أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامى لبيب - لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون-الإنحياز الجمعى















المزيد.....


لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون-الإنحياز الجمعى


سامى لبيب

الحوار المتمدن-العدد: 5298 - 2016 / 9 / 28 - 17:08
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


- لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون (42) .

مازلت أعتز بتأمل كتبته فى الثانية عشر من عمرى منطوقه : " الإيمان ماهو إلا تخصيب حيوان منوى ما , لبويضة ما , فى زمان ما , بمكان ما " قاصداً منه أن الإيمان عملية وراثية تتخلق من الإنتماء لجماعة بشرية محددة تستقى منها الهوية والإنتماء والثقافة وهذا ما يعرف بالإيمان .. لعل هذا التأمل ليس بعيد عن الإدراك والتلمس , فالجميع لا يستطيع أن ينكر أنه لو تواجد فى بيئة أخرى غير بيئته لإنتسب لمعتقد وعادات وثقافة هذه البيئة .
العملية الإيمانية لا تقتصر على الوارثة والبيئة المغذية المُرضعة للفرد بالمفردات الإيمانية بل تدخل فيها حالة ذهنية نفسية سلوكية تميل للإيمان والتسليم إيثاراً للسلامة والإحتماء فى الجماعة البشرية .
بالطبع هناك مناخ عاطفي حاضن يدفع الإنسان للإيمان يستمده من الوسط والبيئة الحاضنة له ليرث ثقافة مُحاطة ومُسيجة بالعاطفة .. فالعاطفة الوحيدة الكفيلة بتحصين الإيمان وإبقاء مفرداته داخل النفس البشرية فهى مجرد مناخ دافئ يحتضن الخرافة برفق وحب , ومنها تبرز منهجية فكر وسلوك تمارس ترويض العقل وتثبيت الخرافة .

أحاول فى هذا البحث رصد السبل الذهنية التى يتحايل بها الإنسان لقبول أفكار ميتافزيقية ليخلق منها القدرة على الإعتقاد لتجد لها سبيلاً فى داخله تصل لحالة من اليقين والحماس الغريب . لذا دعونى أقدم أمثلة على الإنسياق للإنحياز الجمعى إستلهمت تأملاتها من برنامج "ألعاب العقل " المقدم على قناة ناشيونال جيوجرافيك .

- المشهد الأول عبارة عن تجربة فى عيادة طبيب لمجموعة من الأفراد مشاركون فى إعداد التجربة أمام فرد غريب , وذلك بأن يقفوا لعدة ثوانى عندما يسمعون صوت جرس ثم يجلسون بعدها .. ينضم إلى هذه المجموعة شاب هو المعتنى به دراسة رد فعله .. يدق الجرس فتقف المجموعة لينظر لهم هذا الشاب مستغرباً ثم يدق مرة ثانية وثالثة لتعاود المجموعة الوقوف , وفى المرة الرابعة يشاركهم الوقوف عند سماع صوت الجرس.!
تبدأ التجربة فى منحى آخر حيث يتم خروج المجموعة المُلقنه على الوقوف عند سماع الجرس بأفراد غرباء كصاحبنا الأول لنراه مازال مبرمجاً بالوقوف عند سماع صوت الجرس ليتبعه هؤلاء الوافدين الجدد ليسلكون نفس مسلكه عند سماع الجرس .! فبماذا تفسر هذا ؟!

- مشهد آخر من برنامج ألعاب العقل أيضاً لمجموعة من الحضور المشاركين فى اللعبة بإبداء الإعجاب والتصفيق على كلام محاضر يتفوه كلام مهترئ غير متجانس ولا متماسك , لينضم لهذه المجموعة عضو جديد هو المَعنى بإجراء التجربة عليه ,ليجلس ويستمع ويجد التهليل والتصفيق على كلام المهترئ , فيستغرب ولا يشاركهم التصفيق للمرة الأولى ولكن مع توالى التصفيق يبدأ يشاركهم التصفيق والتهليل .! فبماذا تفسر هذا المشهد سوى إنه الإنصياع لرأى الجمهور .

