فيه أو يتجاهل وجهة النظر، والرؤية التي تفرضها.
يكرس القانون النظام القائم بتكريس نظرة هذا النظام التي تتبناها الدولة. إنه يمنح للفاعلين هوية آمنة، وضعاً، وفوق كل شيء مجموعة من السلطات (أو القدرات) معترف بها اجتماعياً ولذلك فهي منتجة. إنه يفعل ذلك عبر توزيع حق استخدام هذه السلطات: من خلال الدرجات (الأكاديمية، والمهنية على سبيل المثال) والشهادات (شهادات التخصص المهني، الشهادات المرضية، أو شهادات العجز) إنه يصدق أيضاً على كل العمليات المرتبطة بحيازة، أو بزيادة، أو بتحويل، أو سحب هذه السلطات. تُنهي الأحكام التي يوزع القانون بواسطتها كميات متغايرة من مختلف أنواع رأس المال على فاعلين مختلفين (أو مؤسسات) في المجتمع، تنهي أو تُحِد على الأقل الصراع، أو التبادل، أو التفاوض بشأن مواصفات الأفراد أو الجماعات، أو بشأن عضوية الأفراد داخل الجماعات، أو بشأن النسبة الصحيحة للأسماء (سواء كانت أسماء علم أو عامة) أو الألقاب، وحول الاتحاد أو الانفصال – بإيجاز، كل ما يخص النشاط العملي لـ"صنع العالم" (الزواج، الطلاق، الإبدال، الاتحادات، عمليات الحل والتصفية) الذي يشكل الوحدات الاجتماعية. القانون هو الشكل الجوهري للسلطة الرمزية للتسمية الذي يخلق الأشياء المسماة، ويخلق المجموعات الاجتماعية بصفة خاصة. إنه يضفي على الواقع الذي ينشأ من عملياته التصنيفية، أقصى دوام يمكن لأي كلية اجتماعية لها سلطة أن تضفيه على أخرى، أي الدوام الذي ننسبه إلى الأشياء.
القانون هو الشكل الجوهري لخطاب "فعال"، قادر بحكم اشتغاله على أن ينتج آثاره. لن يكون تجاوزاً القول بأنه يخلق العالم الاجتماعي، شرط أن نتذكر فحسب أن هذا العالم هو الذي يخلق القانون أولاً. إنه لمن الهام أن نتحقق من الشروط الاجتماعية، وحدود، وسلطة القانون شبه السحرية، حتى لا نقع في نزعة اسمية راديكالية (توحي بها بعض تحليلات ميشيل فوكو) ونفترض أننا من ينتج المقولات التي ينتج وفقاً لها العالم الاجتماعي، أو أن نتصور أن هذه المقولات هي التي تنتج هذا العالم. في الواقع، تنتج مخططات الإدراك والحكم التي هي في أصل إنشائنا للعالم الاجتماعي بواسطة عمل تاريخي جماعي، مع ذلك فإنها مؤسسة على بنيات هذا العالم نفسه. هذه بنيات متبنينة، تشكلت تاريخياً. تسهم مقولات تفكيرنا في إنتاج العالم، ولكن في حدود تطابقها مع البنيات الموجودة مسبقاً فحسب. وتحقق الأعمال الرمزية للتسمية قوتها في الكلام الإبداعي، إلى المدى، وفقط إلى المدى، الذي تقترح فيه مبادئ رؤية وتقسيم متكيفة موضوعياً مع التقسيمات الموجودة مسبقاً التي هي نتاجها. بتكريس ما جرى النطق به، يحمل مثل هذا الكلام موضوعه إلى ذلك الوجود الأعلى الذي تحقق تماماً الذي يصف المؤسسات المكونة. بمعنى آخر ينتهي الأثر الرمزي النوعي للتمثلات التي أنتجت وفق مخططات متكيفة لبنيات العالم الذي ينتجها، إلى تعزيز النظام القائم. إن التمثيل الصحيح يصادق ويكرس النظرة العقيدية doxic التي تختص بتقسيمات العالم الاجتماعي بواسطة تمثيل هذه النظرة بالموضوعية المتصورة للأرثوذكسية. إن عملاً كهذا هو عمل من الإبداع الحقيقي لأنه حين يعلن الأرثوذكسية باسم كل أحد، يضفي عليها الشمولية العملية لما هو رسمي.


-2-
يجب أن تتكيف السلطة الرمزية في نمطها النبوئي، الهرطقي، المضاد للمؤسسة، ومزاجها التقويضي واقعياً للبنيات الموضوعية للعالم الاجتماعي أيضاً. في العلم، والفن، أو السياسة، لا تتجلى السلطة الخلاقة للتمثيل أبداً بشكل أشد وضوحاً منها في فترات الأزمات الثورية. مع ذلك، فإن إرادة تغيير العالم بتغيير الكلمات التي تسميه، بإنتاج مقولات جديدة للإدراك والحكم، وبإملاء نظرة جديدة تخص التقسيمات الاجتماعية والتوزيعات، يمكن أن تنجح فقط إذا كانت النبؤات الناشئة أو الذكريات المبدعة، هي أيضاً، على الأقل جزئياً، رؤى مسبقة، وأوصاف استباقية مؤسسة جيداً. وتؤدي هذه الرؤى إلى ما تعلنه فحسب – سواء ممارسات جديدة، أو أعراف جديدة، أو بصفة خاصة تجمع اجتماعي جديد – لأنها تنبئ عما هو في طور الاختمار. فهي ليست لهذا الحد قابلات تماثل أمينات السر اللاتي تسجلن التاريخ. بمنح الوقائع التاريخية أو العمليات الفعلية الاعتراف المتضمن في الإعلان النبوئي، فإن هذا الاعتراف يقدم لها الإمكانية الفعلية لتحقق واقعاً كاملاً – أي وجوداً رسمياً معترفاً به تماماً – من خلال أثر إضفاء الشرعية، وبالفعل بالتكريس الذي يتضمنه نشرها وجعلها رسمية. وهكذا فإن واقعية أسمية فقط (أو واحدة مؤسسة على الواقع) تتيح لنا أن نعلل الأثر السحري للتسمية كما استعملت الكلمة هنا، ومن ثم الفرض الرمزي للسلطة، الذي لا ينجح إلا لأنه مؤسس تماماً في الواقع. والتصديق القانوني هو الشكل القانوني canonical لكل هذا السحر الاجتماعي. ويمكن له أن يشتغل بفعالية فقط إلى المدى الذي تكون فيه السلطة الرمزية لإضفاء الشرعية، أو بشكل أكثر دقة، للتطبيع (ما دام ما هو طبيعي لا يحتاج حتى لأن يساءل شرعيته الخاصة)، وتعيد إنتاج وتضاعف القوة التاريخية المحايثة التي تعززها السلطة وتفويض التسمية أو تحررها.
قد يبدو مثل هذا التحليل بعيداً تماماً عن واقع الممارسة القانونية. ولكنه لازم لكي نفهم بشكل دقيق مبدأ السلطة الرمزية. بينما تتقوم مسئولية السوسيولوجيا في تذكيرنا بأن المجتمع لا يمكن أن يتغير بمرسوم كما يطرح ذلك مونتسكيو، فإن إدراكنا للشروط الاجتماعية التي تكمن وراء أعمال السلطة القضائية لا ينبغي أن تؤدي بنا إلى تجاهل أو إنكار ما يخلق فعالية القواعد النوعية، والنظم، والقانون ذاته. عند تفسير الممارسات، فإن رد فعل صحي ضد ما يمكن أن يسمى "النزعة القضائية" المجردة ينبغي أن يؤدي بنا إلى أن نعيد الميول التكوينية للتطبع habitus إلى مكانها الصحيح. ولكن لا يتضمن هذا أن علينا أن ننسى الأثر النوعي الذي يتمخض عن تنظيم أعلن على نحو ظاهر، خاصة عندما يكون مصحوباً بعقوبات كما في حالة التنظيمات القانونية: ومما لاشك فيه أن القانون يمتلك فعالية خاصة، تنسب بصفة نوعية إلى عمل التقنين codification، والصياغة، والشكلية، والتحييد، والتنهيج، التي ينتجها كل المهنيين في العمل الرمزي وفقاً لقانون عالمهم الخاص. رغم ذلك، تتحدد هذه الفعالية بمعارضتها بكل من العجز البسيط والمجرد، وبفعالية تستند على القوة العارية وحدها، وهي تمارس فقط إلى المدى الذي يكون فيه القانون معترفاً به اجتماعياً ويلقى اتفاقاً، وإن كان ضمنياً وجزئياً، لأنه يتوافق، على الأقل ظاهرياً، مع المصالح والحاجات الفعلية.( )

قوة الشكل
-1-
الممارسة القانونية كالممارسة الدينية تحدد نفسها جزئياً من خلال العلاقة بين المجال القانوني والطلب الآتي من جانب الناس العاديين. فالمجال القانوني هو أساس عرض الخدمات القانونية الناتجة عن المنافسة المهنية، ودائماً ما يكون الطلب مشروطاً جزئياً بأثر هذا العرض. وهناك توتر دائم بين القواعد القانونية القائمة، التي تبدو شاملة، على الأقل في شكلها، والطلب الاجتماعي المتنوع، وحتى المتنازع عليه، والمتناقض بالضرورة، هذا التوتر ماثل موضوعياً في الممارسات القانونية نفسها، سواء فعلياً أو بشكل كموني (في شكل انتهاك أو إبداع قد تمارسه طليعة سياسية أو أخلاقية). ويتعين علينا أن نتجنب نوعين من سوء الفهم عند تحليل الشرعية الممنوحة في الممارسة للقانون ووكلائه، أولاً، لا يمكن للشرعية أن تفهم ببساطة بوصفها نتاجاً للاعتراف العام، مُنح من قبل الخاضعين لها، لولاية [قضائية] تريد منا الأيديولوجية المهنية أن نعتقد أنها التعبير عن قيم أبدية وشاملة، تتعالى على أي مصالح فردية. من ناحية أخرى، لا يمكن أن نفهم هذه الشرعية بوصفها أثراً للقبول الذي يؤمن آلياً بشيء ليس أكثر من الأعراف الاجتماعية، أو علاقات القوة، أو على نحو أكثر دقة، مصالح المجموعات السائدة.( ) لم يعد بمقدورنا أن نواصل السؤال عما إذا كانت السلطة تأتي من أعلى أو من أسفل. كما أننا لا نستطيع أن نواصل السؤال عما إذا كان تطور القانون وتحوله هو نتاج تطور الأعراف إلى قواعد، والممارسات الاجتماعية إلى التقنين القانوني أو، بشكل عكسي، فالأشكال والصياغات القانونية للممارسات هي التي تعطيها شكلها وجوهرها. ينبغي أن نأخذ في الاعتبار كلية العلاقات الموضوعية بين المجال القانوني ومجال السلطة، ومن خلاله، المجال الاجتماعي كله. إن الوسائل، والغايات، والآثار النوعية التي ترتبط بالعمل القانوني تتحدد داخل هذا العالم من العلاقات.

