|
منارات في الذاكرة ..!
ميشيل زهرة
الحوار المتمدن-العدد: 5333 - 2016 / 11 / 4 - 20:54
المحور:
الادب والفن
عندما تضيق الأجساد بالأرواح ، تدفع تلك الأرواح المجنونة بالأجساد لأن تسلك سلوكا يكسر زجاج المألوف . و يحطم فخار الأعراف المحيط بالكائنات الطامحة إلى اجتياز جدران المكان الذي يحاصر الروح و الجسد ..! لذلك ..أرسل لي ، على الإيميل ، عبودي ابن خالتي قصته التالية : كنا مجموعة من الأولاد الأشقياء ، في قرية مرمية على أطراف البادية . مثل ذئاب جائعة ..أو مثل مهور لم تروّض على أيدي من يهمهم أمر ترويضنا . لنصبح فيما بعد ، على حد فهمهم ، كائنات اجتماعية صالحة . لم نترك مغارة إلا و اكتشفناها ، رغم التخويف الدائم ، من الضباع التي تسكن تلك المغاور . و لم نترك اسطبلا ، في الليل ، إلا و دخلناه بحثا عن فراخ الطيور في أعشاشها . رغم أن الجن يسكن الأماكن المظلمة ، كما أفهمونا . رغم الخفقان الدائم للقلب الخائف من ظهور كائن ما يحولنا إلى كائنات ممسوخة لا تليق بحضرة الجماعة التي تشتغل على ترويضنا ، كنا ندخل الظلمة لنكتشفها ، و لا أنسى تلك اللذة العارمة التي كانت تُغرق قلوبنا الصغيرة ، بعد أن ندخل المقابر في الليل ، رغم الخفقان الرهيب للقلوب ، و نخرج منها بلا اصطدام مع الكائنات غير المرئية ..ذلك الكشف ، كان يؤسس لجموح جميل سوف يزيد في الرغبة في البحث ، في الظلمة ، و الأماكن المهجورة ،عن الجنيات الجميلات ، اللواتي سيغوين الأولاد ، و يأخذنهم إلى قصور رائعة الجمال ..! تلك الجبال البعيدة كنا نحلم بالوصول إليها ، وارتقاء ذراها . و قد فكرنا طويلا في الرحيل إليها ، حاملين الزاد و الماء لكي لا نموت جوعا و عطشا . و كم غنينا لتلك الجبال أغنية استعرناها من تراث القرية ..لا بد أن ثمة من غناها قبلنا ، لنستنهض أرواح الجبال أن تقترب منا ، و نذهب إليها لنلتقي في وسط الطريق . ذات يوم ، كنا نحن الثلاثة الأشقياء ، قد ذهبنا لملاقاة الباص الوحيد الذي يمر من غربي القرية ، قرب المغاور التي تسكنها الضباع ، إلى القرى البعيدة ..هناك على تلك الدرب الترابية يضطر السائق أن يخفف سرعته ، مما يتيح لنا التعلق بسلم الباص ، ليوحي لنا ذلك برحيل أبدي من المكان الذي يخنق أرواحنا ..! عندما تهادى الباص انطلقنا كالذئاب و تعلقنا بسلمه ..لكن الباص قد توقف ، ففررنا هاربين . لعل السائق قد اكتشف فعلتنا النكراء . و لم ندر أن ثمة من نزل من الباص ، و قد أشار له السائق باهتمام بعد أن نزل من وراء مقوده : تلك هي قريتك ..! فأهلا بك في وطنك . كانت العبارات غامضة على وعينا ..( أهلا بك في وطنك ..! ) عبارة تحتاج إلى ترجمة . رجل يلبس بذة زرقاء ، و قلنسوة . و يحمل في كتفه محفظة مسافر ..هو نموزج جديد لم نألفه من قبل . الرجل الحقيقي ، كما ألفناه ، عليه أن يلبس كوفية و عقال ..