أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامى لبيب - قراءة فى دفتر الحياة-تأملات على أوراق ملونة















المزيد.....


قراءة فى دفتر الحياة-تأملات على أوراق ملونة


سامى لبيب

الحوار المتمدن-العدد: 5405 - 2017 / 1 / 17 - 00:58
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


- قراءة فى دفتر الحياة – جزء ثانى .
- خربشة عقل على جدران الخرافة والوهم (61) .

سعدت بالعثور على تأملاتى القديمة التى دونتها فى المرحلة الجامعية فى دفتر ملون الأوراق لأجد أن تلك التأملات صالحة للنشر والتعاطى فهى تحمل رؤية لم تغيرها الأيام بل أكدتها .. لذا أنشرها هنا فى سلسلة جديدة من المقالات محتفظاً بنفس الصياغة والديباجة القديمة لتحتفظ بنفس بكوريتها وعفويتها بعيداً عن الكلمات الغامضة وإن كانت الرسائل التى تقدمها تتعاطى مع علم النفس والفلسفة وعلم المجتمعات .

* قليل من الصدق والسلام الداخلى .
أتذكر حواراً جمعنى مع قس مسيحى وكان هذا المشهد فى مرحلة الصبا على أثر شكوى أبى المتكررة من كثرة شكوكى وأفكارى اللادينية لأعترف أن هذا الكاهن بلغ مبلغاً رائعاً من الإنسانية ودماثة الخلق والرقى والقدرة الرائعة على الإستماع بأذان صاغية لا تخلو من التفهم والرفق .
لقد أصبح هذا الكاهن ذكرى فى الحياة ولكن بالرغم من لادينيتى وإلحادى لازلت أحمل له ولذكراه إحتراماً وحباً جميلاً فقد كان قادراً على أن يسمع كل شكوكى فى القصص والأساطيرالدينية وفكرة الله بهدوء وترفق لم يفارقه .
بعد أن سردت له جزء من شكوكى وأفكارى قطعها بسؤال قاطع وحاد : هل أنت سعيد ؟ .. هل أنت سعيد من حالة الشك والإرتياب التى تنالك ..هل أنت سعيد ببعدك عن الصلاة والتناول من الأسرار المقدسة ؟
أجبته بإجابة قاطعة نعم ..أنا سعيد وأحس براحة غريبة وأنا أسير فى حقل الألغام .. سعيد أننى صادق مع نفسى ..فأنا لا أحس بشئ فى صلاتى سوى أننى بغبغائى لأشعر بالسعادة والراحة أننى انصرفت عنها .. سعيد أننى لا أزيف مشاعرى ولا أنافق .. سعيد أننى أفكر ولا أحجر على أفكارى .. سعيد أننى إنسان ولست جهاز ريكوردر أو بغبغاء او آلة تمارس طقوساً وكلمات برتابة وملل وبلا معنى .. سعيد أننى أقول ما أريده .. وأفعل ما أريده .. وسعيد أننى لا أفعل ما لا أحس به وأتحمس له .. سعيد أننى لا أردد أشياء محفوظة مقولبة لا أحس بها .
بادرنى الكاهن بعبارة جميلة مازالت حتى الأن تلتصق بأدبياتى وأفكارى وإعتبرتها تعريف جميل للسعادة .. قال : السعادة أن تشعر بسلام داخلى مع نفسك .. أن تحس بأنك أنت ونفسك فى حالة سلام وصلح وليس بينكما عداوة وخصام ومشاحنات .
قلت له أننى أحس بهذا الشعور .. أحس أننى مرتاح فيما أخوض فيه .. أحس براحة نفسية كبيرة وأنا أمارس حريتى كإنسان بالرغم من مضايقات أبى والتى تعرفها جيداً لتصل أن يحرمنى من المصروف حتى أحيد عما أنا فيه .. صحيح أن أفكارى الشاكة تخرج بى خارج المجموع وتجعلنى منبوذاً فى بعض الأحيان ولكنى أشعر براحة تغمرنى عندما أتلمس جرأتى وشجاعتى .. عندما تخرج الكلمات من رحم ذهنى فلا تكون مجموعة من الأناشيد والمحفوظات أتلوها كالأبلة .