- مشهد ثالث جاء من ملاحظاتى عند التبضع , فعند شرائى لطماطم من السوق لاحظت إقبال الجمهور على بائع محدد للطماطم لا تختلف بضاعته عن آخرين محيطين به من حيث الجودة والسعر لأجد المارة تنجذب لشراء الطماطم من هذا البائع بالرغم ان الطماطم لديه لا تختلف عن زملاءه البائعين فى الجودة والسعر كماذكرت .فبماذا تفسر هذا المشهد سوى أنه الإنحياز للمجموع .
فى نفس سياق المشهد السابق لاحظت عند شرائى مسحوق للغسيل من أحد المولات أن هناك إقبال على شراء مسحوق محدد بالرغم أنه لا يختلف عن مساحيق أخرى فى الرفوف المجاورة من حيث السعة والسعر والحجم , علاوة على عدم وجود صيت إعلانى لأى منها فكلها مساحيق مغمورة , ولكن الإقبال جاء من ملاحظة الزبون أن هناك إقبال على هذا المسحوق فهو لم يتبقى منه الكثير من العبوات على الرف بينما المساحيق الأخرى تكاد تكون مكتملة ليعطى ثقته فى هذا المسحوق عن نظائره فهناك إقبال عليه من الآخرين مما يجعله مصدر ثقة .!

- مشهد رابع كتبته فى مقال سابق بالحوار منذ أكثر من أربع سنوات بعنوان خمسة قرود وأراه أكثر ثراءاً لذا سأستفيض فيه .
فى إحدى مراكز البحوث الأمريكية تم إجراء تجربة علمية بغية دراسة ماهية السلوك ومحدداته , فتم إحضار خمسة قرود ووضعها داخل قفص , ثم تعليق حزمة من الموز بأعلى سقف القفص فى منتصفه , ووضع تحتها سلم حتى تتمكن القردة من تسلقه , لنجد قرداً من المجموعة يعتلي السلم محاولاً الوصول إلى الموز وما أن إقترب ليناله حتى قام المشرفون على التجربة بتسليط رشاش من الماء البارد على القردة الأربعة الباقين فأثار فزعهم ورعبهم .. بعد قليل حاول قرد آخر أن يعتلي نفس السلم ليصل إلى الموز , ليتكرر نفس السيناريو بإغراق القردة الباقين برش الماء البارد عليهم عند كل محاولة لأى قرد صعود السلم والإقتراب من الموز .. لم يستمر هذا السيناريو كثيراً لنجد أن القردة تحاول منع أى قرد يحاول إعتلاء السلم للوصول إلى الموز خوفاً من الماء البارد ولتستسلم جميعا فى النهاية لحالة عزوف عن الإقتراب .
المشهد الثانى فى التجربة هو إخراج قرد من الذين شاهدوا رش الماء وإستبداله بقرد آخر جديد لم يعاصر مشهد الماء البارد المصاحب لصعود السلم والإقتراب من حزمة الموز , ليُقْدم هذا القرد الوافد الذى لا يحمل خبرة الأذى التى تحل بالقردة حال الصعود لتسلق السلم ونيل الموز , لنجد القردة الأربعة تَهب لمنعه عند محاولته التسلق ولا تتوانى فى مهاجمته ليتعلم هذا القرد الجديد أنه لو حاول تسلق السلم وقطف الموز سينال علقة ساخنة من باقى المجموعة .
يتم إخراج قرد أخر وإستبداله بقرد جديد ليتكرر نفس المشهد بإقدام الوافد الجديد على تسلق السلم بغية الإقتراب من الموز لتنهال عليه المجموعة بالضرب ويشاركها القرد الوافد فى المشهد الأخير بل يضرب بحماس بالرغم أنه لم يعاصر رش الماء البارد ولا يدرى لماذا ضربه رفاقه فى السابق , ولكنه تعلم فعلا إشتراطياً أن الإقتراب من السلم وتسلقه عمل محفوف بالمخاطر يعنى الضرب .
المشهد الثالث - تستمر التجربة بتكرار نفس السيناريو بإخراج قرد ممن عاصروا حادث رش الماء عند تسلق السلم والإقتراب من الموز ليتم وضع قرد جديد ليتكرر نفس الموقف ورد الفعل إلى أن نصل يإستبدال كل المجموعة القديمة ممن تعرضوا لرش الماء بقرود جديدة كل أفرادها لم تشهد رش الماء عند تسلق السلم لنجد القردة تنهال ضرباً على كل من يجرؤ على الاقتراب من السلم وصعوده متوجهاً لحزمة الموز بالرغم أن الجميع لم يعاصروا الحدث . !!
..وتنتهى التجربة بإستسلام كل القردة لحالة من السكون وعدم الإقتراب .

