أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - أديب في الجنة . الجزء الثاني. المعدل.















المزيد.....



أديب في الجنة . الجزء الثاني. المعدل.


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 5298 - 2016 / 9 / 28 - 04:34
المحور: الادب والفن
    


أديب في الجنة. النص المعدل.

*الجزء الثاني .

(47)
مهرجان القضيب المقدس !
" مولاي نحن نحلق في سماء مدينة يطوف شوارعها آلاف البشر خلف نصب لقضيب ذكري هائل الحجم محمولا على الأكتاف "
هكذا خاطر الملك شمنهورالملك لقمان .
اعتدل الملك لقمان من استرخائه على أريكة كان يضع خلالها رأسه على حضن الملكة نورالسماء . وكان الملك قد قررمغادرة سماء دولة العقائد المتعددة دون أن ينزل إلى أي معبد آخرمن معابدها تاركاً الناس والكهنة يتخبطون في أفكارهم بين أن يكون الإله الذي ظهرلهم في السماء وأحدث كل هذه المعجزات هو كبيرآلهتهم أوأحد أعوانه وبين أن يكون مجرد جني وليس إلهاً حسب ما قال لهم . وأن المعتقد الصحيح والممكن ليس إلا المعتقد الذي حدثهم عنه .
" هل تمزح أيها الملك "
" أبدا يا مولاي ! قضيب ضخم جداً يحتفون به "
أخبر الملك الملكة. قالت :
" لعله طقس قديم لديهم من زمن طقوس الخصب المقدس كما كان يحدث في روما وأثينا ومصر "
" أو لعله طقس تموزي أو بعلي أوعشتاري! هل ترغبين أن ننزل إليهم ؟"
" تنتابني رغبة شديدة في أن أشاركهم الإحتفال فهو يذكرني بأزمان مضت "
" آه منك ! وإذا كانوا يمارسون طقوساً لن نتقبل فعلها "؟
" لا أظن أنهم سيرغموننا على أن نفعل مثلهم "
وتهيآ للنزول من المركبة . خاطرالملك الملك شمنهور :
" هل سترافقنا أيها الملك ؟ "
" لو كان مهرجانا للفرج لرافقتكم يا مولاي ، أما للقضيب ..فلا ! "
هرعت أستير وهي تهتف :
" أريد مرافقتكم يا مولاي "
ثم هرعت نسمة مبدية رغبتها . وخلال لحظات بدا للملك أن أسرة المركبة كلها ترغب في المشاركة حتى زوجة ملك الملوك شمنهورالجباروابنته ومحظيته ربة الجمال . وحينها اضطر الملك شمنهورإلى تغيير رأيه .
أخبر قائد المركبة الملك لقمان أنه تلقى رسالة سئل فيها عن هوية المركبة وطاقمها ، فأعلمهم أنهم رسل محبة وسلام بقيادة الملك لقمان ، فأبدوا ترحيبهم بهم .
هبطت أسرة المركبة كلها محلقة عبرالفضاء ما عدا الأطفال وقائد المركبة ومساعدوه . وحين رأى منظموالمهرجان أن ضيوفاً هبطوا من السماء لمشاركتهم الإحتفال أفسحوا لهم مكانا خلف حملة القضيب الخشبي الضخم الذي كان منتصباً بطول ستة أمتار وسمك يقارب المترونصف على قاعدة خشبية كبيرة أقيمت على منتصف أربعة أضلاع خشبية مستطيلة بالغة الطول ، كانت عشرات الفتيات يقللنها على أكتافهن من أمام محفة النصب ومن تحته ومن خلفه .
استُقبل الضيوف بصمت شديد وهم يأخذون أماكنهم بانتظام خلف مجموعة من الفتيات محتضنات القضبان الصغاركن يسرن بانتظام خلف الموكب . وزّع المستقبلون قضباناً صغاراً على الإناث من الضيوف دون الذكور . شكرالملك لقمان الله في سره على أنهم لم يوزّعوا على الذكور، ربما لأنهم يملكون أعضاء طبيعية !
كان المحتفلون يسيرون بصمت ومهابة ينمان عن مكانة المحتفى به. مواكب مختلطة لشباب وفتيات ومواكب لفتيات أو لشباب فقط .
حمد الملك لقمان الله في سره ثانية لأن المهرجان كان قد أوشك على الإنتهاء من السير للتوقف في ساحة معبد ضخم لتوزع حلوى قضيبية على الحضورلامتصاصها ! وليبتاع الناس قضباناً خشبية أو بلاستيكية أو حجرية لاقتنائها.