سيدى أنا لا أعاند ولا أجد سعادتى فى معاندة التيار بل على العكس أنا لا أحب التصادم مع أحد .. ولكن ما يُمرر أمامى صعب أن أقبله وأستسيغه .. فكل أسئلتى الشاكة التى ذكرتها لك عن العدل والحكمة الإلهية لم تجد إجابة مقنعة فحضرتك تعتبر أن هناك حكمة ما لا ندركها وأن عقولنا غير قادرة على فهمها وإستيعابها لتشبهها بإستحالة أن نضع ماء البحر فى حفرة صغيرة ..عفواً أنا لا أقتنع بمثل هذه الكلمات وأحس بكم هائل من التناقضات والأمور المبهمة التى ليس لها معنى والمفروض أن يكون لها معنى .
أردت بإسترجاع حوار مر عليه حقبة لا بأس بها من الزمن أن أشير إلى مفهوم السعادة والصدق مع النفس .. وبعد أن مرت بى أعوام طويلة حملت معها تجارب ثرية .. إكتشفت أن ما توصلت له فى صباى ومراهقتى مازال حياً فاعلاً مقبولاً قادراً على التواصل والتعاطى .
ليست السعادة فى المال والجنس والنفوذ .. فكلها لذات تروح وتجئ نستمتع بها فى حضورها كما نستمتع فى النضال من أجلها وتزيد متعتنا عندما نستردها بعد أن تغيب عنا .. السعادة هى غير ذلك الأمر بالمرة ..السعادة هى قدرتك على أن تكون متصالحا مع ذاتك .. أن تعيش فى حالة سلام داخلى مع مكنونات نفسك .. أن تكون حراً صادقاً فى مشاعرك مع من تحب ومن تكره ..أن لا تمارس نفاقاً وزيفاً فى مجمل أحاسيسك ومشاعرك .. السعادة أن تكون متصالحاً مع نفسك وعقلك فلا تقهرأفكارك فداء أن تنال رضاء وتملق الأخرين .. أن تجعل أفكارك حرة منطلقة لا يقيدها أفكار مُهيمنة متقولبة تريد منك أن تكون وسط القطيع .. ليس ضروريا أن تصرخ بكل أفكارك فى عنان السماء فيكفى على الأقل أن تكون مقتنعاً ومتحمساً لما تفكر فيه .. أن تخرج كل كلمة وهى حاملة بصمتك الخاصة بكل شفافية ومصداقية .
هل الإنسان الدينى يحس بالسعادة ؟ . بالتأكيد هو يظن ذلك وفقا لمنظوره الذى يراه .. يعتقد بأنه إذا إمتلك القدرة الجيدة على أن يُخدر النقط المثيرة والشاكة فى داخله بالهروب منها فسينتج سلام نتاج عقل تم تخديره بشكل تام فيتوهم سلامه الداخلى وسعادته معها .. السعادة لا تأتى بفقدان الحرية وشل العقل عن الفعل والتفاعل .. لأن شل العقل عملية تخدير تحسسك بلذة المخدر ولا تحسسك بالسعادة كحال أى مخدر ..لا يهم أى فكرة تجول فى ذهنك كونها صحيحة أو خاطئة ولكن المهم أن هذه الفكرة تكون من عقل حر قادر أن يقلبها ويعدلها ويطورها بل يركلها أيضاً.
السعادة هى أن تحقق السلام الداخلى فلا تكون متقولباً خائفاً من أفكارك فى أن تنطلق مفضلاً أن تدفنها حية ..السعادة هى الصدق مع النفس فلا تكون مزيفاً ولا منافقاً .

* إفتح يا سمسم . ( مُعاد سبق نشره ) .
يسعدنى أننى فى طفولتى كنت أسأل فى حكاية "على بابا والأربعين حرامى" ومن ضمن تلك الأسئلة , أليس على بابا حرامى هو الآخر لينهب من المغارة , ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً : كيف يُفتح الباب الصخرى عند القول "افتح يا سمسم" فكيف يكون هذا ؟! لأجد الجواب : بلاش وجع دماغ ..هى كده .!
لم أفلسف هذا المشهد إلا بعد عشرين عاما من أسئلتى المندهشة .. فالبشر ضحايا ثقافة الأديان التلقينية التى قتلت فيهم السؤال والتأمل والدهشة والجرأة فى طرح السؤال ليأخذون الأمور على عواهنها ويسلمون بالحلول السحرية .. فمن التسليم لقداسة فكرة الإله وتمريرها وتمرير بشاعة وهمجية الأنبياء لم نسأل عن أن على بابا كان حرامى , وكيف يفتح الباب الصخرى عند القول " إفتح ياسمسم " .!
عندما نمتلك القدرة على طرح سؤال كيف يفتح الباب الصخرى فى قصة على بابا ونصر على إجابة عقلية تبتعد عن "هى كده " فحينها ستنهار كل الخرافات .