ربما يكون عداد الغنم ، قال أحدنا ..! وربما يكون معلما جاء إلى المدرسة ، سيأخذ عنا فكرة : إننا شياطين ، كما يصفنا مشايخ الدين في القرية . لكن الربما التي خمنّاها لم تنفع عندما لحقناه ، و كأن عالما جديدا قد تفتح أمامنا ، أو أن كائنا من الفضاء قد دخل عالمنا ، فأربكنا ، و زاد في توترنا وخفقات قلوبنا ..! لم يكن غافلا عنا ، و عن خطانا الحذرة الصغيرة ، التي نخطوها خلفه بحذر الذئاب التي ستنقض على فريستها التي تخشاها . توقف الرجل العجوز ، و ابتسم ابتسامة لم أنسها ما حييت . و دعانا أن نقترب ، بعد أن جلس على حجر ليستريح ، ليجمعنا حوله ..ما إن اقتربنا اكثر حتى رفع قبعته عن رأسه و أعادها ، فهمنا لاحقا أنه يحيينا ، لكن ضحكاتنا عندما ظهرت صلعته ، أجفلت الطيور القريبة في أعشاشها . بحذر شديد توقفنا على مبعدة منه . دقق في وجوهنا كمن يقرأ كتابا . و قال لأحدنا: ألست من بيت فلان يا بني ..؟؟ و عندما كانت الفراسة صادقة ، بدأ الاطمئنان يتسرب إلى القلوب الحذرة ..نعم يا عماه ، قال الصبي ..و أنا هل تعرفني ..؟؟ قال آخر .! و أنت أظنك من بيت فلان ..! لا .. يا عماه أخوالي منهم .! إذا لست مخطئا ..! و اختلط عليه الأمر في معرفة عائلة الثالث . كان يلفظ بعض مفردات غير مفهومة لنا .. لكنه سرعان ما يعود ليصحح بلهجتنا مع لكنة واضحة. وزع علينا بعض قطع حلوى ..مضغناها بخجل . و عندما أدخلناه الضيعة مثل عريس ، و كأننا جلبنا للضيعة كائنا تحلم بحضوره . واجهتنا امرأة ستينية ، وضعت يدها فوق عينيها ، و دققت في الرجل قائلة : ( إذا لم يكذب ظني أنت أحمد الماركاني ..! ) هل ما زالوا ينادونك : أمادو ..؟؟ ههههههه هكذا أخبرتنا أختك ، الله يرحمها ، عن أحوالك و أنت في الإرجنتين ..سلمت عليه بحرارة ..قبلت وجنتيه ، و بكت ..هل نسيتني يا أمادو ..؟؟ وهل استطعت نسيانك يا ريّا ..؟؟ و شاهدنا دموع الرجل الذي كفكفها بخجل ، و هو يشيعها بنظرات حانية ..! ليس لأمادو أقرباء في الضيعة ..! رحل من رحل ، و مات من مات . بعد حين عرفنا أنه يسكن في دار أهله الراحلين إلى التلة التي عليها مقبرة القرية . حسّن في وضع البيت قليلا ، و سكنه ، مع ذكرياته التي حملها معه من الارجنتين ، و بعض صور لصديقات و أصدقاء ، و مشروب المتة ، و مصاصة ، من بلاد بعيدة . ما كنا نتخيل المسافة التي تفصلنا عن تلك البلاد التي أتى منها ، إلا أنها وراء تلك الجبال التي كنا نتخيل : إنها نهاية العالم . يومذاك ، و نحن صغار ، عرفنا : إن هناك عوالم أبعد من تلك الجبال ..وراء البحار كما يقول أمادو ..فاتسع الحلم ، و عشقنا الرغبة في الكشف ، و عشقنا أمادو الذي راح يكشف لنا عوالم غامضة . لغة أخرى ..و نساء جميلات . و سفن و بحار ، و عواصف ترجّ الخوف في الأعماق ، ليتحول طاقة عنيدة ، في قتال الموت . صار أمادو مزارنا المقدس ، كل يوم . و لم يبخل علينا بالإجابة عن تساؤلاتنا عن تلك العوالم الغامضة التي كان فيها ..