-2-
حتى نُقَّوم ما هو القانون، في بنيته وفي آثاره الاجتماعية، فإنه من الضروري أن نذهب ما وراء حالة الطلب الاجتماعي الحالي أو المتوقع وشروط الإمكان الاجتماعية التي يطرحها مثل هذا الطلب على "الإبداع القانوني". فنحن في حاجة إلى أن نستعيد المنطق العميق للعمل القانوني في أشد مواضعه نوعية، في نشاط التشكيل formalization وفي مصالح الفاعلين الذين يقومون بالتشكيل كما تحددهم المنافسة ضمن المجال القانوني وفي العلاقة بين هذا المجال والمجال الأكبر للسلطة.( )
ومما لاشك فيه أن ممارسة هؤلاء المسئولين عن "إنتاج" أو تطبيق القانون تدين بقدر عظيم للتشابهات التي تربط حائزي هذا الشكل الجوهري للسلطة الرمزية بحائزي السلطة الدنيوية بصفة عامة، سواء كانت اقتصادية أم سياسية.( ) إن ذلك لكذلك رغم التنازعات الولائية التي قد تضع حائزي السلطة هؤلاء في تعارض الواحد مع الآخر. إن تقارب المصالح، وفوق كل شيء، تشابه التطبع habitus، الناجم عن خلفيات عائلية وتعليمية متشابهة، ينشئ نظرات للعالم من طبيعة واحدة. نتيجة لذلك، فإن الخيارات التي يتعين على هؤلاء الذين في المجال القانوني أن يتخذوها دوماً بين مصالح، وقيم، ونظرات متعادية، أو مغايرة، من غير المحتمل أن تضر القوى السائدة. وذلك لأن سجية ethos الممارسين القانونيين، التي هي في أصل هذه الخيارات، والمنطق المحايث للنصوص القانونية، التي استحضرت، لتبريرها وكذلك لتحديدها، تنسجم بقوة مع مصالح، وقيم ونظرات هذه القوى السائدة.
إن انتماء القضاء إلى الطبقة السائدة أمر ملاحظ بشكل عام. فقد كان امتلاك هذا الشكل النادر من الرأسمال الثقافي الذي نسميه رأس المال القانوني كافياً لضمان موقع سلطة في الجماعات الصغيرة في إيطاليا القروسطية.( ) كذلك كان الحال في فرنسا في ظل النظام القديم، فغالباً ما كان" نبلاء الثوب" أعضاء في الطبقة الأرستقرطية بالمولد (هؤلاء الذين يحوزون ألقاباً نبيلة بفضل مواقعهم كقضاة)، بالرغم من أن لهم مكانة أقل من النبالة العسكرية. يظهر بحث سوفاجو sauvageot عن الأصل الاجتماعي للقضاة الذين انخرطوا في الممارسة القضائية في فرنسا قبل عام 1959 أن نسبة عالية أتت من عائلات عريقة في المهنة القانونية، وبشكل أوسع، من البورجوازية. ولقد بين جان بيير مونييه Jean Pierre Mounier أنه، على الأقل حتى وقت قريب، كانت الثروة التي تؤمنها خلفية طبقية مميزة شرطاً للاستقلال الاقتصادي وحتى لسجية التزمت التي تشكل ما يمكن أن يسمى الخصائص الضرورية لهذه المهنة المنذورة لخدمة الدولة.
فحين تقترن مثل هذه الخلفية بالآثار النوعية للتدريب المهني، فإنها تساعد على تفسير حياد القضاة المعلن، واستقلالهم المتغطرس عن السياسة الذي لا يستبعد بحال الارتباط بالنظام القائم.( ) تغدو آثار مثل هذا الاشتراك الضمني المتفق عليه أشد ظهوراً في مجرى أزمة اقتصادية اجتماعية داخل الهيئة المهنية ذاتها. وتنشأ مثل هذه الأزمة، على سبيل المثال، عند تغيير النمط الذي يجري به اختيار شاغلي المواقع السائدة. وينهار في لحظة كهذه، هذا النوع من الاشتراك الذي ناقشناه للتو. ولا يميل بعض القادمين الجدد إلى القضاء، بفضل موقعهم أو مواقفهم الشخصية، إلى قبول المفترضات المسبقة التقليدية التي تحدد القضاء. وتُظهر الصراعات التي يباشرونها عنصراً مقموعاً إلى حد بعيد في قلب أساس المجموعة: أي اتفاق عدم الاعتداء الذي يربط القضاء بالسلطة السائدة. حتى هذا الحد تتماسك الهيئة المهنية داخل، وبواسطة، مراتبية مقبولة عامة، وبواسطة الإجماع الذي يتعلق بدورها. ولكن تؤدي زيادة التمايز الداخلي إلى صيرورة الهيئة موقع الصراع. ويؤدي هذا ببعض الأعضاء إلى جحد الميثاق المهني، ولأن يهاجموا بشكل مكشوف هؤلاء الذين يستمرون في اعتباره القاعدة التي لاتنتهك لنشاطهم المهني.( )

-3-
إن قوة القانون ذات طبيعة خاصة. إنها تمتد ماوراء دائرة هؤلاء الذين يعتقدون فيها بفضل الصلة العملية الي تربطهم بالمصالح والقيم الجوهرية للنصوص القانونية، وللنزاعات السياسية والأخلاقية لهؤلاء الذين يتولون مسئولية تطبيقها. وتسهم الدعاوى الشمولية للمذهب والإجراء القانوني، التي تتجلى في عمل التشكيل القانوني في تأسيس "شموليتها" العملية. وتتمثل الخاصية النوعية للسلطة الرمزية، في أنها لا يمكن أن تمارس إلا عبر اشتراك هؤلاء المحكومين بها. هذا الاشتراك مؤكد على الأغلب، لأنه غير واع من جانب هؤلاء الذين يعاينون آثارها –أو ربما يتعين علينا أن نقول إنه منتزع منهم بشكل أكثر حذقاً. ولايمكن للقانون بوصفه الشكل الجوهري للخطاب الذي أضفيت عليه الشرعية، أن يمارس سلطته النوعية إلا إلى المدى الذي يحظى فيه بالاعتراف، أي إلى المدى الذي يبقى فيه عنصر التحكم في قلب اشتغاله (الذي قد يتمايز من حالة إلى أخرى) غير مُدرك. لذا يتعين إعادة إنتاج هذا الامتياز الضمني بصدد الاعتقاد في النظام القانوني بلا توقف. وهكذا، فإن واحدة من وظائف العمل القانوني الأشد خصوصية بشأن تشكيل وتنظيم التمثلات الأخلاقية والممارسات هو الإسهام في ربط الناس العاديين بالمبدأ الجوهري للأيديولوجية المهنية للمشرعين، أي الاعتقاد في حياد واستقلال القانون والقضاة أنفسهم.( ) يكتب جاك إلل Jacque Ellul: يجري "ظهور القانون" عند المرحلة التي يصاغ فيها واجب ما من قبل إحدى المجموعات التي تؤلف مجتمعاً كاملاً بحيث تتخذ وضع قيمة عامة بحكم واقع تشكلها القانوني.( ) إنه لمن الضروري بالفعل أن نقرن التعميم بإبداع الأشكال والصياغات.