* تهافت إله أم أوهامنا النرجسية .
بدايات هذه الخربشة الجنينية فى الثانية العشر من العمر عندما شاهدت برنامج فى التليفزيون المصرى عن الكون وعالم الفضاء لتتكاثف معرفتى بالكون من خلال ولعى بقراءة معلومات عنه ولتتولد خواطر وتأملات جديرة بالإعتناء .
كنت أحدق فى السماء ملياً ناظراً للنجوم التى ترصع السماء وأسترجع كلام معلمتى التى قالت بأن كل نجم من هذه النجوم تعادل شمسنا أو أكبر وأنها تبدو صغيرة لبعدها عنا كثيراً فكانت حيرتى تزداد من هذا الوجود الهائل وليأتى هذا البرنامج بصوره ومعلوماته السلسلة لتطلق تأملات عديدة ولتفجر بركان من علامات الإستفهام المصحوب بالإندهاش لتهوى بشدة على جدران الإيمان التى كانت تهتز بشدة من رعاية الرب للقصص الوحشية الهمجية لشعب الله المختار بالكتاب المقدس .
محتوى البرنامج الذى تم تقديمه حينها عن حجم الكون الهائل وكيف أنه يحوى ملايين المجرات ومليارات النجوم التى تعادل كل منها حجم شمسنا وأكبر ولأعلم أن الشمس تعادل مليون مرة حجم الأرض وأن النجوم اللامعة فى السماء هى نجوم إنفجرت وانهارت ليكون تعقيب أمى الطيبة على هذا المشهد العبثى "سبحان الله " .
دماغى إنطلق فى تأملات عميقة قادتنى إلى اللادينية سريعاً لأقول : ما هذا الإله الذى خلق كل هذا الكون الهائل ليهتم بالقاطنين على سطح حبة رمل فى صحراء مملكته الشاسعة , كيف لإله بهذه العظمة والمُلك والقدرة يدس أنفه فى حياتنا ليراقب هذا الذى يكذب على أبوه وذاك الذى يتلصص على جارته الحسناء .. ماهذا الإله العظيم الذى يهمل النجوم التى تنهار ليعتنى بوضع قشرة موز فى طريقى .. كيف إله بهذا المُلك والعظمة يعتنى بإرسال رسل ليلبى رغباتهم العاطفية والتوسعية .. ما قيمة هذه الأرض التافهة ليرسل إبنه ليصلب فداء عن خطية العالم .. تتوالد وتتناسل أسئلة كيف وكيف وكيف لأخلص لنتيجة إما أن هذا الإله تافه أو عبيط كحال أوباما الذى يشرف على شئون أمريكا والعالم ليستهويه مراقبة جحر نمل فى حديقة البيت الأبيض فهل الإله هكذا أم يمكن القول أننا نعيش نرجسية هائلة خلقت هذا الوهم .!
أقول وأنا فى هذه اللحظة أننى مازلت أثمن هذا التأمل وأجده قوياً حاضراً يخرج لسانه لبلاهتنا وسذاجتنا ونرجسيتنا المنفوخة فلا أحتاج للإبحار فى عالم الفكر والفلسفة لتبيان إستحالة وجود إله , فالمشهد يقول بأن وجود إله يعتنى بالأرض والإنسان بهذا الشكل الفنتازى هو وهم غبى وإذا كان موجودا فهو تافه وللتقليل من قسوة هذا الكلام فلو كان موجوداً فهو غير عابئ ولا مُهتم بإيمانك به .