- من هذه المشاهد نستطيع إدراك وتلمس تعاطى الإنسان مع الإيمان , فالأمور لا تزيد عن حالة من التأثير الجمعى ليتشكل السلوك من تأثير الجماعة البشرية , ففى التجربة الأولى نجد الشخص إنساق للمجموع عند سماع صوت الجرس ليتصور أن هناك نظام عليه إتباعه ومن هنا نفهم التعاطى مع الطقوس وتقليد الجماعة الدينية حتى لو كانت هذه الطقوس بلهاء ليست بذات معنى .
-كذلك التجربة الثانية والتصفيق لكلام المهترئ , فهنا يذوب الفرد فى الجماعة فهماً وسلوكاً وهذا نجده حاضراً عند الإستماع للخطب والمواعظ فى الجامع والكنيسة حيث الكلام المشبع بالخرافة والتهافت ليجد إستحساناً ويذوب الجميع فى هذه الحالة .

- المشهد الثالث الذى يبين الإنجذاب لسلعة محددة بناء على إقبال المحموع عليها تُبين أن الإنسان يبحث عن الأمان من خلال تجارب الآخرين فهو يسلم بحسن تقديرهم فى الإختيار فلا يريد أن يشذ عن المجموع لتأتى خياراته فى نفس منحى الجمهور لنتلمس هذا فى الحجة التى تقول ليس معقولا أن مئات الملايين من المؤمنين بالإسلام أو المسيحية أغبياء لايفهمون شيئا , فهو يسلم توجهه لما هو شائع ليجد أمانه فى الإنضمام والإنخراط فى رؤية المجموع .

- المشهد الرابع الخاص بالخمسة قرود ثرى بالرؤى والملاحظات , فهذه التجربة تلقى الضوء على السلوك و ردود الفعل وكيفية تكوين السلوكيات والخبرات التى تشكل الوعى .. ويمكن أن نلاحظ مدى تشابهها مع السلوك الإنسانى ليس للتقارب بين الإنسان والقردة بيولوجياً وجينياً كون الإنسان ينحدر من أصول القردة لكن من تأمل السلوك الإنسانى الإجتماعى فى مجمله , فلن يخرج تشكيل السلوكيات والخبرات من مشاهد حياتية تم إستنتاجها كمسلك القردة فى تحاشى رشاش الماء , وإن إحتوى الوعى والذاكرة الإنسانية على سعة كبيرة وهائلة من الخبرات والمشاهد بحكم تطوره ومرونته .
سأحاول من خلال تأملاتى أن أسقط تجربة الخمسة قرود على تعاطى الإنسان مع الإيمان لنتحسس كيفية تكوين الإيمان والضمير , وكيف يتعصب الإنسان لسلوك ومعتقد لا يتلمس أى شئ من مفرداته سوى أنه سمع عن رش الماء البارد عند تسلق السلم .
المشهد الأول فى التجربة الذى يتم فيه إيذاء القردة بمجرد إقتراب أحدهم من الموز يعطى لنا معنى عن تكوين الإنطباعات الأولى للأحداث والأفكار عندما تكون مفرداتها مصحوبة بالمعاناة والألم , فمعاناة القردة من رشاش الماء البارد التى وجدت فيه صورة مؤلمة جعلتها تعزف عن تسلق السلم لتتشابه مع معاناة الإنسان من قسوة وألم الطبيعة مع عدم إدراكه سببها ليجعله يخلق فكرة النحس أو الخطيئة كإرتباط شرطى يكون مصاحب لجلب الألم والشر , ويتم هذا الأمر عبر الملاحظة أو إيجاد علاقة شرطية متوهمة بحثاً عن شماعة وسبب .. فكلما صادف الألم فى صورة معينة بحث عن سبب وربطه بفعل له أو لغيره جلب النحس والشر المتمثل فى رشاش الماء , لذا عليه أن يكف عن فعل هذا الشر إلا وسيجلب الألم والمعاناة , وبما أن الفعل السلوكى دائم الإنتاج فستصبح معقولية فكرة السلوك السئ الجالب للشر قائمة .
لا تكون فكرة النحس والشر مقصورة على منهجية إنساننا القديم فمازلنا حتى عصرنا الراهن نتعامل مع الحظ والنحس والتشاؤم لتجد من يقول بأن يومه كان سيئا لأنه رأى فلان أو أن تجارته ومشاريعه كسدت من جراء الحسد أو أن خسارته وفشله لأن الله غاضب عليه .