يفترض حكم القانون إجماعاً مسبقاً على الالتزام بقيم عامة (يمثلها، على مستوى العرف، وجود عقوبات جماعية وعفوية مثل الاستهجان الأخلاقي) وعلى وجود قواعد وعقوبات جماعية وإجراءات تطبيعية normalized. هذا العامل الأخير، الذي لا يمكن أن ينفصل عن نشوء الكتابة، يلعب دوراً واضحاً. وتضيف الكتابة إمكانية تعميم التفسيرات التي تكشف قواعد "عامة" وقبل كل شيء، المبادئ، كما تضيف الكتابة إمكانية النقل والانتقال. ويجب أن يكون مثل هذا الانتقال موضوعياً –وهو يعتمد في نجاحه على تدريب مهني منهجي. إنه يجب أن يعمم – أن يكون قادراً على الوصول إلى ما وراء الحدود الجغرافية (الإقليمية) والزمنية (المتعلقة بالأجيال).( ) بالرغم من أن التقليد الشفوي يجعل التحسين الفني المضبوط مستحيلاً، لأنه مرتبط بتجربة مكان فريد ومحيط اجتماعي معين، يولّد القانون المكتوب العملية التي يغدو بها النص مستقلاً. حيث يجري التعليق عليه، وهو يضع ذاته بين الواقع والتفسيرات. وعند هذه النقطة يغدو ما يدعوه سكان العالم القانوني "الفقه" ممكناً: أي قيام شكل نوعي من المعرفة المدرسية، تمتلك قواعدها ومنطقها الخاص، قادرة على أن تنتج المظاهر الخارجية للتماسك العقلي، أي لتلك العقلانية "الشكلية" التي ميزها فيبر دائماً بعناية عن العقلانية "الاسمية"، التي تتعلق بالأحرى بموضوعات الممارسة التي عقلنت شكلياً.

-4-
للعمل القانوني آثار عديدة. يبتعد عمل التشكيل والتنهيج بالقواعد القانونية عن أن ترتبط بعرضية وضع نوعي ما، وذلك بواسطة تأسيس حكم نموذجي (حكم استئنافي على سبيل المثال) صيغ في شكل يغدو به نموذجاً للقرارات التالية. فيسوغ هذا الشكل ويتبنى في آن معاً منطق السابقة التي يؤسس عليها الفكر، وكذلك العمل القانوني بشكل خصوصي. إنه يربط الحاضر دوماً بالماضي، وهو يقدم الضمان بأنه في غياب ثورة قد تزعزع ذات أساس النظام القانوني، فإن المستقبل سوف يشبه ما جرى سابقاً، وسوف يجري تصور هذه التغيرات والتعديلات الضرورية ويُعبر عنها في لغة تتمثل الماضي. ويخدم العمل القانوني عندما يحتويه منطق المحافظة، بوصفه واحداً من أعظم أسس صيانة النظام الرمزي من خلال علامة أخرى من علامات اشتغاله( ) أي، من خلال عمل التنهيج والعقلنة التي يفرضها على القرارات القضائية، وعلى القواعد التي يحتكم إليها لتأسيس أو لتسويغ هذه القرارات، إنه يعطي خاتم العمومية – الناقل الجوهري للفعالية الرمزية – لنظرة عن العالم الاجتماعي لا تعرض، كما رأينا، أية اختلافات صارخة عن وجهة نظر السلطة السائدة. إن للعمل القانوني من هذا الموقع القدرة على أن يؤدي إلى ما يمكن أن نطلق عليه التعميم العملي، أي تعميم نمط في العمل وفي الممارسة، والتعبير، كان مقصوراً سابقاً على نطاق جغرافي واحد، أو فضاء اجتماعي، كما يشير إلى ذلك جاك إلل:
"القانون، في البداية غريب ويطبق من الخارج، حتى ينتهي من خلال التجربة وببطء إلى أن يعترف به بوصفه مفيداً، ويغدو عبر الزمن، جزءاً من إرث الجماعة. لقد تشكلت الجماعة في تعاقبها بواسطة القانون، تغدو القوانين "القانون" فقط عند المرحلة التي يوافق فيها المجتمع على أن يتشكل بها فحتى مجموعة من القواعد طبقت تحت الإكراه لزمن ما لا تترك المجتمع كما كان، حيث يكون عددٌ معينٌ من العادات الأخلاقية أو القانونية قد نشأ.( )
إنه لمن المعقول أن يكون أثر التعميم، في مجتمع معقد أحد الآليات، ومما لاشك فيه أنه من الآليات الأشد قوة التي تنتج السيادة الرمزية (أو، إذا ما فضلنا تسميتها، فرض الشرعية في النظام الاجتماعي). حينما تجعل القاعدة القانونية المبادئ العملية لنمط الحياة السائد بشكل رمزي رسمياً، من خلال مجموعة متماسكة شكلياً من القواعد الرسمية (وبالتعريف) الاجتماعية، فإنها تميل على نحو أصيل إلى أن تشكل سلوك كل الفاعلين الاجتماعيين، بغض النظر عن أي اختلاف في الوضع ونمط الحياة. ويشتغل أثر التعميم، الذي يمكن لنا أن نسميه أيضاً أثر التطبيع normalization، لتعميق أثر السلطة الاجتماعية التي تمارس بالفعل بواسطة الثقافة الشرعية وهؤلاء الذين يتحكمون فيها. إنه يكمل من ثم السلطة العملية للإكراه القانوني.( )
تروج المؤسسة القانونية تمجيداً أنطولوجياً. وهي تفعل ذلك بتحويل المتواتر (ذلك الذي يصنع بانتظام) إلى قاعدة (ذلك الذي ينبغي أن يفعل) وحالة السواء الواقعي إلى سواء قانوني، والثقة (fides) العائلية البسيطة، التي تصدر عن جهد كلي لتعزيز الإدراك والشعور، إلى قانون الأسرة، تؤازره ترسانة كاملة من المؤسسات والقيود. وتسهم المؤسسة القانونية بهذه الطريقة على نحو تعميمي في فرض تمثل لحالة السواء تتجه الممارسات المغايرة قياساً به، إلى أن تبدو بوصفها منحرفة، شاذة، وبالفعل غير عادية ومرضية (خاصة حينما تتدخل المؤسسات الطبية لتعزيز المؤسسات القانونية). وهكذا فقد صادق قانون الأسرة وأضفى شرعية على الممارسات العائلية التي تطورت ببطء بوصفها قواعد "شاملة" حفزها جهود الطليعة الأخلاقية للطبقة السائدة داخل مجموعة من المؤسسات الاجتماعية التي اختيرت لتنظيم العلاقات الأساسية التي تنظم الوحدة العائلية، خصوصاً العلاقة بين الأجيال. كما سبق وأن بين ذلك ريمي لونوار، فقد أسهم قانون العائلة إلى حد بعيد في تسريع تعميم نموذج للعائلة في أجزاء معينة من العالم الاجتماعي (والجغرافي) خاصة بين الفلاحين والحرفيين الأمر الذي أدى إلى تنازعه مع العوائق الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالمشاريع الصغيرة وإعادة إنتاجها.( )
الميل لتعميم نمط حياة المرء، الذي جرب على نطاق واسع واعترف به بوصفه نموذجياً، هو واحد من آثار المركزية الإثنية عند المجموعات السائدة. إنه أيضاً أساس الاعتقاد في شمولية القانون. ويوجد مثل هذا الميل بالقدر نفسه في قلب الأيديولوجيا التي تنحو إلى أن ترى القانون كأداة لتغيير العلاقات الاجتماعية. وتتيح لنا التحليلات التي قدمت آنفاً في هذا المقال أن نفهم أن هذه الأيديولوجية تجد أساساً واضحاً في الواقع. لأن المبادئ السلوكية أو المظالم الأخلاقية التي يشكلها ويعممها القضاة، لا تنشأ بالضبط في أي مكان بعينه داخل العالم الاجتماعي، بالطريقة نفسها التي لا تكون بها القوة المسئولة حقاً عن تطبيق القانون هي أي قاض فرد عشوائي، وإنما المجموعة الكاملة لوكلاء القانون، وهم غالباً ما يكونون في منافسة الواحد مع الآخر، حيث يقومون بتعيين وتحديد المتهم والجريمة، وهكذا فإن كاتب القانون الحقيقي ليس المشرع وإنما المجموعة الكاملة لوكلاء القانون. ويصوغ هؤلاء الوكلاء مشروطين بالمصالح الخصوصية والقيود المرتبطة بموقعهم ضمن مختلف المجالات الاجتماعية (القانونية، وأيضاً الدينية، والسياسية) رغبات خاصة أو شكاوى، ويحولونها إلى "مشاكل اجتماعية" وينظمون المطالب (الجرائد، المقالات، الكتب، البرامج الحزبية أو التنظيمية) والضغوط (المظاهرات، الالتماسات، الوفود) المصممة لتدفعها إلى الأمام. ومن ثم يكرس العمل القانوني جهداً كلياً لإنشاء ولصياغة التمثلات، مقرناً إياها بآثار التعميم والشمول التي تمثل خصوصية تقنيات القانون، وبوسائل القسر، التي يمكن لهذه التقنيات أن تركزها.
"وجانب العرض" القانوني، يمثل القدرة الخلاقة المستقلة نسبياً للقانون الذي يجعل وجود مجاله الاختصاصي في الإنتاج ممكناً، ومن ثم ينتج أثراً نوعياً. ويكرس هذا الأثر جهد المجموعات الصاعدة أو السائدة لفرض تمثيل رسمي official representation للعالم الاجتماعي الذي يعزز نظرتها للعالم ويساند مصالحها، خاصة في الأوضاع الثورية أو الضاغطة [أوضاع الكساد] اجتماعياً.( ) إنه من المثير للدهشة أن تحليل العلاقة بين العادي والمرضي تقدر بشكل ضئيل الأثر النوعي للقانون. إن القانون، خطاب قوى جوهرياً مقترن بأدوات مادية لفرض الامتثال على الآخرين، ويمكن أن ينظر إليه بوصفه أداة جوهرية للتطبيع. إذا توفر له الوقت، بوصفه كذلك فإنه يجتاز وضع العقيدة القويمة [الأرثوذكسية]، أي الاعتقاد بالمعنى الدقيق الذي يحدد بشكل صريح ما يتعين أن يحدث، إلى وضع العقيدة السائدة "doxa" أي الاتفاق المباشر الذي استنبط ما هو عادي وواضح بذاته. وتتجلى العقيدة السائدة doxa بالفعل بوصفها حالة سواء يكون فيها تحقق القاعدة قد بلغ منتهاه حتى إن القاعدة ذاتها، بوصفها إكراهاً، تكف ببساطة عن الوجود بوصفها كذلك.