* عيون أمى .
لا أستطيع أن أنسى عيون أمى .. فعيونها كانت جميلة . لم يكن جمالها فى رسمها ولونها بالرغم أنها كانت كذلك ولكن جمالها فى أنها عيون متدفقة بكل الأحاسيس والمعانى .. عيون تخبرنى بما تريد قوله .. عيون ترسل الحب والحنان والألم فى صمت .. أحببت عيون أمى فمنها جاء حبى للحياة وكل مافيها لأصيغ مفاهيم ومشاعر وأحاسيس من خلال عيونها .
العيون لا تكون مجال للرؤية فحسب بل هى لتصدير وتوريد المشاعر بها ومنها تنطلق أحاسيسنا معبرة عما فى داخلنا بدون كلمات كثيرة وأحاديث مملة ..علمتنى عيون أمى التحدق فى عيون الأخرين عندما أريد الإبحار فى داخلهم .
أتذكر الطفولة الأولى وكيف تسرب المقدس إلى عقلى .. أتذكر أول مرة أمد يدى لتقبيل أيقونة للعذراء ..أول مرة أقبل صورة برهبة وخشوع حين وقفت أمى أمام الأيقونة تشعل شمعتها وتصلى .. لمحت عيونها الجميلة مليئة بالحزن والألم التى لم تصمد كثيرا لتدمع .. وضعت يدى الصغيرة عليها لأحنو عليها وأسألها عن بكاءها .. لم تخبئ الأمر وقالت ..جدتك مريضة جدا وتشرف على الموت .. أنا أصلى لكى تشفع العذراء لرب المجد أن يشفيها وينجيها من الموت .. وجدتنى أطبطب عليها وأمد يدى لألمس الصورة وأقبلها .. من هنا جاء حبنا للمقدس ولكل الأعتاب والصوامع والجوامع والحسينيات .
لقد عرفت المقدس بدون كلمات وشرح وتأويلات .. لأن الكلمات مهما صيغت ببلاغة فلن تسعف المقدس ولن تقدر على تمريره .. فمن خلال المشاعر والأحاسيس التى تتدفق فى داخلنا من خلال أحبائنا تمر أصعب الأمور وأكثر الأمور خيالا وعدم موضوعية .. لا يكون الإيمان إلا هكذا .. مشاعر صغيرة تتسلل فى داخلنا عبر مواقف بسيطة ولكن تم إرسالها عبر عيون وهمسات من نحبهم .. كل من يقول بأنه مؤمن بقناعة عقلية هو موهوم .. فالإيمان بداية لا يستطيع أن يتكأ على العقل ..لأن العقل لن يسعفه .
قد يحاول البعض أن يبحث فى تلاليف الدماغ عن شئ يبرر إيمانه ويجعله متماسكاً ولكن يظل السبب الأول ليس له علاقة بأى عقل وأى منطق وهذا يفسر لماذا هناك من يتشبثون بالإيمان فى عشرات الملل والمعتقدات ..لأن عيون أمى غير عيون أمك غير عيون كل الأمهات .
إشعاع المشاعر والأحاسيس المنطلقة من عيون أمى وكل الأمهات تستطيع أن تفسر لماذا نحب ونؤمن ونعتقد لتتخلق "العاطفة والهوية والإنتماء ".. نحن نتمسك بخيالات وأوهام لا يوجد ما يسعفها ويثبتها غير عيون أم وإحتواء أب .