بحث الإنسان عن الربط الشرطى بشئ محدد جاء من مراقبته وحالته النفسية ومزاجه العام وعلاقاته وصراعاته وتجاربه المحدودة المبنية على الملاحظة مع وعى معرفى يقترب من الصفر ومشوه فى الوقت ذاته لينحاز إلى الوعى الجمعى ليجد أمانه , ولتقفز الأهواء والمصالح المادية تحدد مسار التحريمات والتابوهات التى تجلب الشر , فلا توجد فكرة ولو خيالية أو غير منطقية ليس لها غايات ومصالح وحاجات على الأرض , لتستغل النخب والقوى المهيمنة فى الجماعة البشرية فكرة الإرتباط الشرطى لتسخيرها لخدمة رؤيتها وترسيخ وتأكيد وحماية مصالحها فتعلن مثلاً أن الشر الحادث هو نتيجة عدم الخضوع للإله المالك أو أن العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج تجلب الشر على الجماعة البشرية من غضب الإله الذى يحرك الطبيعة فينفخ مجلباً الأعاصير أو يدك الأرض بقدمه فينشئ الزلازل .. هى سوقت هذا من خلال رؤيتها ومصالحها الخاصة , فطبقة الملاك تخشى على أملاكها من التبدد من إختلاط الأنساب , فزعمت أن الآلهة تنزعج من الممارسات الحرة حتى تحول أن يقترب أحد من أوانيها الجنسية لتضمن نقاءها .

الميثولوجيا الدينية حافلة بالفعل الشرطى الذى يربط بين المصائب والخطيئة , فأسطورة الطوفان جاءت من فساد البشر وغضب الإله وكذلك سدوم وعمورة وكلما تجولنا فى التراث الدينى سنجد الكواراث والمصائب هى نتاج سخط الإله وغضبه من الشرور أو من يناصب مؤمنيه العداء .. ولا يكتفى التراث الدينى بإمدادنا بكم من الصور العقابية التى نالت البشر لإقترابهم من الموز (الخطيئة ) بل يصاحبها تفسير بأن الأمراض والكوارث الطبيعية عقاب إلهى للإنسان على فعل الشر والخطيئة كما يبررون أعاصير تسونامى مثلا .. فهاهم البشر يصوب نحوهم رشاش الماء لأن فصيل منهم إعتلى السلم ليقترب من الموز ( الخطيئة ) .