-5-
لا يمكن أن نجري تقويماً كاملاً لأثر التطبيع naturalization هذا بدون توسيع التحليل حتى يشمل الأثر الأشد نوعية لإضفاء الشكلية القانونية: قوة الشكل vis formae، التي تحدث عنها القدماء. ويمكن أن ينجح تشكيل الممارسات عبر الشكلية القانونية فقط إلى المدى الذي يقدم فيه التنظيم القانوني شكلاً واضحاً لميل محايث بالفعل ضمن هذه الممارسات. فالقواعد التي تنجح هي تلك التي تنظم، كما نقول، الأوضاع الفعلية التي تتوافق معها. مع ذلك، وعلى أية حال، تمثل الحركة من الانتظام الإحصائي إلى القواعد القانونية تعديلاً اجتماعياً حقيقياً. باستبعاد الاستثناءات، وتفادي غموض التجميعات غير المؤكدة، وبفرض انقطاعات واضحة وحدود صارمة في متصل continuum الحدود الإحصائية، تُدخل الشكلية القانونية في العلاقات الاجتماعية وضوحاً وقابلية للتنبؤ. إنها تؤسس من ثم عقلانية لا يمكن لها أن تضمن أبداً بواسطة المبادئ العملية للتطبع habitus أو العقوبات العرفية التي تطبق بها مباشرة هذه المبادئ غير المصاغة على حالات خاصة.
بغير أن نعتنق فكرة "القوة الجوهرية" التي نسبها الفلاسفة أحياناً لفكرة حقيقية، إلا أنه يتعين علينا مع ذلك أن نمنح واقعاً اجتماعياً للسلطة الرمزية التي يدين بها القانون "العقلاني شكلياً" (إذا ما استخدمنا لغة فيبر) للأثر النوعي لإضفاء الطابع الشكلي ذاته. وتؤسس عملية إضفاء الطابع الشكلي بواسطة تعيين النماذج التي تحكم السلوك في الممارسة، قبل أي خطاب قانوني، من خلال موضوعية قاعدة مكتوبة أو تنظيم عبر عنه بشكل صريح اشتغال ما يمكن أن نسميه أثر التماثلhomologation effect.( ) إن بلورة التقنين العملي في شكل تقنين صريح explicit code يتيح لمتحدثين مختلفين أن يربطوا المعنى نفسه بالصوت المدرك نفسه والصوت نفسه بالمعنى المتصور نفسه. بالمثل، يجعل التصريح الجلي بالمبادئ من الممكن التحقق الواضح من الإجماع الذي يتعلق بذات المبادئ التي يقوم عليها الإجماع أو الاختلاف. ورغم أنه لايمكن مطابقة هذه العملية بالبداهة، لأن القانون يحتوي على مناطق معتمة تمثل أس التفسيرات القانونية، يتيح التماثل إمكانية إدراك شكلاً ما من العقلنة وذلك وفق مصطلحات فيبر، مثل القابلية للحساب، والقابلية للتنبؤ. وبعكس لاعبين، يفتقران للاتفاق حول قواعد لعبتهما، فتراهما مدفوعين إلى اتهام أحدهما الآخر بالغش في كل مرة يتباين فيها فهمهما للعبة، فإن الممثلين المنخرطين في مشروع محكوم بقوعد نوعية يعرفان أنهما قد يعتمدان على قاعدة متماسكة لا يمكن تفاديها. إنهما من ثم قد يحسبان ويتنبئان بكل من نتائج التقيد بالقاعدة والآثار المترتبة على انتهاكها. ولكن قوى التماثل متاحة تماماً لهؤلاء الذين لهم وحدهم وضع متكافئ في العالم المنظم للنزعة الشكلية القانونية. والصراعات المعقلنة بدرجة عالية التي يكرسها التماثل محجوزة لهؤلاء الذين يملكون درجة رفيعة من القدرة القانونية التي ترتبط بالقدرة النوعية للمحترفين في الصراع القانوني، وقد جربت في استعمال الأشكال والصياغات كأسلحة. أما بالنسبة للآخرين فهم مدفوعون للخضوع إلى "قوة الشكل" أي، العنف الرمزي الذي قام به هؤلاء الذين يستطيعون بفضل معرفتهم بكيفية إضفاء الشكلية والسلوك القانوني الصائب، أن يضعوا القانون إلى جانبهم حينما يحتاجون فإن هؤلاء هم الذين يستطيعون أن يضعوا أكثر تمارين الدقة الشكلية (sumum jus) مهارة في خدمة أقل الغايات براءة (summa injuria).
-1-
آثار التماثل
لكي نُقوم السلطة الرمزية للقانون بشكل تام، فإنه من الضروري أن نقدر آثار تكيف الطلب القانوني مع العرض القانوني. هذا التكيف هو بشكل أقل نتاج التعاملات الواعية أكثر منه نتاج الآليات البنيوية مثل التماثل بين فئات مختلفة من منتجي وباعة الخدمات القانونية وفئات مختلفة من العملاء. يميل هؤلاء الذين يشغلون مواقع أدنى في المجال (كما هو الحال على سبيل المثال في حقل قانون الرفاه الاجتماعي) إلى العمل مع عملاء مؤلفين من أدنياء اجتماعياً مما يزيد من دنو هذه المواقع. وهكذا فإن جهودهم التقويضية لها فرصة أقل في قلب علاقات القوة داخل المجال، إذ ما يفعلون هو الإسهام في تكييف المتن القانوني، ومن ثم، في تأييد بنية المجال ذاته.
إذا اعتبرنا الدور المحدد الذي يلعبه في إعادة الإنتاج الاجتماعي، فإن المجال القانوني يتمتع بدرجة أقل من الاستقلال عنه في المجالات الأخرى، مثل المجال الفني أو الأدبي أو حتى العلمي، التي تسهم أيضاً في صيانة النظام الرمزي، ومن ثم تسهم في مجال النظام الاجتماعي نفسه. وتنعكس التغيرات الخارجية بشكل أكثر مباشرة في المجال القانوني، وتحسم النزاعات الداخلية داخل المجال بشكل أكثر مباشرة بواسطة القوى الخارجية. وهكذا، تتباين المراتبية في تقسيم العمل القانوني، التي تظهر في مراتبية الاختصاصات المهنية، على مدى الزمن، وإن يكن ذلك لمدى محدود (كما تشهد على ذلك المكانة التي لا تتغير للقانون المدني). ويعتمد هذا التباين خاصة على تباينات في علاقات القوى داخل المجال الاجتماعي. كما لو كانت مواقع مختلف الإخصائيين داخل تنظيم القوة ضمن المجال القانوني محددة بواسطة المكان الذي تشغله في المجال السياسي المجموعة التي ترتبط مصالحها بشكل أشد وثوقاً بالمجال القانوني المناظر. وعلى سبيل المثال، بقدر ما تتزايد قوى المجموعات المسودة في المجال الاجتماعي وتنمو قوة ممثليهما (نقابات أو أحزاب) في المجال السياسي، يميل التمايز في المجال القانوني إلى التزايد. لقد تجلى هذا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بتطور قانون تجاري وقانون عمل، وبصفة أشد عمومية، تطور قانون الرفاه الاجتماعي.
تدين الصراعات داخل المجال القانوني – على سبيل المثال – بين أولوية القانون الخاص والقانون العام، بالتباسها لحقيقة أنه باسم الملكية الخاصة وحرية التعاقد، يدافع "أنصار التخصيص" عن استقلال القانون والمحامين ضد التعديات السياسية أو تعديات مجموعات الضغط الاقتصادية أو الاجتماعية، وبصفة خاصة ضد نمو القانون الإداري، وضد أي إصلاح في القانون الجزائي، أو الاجتماعي، أو التجاري، أو العمالي. حددت هذه الصراعات بشكل جيد الرهانات داخل المجال القانوني أو الأكاديمي، مثل السيطرة على منهج الدراسة curricula، وخلق تقسيم جديد للموضوعات في الدوريات العلمية، أو ابتداع نظم معرفية فرعية أكاديمية جديدة وهيئة أكاديمية تدرسها. وترتبط مثل هذه الصراعات بمسألة السيطرة على الهيئة الأكاديمية وعلى إعادة إنتاجها، بتوسيع ذلك فهذا يعني كل مظاهر الممارسة القانونية. ولكن مثل هذه الصراعات محددة تضافرياً وملتبسة معاً حتى إن المشايعين الخاصين للاستقلال، وللقانون بوصفه كلية متعالية ومجردة يجدون أنفسهم المدافعين عن عقيدة قويمة orthodoxy، فعبادة النص، وأولوية المذهب، والتفسيرات، والنظرية، والماضي، تقترن برفض الاعتراف بأدنى قدرة خلاقة في الفقه، وهي تقترن من ثم بإنكار فعلي للواقع الاقتصادي والاجتماعي وجحد أي إدراك نظري لهذا الواقع.