* أماكنا المقدسة .. وما الذى جعلها مقدسة ؟
إسترسالاً للتامل السابق نسأل : هل نحن من نطفى على المكان قداسته ؟ أم هو مقدسا فى حد ذاته ؟ ولماذا جدران المعابد عالية شامخة ؟
كيف تتحول مجموعة من الحجارة والأخشاب والحديد إلى صورة ذات قداسة وهيبة فى داخلنا ؟ إذا كان هناك مكان مقدس وطاهر لماذا يكون مقدساً وطاهراً فى عيوننا وليس له أى قداسة أو تقدير فى عيون الأخرين .. إذن المقدس هو شعور وإحساس داخلى يتم تصديره وإكتسابه وليس له أى شئ يميزه سوى اننا نملأ مخيلتنا به تبجيلا ً ووهماً .
هل تتذكر أيامك الأولى عندما تسلل المقدس إلى قلبك ومشاعرك .. هل تتذكر يوم أن كنت تتشبث بذراع والدك وأنت فى زيارتك الأولى للجامع أو الكنيسة ؟. هل تتذكر حالة الوقار والخشوع التى حلت على الوالد حال لمسه لأيقونة العذراء ومارجرجس أو عتبة مكان .. هل تتذكر سجوده وتضرعه .. هل تتذكر حاله عندما بدأ يمد يده يتبرك من ضريح السيدة زينب والمقامات والأيقونات .. هل تتذكر هذ الحماس الذى يملأ الحضور وهذا التزاحم لنيل البركة من الكاهن .. كل هذا يختزن فى الشعور كلوحة تكتمل أجزائها لتصنع المقدس .
الإنسان كائن مُبدع يصنع المقدس ويصيغه بطريقه تجعل مشاعر الإحترام والهيبة تسرى فى وجدانه ووجدان الأخرين ..عندما بنى معابده وضع في الرسومات والخطوط مشاعر وأحاسيس ليطفى على المكان الهيبة والوقار التى يريد للآخر أن يحسها ويعيشها .
نسأل : لماذا جدران المعابد من جوامع وكنائس عالية ؟..لماذا الأسقف مرتفعة بشدة عن رؤوسنا ؟ لماذا هناك قباب وعقود كبيرة ؟
الإجابة : المراد أن تحس بالتضاؤل .. أن تحس إنك جزء صغير فى المكان .. أن تذوب فى المكان .. فالمكان يكتسب قداسته وإحترامه من مدى تضاؤلك داخله .. فترتيب الحجارة بشكل معين يخلق فى داخلك إحساس بالعظمة تكتسب الإحترام بجوار سجود الأب وخشوعه .
الإنسان يؤسس مفاهيمه على مخزون أحاسيسه البكرية وليس العقل المُفكر فالعقل هنا بمثابة العراب والمُحلل .. فمشاعرنا البدئية هى الحاسمة فى تكوين عواطفنا ومن أحاسيسنا الجميلة يتم تمرير حمولات هائلة من الخرافة .
حتى غيرتنا المجنونة على رموزنا المقدسة لا تكون بفعل عقل واعى للمقدس بل من مشاعر وأحاسيس تستدعى المخزون الرهيب من حجم إرتباطنا العاطفى بالهوية والمكان .. مشاعر تكونت من مجمل العواطف الصغيرة البكرية فى حنان أب وخشوع جد يتذلل للمكان وبشاشة أم فرحة .

* الواد ده باين عليه إتجنن .. كنت أحاور الله .
فى الطفولة المبكرة كنت أحاور الله ! . ففكرة أن الله يعلم كل شئ فى الوجود تحيرنى ..أن يعرف كل أفعالى وأعمالى وكل همساتى ولمساتى وسكناتى قبل أن أفعلها شئ غريب .. كان يشغلنى وجود كائن يدرك كل شئ بينما أفكر بينى وبين نفسى .. فكيف يدخل داخل دماغى ويعرف الفكرة وهى تولد ؟!
كنت أرسم لوحات بقلم الرصاص كانت تنال إستحسان أهلى والمحيطين بى .. وأنا أرسم أجد أن قلمى ينساب على الورقة بسهولة ويسر حتى أنتج فى النهاية رسم لبورتريه مثلا ..فهل الله يعلم أنى سأضع هذا الخط بعد هذا الخط ؟ ..هل يعلم أننى سأضغط بالقلم فى هذه المساحة لأخلق منها لوناً وظلاً قاتماً ؟ ..هل يعلم أننى سأخفف بقلمى فى تلك المساحة حتى أشكل منها لونا فاتحا .. هل معقول أنه يعلم كل النمنمات التى أعملها ؟!
تعمدت أن أرسم خط نشاز فى وسط اللوحة بدون أن أنظر فيه ..خط ليس له معنى .!! تشاهد أمى الرسم فيعجبها وتقول : رسمك جميل ولكن ما معنى هذا الخط ؟
أنا : هذا الخط من الله هو اللى رسمه بيدى ..أنا بأرسم كل جزء بيدى وأنا شايفه ..ولكن ده رسم من ربنا لأنى لم أرسمه وأنا شايف .. يبقى خط من الله . تندهش أمى من هذا الكلام .
كنت أحاور الله فى أشياء كثيرة .. فعندما كنت أمشى وأنا ذاهب إلى المدرسة لأسير بطريقة عادية ككل الأطفال .. ولكن عندما يطرأ على ذهنى فكرة الله اللى عارف كل خطوة وكيف أخطوها .. أقوم حينها بحركة مفاجئة كأن أقفز وأنا ماشى أو أخطو خطوة جانبية ثم أعاود سيرى .. متصوراً أن هذه الخطوة أو القفزة الفجائية لم تكن فى فكر الله لأنها محبوسة فى دماغى ولم تكن تخطر على بالى أصلا فهى وليدة لحظتى العفوية .
كنت أعتقد أننى ألخبط الله اللى ماسك دفتر مسجل فيه كل خطواتى وهمساتى وسكناتى ..إذن فلأصنع أى خطوة فجائية تلخبط الله بخطوة لا يقدر أن يتوقعها ..عندما وصلت هذه الأفعال الغريبة إلى مسامع أبى قال لى : إنت باين عليك إتجننت ! .. إنتى بتعمل كده ليه .؟!
قلت لأبى عن فكرتى فى إننى أريد أن ألخبط الله .. ليشتاط غضبا وليقول لى : إنت إتجننت على حق .. ثم يحاول أن يبدو مترفقاً بعد هذا الغضب ليقول لى : عندما تغمض عينيك وترسم خط ..فالله هو اللى خلاك تعمل كده وعارف إنك هترسم خط ملهوش معنى ! وعندما تمشى فى الشارع وتتنطط زى العبيط فربنا عارف إنك هتعمل الحركات العبيطة دى برضه.!
قعدت أفكر فى كلام أبى .. يعنى ربنا ده عارف كل الحركات الطيبة والعبيطة .. طب هوا بيراقبنى ليه .. هل ليطابق افعالى مع مدونته ..هو هيدخلنى الجنه أو النار ..طب ماهو عارف كل حاجة ..طب بعد ما أنزل من بطن أمى فليميتنى ويدخلنى الجنه أو النار ..فليه بقى وجع القلب ده بدل ما يقعد يرصد كل حاجة هو عارفها أصلا .. يبقى كده هو بيضيع وقته .. طب هو ليه مهتم بعملية المراقبة ده وقاعد يراجع اللى بعمله مع الدفاتر اللى معاه! وانا فين من كل هذا الكلام ..الله ده إما تافه أو عبيط .. أو للدقة إحنا اللى عُبط أو أصحاب غرور عبيط لنتوهم أننا أصحاب قيمة .

