انور سلطان
الحوار المتمدن-العدد: 5446 - 2017 / 2 / 28 - 13:30
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لقد أنكر ابن الراوندي النبوة من الأساس, وأورد حجة طريفة تدعم تكذيبة لدعوى النبوة. قال: "إن العقل أعظم نعم الله على خلقه, وإنه هو الذي يعرف به الله ونعمه ومن أجله صح الأمر والنهي الترغيب والترهيب. فإن كان الرسول يأتي مؤكدا لما فيه من التحسين والتقبيح والإيجاب والحظر فساقط عنا النظر في حجته وإجابة دعوته, إذ قد غنينا بما في العقل عنه, والإرسال على هذا الوجه خطأ. وإن كان بخلاف ما في العقل من التحسين والتقبيح والإطلاق الحظر فحينئذ يسقط عنا الإقرار بنبوته". انتهى. (المصدر: من تاريخ الإلحاد في الإسلام. د. عبدالرحمن بدوي).
وإذا كان ابن الرواندي لا يقر بالنبوة من الأساس فمن الطبيعي ألا يعترف بالمعجزات التي تدعيها الكتب الدينية ويعتبرها من الخرافات والأساطير. ولكنه تنازل جدلا, كما يبدو, عن عدم إقرارة بالنبوة ليناقش مسألة إعجاز القران البلاغي. فإذا كانت النبوة تستلزم معجزة إلهية, فلن يكون القران هو المعجزة من وجهة نظرة, لثلاثة أسباب:
السبب الأول: هو أن القران ليس نصا بليغا. وأحد حججه على عدم بلاغة القران سورة الكوثر, فقد عد سورة الكوثر كلاما أقل من عادي وليست فقط خالية من البلاغة. وإذا كانت سورة الكوثر كذلك, وإذا كان القران تحدى الإنس والجن كافة أن يأتوا بسورة من مثله, فتكفي هذه السورة لإسقاط دعوى بلاغة القران إن لم يكن كله فبعضه, وسقوط بلاغة بعض القران يعني سقوط كونه من عند الله حسب منطق القران نفسه.
والسبب الثاني: هو أن بلاغة نص ما لا تدخل في ماهية المعجزة. وهذا السبب استنتاج من سياق حديثه الذي تم اقتطاعه, لإن كتاب الزمردة لابن الرواندي الذي تناول فيه هذه المسائل لم يصل منه إلا شذرات اقتطعها من رد على كلامه. ومن رد على كلام ابن الراوندي عندما أورد هذه الحجة له لم يوردها كاملة وقفز للحجة الثي بعدها المتمثلة في السبب الثالث.
السبب الثالث: القران كخطاب للناس كافة, مهما كان بليغا, يمتنع أن يكون هو بذاته معجزة لإن كافة الناس لا تتحدث العربية, ولذلك يجب أن تكون المعجزة شيئا آخر.
ونجد السببين الثاني والثالث في النص التالي المنقول عن ابن الرواندي:
"إنه لا يمتنع أن تكون قبيلة من العرب أفصح من القبائل كلها, وتكون عدة من تلك القبائل أفصح من تلك القبيلة, ويكون واحد من تلك العدة أفصح من تلك العدة ... إلى حيث قال: وهب أن باع فصاحته طالت على العرب, فما حكمه على العجم الذين لا يعرفون اللسان وما حجته عليهم؟". انتهي. (المصدر السابق ذكره).
كما هو واضح لم يُنقل كلام ابن الراوندي كاملا وقُطع كلامه وتم القفز إلى بقية الكلام بتوسيط العبارة: "إلى حيث قال".
كلام ابن الراوندي الذي تم قطعه مهم لأن فيه إشارة إلى طبيعة المعجزة. لا ندري ما الذي قاله ابن الراوندي فعلا, ويبدو أن من حاول الرد على ابن الراوندي قطع كلامه عمدا لعدم وجود رد مرض لديه, وأورد فقط كلام ابن الراوندي الذي كان لديه, كما يعتقد, رد مناسب عليه.
لنعيد كلام ابن الراوندي الناقص:
"إنه لا يمتنع أن تكون قبيلة من العرب أفصح من القبائل كلها وفئة من القبيلة أفصح من بقية القبيلة ولا يمتنع أن يكون واحد من تلك الفئة أفصح من بقية الفئة البليغة ..."
أي: لا يمتنع أن يوجد واحد هو أفصح الفصحاء ... وماذا بعد؟
هذا الكلام ناقص غير تام المعنى. ويمكن استنتاج المعنى, وهو معنى على قدر كبير من الأهمية, وهو الحجة الرئيسية لابن الرواندي, ولذلك فضل ناقل كلامه حذفها, وركز في رده على بقية كلام ابن الراوندي.