-2-
يمكن لنا من ثم أن نفهم أنه يمكن طبقاً لمنطق ملاحظ في كل المجالات الاجتماعية، يتيسر لأعضاء المجموعات المسودة أن يجدوا أسس نظرية نقدية لتصور القانون بوصفه "علماً" يمتلك منهجيته الخاصة متجذراً في الواقع التاريخي، خارج المجال القانوني، أي في المجالين السياسي أو العلمي فقط. وأحد مصادر مثل هذه النظرة هو تحليل الفقه نفسه. في تقسيم يتجلى شمولياً في الجدالات اللاهوتية، والفلسفية أو الأدبية فيما يتعلق بنفسير النصوص المقدسة، يضع مناصرو التغيير أنفسهم في جانب العلم، وتاريخية المعنى، وفي الانتباه للفقه، أي، إلى مشاكل جديدة ولأشكال القانون الجديدة التي أنتجتها هذه المشاكل (مثل القانون التجاري، وقانون العمل والقانون الجزائي). ويتصور حراس النظام العام السوسيولوجيا، إذ يميلون إلى أن يروها مرتبطة بالاشتراكية ذاتها، بوصفها الموفق المؤذي بين العلم والواقع الاجتماعي، والتي تغدو ضدها التفسيرات المحضة لنظرية مجردة أفضل حماية.
في هذه الحالة، وبشكل مفارق، يتضمن استقلال autonomization المجال القانوني، ليس استبعاداً متزايداً لهيئة مكرسة حصرياً لقراءة النصوص المقدسة، وإنما بالأحرى كثافة متنامية في تواجه النصوص والإجراءات مع الوقائع الاجتماعية التي يفترض أن تعبر عنها أو تنظمها. ويساعد التمايز المتزايد والمنافسة ضمن المجال القانوني، مقترنة بزيادة نفوذ الجماعات المسودة داخله، الذي يماثل القوة المتزايدة لممثليهم في المجال الاجتماعي نفسه، على تبني هذه العودة إلى الوقائع الاجتماعية. يبدو أنه ليس مصادفة أن المواقف التي تتعلق بالتفسيرات وبالفقه، وبحرمة المذهب من ناحية وتكيفها الضروري مع الوقائع العينية من ناحية أخرى يبدو أنها تتطابق بالأحرى بشكل وثيق مع المواقع التي يشغلها حائزوها في المجال. فنجد على جانب من المناظرة اليوم أتباع القانون الخاص، وخصوصاً القانون المدني، الذي بعثه حديثاً التقليد الليبرالي الجديد، الذي يؤسس نفسه على الاقتصاد. ونجد على جانب آخر، أنظمة معرفية مثل القانون العام أو قانون العمل، التي تشكلت في تعارض مع القانون المدني. تأسست هذه الأنظمة المعرفية استناداً على توسع البيروقراطية وتقوية حركات الحقوق السياسية، أو قانون الرفاه الاجتماعي (droit social)، الذي يعرفه المدافعون عنه بوصفه "العلم" الذي يتيح تكيف القانون مع التطور الاجتماعي بمعونة السوسيولوجيا.
-3-
حقيقة أن الإنتاج القانوني يجري شأنه في ذلك شأن الأشكال الأخرى للإنتاج الثقافي ضمن "مجال" هي أساس لأثر ايديولوجي ينجم عنه خطأ معرفي يراوغ الأشكال الاعتيادية للتحليل. تصور هذه التحليلات "الأيديولوجيات" بوصفها قابلة للإرجاع مباشرة لوظائف جماعية، وحتى للنوايا الفردية. ولكن الآثار التي تخلق داخل المجالات الاجتماعية ليست بالجملة الحسابية المجردة التي تجري داخل الفضاء الاجتماعي. ويهيمن هذا الفضاء على الميول العامة للمنافسة. وهذه الميول ترتبط بدورها بالافتراضات المكتوبة في عين بنية اللعبة التي تشكل قانونها الأساسي ومثالها – في الحالة التي تناولناها هنا، العلاقة بين المجال القانوني ومجال السلطة. مثل وظيفة إعادة إنتاج المجال القانوني بتقسيماته الداخلية، ومراتبيته، ومبدأ الرؤية والتقسيم الذي هو في أساسه، فإن وظيفة حقظ النظام الرمزي التي يساعد المجال القانوني على تطبيقها هي نتاج أفعال لا تحصى والتي لا تقصد إلى تحقيق هذه الوظيفة، والتي يمكن أن تلهمها حتى أهداف متناقضة. وهكذا على سبيل المثال، فإن الجهود التقويضية لهؤلاء الذين في الطليعة القانونية سوف تسهم في النهاية في تكييف القانون والمجال القانوني مع أوضاع جديدة للعلاقات الاجتماعية، ومن ثم تؤمن شرعية علاقات النظام القائم هذه. كما تبين من خلال مثل هذه الحالات، التي تقلب فيها ببساطة النتائج المترتبة ما قُصد بشكل واعٍ، فإن مرجع ذلك هو بنية اللعب، وليس الأثر البسيط لـ الإضافة الآلية، التي تنتج تعالياً للأثر الجماعي والموضوعي للأفعال المتراكمة*

(1) هو القول الروماني Damihi factum, dabo tibi jus.
(2) انظر على سبيل المثال:
J. Bonnecasse, La pensee juridique Francaise De 1804.
Al Heure presente, Les variations et les trait essentials (1933).
(3) تقوم منهجية كلسن على قصر البحث على تعيين القواعد القانونية وعلى استبعاد الاعتبارات التاريخية، والسيكولوجية أو الاجتماعية، وكذلك على استبعاد أي إحالة إلى الوظائف الاجتماعية التي قد يحددها اشتغال هذه القواعد، وهذه المنهجية تشبه منهجية سوسير تماماً، التي أسست نظرية لغوية محضة استناداً إلى التمييز بين اللسانيات الداخلية والخارجية، أي على استبعاد أي إحالة للشروط التاريخية، والجغرافية والاجتماعية التي تحكم اشتغال اللغة أو تحويلاتها.
(4) يمكن أن نجد مراجعة عامة عن وضع البحث الماركسي في سوسيولوجيا القانون، وثبتاً بالمراجع ممتازاً حول الموضوع عند شبيتزر، منظورات ماركسية في سوسيولوجيا القانون، العام التاسع، المجلة الاجتماعية، 103 (1983).
( ) N Luhmann, Soziale systeme: Gründriss Einer All Gemeinen theorie (1984), Luhmann, Die Einheit des Rectssystems, 14 rectstheorie 129. (1983).
(6) ب. بونت، ب. سلزنيك، تحول القانون والمجتمع: نحو قانون ذي استجابة (1978).
(7) انظر بلمروسن، العملية القانونية وقانون العمل، في القانون والسوسيولوجيا، 185-225، طبعة و. م. ايفانز 1962.
(8) انظر: A. J Arnaud, Critique de la raison juridique 28-29 (1981) Scholz,
La raison juridique a l oeuvre: Les Krausistes espagnols, in Historishe soziologie der rechtswissenshaft 37-77 (E Volkmar Heyem ed. 1986).
(9) يمكن إدراك التمكن من هذه القواعد، بوصفه علامة من بين علامات أخرى، في فن حفظ النظام ومراعاة الأسلوب التي جرى الاعتراف بها بوصفها صحيحة عند الاستشهاد بالثقات، انظر شولز، ملحوظة رقم (8) أعلاه.
(10) وفقاً لاندرو فراسر، لم تكن الأخلاق المهنية لهئية المهنيين القانونيين قد تأسست على تقنين واضح للقواعد وإنما على "حس تقليدي بالشرف" وهو ما يعني القول، على نظام يتبدى جوهرياً في حيازة المهارات المرتبطة بممارسة المهنة كان بديهياً. انظر فراسر، فقد الذاكرة القانونية: الحداثة ضد التقليد الجمهوري في الفكر القانوني الأمريكي 60 تبلوس 15 (1984).
(11) أثار بعض الكتاب مثل كلسن، هذا السؤال، وإن كان على المستوى النظري، ومن ثم نقلوا إلى النطاق القانوني مشكلة تقليدية في الفلسفة.
(12) حالة "الأنظمة المعرفية" الأدنى مختلفة. بالنسبة للفلسفة، والرياضيات، والتاريخ إلى آخره، تثار مشكلة أساس المعرفة العلمية في واقع الوجود الاجتماعي ذاته، حالما يجد "النظام المعرفي الأدنى" نفسه مؤسساً بوصفه كذلك، دون أي دعم عدا "حكم الثقاة". هؤلاء الذين يرفضون قبول حقيقة أن مؤسسة "الثقاة" وهي البنية التاريخية للحقل العلمي، تشكل الأساس الممكن الوحيد للعقل العلمي (كما يفعل (فيتجنشتين وباشلار) يحكمون على أنفسهم إما باستراتيجيات مؤسسة ذاتية أو بتحديات عدمية تجاه العلم يلهمها حنين ميتافيزيقي متميز ملح لـ"أساس" وهو المبدأ غير القابل للتفكيك لما يدعى التفكيك.