* سينما أونطة هاتوا فلوسنا .
ونحن صبية ومراهقون كنت أنا ورفاقى من عشاق السينما حيث كنا نرتادها لمشاهدة الأفلام الأمريكية الرائعة فللسينما بريقها ومتعتها الخاصة .. فى ذات مرة ذهبت أنا ورفاقى لنشاهد فيلماً أمريكياً يوحى أفيش الفيلم المعلق فى واجهة السينما أننا أمام فيلم يمتلأ بالمتعة والإثارة والأكشن كما لن يخلو من رؤية جسد ونهد إمرأة جميلة مع بعض القبلات الساخنة التى تفكك أوصالنا .
دخلنا ونحن نحمل أكياس من اللب والسودانى وبعض السجائر القليلة التى كانت حينها لها مذاق ونكهة خاصة لن تتكرر .. بدأ عرض الفيلم وإذ بنا نجد أنه نفس الفيلم الذى شاهدناه الإسبوع الفائت بكل أحداثه وتفاصيله التى شاهدناها سابقا .فالملعون صاحب السينما غير الأفيش الموضوع على واجهة السينما ولم يغير الفيلم .
لم يكن أمامنا حينئذ إما أن نشاهد فيلماً مكرراً أو نصرخ بأعلى صوتنا : سينما أونطة ..هاتوا فلوسنا .
إنصرفنا من السينما ونحن نسب ونلعن صاحب السينما الذى أعاد عرض فيلماً مكرراً .. خرجنا نتمشى على كورنيش مدينتنا الجميلة ونحن نضحك ونتندر من هذا الموقف الذى إستنزف مصروفنا بلا طائل .
يباغتنا صديق تعتريه حالات الدروشة على فترات ليقول لنا : يا جماعة هذه إرادة ربُنا ( كان يقول ربنا بضم الباء) .
سارعت وقلت له : إرادة إيه بقى .
رد قائلا : مش يمكن لو كنا شفنا فيلم جديد كان ترك أثره علينا ورجعنا للبيت نحتلم ليلاً أو نمارس العادة السرية .
قلت له : ياسلام ربنا عارف كل القصص الخايبة دى وإنك هتدخل الحمام وتمارس عادتك السرية .
رد قائلا : طبعا يا أخى .. ربنا عارف ما عملناه وما نعمله وما سانعمله دى ربُنا يا أبنى .. عقبت يعنى ربنا عارف كل صغيرة وكبيرة ..وعارف أى شئ تافه .
رد صديقى : طبعا .. كل حاجة ربنا عارفها من قبل ماتتولد لحد ماتموت .
أنا : يعنى ربنا عارف إمتى أبى نام مع أمى وهأظهر للوجود إمتى .. وهأعمل إيه .. وإيه المصائب التى ستواجهنى وما هو رد فعلى وحجم الذنوب اللى عملتها .
عقب زميل لا يخلو حديثه من الطرافة : وكمان عارف كم مرة مارست العادة السرية فى حياتك وشكل كل مرة وكم مرة بوست بنت الجيران .
قاطعته .. بعنى ربنا على كده عارف هأروح الجنة أو النار قبل أن أولد .
أجاب صديقى .. طبعا يا إبنى .
قلت : إذن ربنا غاوى يتفرج على أفلام معادة ومكررة .
جريت فى الشارع أصرخ مردداً : سينما أونطة ..هاتوا فلوسنا .