العقاب الذى يعاقب به الإنسان نتيجة إقترابه من السلم هو الخطية فى المنظور الميثولوجى الإنسانى , والخطية هنا تتسع دوائرها لتحتفظ بدرجة عالية من المرونة تتحمل مصالح وغايات نخبوية متزايدة تريد الهيمنة والسيادة بجوار إحتضانها الساذج لتفسيرات ألم الطبيعة .. وأرى أن مصالح النخب هى الأساس فى تفسير الألم الطبيعى بل يمكن القول أن إيجاد تبرير ألم الطبيعة من الإله يأتى كتغليف وتمرير مصالح فردية تحركها السيادة والحاجة .

لا يكون ربط الإنسان الألم والمصائب التى تحل عليه من الخطيئة والسلوك السئ مقتصراً على الإنسان القديم بل لها حضور هائل فى ذهنية الإنسان المعاصر فنجد مثلا ربط المصائب والبلايا التى تحل بالابناء لأننا أطعمناهم بمال حرام دخل جوفهم فأصابهم بالأذى كإنتقام إلهى لأننا سرقنا ونهبنا وإرتشينا فقد سلط رشاش الماء البارد علينا وعلى من حولنا .. كما نلاحظ أيضاً تبرير كارثة تسونامى لأن بها منتجعات سياحية يُشرب فيها الخمر وتُمارس فيها علاقات جنسية حرة .

المشهد الثانى فى تجربة الخمسة قرود هو تكون الخبرة لتجد لها مفردة فى الوعى , فقد أدركت القردة من التجربة أن تسلق السلم والإقتراب من الموز سيواكبه رشاش الماء البارد لذا عندما حل عليهم قرداً جديد لم يشهد السيناريو السابق وإندفع ليتسلق السلم للحصول على الموز وجد الممانعة من رفاقه لدرجة التعدى عليه عند محاولة تسلقه السلم , وهنا أصبح لدى الجماعة ما يطلق عليه مفردات ثقافية بلورت خبرات ورؤى سابقة .

مشهد القرد المتحمس للنيل من القرد الصاعد للسلم بالرغم أنه لم يعاين مشهد رش الماء هو تعبير عن تأصيل الثقافة من خلال التلقين والتوصيات التى تم تصديرها وفرضها , فهكذا حال الإنسان الدينى فى كل مستويات تعصبه فهو لا يمتلك التجربة والمعاينة التى تجعله متحمساً لمفرادته التى إكتسبها من أسلافه فهو لا يدرك شيئا عن الإله كذات وكينونه ولا يمتلك أى معرفة توثيقية لما يحمله على عاتقه من خرافات وغيبيات وإفتراضات ولكن تجده متحمساً ليأخذ جانب التعصب والعنف !!.. هذا الحماس نتاج إكتسابه لمنهجية رشاش الماء البارد أى العقاب الذى سيلحق به ليتشكل لديه فوبيا تدفعه لممارسة العنف ضد الشطط الذى يراه .

هذا المشهد يجد تطابقه فى السلوك البشرى عندما تصاغ الممنوعات والتحريمات ويكون لها سطوة وسلطة لتنفيذها وتجد سبيلها كقانون فهذا الطفل القادم للحياة أو أى فرد فى الجماعة البشرية ليسوا أحرار فى إقدامهم على تسلق السلم والإقتراب من الموز فهذا سيضرنا بإلحاق الضرر بنا لذا يجب أن نعلمه ونصدر له خبراتنا حتى لو إستعملنا القسوة بأن الإقدام على الموز (الخطيئة ) هو جلب لرشاش الماء البارد ( غضب الإله وإنتقامه ) .. لذا نجد التراث الدينى بمنهجه ومفرداته هو التلويح الشديد برشاش الماء سواء فى الحياة أو فى العالم الآخر المُفترض للحيلولة دون إقتراب أحد من الموز وهذا ما يطلق عليه التشريع لتسوق دائماً مقولة بأن الفعل الشرير ينزع البركة والسلام والخير من المجتمع ..
ولنفهم معنى فكرة الوصاية بمن رأى منكم منكراً فليغيره بيده أو بلسانه أو بقلبه , ويؤكد هذا التاريخ الحافل من سطوة المؤسسات الدينية اليهودية والمسيحية والإسلامية فى مناهضة من يقترب من الموز ( الخطيئة ).