(13) يتشارك الفلاسفة الذين يندرجون ضمن تقليد القانون الطبيعي في هذا الملمح المعترف به طويلاً لكي يدعوا أن النصوص القانونية ليست معيارية، وإنما وصفية، وأن المشرعين يعينون ببساطة ما هو كائن، لا ما ينبغي أن يكون، حتى أنهم ينطقون بما هو عادل أو ما هو موزع على نحو عادل وفقاً لما هو مكتوب كخاصية موضوعية داخل الأشياء ذاتها: "يفضل المشرع أن يصف المؤسسات القانونية بدلاً من تأسيس القواعد مباشرة".
G. Kalinwski, Introduction A La Logique Jurdique 33 (1964).
(14) انظر: J. L. Souriauxs P& Lerat, Le Language du droit (1975
(15) R. David, Les grands courants du droit contemporain 124 -32 (5ed 1975) Citing 5 travaux de l association Henri Capitant 74-76 (1949).
(16) نجد سلسلة مشابهة تربط النظريين والنشطاء في المنظمات السياسية، أو على الأقل في تلك التي تدعي تقليدياً، أن هناك أساساً لعملها في نظرية اقتصادية أو سياسية.
(17) يتوافر لدينا مثل جيد عن عملية التقنين التي تخرج القانوني من القضائي في نشر أحكام محكمة النقض [التمييز] الفرنسية cour de cassation (المحكمة العليا) واختيار، وتطبيع، وتوزيع، تنتج استناداً إلى مجموعة من القرارات المختارة التي أصدرها القضاة الأعلون من أجل "مصلحتهم القانونية" متناً من القواعد المطبعة والمعقلنة. انظر:
Serverin, une production communautaire de jurispruclence: L edition Juridique des arre t, 23 Annales de vaucresson 73 (1985).
(18) يسعى موتلسكي على سبيل المثال لأن يبين أن "الاجتهاد الفقهي" يعرف بواسطة معالجة نوعية للمعطيات استنباطية بواسطة "القياس المنطقي القانوني" الذي يتيح تصنيف قضايا معينة تحت قاعدة عامة.
H. Montulsky, principes D une Realisation Methodique du droit prive, la theorie des elements Generateurs de droits subjectifs 47-48.
(19) كوهن: الهراء المتعالي والمقاربة الوظيفية، 35، مجلة كولومبيا للقانون، 809ن 809-819 (1935).
(20) تتباين الحرية الممنوحة للتفسير إلى حد بعيد بين محكمة النقض [التمييز]، انظر أعلاه ملحوظة رقم 16، التي لها سلطة نقض حكم القانون على سبيل المثال، باقتراح تفسير ضيق له، والمحاكم الأدنى، التي تميل بها الممارسات الأكاديمية لـ"القضاة" والخبرة المهنية إلى أن تتخلى عن حرية التفسير التى هي نظرياً من حقها وأن تقتصر على تطبيق وخصوصاً استنباطية بواسطة "القياس المنطقي القانوني" الذي يتيح تصنيف قضايا معينة تحت قاعدة عامة.
H. Montulsky, principes D une Realisation Methodique du droit prive, la theorie des elements Generateurs de droits subjectifs 47-48.
(19) كوهن: الهراء المتعالي والمقاربة الوظيفية، 35، مجلة كولومبيا للقانون، 809ن 809-819 (1935).
(20) تتباين الحرية الممنوحة للتفسير إلى حد بعيد بين محكمة النقض [التمييز]، انظر أعلاه ملحوظة رقم 16، التي لها سلطة نقض حكم القانون على سبيل المثال، باقتراح تفسير ضيق له، والمحاكم الأدنى، التي تميل بها الممارسات الأكاديمية لـ"القضاة" والخبرة المهنية إلى أن تتخلى عن حرية التفسير التى هي نظرياً من حقها وأن تقتصر على تطبيق التفسيرات القائمة (التي تتضمن بياناً عن أساس القرار في القانون، المذهب، التعليق القانوني، وقرارات المحكمة الاستئنافية). يضرب ريمي لونوار مثلاً عن محكمة في مقاطعة عمالية في باريس، تكرس الجلسة فيها بصفة خاصة، كل يوم جمعة صباحاً، للقضايا المتماثلة التي تتعلق بفسخ عقود بيع وإيجارات، أقامتها شركة محلية متخصصة في البيع وتأجير الأدوات المنزلية، التليفزيونات وماشابه. تصدر الأحكام، المحددة مسبقاً تماماً، بسرعة كبيرة، والمحامون، الذين نادراً ما يكونون هناك، لا يتحدثون. إذا حضر المحامي لسبب ما –الأمر الذي سوف يبرهن على أنه حتى على هذا المستوى، فإن سلطة المحكمة في التفسير قائمة- فإن مثل هذا الحضور ينظر إليه بوصفه علامة تقدير للقاضي والمؤسسة، وهي بوصفها كذلك، جديرة بمثل هذا الاحترام مادام القانون لا يطبق بصرامة هناك. إنه أيضاً علامة على الأهمية المنسوبة للحكم وعلامة على الفرص التي يمكن أن نستأنف على أساسها هذا الحكم.
(21) اقترح ماريو سيريكولي قائمة من الإجراءات التي أتاحت للقانونيين الإيطاليين القروسطيين (المحامون، القضاة، المستشارون السياسيون، إلخ) في الكومونات الصغيرة لهذا الزمان أن "يتلاعبوا" بالمتن القانوني. على سبيل المثال، يمكن للحكم declaratio أن يؤسس على الإطار القانوني للقضية، جوهر القاعدة القانونية، الاستعمال والمعنى العام للمصطلحات، أصولها الاشتقاقية –ويمكن لكل من هذه العناصر أن تقسم ثانية. يمكن للحكم declaratio ايضاً أن يلعب على التناقضات بين الإطار القانوني للقضية والنص نفسه، مستبعداً واحداً ليقدم الآخر، أو بالعكس. انظر:
M. Sbriccoli, linterrazzione dello statuto, contributo allo studio dessl funsione del giurist nell eta communale (1969), Sbriccoli, Politique et interpretation juridique dans les villes italiennes du moyen – age, 17 archives de philosophie du droit, 99-113 (1972)
(22) انظر: P. Bourdieu, Ce que parler veut --dir--e (1982).
حيث تناقش آثار الشكلية formalization في ص ص 20-21، والأثر المؤسسي في ص ص 261-84.
(23) Vessert, Hooft La philosophie du langage ordinaire et le droit 261-89 (1972)
(24) مثال ذلك: حقيقة أن الكلمة الفرنسية cuase (القضية، الدعوى) لها في الاستعمال العادي معنى مختلف تماماً عن معناها في القانون droit 17 archives de philosophie du droit 261-89 (1972)
(24) مثال ذلك: حقيقة أن الكلمة الفرنسية cuase (القضية، الدعوى) لها في الاستعمال العادي معنى مختلف تماماً عن معناها في القانون.
(25) يتضمن اللجوء إلى القانون في مختلف الحالات الاعتراف بتحديد أشكال المظالم أو الصراعات التي تعطي الأولوية للنزاعات الفردية (والقانونية) على الأشكال الأخرى من الصراع.
(26) وهكذا فقد ولد القانون في المحاكمة، وهو حوار منظم ومنهجه جدلي (M. Villey, philosophie du droit 53 1979)
(27) هذه هي تمثلات الممارسة القضائية (التي تتصور بوصفها عملية صنع قرار عقلاني أو التطبيق الاستدلالي لقاعدة قانونية) والمذهب القانوني نفسه (الذي ينحو إلى تصور العالم الاجتماعي بوصفه جملة بسيطة من الأفعال لذوات قانونية حرة، متساوية، وعقلانية) التي عرضها قبلاً أساتذة القانون، الذين حفزهم كانط أو جادامر، للبحث في نظرية الفعل العقلاني عن وسائل تحديث البراهين التقليدية للقانون. هنا نرى مرة أخرى إعادة التجديد الأبدية لتقنيات التأييد نفسها.
(28) يشير التقليد الفلسفي (وخاصة أرسطو في الطوبيقا) بهذه الدرجة أو تلك من الوضوح إلى تشكل المجال الاجتماعي، وهو أساس تكوين التبادل اللفظي بوصفه مناقشة تساعد على الكشف، حيث يتمثل توجهها الواضح بخلاف المناظرة الجدالية، في اكتشاف المسائل الصالحة لجمهور عام.
(29) وفقاً لأوستن، تنبثق من هذه المجموعة من المتطلبات التكوينية للمنظور النوعي للعالم القانوني، حقيقة أن أساتذة القانون لا يعطون التعبيرات العادية معناها العادي وأن لهم فضلاً عن اختراع المصطلحات الفنية أو المعاني الفنية للمصطلحات العادية، علاقة خاصة باللغة تدفعهم إلى توسيعات غير متوقعة أو إلى تقييد المعنى. انظر: ج. أوستن، الأوراق الفلسفية 136 (1961).
* تعني قاعدة Stare decisis بصفة عامة أنه إذا ما تم البت في مسألة بواسطة قرار قضائي، فإنه يشكل سابقة مرشدة للمحاكم في القضايا المماثلة. [المترجم
(30) انظر كابريس، الاستدلال القانوني، في كتاب سياسات القانون 11-17 (طبعة د. كابريس 1982).
(31) غالى بعض الواقعيين القانونيين، ممن ينكرون أن للقواعد أي سلطة نوعية إلى حد مساواة القانون بالانتظام الإحصائي البسيط الذي يضمن قابلية التنبؤ الوظيفي لدى المحاكم العدلية.
