|
قصائد - الغرق - عدَمية مُلفتة للنظر
زكريا كردي
باحث في الفلسفة
(Zakaria Kurdi)
الحوار المتمدن-العدد: 5598 - 2017 / 8 / 1 - 00:23
المحور:
الادب والفن
في البداية أودُّ القول إن كل المقالات التي كتبتها عن شعراء وأدباء سابقا ، كان لي الشرف في مقابلتهم أو التحدث معهم مرة على الأقل ، أما وأن أكتب عن تجربة شعرية جديدة كلية ، قابلتها صدفة على وسائل الاتصال ، وتعرفت على مبدعها بالصدفة الافتراضية فقط ، ثم خلقت بي هكذا رغبة عارمة للإضاءة عليها ، فهذا ما يمكن أن يُسمى عندي بـ " الكتابة الضرورة " . خاصة وأنا ممن يعتقدون ، أن ليس هناك أصعب من ترجمة الشعر سوى محاولة الكتابة عنه ، لكن حتى هذه الفكرة كان يمكن لها أن تصح على شاعر عادي، يتناول مشاعر وجدانية مكرورة أو يومئ بشاعريته إلى معرفة متوقعة .. أما وان يكتب المرء عن نهر جارفٍ من الشعر الحي الجاري ، لا يتيح - ولو لهنيهة - لأية عاقلية نقدية عادية ، أن تقبض على تلابيبه ، ولا يسمح لأية ذائقة معرفية بسيطة أن ترسو على ضفاف غاياته المُتغيّرة باستمرار ، فهذا هو الحال تماماً مع فيوض الشاعر " السيد عبد الغني" وديوانه الاشكالي بإمتياز " الغرق " . قدم لنا في هذا الديوان غير الورقي عشرات القصائد المتعددة في انفصالها على صفحات الديوان ، ترأست بعناوين مختلفة ومبتكرة ، بدت لي - في حد ذاتها - قالباً متشابهاً من الشعر ، تنظم شذراته روح واحده ، ما فتئت تؤكد للقارئ ذاتها في كل عبارة وصورة ومعنى .. هي شذيرات شعرية متفاوتة في عمق بيانها ، و الأقرب – باعتقادي - أن يقال عنها تهويمات شعرية متصارعة ، وأحاسيس متنازعة لا تكاد تطيق بعضها بعضاً ، أو لنقل سجيات خاطر قلق تمَّ سبكها على هيئة تعابير لغوية تطفق بشدة على حدود ابجدية اللغة العربية المكتوبة بها .. أو بمعنى آخر ، هي مدارات نيتشوية وجودية مبتكرة ، تُبحر في محيطات متنازعة من القلق المتلاطم والغثيان اللامحدود من هذا الوجود الغامض وما يتقيء من تفسيرات وأفكار .. أو لنقل أنها مشاعر مسرعة في تتابع صورها البيانية ولاهثة في استعاراتها ومجازاتها ، لا تسمح لخيال القارئ الحصيف إلتقاط أنفاسه ، أو امتلاك الحد الأدنى من جرأة التوقع لما هو قادم في العبارة التالية ... قصائد ديوان " الغرق " تعدم الوعي بإطراد ، وتنفر منها جدران الذاكرة دونما إبطاء .. قصائد لا يمكن للقارئ النزق أن يتتبّع خيطها الناظم فيها سوى من خلال صوت الشاعر المعبر عنه بوضوح من خلال الضمير الأول " أنا " ..فهو الدليل الدائم والجلي ، لكل نواصي المشاعر المسكوبة على صفحات هذا الديوان ، على شكل احتجاجات لا تنفذ ولا تنتهي . أعترف أني في احايين كثيرة أعدت فيها القراءة لشذرة هنا وعبارة هناك ، وجاء في ذهني ألف سؤال تدق باب معرفتي كالمطرقة بلا توقف : تُرى ماذا يُريد السيد هنا ؟ هل حقاً يُريد النوم كظلٍ ظالم - على حد تعبيره . ؟ ثم هل يُعقل ألا أصدّق تأمله عندما يقول : " عقلى يعمل وتخرج منه فكرة كاملة، أو فكرة متقطعة وخلل جنسى ، وعلامات تعجب وإستفهام تتطاير كرذاذ البحر ، والحوائط العارية تحدجنى بقوة وقلبى نائم" وهل هو حقاً يحب كل العالم ، و يُريد أن يكتشفه كطفل يأبي أنْ يكبرَ ، لئلا يضيف الى الكراهية لوناً آخر .. لكن هاهو "السيد عبد الغني" يمشي بنا إلى صومعته الغريبة ، التي يسكنها – كما يقول - وحيداً كأفكار ثقيلة تطلب ودّ الاحلام ، التي لا يدَ لها في طول العمر ، ولن يمكنها ان تعود ثانية .. لكن ، عند نقطة معينة يؤوي بنا إلى بلاهة الاعتراف كي يقول انه لا يستطيع فعل شيء لنا سوى الحلم ..وانه قد قدّم أشعاره هذه في ومضة طارئة ، سمّاها اعتداءات على المعاني بلا أيّة هدهدة ، وفي ومضة أخرى أعلنها مرحلة لبذر الضوء على هذا العالم المعلوم .. قصائد الغرق الشعرية الفلسفية، تحمل أثقالا لا يطيقها وجود ولا يخفيها عدم ، قصائد تنوء بعناوينها ، لأنها لا تقبل التسمية ولا التصنيف القيمي ، ولأن مكانها يقع فيما وراء الخير والشر ، في مكان مستقل تماماً عمّا نعرف من القباحة أو الجمال .. بكلمات أخرى هي قصائد تدعو إلى قيم جديدة تماماً ، لا علاقة لها البتّة بما يثرثر حوله الواعظون أو ينافق لأجله صنّاع القيم .. ومن خلالها نجد أن " السيد عبد الغني " يُعرّينا جميعاً .. ولا يترك لنا أية أسمال نستر بها جيف قيمنا وتناقضاتنا أو نفاقنا الوقح في هذا العالم .. أخيراً : لكأن الكتابة عن ديوان "الغرق" تجعل المرء شاعراً بالضرورة وترميه في أحضان التفلسف دون إرادته ، وأما عن القراءة فيه ، فلن يستطيع القارئ المتمعن ان يذهب إليها بكليّتهِ ، ولكن إن حدث وفعل ، فلن يعود أبداً كما بدأ .. السيد عبد الغني ، " نحن حقاً ، مغمورون بكِ.. كصوف مغمور بالله.. وكمنفى مغمور بالرعب ! شكراً لحضورك البهي في ثنايا معرفتنا .. للحديث بقية ..
#زكريا_كردي (هاشتاغ)
Zakaria_Kurdi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في ديوان ( قهوتي والتتار وأنت )
-
دعوة للكتابة..
-
هلوسات فكرية ..( 3 )
-
عقول جلدية مُعارضة ..!
-
بلى ، نحن مختلفون ..
-
أفكار بسيطة حول مفهوم الدولة ..(5)
-
أفكار بسيطة حول مفهوم الدولة ..(4)
-
هلوسات فكرية..(2)
-
- أدونيس - الثائر السوري الحقيقي
-
أزمَةُ أفهَام لا أزمَة حُكّام ..
-
لعنة الماضي ..
-
ملاحظات على هامش كتاب - الدّين في حدود مُجرّد العقل - (3)
-
ملاحظات على هامش كتاب - الدّين في حدود مُجرّد العقل- (2)
-
ملاحظات على هامش كتاب - الدّين في حدود مُجرّد العقل (1)
-
التَقَيّةُ الفلسفية عند كانط ..
-
الإنسانية ودينُ المُسْتقبل
-
المُشكلة أنّهم لا شيئ ..
-
معارضة تحكي وعاقل يسمع
-
هوامش هيغلية (1)
-
إنطباعات هولندية (3)
المزيد.....
-
فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ
...
-
انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا
...
-
صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة
...
-
الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف
...
-
حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال
...
-
الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
-
الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم
...
-
الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
-
أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم
...
-
-جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|