المشهد الثالث المتمثل فى إنصراف القرود عن الإقتراب من السلم والتعرض لأى قرد يحاول تسلقه والإقتراب من الموز بالرغم أن جميعهم لم يشهد حدث رش الماء بل وصل لكل واحد منهم عن طريق التاريخ والثقافة التى تمثلت فى تابو أخذ طريقه فى مفردات الوعى الشرطى ... هذا المشهد نجده ماثلاً أماما عيوننا فى شتى سلوكيات الإنسان ويتجلى بشكل قوى وواضح فى الميراث الدينى والإيمانى , فالجميع مَحْملون بمجموعة هائلة من التابوهات والفوبيا بعد أن تحول السلوك البدئى المتمثل فى شرط إستنتاجى من الأب الأول الذى كونه من وعيه الخاص وحظه المعرفى لم تخلو من مصلحة وغاية بحثت عن تأصيلها وتكريسها لتتأطر فى تابو وفوبيا إلى الأحفاد , ومن هنا نشأ الحرام ليتم توريثه كخبرة تجد سبيلها فى النهاية كمفردة معرفية ثقافية مجردة أو ناموس إنفصمت من تاريخ إنطباع تجربة الأب الأول لتصبح قيمة .

لو لم يوجد ألم ماكان هناك سلوك سواء إيجابي أو سلبي لأن الإيجاب والسلب سيكونان بلا معنى لإنتفاء السبب ووحدانية الحالة الشعورية .. فمن رحم الألم نبنى رؤيتنا وتصورنا كمحاولة للخروج من دهاليز الألم .. والمحاولة هنا تعبر عن مستوى وعينا ومدى تطور فكرنا وحظنا من المعرفة , ولكن فى كل الأحوال لن نترك أنفسنا أسرى داخل دوائر الألم نتجرعه فسنبحث عن طريقة للحل حتى ولو كانت واهية واهمة خالية من العقل والمنطق ولكنها وسيلتنا الوحيدة لتجاوز الألم أو محاولة تخديره .. هذه الرؤية يتم توريثها بفعلها الشرطى فكما أن القرود توارثت معرفة وخبرة بأن الأذى سيلحقها عندما تقترب من صعود السلم , فالإنسان صدر معرفته الأولى عن المرض والكوارث والمصائب لأجيال لاحقة بأنها محن وآلام نتيجة إنصرافنا عن الإله أو الطعن فيه أو هى نتاج أعمالنا الشريرة التى إرتكبناها , وحتى نتجاوز رش الماء علينا أن نعزف عن الخطية والذنوب ونتماهى فى تقديم العبادة والقرابين .

الإنسان يكون خبراته من المشاهدة بغض النظر عن أن الخبرة جاءت برؤية منطقية وعقلية متماسكة أم لا , فهذا يتوقف على وعيه وحظه المعرفى , فهو يرى الطبيعة تزأر أمامه وتعلن عن غضبها بالأعاصير والفيضانات والزلازل والأمراض نتيجة إنصرافه عن تقديم القرابين , لذا تولد مفهوم الحرام من إقدام أحد الإقتراب من السلم وتسلقه الذى هو الإتجاه نحو الخطيئة ليتم نهره وضربه ضرباً مبرحاً لأنه سيجلب رش الماء الذى هو الكوارث الطبيعية أو المصائب التى تحل على الجماعة .. فلا تكون الخطيئة هنا حرية شخصية وفعل إنسانى يجنى هو ثمارها بل لعنة ستلحق بالجماعة من ممارسة تلك الخطيئة ولعل هذا يفسر تلك الحمية الغريبة الغير مبررة فى النفور الشديد من علاقة جنسية حرة أو أن تترك المرأة رأسها بلا حجاب أونقاب فهو موروث قديم أخذ المعنى ونسى أصل المشهد .. منظور يرى اللعنة ستحيق بنا من كوارث ومصائب من اجل هذه المرأة الزانية أو تلك التى تركت شعرها يتنفس هواء ولنستدعى من الذاكرة مشهد الزلزال الذى أصاب مصر فى بداية التسعينيات عندما عزى الدعاة أسباب الزلزال بالغضب الإلهى لأن الكثير من نساء مصر لا يرتدين الحجاب , لتنتشر حينها حمى إرتداء الحجاب خوفا من رشاش الماء .