(32) تعتمد واحدة من أشد قوى المحامين مغزى على القيام بالتوسيع أو المغالاة في النزاعات. تكمن هذه الوظيفة، وهي سياسية بشكل جوهري في تحويل التعريفات المقبولة بتحويل الكلمات أو الصفات التي تعرف الناس أو الموضوعات، وفي غالب الأحيان باستخدام مقولات اللغة القانونية بطريقة تدخل فيه الشخص المعني، أو الفعل، أو العلاقة في طبقة أكبر. حول عمل التوسيع هذا، انظر: ماثر وأونجفسون، اللغة، الجمهور، وتحويل النزاعات، 15، مجلة القانون والمجتمع، 776 (1980-81).
(33) حول كل هذه الأمور، انظر: كوتاس وبترود، السيكولوجيا الاجتماعية ونشوء المنازعات، 15، مجلة القانون والمجتمع 654 (1980-81). فلستيز أبل و ستارث، نشوء وتحول المنازعات: التسمية، اللوم، الإدعاء، 15 مجلة القانون والمجتمع 631 (1980-81) ماثر، أو ملحوظة 31 أعلاه.
(34) حول آثار النمو في عدد المحامين في الولايات المتحدة، انظر: أبل، نحو اقتصاد سياسي للمحامين، 5 مجلة ويسكونسن للقانون. 1117 (1981).
(35) انظر:
Bonafe – Schmitt, pour une sociologie du juge prud homal 23 annales de vaucresson 27 (1985)
انظر أيضاً:
Cam, Juges rouge et droit du travail, 19 act de la recherché en science, socials 2 p. cam, les prud hommes, Juges ou arbitrs (1981).
(36) انظر:
Dezalay, De la mediation au droit pur: Praiques et representation savants dans de droit, 21 Annales du vaucresson 118 (1984).
رغم أن انتشار المعرفة بقانون العمل بين مناضلي النقابات قد أثمر إلماماً عريضاً بالقواعد القانونية والإجراءات عند اعداد كبيرة من غير المهنيين، لم يكن لهذا الظرف، وهو ما يشكل مفارقة، أن يسبب أثر إعادة الاستيلاء على القانون من قبل الناس العاديين المعنيين مما يسبب ضرراً كبيراً للاحتكار المهني. لقد تحركت الحدود بين المهنيين والناس العاديين. ولقد دفع المهنيون بمنطق المنافسة داخل الحقل لزيادة التعقيد الفني لممارستهم لكي يحتفظوا بالسيطرة على احتكار التفسير الشرعي، وليتفادوا تدني القيمة الذي يرتبط باختصاص يشغل وضعاً أدنى في المجال القانوني، انظر:
Dhoquois, la vulgarization de droit du Travail, Reappropriation par les interesses ou developpement d un noveau marche pour les professionnels ? 23 Anneles de vaucresson 15 (1985).
هناك تجليات أخرى عديدة لهذا التوتر بين الجهد لتوسيع السوق بغزو قطاع كان متروكاً قبلاً للقرار العادي (جهد كثيراً ما يكون ذا فعالية كما في حالة مجالس التحكيم العمالية، بالقدر الذي تكون فيه بريئة أو غير متلاعبة عمداً) وتعزيز الاستقلال المهني، أي ما يعني القول بإقامة حاجز بين المهنيين والناس العاديين. قد يكون المثل على ذلك القرار الصادر حول التصنيف الوظيفي وقواعد منازعات العمل داخل الشركات الخاصة.
(37) هذا مثل نموذجي عن واحد من العمليات التي حتى لو تجنبنا تصورها في لغة الاختيار الساذجة، تميل إلى أن توحي بفائدة مايمكن أن يسمى "الوظيفة السلبية". تحثنا هذه العمليات على التفكير في أن أي شكل من المعارضة للمصالح السائدة ينجز وظيفة مفيدة مسهماً في النظام الجوهري للمجال الاجتماعي. وتميل هذه الهرطقة إلى تعزيز عين النظام الذي تكافحه بينما ترحب به وتستوعبه في الآن نفسه حتى ينبثق على نحو أقوى من المواجهة.
(38) Dezalay, Des affaires dixciplinaires au droit dixciplinaire: la jurdictionalisation des affaires dixciplinaires comme enju social et proffesionnel 23 Anneles de vaucresson 15 (1985).
(39) الناموس Nomos، هي الكلمة الإغريقية التي تقابل كلمة "قانون" أو "عرف" وهي مشتقة من nemo، التي تعني أن يفصل، يقسم، يوزع، حاز الملك (rex) في الأزمنة القديمة سلطة وضع الحدود (regeres fines) "أن يضع القواعد، أن يحدد، بالمعنى الدقيق، ما هو حق (droit)، انظر:
(Benveniste, Le vocabulaire des institution indo-europennes 15 (1969).40) هذه الأحكام هي أعمال تصنيف نموذجية، تعني كلمة katégoresthai في الإغريقية الاتهام علنياً.(41) العلاقة بين التطبع والقاعدة أو المذهب هي الشيء نفسه في حالة الدين، حيث إنه من الخطأ تماماً بالقدر نفسه أن نعزو الممارسات إلى أثر الطقس الديني أو العقيدة (تأسيساً على تقدير مغالى فيه لتأثير العمل الديني وهو ما يساوي النزعة "القضائية" أو أن نهمل هذا الأثر بعزو مثل هذه الممارسات كلياً إلى الميول الشخصية، مهملين من ثم التأثير النوعي لهيئة الإكليريكيين.
(42) يقود الميل إلى فهم نظم العلاقات المعقدة بطريقة أحادية الجانب (مشابهة لميل اللسانيين لإيجاد مبدأ التغير اللساني في قطاع أو آخر بمفرده في الفضاء الاجتماعي) – يقود البعض باسم السوسيولوجيا، إلى أن يقلبوا ببساطة النموذج المثالي القديم للإبداع القانوني المحض. بالاعتماد على سلسلة من الصراعات ضمن الهيئة الأستاذية [الأكاديمية]، طوبق هذا النموذج في آن معاً أو بشكل متعاقب مع أعمال المشرعين أو أساتذة القانون، أو في حالة أنصار القانون المدني أو العام، مع قرارات المحاكم. "مركز الجاذبية فى تطور القانون في حقبتنا، كما كان في أي وقت، لا يمكن أن يوجد لا في التشريع ولا في المذاهب الفقهية، ولا في القضاء، وإنما في المجتمع نفسه".
J. Carbonnier, Flesible droit, texts pour une sociologie du droit sans rigueur 21 (5th ed. 1983).
(43) اعتبر ماكس فيبر أن الخصائص المنطقية الشكلية للقانون العقلاني هي الأساس الحقيقي لـ"فعاليته" (تأسيساً بصفة خاصة على قدرتها على التعميم، منظوراً إليها بوصفها مصدراً للقابلية للتطبيق العام). لقد ربط تطور هيئة من الاختصاصيين القانونيين، والثقافة القانونية المكيفة لجعل القانون خطاباً مجرداً متماسكاً منطقياً، مع تطور البيروقراطيات، ومع العلاقات الاجتماعية اللاشخصية التي ترعاها.
(44) نمت هذه التشابهات على نحو أقوى، في فرنسا، مع إنشاء المدرسة القومية للإدارة، التي تضمن أن يتلقى موظفي الحكومة من الفئة العليا وقسماً جوهرياً من مدراء الشركات الخاصة والعامة حداً أدنى من التدريب القانوني.
(45) انظر: سيريكولي، ملحوظة أعلاه (22).
(46) Jean Pierre Mounier, La definition Judiciare de la politique.
(أطروحة دكتوراه، جامعة باريس الأولى عام 1975),. يمكن أن نرى علامة جيدة على قيم القضاء كهيئة في فرنسا في حقيقة أن القضاة، بالرغم من ممانعتهم التدخل في الأمور السياسية، كانوا من بين كل القانونيين المهنيين، خاصة بالمقارنة مع المحامين، المجموعة التي غالباً ما وقعت الالتماسات ضد لبرلة القانون المتعلق بالإجهاض.
(47) أظهرت نتائج أحدث الانتخابات المهنية في فرنسا (التي عقدت عبر اقتراع بالبريد بين 12 إلى 21 مايو، 1986) استقطاباً سياسياً مشهوداً ضمن هيئة القضاة. حتى تشكيل نقابة القضاة في 1986، كان كل القضاة الموحدين أعضاء في تنظيم واحد هو الاتحاد الفدرالي للقضاة، الذي أصبح فيما بعد الاتحاد النقابي للقضاة. وتدهورت قوة الاتحاد النقابي المعتدل في أحدث الانتخابات إلى حد بعيد، بينما كسبت نقابة القضاة، وهي يسارية الاتجاه، في الوقت الذي جعل الاتحاد اليميني الجديد للقضاة وجوده محسوساً، وذلك بأن كسب أكثر من 10% من الأصوات.
(48) لقد بين آلان بانكو وايف ديزلاي أنه حتى أكثر أساتذة القانون هرطقة ومعارضة في فرنسا، أي هؤلاء الذين يلتزمون بالمنهجيات الاجتماعية أو الماركسية لتطوير حقوق الاختصاصيين العاملين في أشد مجالات القانون افتقاراً للامتياز (مثل قانون الرفاه الاجتماعي (droit social)، يحتفظون بالرغم من ذلك بالتزامهم تجاه علم الفقه، انظر:
Bancaud & Dezalay, L: economie du droit: Imperialisme des economists et resurgencec du un juridisme, 19)
ورقة مقدمة إلى مؤتمر حول النماذج الاقتصادية للعلوم، ديسمبر 1980).