* كل يوم خس وجزر .
فى كتاب القراءة للصف الثانى الإبتدائى قصة تحكى عن أرنب صغير تذمر على معيشته من حالة الملل والضيق من تكرار طعامه النمطى ليصرخ فى وجه أمه :" كل يوم خس وجزر دى عيشة تقرف " ليقرر الرحيل وليعانى فى الحصول على أى طعام ليندم على تذمره ويرجع لحضن أمه مرحباً بالخس والجزر .
القصة تحكى عن القناعة والرضى ولكننى بعد عدة سنوات طويلة إسترجعت القصة وإعتنيت بقول " كل يوم خس وجزر" لأسقط هذا على متع الجنه التى تحتوى على أشهى الطعام والشراب والنسوان لأقول مللاً ضجراً كل يوم تفاح وخمر ونسوان دى عيشة تقرف .
إكتشفت شئ أن متعة الحياة تكون من فقدها وليس بإدامتها ودوامها وأن الموت هو الذى يجعل معنى لمتعة الحياة لذا تكون قصة الجنه شديدة السذاجة والتهافت فلن يتحقق فيها أى متعة لدوام المتعة , فالمتعة واللذة لن تتحققا إلا بالألم والفقد .

* العمر يضيع فى التجهيز لرحلة الوهم .
يحضرنى مشهدين سينمائيين من الأفلام المصرية لا أتذكر إسمهما .!! المشهد الأول بطولة الفنان عبد الوارث عسر يمثل فيه دور شخصية إنسان بسيط يعيش فى منطقة شعبية يستأثر على تفكيره التجهيز ليوم وفاته ليحاول جاهداً أن يقتصد من قوت يومه ليعطيه لحانوتى الحى كعربون من نفقات الجنازة بالإعداد الكامل المثالى لها .!
والمشهد الأخر لفيلم بطولة الفنان فريد شوقى ولكنه هنا يمثل دور البرجوازية المتوسطة ليشغل ذهنه هو الآخر بالإعداد لخبر نعيه فى جريدة الأهرام ..حيث يقتصد من معاشه الشهرى لتوفير مصاريف الإعلان الذى سيُنشر فى حال وفاته.
قد تكون هذه المشاهد فيها من الكوميديا والسخرية على تفكير البشر وقد يكون تأثير الإرث الفرعونى القديم حاضراُ حيث كان المصريون يهتمون بطقوس الموت بشكل عالى .
ولكن فى كل الأحوال نرى أن النموذجين حاضرين فى الحياة بشكل أو بأخر .. فنجد ثمة إهتمام لدى الإنسان فى التجهيز ليوم وفاته ..ففى المنسوب الأدنى من الإهتمام بالموت سنجد أن هذه القضية تستأثر بنصيب لا بأس به من التفكير الإنسانى لنجد تجهيزات تتم من خلال عبادات ترفع الأرصدة وتحقق ترتيبات لرحلة ما بعد الموت ..فإذا كان الفنانان عبد الوراث عسر وفريد شوقى إهتما بقضية الإحتفالية التى يأملاها عند موتهما على الأرض .فإن معظم البشر مسكونين بالرحلة ما بعد الموت ليهتموا بالإعداد لها بصلواتهم وعبادتهم لهذا اليوم المشهود .
نحن البشر نبدد طاقات كثيرة وراء رحلة وهمية غير محققة .. نستنزف ملايين اللحظات من العمر والحياة وراء سراب لحظة مرتقبة بعد الموت .
نستطيع أن نتلمس السر وراء التكالب على تبديد العمر فى الإعداد للرحلة السرابية فهو رفض الإنسان للموت وتشبثه بالحياة ليدفعه بالتحايل بخلق وهم أنه سيعيش مرة أخرى .. ويمتد الحال ليسوق لفكرة حياة خالدة لا تنتهى وسيكون رائعاً أن يجعلها شديدة المتعة واللذة ولا بأس أن ننشأ مكان شديد البشاعة للأشرار ومن يخالفوننا الهوية والعاطفة والمصير .
وفقا لهذه الحالة النفسية الغارقة فى أوهامها ونرجسيتها تتخلق فكرة العيش حياة أخرى ممتدة لتبدد المزيد من الوقت والجهد والمال فداء حالة غير مُحققة على الإطلاق لم تثبت وجودها بالرغم الميديا الهائلة التى تروج لها .
نحن نبدد الحياة من أجل لحظة موت .. نبدد عمرنا من أجل لحظة فناءنا .. نبدد الحياة الوحيدة التى نمتلكها مقابل وقوعنا أسرى غرورنا الغبى الذى لا يريد أن يعترف بحتمية الفناء ولا حياة بعدها فكل الشواهد تدل على أننا سنذوب فى الطبيعة لندخل فى وحدات وجودية أخرى .
من هنا نجد أن الفكر الدينى غرس وأسس قواعد الوهم الذى إستمدها من نفسية إنسان بائس متشبث بالحياة يرفض الموت لتلعب على أوتاره الملتهبة ..الموت هو جدلية الحياة فلا يمكن أن نعيش الحياة بدون الموت .. ومن رحم الموت تأتى الحياة .. فلنعش الحياة .
أتمنى أن أكون قد أفلحت فى توصيل تأملاتى دون أن تصيبكم بالملل .