المعنى الذي يرمي إليه ابن الراوندي, والذي يُعد حجته الرئيسية, هو أنه يمكن أن يظهر شخص أفصح من بقية أهل اللغة, وأفصح الفصحاء, وبالتالي يمكن أن يأتي بنص بليغ لا يجاريه فيه أحد, وإذا حدث هذا لا يمكن عده معجزة. هذا ما يمكن استخلاصه من سياق كلام ابن الراوندي. لكن لماذا لا يمكن عده معجزة؟ لا بد أن ابن الراوندي كان يرى أن النص البليغ لا يدخل ضمن مفهوم المعجزة. لإن المعجزة لا بد أن تكون عملا خارقا للنواميس الكونية (لقوانين الطبيعة) وبالتالي فحدوثها لا بد أن يعني أن من تجري على يديه ليس هو الذي قام بها لإنها خارج قدرات الإنسان مطلقا. والكلام البليغ ليس كذلك, لإن البلاغة قدرة في الإنسان تمكنه من صياغة النصوص كالشعر. وأي نص بليغ مهما كان حد بلاغته (إذا وجدت معايير أساسا لقياس مستوى البلاغة) فهو دليل على بلاغة صاحبه ولا يمكن نسبته لله لأنه فقط على درجة كبيرة من البلاغة ولا يستطيع أن يأتي أحد بمثله. إن المعجزة الدينية الحقيقية يجب أن تكون موضوعية تتمثل في فعل مادي لا يمكن للإنسان فعله وخارج قدراته أساسا, وليست قدرة ذاتية كالقدرات الفنية المختلفة مثل الرسم والنحث والغناء والشعر والخطابة التي قد يتبارى الناس فيها ويتفوق بعضهم على بعض.
يجب أن تكون المعجزة عملا ماديا خارقا لقوانين الطبيعة ومستقلا عن القدرات الذاتية للإنسان. وشرط استقلال المعجزة ضروري حتى لا يتم الخلط بين المعجزة وتفوق إنسان على غيره في قدرة بشرية معينة. فرق بين المعجزة الإلهية بالمعنى السابق التي تعد إثباتا لصدق من يدعي النبوة وبين التفوق على الآخرين في عمل بشري بحت, وإن أطلق على هذا التفوق معجزة فمعناها هنا لغوي, التفوق هنا مجرد تفوق بشري نسبي بالمقارنة مع الآخرين, وليس كسرا لقانون طبيعي.
والعمل الخارق (المعجز) قد يكون حدثا ماديا كعدم احتراق ابراهيم بالنار أو فلق موسى للبحر, أو تحويلا لماهية شئ بمجرد الإرادة, التي قد يصحبها تلفظ ببعض الكلمات أو ملامسة أو إشارة, مثل تحويل العصا (جماد) إلى حية (حيوان حي), أو خلق من العدم مثل ناقة صالح.
ولا يهم جريان العمل المستقل الخارق لقوانين الطبيعة على شئ غير النبي أو جريانه على النبي نفسه, فالنبي نفسه قد يكون موضوع المعجزة مثله مثل أي شئ آخر ولا يسقط هذا من استقلاليتها وموضوعيتها, كأن يقوم النبي من الموث بعد موته ودفنه تحت أطباق اتراب, أو عدم احتراقه وهو في وسط نار متقدة وبدون ملابس واقية من الحريق, أو طيرانه بنفسه من غير وسائل مساعدة على الطيران ...الخ. وعندما يأتي من يدعي النبوة بنص بليغ ويدعي أنه معجزة من الله فلا يكون هنا موضوعا للمعجزة بل صاحب معجزة مدعاة لا يتوافر فيها شرطا المعجزة الحقيقية وهما: الإستقلالية عن القدرات الذاتية التي توجد في بني البشر أولا, وعمل يكسر قوانين الطبيعة ثانيا يجعلها عملا خارقا. والنص البليغ ليس عملا مستقلا موضوعيا عن صاحب النص بل إنتاجا فنيا ذاتيا, فلا هو حدث خارجي خارق ولا تحويل خارق لماهية شئ بمجرد الإرادة ولا خلقا من العدم وهو قمة الأعمال الخارقة. والبلاغة مهما كانت درجتها, إذا كان هناك مقياس أصلا لدرجة البلاغة, ليست كسرا لقانون طبيعي, وبالتالي ليست عملا خارقا في ذاتها. هل تقضي النواميس الكونية أو قوانين الطبيعة أن الإنسان لا يمكن أن يتجاوز درجة معينة من البلاغة؟ وهل يمكن أصلا حساب درجات البلاغة موضوعيا؟ وطالما كان الجواب بالنفي فلا مجال للحديث عن معجزة بلاغية كمعجزة دينية.
مهما كانت بلاغة نص ما, ومهما كان عجز الناس عن الإتيان بمثله, لا يمكن أن يُعد معجزة إلهية لإنه ليس فيه خرق لنواميس الطبيعة, وكل ما يمكن أن يدل عليه هو بلاغة صاحب النص. وحتى تكون المعجزة معجزة يجب أن تكون عملا ماديا موضوعيا مستقلا يخرق النواميس الكونية التي لا يستطيع الإنسان أن يخرقها بنفسه مما يجعل العقل يقطع أنها صادرة عن الله, ولا يكذبها إلا مكابر بالضرورة, وبالتالي تكون دليلا على صدق من تجري على يديه في دعواه أن الله أرسله. هذا ما كان يرمي إليه ابن الراوندي كما يظهر من سياق كلامه الذي تم اقتطاعه وحذفه.
#انور_سلطان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