رؤية الفكر الديني اليهودي والمسيحي والإسلامى أن الكوارث التى تحيق بالبشر نتاج الشر والخطيئة تجد لها معنى فى جذرها البدئى , وأن مقاومة هذا الشطط هو واجب دينى حتى لا تحيق الكوارث بنا كفعل رش المياة على القرد المتسلق , وإن كنت أعزى أيضا سبب الحدة ودس الأنف فى سلوك الآخرين من رغبة فى ممارسة العنف سلوكاً وقولاً وفعلاً على الآخر لتحقيق رغبات عنيفة حبيسة تحت الجلد تريد التنفيس والفعل من خلال لذة الوصاية والإستبداد
والعنف .

الإنسان كائن مبدع برجماتى قادر على توظيف الحدث , فرش الماء المؤذى لا يكون على فعل محاولة نيل الموز فحسب بل سيتم وضع قائمة من التحريمات والتابوهات تتوافق مع الظروف الموضوعية للمجتمع وسيوظف السادة التابو لخدمة مصالحهم وهيمنتهم وتكريس مشاريعهم وفقا لكل زمان فتتكون الشريعة التى تترجم كل التابوهات وتخلق الفوبيا حولها وتصبح أى محاولة للإقتراب من السلم هو الخطر والشؤم القادم .. فلا تقل أن هناك غيرة دينية تحركها ولا يمكن أن نختزل الأمور بالفهم الغير صحيح للأديان بل هى بكورية الفكرة الدينية والقدرة على حضورها و تطويعها .

هذا السلوك الإنسانى نسميه تكوينات ثقافية .. فالثقافة جاءت من تراكم خبرات سواء صحيحة أو فاسدة مرتبطة بصعود السلم والأذى الذى يلحق ببقية القرود مكون لفكرة مشروطة يتم توريثها لأجيال لاحقة .. فهكذا الإنسان يكون رؤيته وخبرته من خلال مشهد يفهمه بطريقته وفقا لحجم وعيه وحظه المعرفى ليعتبره بمثابة نظام سلوكى يتم توريث هذه الرؤية لأجيال لاحقة لم تعاين المشهد بل ورثت المعنى والرؤية من الأباء والأجداد كحال القرود فىالمشهد الأخير .

الإنسان يحول تجربته لمعنى وقيمة تصل فى معظم الإحيان إلى التجريد والإختزال ويتم نسيان السبب البدئى الموضوعى الشرطى الخالق للفكرة الأم المُشكل لمكوناتها كما فى آخر مشهد لتجربة القرود الخمسة ..لتتفرد القيمة بذاتها كمفردة تتجمع مع مثيلاتها من القيم لتشكل الثقافة المهيمنة التى تتمرر من خلال تأثير الأب والعشيرة على القرود الصغيرة ( الأطفال ) ... لذا يمكن تفسير تعنيف الإنسان لذاته عند فعل الخطيئة وحميته ضد سلوكيات الآخرين بالضمير , فالضمير ليست ذات منفصلة أو تكوين مادى بل هى مجمل التابوهات التى تكونت فى الذهنية الإنسانية منذ نعومة الأظافر لتشكل محددات كل من ينتهكها أو يتجاوزها يٌدرك أنه تعدى خطوط حمراء .