(49) انظر: Ellul, Le probleme de lémergence du droit, Annales des Brodeaux 6, 15 (1975).
(50) Ellul, Deux probleme prealables, 2 Annales de Brodeaux, 61-70 (1978).
(51) وهكذا ففي فرنسا فإن العلاقة بين التعيين في كلية القانون والتوجه السياسي المحافظ، الذي يمكن أن يبين تجريبياً، ليس أمراً عرضياً، انظر:
Pl Bourdieu, homo academicus 93-96 (1984)
(52) إلل: ملحوظة أعلاه، 49.
(53) من بين الآثار النوعية الرمزية للقانون يتعين أن نولي انتباهاً خاصاً لأثر ما يمكن أن يسمى "إضفاء الطابع الرسمي"، الإدراك العام لحالة السواء الذي يجعل من الممكن الحديث عن، والتفكير في، والاعتراف بالسلوك الذي كان محرماً سابقاً. هذا هو الحال على سبيل المثال مع القوانين التي تتعلق بالجنسية المثلية. بالمثل، نحن في حاجة إلى أن نقدر أثر الإكراه الرمزي الذي يمكن أن ينشأ من قاعدة معلنة بوضوح ومن الإمكانات التي تعينها من خلال توسيع فضاء السلوك الممكن (أو حتى بشكل أشد بساطة في "إعطاء الناس أفكاراً. وهكذا، ففي مقاومتهم الطويلة للقانون المدني الفرنسي، حاز الفلاحون المخلصون لتقليد حق البكورة معرفة بالإجراءات القانونية التي باتت متاحة لهم بواسطة الخيال القانوني، رغم أن هذه قد رفضت من قبل المحاكم بعنف، وعدد من هذه المعايير (غالباً ما سجلت في الاتفاقيات الموثقة التي يعتمد عليها كثيراً مؤرخو القانون في إعادة تكون "العرف") لا علاقة له بالواقع – على سبيل المثال شروط رد الدوطة في حالة الطلاق في وقت كان فيه الطلاق مستحيلاً. مع ذلك "كان لجانب العرض" القانوني أثر حقيقي ذو مغزى على التمثيل. في النطاق الذي نوقش تواً وكذلك في مكان آخر (على سبيل المثال في قانون العمل) التمثلات التي تؤلف ما يمكن أن نسميه "القانون كما يعاش في الواقع" تدين بقدر عظيم للأثر المشوه بهذه الدرجة أو تلك لتقنين القانون. نطاق الإمكانات الذي يأتي به الأخير إلى الوجود، من خلال عين العمل الذي ينبغي أن يبذل لتحييدها، ويميل بلاشك إلى إعداد عقول المواطنين للتغيير المفاجئ ظاهرياً الذي سوف يجري حين تأتي إلى الوجود الشروط التي تتيح تحقيق هذه الإمكانات النظرية. ويمكن أن نفترض أن هذا أثر عام للخيال القانوني الذي يتوقع كل حالة ممكنة لانتهاك القواعد بفضل نوع من التشاؤم المنهجي يسهم بالفعل في ظهور هذا الانتهاك إلى الوجود بالتناسب مع العالم الاجتماعي.
(54) Remi Lenoir, La securitie sociale et l evoluiton des formes de codification des structures familiaes.
(أطروحة دكتوراه، جامعة باريس، 1985).
(55) يتيح تحليلي "لكتب العادة وسجلات التشاور الجماعي لعدد من الجماعات في إقليم بيارن في فرنسا (أرودي، بيبسكا، دون جوان، لاكوماند، لا سيبه) إمكانية رؤية كيف أن القواعد "العامة" لعملية صنع القرار الجماعي –مثل تصويت الأغلبية- التي سادت خلال الثورة الفرنسية، حلت محل العادة القديمة التي تطلبت إجماع "أرباب الأسر". فقد اعتمد هذا التغير في الإجراءات على السلطة التي أضفيت على القواعد الجديدة بحكم موضعتها. وبهذه الصفة فقد تكيفت تماماً لأجل تبديد القديم الظلالي "من البديهي"، كما يبدد النور الظلام. واحدة من السمات الأساسية للعادات، عند القبائل وكذلك في بيارن وفي أماكن أخرى، هو أن المبادئ الأشد أساسية لا ينطق بها أبداً، وأن على التحليل أن يتحسس هذه القوانين غير المكتوبة" عبر تعداد العقوبات التي ترتبط بانتهاكها العملي. ويبدو من الواضح أنه، بواسطة أثر allodoxia (تغاير أو عكس الراي) فإن قواعد مكتوبة، مقننة، صريحة، امتلكت مظهر الاتفاق العام، بفضل قابليتها للتطبيق، وتغلبت على المقاومة تدريجياً، لأنها بدت الصياغة الدقيقة، رغم أنها أكثر إيجازاً ومنهجية، للمبادئ التي نظمت السلوك في الممارسة. جرى هذا بالرغم من حقيقة أنه في الممارسة نفت المبادئ الجديدة هذه العادات المسبقة نفسها. إن مبدأ مثل الإجماع في عملية صنع القرار اتجه لاستبعاد الاعتراف المؤسسي بإمكانية أي تقسيم (خاصة إذا ما كان تقسيماً مستمراً) إلى معسكرين متعاديين، وعلى نحو أكثر عمقاً، إمكان تفويض القرارات لهيئة من الممثلين المختارين. أضف إلى ذلك، فإنه لمن الملفت للنظر أن مؤسسة "المجالس البلدية" ترافقت مع اختفاء إسهام الناس المعنيين أنفسهم في اتخاذ القرارات. وقد كان دور الممثلين أنفسهم محدوداً في الممارسة بالتصديق على مقترحات سلطات المقاطعة غير المنتخبة، خلال كامل القرن التاسع عشر. (56) من كلمة homologein، وهي تعني قول الشيء نفسه أو التحدث باللغة نفسها. * نُشر هذا المقال مترجماً إلى اللغة الإنجليزية تحت عنوان:
The force of law: Towards a Sociology of the Juridical Field, translated by Richard Terdiman, the hasting law journal, vol 38. July 1987.- العنوان الاصلى



#سعيد_العليمى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فى ضرورة تهيئة الشعب للثورة - تشرنيشفسكى - ترجمة فيتولد ليبو
- فى معنى المقاطعة الايجابية للانتخابات
- العجز والتشوش ف . ا . لينين ( ملاحظات )
- المفاهيم النظرية والسياسية وانعكاس امزجة الثورة المضادة فى ص ...
- التفسخ الايديولوجى والانقسام فى صفوف الاشتراكيين الديموقراطي ...
- من ارشيف حزب العمال الشيوعى المصرى - الكارثة الوطنية فى لحظت ...
- من ارشيف حزب العمال الشيوعى المصرى - ليس كل مايلمع ذهبا ! - ...
- الاخوان المسلمون ومسألة التصنيف الطبقى ( من ارشيف اعوام الثو ...
- رسائل بلاعنوان - الرسالة الاولى - تشيرنيشيفسكى ( كاملة ) ترج ...
- هيدجر والثورة الاجتماعية والفلسفية بقلم: إبراهيم فتحى
- حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة - 9 - يوسي شوار ...
- حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة -8- يوسي شوارتز ...
- حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة -7- يوسي شوارتز ...
- حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة -6 يوسي شوارتز ...
- حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة -5- يوسي شوارتز ...
- حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة -4- يوسي شوارتز ...
- حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة -3- يوسي شوارتز ...
- حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة -2 - يوسي شوارت ...
- حرب اسرائيل عام 1948 وانحلال الاممية الرابعة - 1 - يوسي شوا ...
- استفزاز بريطانى جديد فى فلسطين - تونى كليف ( 1946 )


المزيد.....




- مسؤول أميركي: خطر المجاعة -شديد جدا- في غزة خصوصا في الشمال ...
- واشنطن تريد -رؤية تقدم ملموس- في -الأونروا- قبل استئناف تموي ...
- مبعوث أمريكي: خطر المجاعة شديد جدا في غزة خصوصا في الشمال
- بوريل يرحب بتقرير خبراء الأمم المتحدة حول الاتهامات الإسرائي ...
- صحيفة: سلطات فنلندا تؤجل إعداد مشروع القانون حول ترحيل المها ...
- إعادة اعتقال أحد أكثر المجرمين المطلوبين في الإكوادور
- اعتقال نائب وزير الدفاع الروسي للاشتباه في تقاضيه رشوة
- مفوض الأونروا يتحدث للجزيرة عن تقرير لجنة التحقيق وأسباب است ...
- الأردن يحذر من تراجع الدعم الدولي للاجئين السوريين على أراضي ...
- إعدام مُعلمة وابنها الطبيب.. تفاصيل حكاية كتبت برصاص إسرائيل ...


المزيد.....

- التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من ... / هيثم الفقى
- محاضرات في الترجمة القانونية / محمد عبد الكريم يوسف
- قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة ... / سعيد زيوش
- قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية ... / محمد أوبالاك
- الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات ... / محمد أوبالاك
- أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف ... / نجم الدين فارس
- قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه / القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / اكرم زاده الكوردي
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / أكرم زاده الكوردي
- حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما ... / اكرم زاده الكوردي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - سعيد العليمى - حدود مفهوم استقلال القضاء فى المجتمع الرأسمالى - بيير بورديو