دمتم بخير .
- "من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " - أمل الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع .



#سامى_لبيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إفتح ياسمسم-حجة62إلى71تُفند وجود إله
- وإحنا مالنا-الأديان بشرية الفكر والهوى والتهافت
- إعترافات ومعاناة إله-خربشة عقل على جدران الخرافة والوهم
- الكراهية فريضة إسلامية هكذا قوله وليس قولنا
- اللعنه على المادة أفقدتنى رومانسيتى
- هناك فرق .. فلتقرر أيهما أفضل
- أسباب وجذور تخلفنا
- وهم الحقيقة - تأملات وخواطر إلحادية
- مفاهيم وتعبيرات خاطئة-تأملات وخواطر إلحادية
- الإسلام الذى لا نعرفه-الأديان بشرية الفكر
- رباعياتى
- مفاهيم خاطئة شائعة-نحو فهم الحياة والإنسان والوجود
- مزاج إله سادى-خربشة عقل على جدران الخرافة والوهم
- كيف تفسر هذه المشاهد-الأديان بشرية الفكر والهوى والتهافت
- أسئلة مُحيرة-خربشة عقل على جدران الخرافة والوهم
- حقيقة الأشياء-نحو فهم الحياة والإنسان والوجود
- لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون-الإنحياز الجمعى
- مائة حجة تُفند وجود إله-من 57إلى 61
- تأملات فى الإيمان والدين والإنسان
- تناقضات قرآنية – جزء ثالث


المزيد.....




- مجلس الشعب السوري يرفع الحصانة القانونية عن أحد نوابه تمهيدا ...
- تحذير عسكري إسرائيلي: إذا لم ينضم الحريديم للجيش فإن إسرائيل ...
- السفير الروسي ردا على بايدن: بوتين لم يطلق أي تصريحات مهينة ...
- بالفيديو.. صواريخ -حزب الله- اللبناني تضرب قوة عسكرية إسرائي ...
- وزير الدفاع الكندي يشكو من نفاد مخزون بلاده من الذخيرة بسبب ...
- مصر.. خطاب هام للرئيس السيسي بخصوص الفترة المقبلة يوم الثلاث ...
- -أضاف ابناً وهميا سعوديا-.. القضاء الكويتي يحكم بحبس مواطن 3 ...
- -تلغراف- تكشف وجود متطرفين يقاتلون إلى جانب قوات كييف وتفاصي ...
- إعلام سوري: سماع دوي انفجارات في سماء مدينة حلب
- البنتاغون: لم نقدم لإسرائيل جميع الأسلحة التي طلبتها


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامى لبيب - قراءة فى دفتر الحياة-تأملات على أوراق ملونة