الإنسان يرث ويورث القيمة كمعنى وموقف ويتم نسيان الظرف الموضوعى الخالق والمشكل للفكرة لدى الأب الأول , ولكن لابد لتوريث وتكريس الفكرة أن تكون مصحوبة بالعصا أى رشاش الماء البارد .. بغض النظر عن كون العصا ذا تفسير حقيقى متماسك أم لا , فلن تورث أى فكرة و لن يكون لها أى وجود بدون تواجد منهجية العصا (الألم) , ولعل هذا يفسر تواجد الفكرة الدينية بأذهان البشر فى هذا الواقع المغاير الذى أدرك فيه الإنسان الكثير من الوجود , فهو ميراث فوبيا رشاش الماء الذى تحول من جهل الألم الأرضى إلى الجحيم الإلهى الذى مازال حاضراً لعدم تخطى مرحلة الفطام .. هى منهجية اللعب على الألم والعصا والشغف بالراحة وأكل الموز بدون رشاش ماء بارد .

الإيمان هو سلوك نتاج حالة ذهنية ونفسية خضعت للمجموع وتماهت فى ثقافته ومفرداته كحالة خانعة خاضعة للمجموع بدون تفكير وبدون مقاومة أو محاولة تقليب المعطيات لذا يجد الإيمان بالخرافة حضور من رغبة نفسية ذهنية تترجم ذاتها فى سلوكيات تجد سلامها فى الإنسياق لرغبات ورؤى الجماعة البشرية وإنحيازها له ولخياراته فهى تجد أمانها فى الإلتصاق به .. ليس معنى هذا أن كل البشر على هذه الشاكلة فهناك من إمتلكوا الجرأة مع الحرية ليتوقفوا ويقولون لماذ أقف عند سماع صوت الجرس , أو أقبل على شراء سلعة محددة , أو من بائع محدد , أو أستسلم لفوبيا الآخرين من رشاش الماء .

دمتم بخير.
"من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " أمل الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع .



#سامى_لبيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مائة حجة تُفند وجود إله-من 57إلى 61
- تأملات فى الإيمان والدين والإنسان
- تناقضات قرآنية – جزء ثالث
- تناقضات قرآنية - جزء ثانى
- تناقضات قرآنية بالجملة -جزء أول .
- مائة حجة تُفند وجود إله-حجة ستة وخمسون
- وهم المصمم العاقل..كون بلا عقل
- وهم المصمم العاقل..التصميم فاعل طبيعى
- لغز داعش ؟ ابحث عن المستفيد .
- تأملات شيوعية .
- تحريف القرآن من المنطق ومن شهادة الصحابة
- التحريف فى الكتب المقدسة-تحريف الكتاب المقدس
- آيات ونصوص يجب مصادرتها وحظرها
- قضية للنقاش : هل هو إرهابى أم إستشهادى ؟
- تأملات لادينية فى الإيمان والأديان السبب والأثر
- خربشات ومشاغبات ومشاكسات-الأديان بشرية
- إنهم متبجحون-مائة خرافة مقدسة(من70إل85)
- أقوى تأمل وفكرة راودتنى
- السببية تنفى وجود وفعل الإله !-تأملات إلحادية(9)
- مغالطات بالجملة فى مفهوم السببية-خواطر إلحادية(8)


المزيد.....




- هل قررت قطر إغلاق مكتب حماس في الدوحة؟ المتحدث باسم الخارجية ...
- لبنان - 49 عاما بعد اندلاع الحرب الأهلية: هل من سلم أهلي في ...
- القضاء الفرنسي يستدعي مجموعة من النواب الداعمين لفلسطين بتهم ...
- رئيسي من باكستان: إذا هاجمت إسرائيل أراضينا فلن يتبقى منها ش ...
- -تهجرت عام 1948، ولن أتهجر مرة أخرى-
- بعد سلسلة من الزلازل.. استمرار عمليات إزالة الأنقاض في تايوا ...
- الجيش الإسرائيلي ينفي ادعاءات بدفن جثث فلسطينيين في غزة
- علييف: باكو ويريفان أقرب من أي وقت مضى إلى اتفاق السلام
- -تجارة باسم الدين-.. حقوقيات مغربيات ينتقدن تطبيق -الزواج ال ...
- لأول مرة.. الجيش الروسي يدمر نظام صواريخ مضادة للطائرات MIM- ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامى لبيب - لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون-الإنحياز الجمعى