أجمل ما فيه ، أنه كان يلفظ مفردات إسبانية ، سرعان ما نسأله عن المعنى فيجيبنا مهما كان المعنى ..و خاصة تلك الشتائم التي يوجهها لكبار السن من جيله .. و المشايخ منهم . و كثيرا ما كنا نسأله عن اسماء الأعضاء التناسلية للأنثى و الذكر ، بعد أن ألفناه . كان يعطينا فرصة إلقاء النظر على تلك الصور الكاشفة الستر لنساء من وراء تلك الجبال ، التي كانت جدرانا لأحلامنا المقموعة بحصار أرواحنا و المكان . ذات يوم كنا نتحلق حوله على مصطبة بيته ، الطينية ، المطلة على الشارع الترابي ، و التي كان يرشّها بالماء ، و يروح يتنشق رائحة الطين بطريقة لم نفهمها ..و عندما ألححّنا بالسؤال عن معنى فعلته قال لنا : تذكرني ( بالأناتي ) ..أنتم يا أولاد لا تفهمون ذلك ..ما زلتم صغارا . فكّك المعنى شيئا في شيفرة ذاكرة الأجساد ، و لكن بغموض ..! لقد أدمنّا على أمادو الرائع ، و البنّاء المجاني ، دون ندري ، لأرواحنا القادمة ..! ذات يوم مرّ الشيخ ( الكاهن ) على حمارته من قربنا ، عندما كنا حول أمادو كأننا في صلاة ..و قال مؤنبا أمادو : لا تفسد الأولاد يا ( أماضو )..! رد أمادو و السخرية على وجهه :لا تخف يا شيخي ..أعلمهم جزء عمّ ..اسألهم إن لم تصدق ..فرددنا جميعا كاذبين : نعم يا جدنا ..يُعلمنا ( جزو عمّ ..! ) و اشتعلت الذاكرة بأمادو ، و اشتغل الحلم ، و الحنين إلى عوالم غامضة لم تطأها قدم ابن امرأة.
#ميشيل_زهرة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صحوة متأخرة ..!!
-
المنافقون .!
-
حوار الآلهة ..!
-
أبو خليل ..!
-
صانع العاهرات ..!
-
المعبد الأول ..!!
-
الاسطبل ..!
-
الشموع ..!!
-
الأنا ، و النحن ، و الشخصية .!
-
الزيف الإنساني ..!
-
أم رمضان و ساكو ..!
-
الخبر الذي يهز البشرية الآن ..!
-
النثر ، و الشعر ..!
-
شطحة خيال ..!
-
تهافت الأمراء ..!
-
أنا المكتوم بلا انتماء ..!
-
السيدة الغامضة ..!
-
الصورة ..!
-
قراءة في رواية الشرنقة و الفراشة للروائي محمد زهرة ، للدكتور
...
-
عبدو على تخوم المستحيل ..!
المزيد.....
-
مصر.. الشاب المصفوع من قبل عمرو دياب يعلق على قرار إحالة -ال
...
-
مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 26 مترجمة بجودة hd قصة عشق
-
-نيويورك بوست-: تأجيل إصدار الحكم بحق ترامب في تهم صمت الممث
...
-
مصر.. إحالة الفنان عمرو دياب إلى المحاكمة العاجلة
-
الروائي الفائز بكتارا يوسف حسين: الكتابة تصف ما لا تكشفه الص
...
-
الموسيقى تواجه أصوات الحرب في غزة
-
بسبب المرسوم 54.. عمران: رقابة السلطة تكبل الكاريكاتير في تو
...
-
أشبه بالأفلام.. هروب 43 قردًا من منشأة أبحاث والشرطة تحاول ا
...
-
50 دولة تشارك في المهرجان السينمائي الطلابي الدولي الـ44 في
...
-
فرح قاسم: فيلم -نحن في الداخل- وثائقي شخصي عن الحب والوداع ب
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|