بلغ الموكب ساحة المعبد حيث أنزلت محفة القضيب لترتكزعلى قاعدة حجرية ضخمة وليقف آلاف الناس في الساحة الفسيحة ليحصلوا على الحلوى القضيبية من أمام المعبد ومن أماكن منتشرة حول الساحة حيث جرى إعدادها مسبقاً، وشرع رهبان وفتيات وشبان في توزيعها على من يرغب .
راح الملك لقمان يضحك وهو يرى إلى الملكة وأستير ونسمة وسارة يمصصن الحلوى القضيبية . كانت الملكة بالكاد تلعق رأس الحلوى بلسانها، أمّا أستيرفكانت تولج قضيب الحلوى في فمها إلى آخره . تولجه بهدوء وتسحبه بهدوء متمتعة بتذوقه . تنبه الملك والملكة إليها . شعرت الملكة بعاطفة تجاهها وهي تدرك أنها محرومة من الجنس وأنها ترغب في معاشرة الملك ، خاطرت الملك هامسة :
" لقد أحزنتني أستير يا حبيبي ، ليتك تواقعها ، ولا مانع لدي إن أردت أن تتخذها عشيقة "
فوجئ الملك بمخاطرة الملكة غيرالمتوقعة ! هل يعقل أنها تخلت عن غيرتها أم أنها قتلتها في دخيلتها ؟
" لا أكاد أصدق ما تقولينه يا حبيبتي "
" بل صدق .. وإن أتحت لي فرجة على هذه المواقعة مع من كانت ملكة إنسية ذات يوم ، سأكون ممتنة "
" ها ها ! آه يا ملعونة تريدين أن تتمتعي معنا " ؟
" إن أردت يا حبيبي ! عندي رغبة شديدة . لأن أراها تتلوى تحتك كثعبان .
" سأرى "
" في أمر المواقعة أم في أمرالمشاهدة "؟
" في الأمرين معا "
على مقربة منهم كانت فتاتان في سني المراهقة ترتديان تنورتين زرقاوين تكشفان أفخاذهما وقميصين أبيضين انسدلت عليهما ربطتا عنق كحليتان وحملتا تحت إبطيهما قضيبين بلاستيكيين وراحتا تتبادلان امتصاص قضيبي الحلوى بمتعة وهما تبتسمان أحيانا وتضحكان أحيانا أخرى ، لكنهما كانتا تصمتان حين تولج إحداهما قضيب الحلوى قدرالإمكان في فم الأخرى. بدا الملك شمنهورمضطرباً بعض الشيء وهو يرقب المشهد وخالجه شعور جنسي إنسي ، فخاطر الملك لقمان :
" مولاي ! من زمن طويل لم أواقع إنسية "
" إياك أن تغوي فتاة من هنا ! نحن ضيوف وسكان هذه البلاد لا يعرفوننا "
" إذن لننصرف يا مولاي فهاتان المراهقتان أطارتا صوابي "
" يخرب بيتك واقعت مئات النساء ولديك عشرات المحظيات وخاصة ربة الجمال التي اختلست خيالي ووظفته لخلقها ولم تشبع بعد ؟"
" ثلاثة آلاف عام في قمقم سليمان يا مولاي أورثتني كبتاً مزمناً لن أتخلص منه بسهولة "
" بالمناسبة أين ربة الجمال ألم تنزل معنا ؟ "
" ها هي يا مولاي تمتص الحلوى بخجل "
وأشارإليها الملك لقمان لتقترب . فاقتربت منه ليضمّها ويقبّلها ويسألها :
" هل أنت سعيدة أيتها الربة "
" بوجود مليكي أنا دائما في غاية السعادة "
قبلها الملك ثانية . واتجه نحو أحد الرهبان الواقفين أمام المعبد وهو يخاطرالملكة :
" لا بد من مقابلة كاهن المعبد لأعرف شيئا عن هذا المعتقد "
" أهلا بكم ياسيدي ! تفضّلوا معي لمقابلة الكاهن الأعظم "
هتف الراهب بعد أن عرف طلب الملك .
" جزيل شكري "
هتف الملك لقمان . وسار مع جماعته خلف الراهب إلى داخل المعبد .

(48)
آلهة بلا حدود !
قبل الدخول إلى المعبد ألقى الملك لقمان نظرة على مرافقيه فلم يرق له مظهرالنساء وهن يلعقن القضبان أو يمصصنها ويضعن أخرى خشبية أو بلاستيكية تحت آباطهن أو يحملنها بأيديهن فأشار إليهن أن يبقين في الخارج . تنبه الراهب للأمروأشارإلى الملك أن في مقدورهن أن يبقين في بهو المعبد ، ومن تريد مرافقتة في مقدورها أن تترك قضيبها في مكان في البهو وتلتهم الحلوى قبل الدخول لمقابلة الكاهن . واستأذن الراهب ليسبقهم ويعلم الكاهن ويعود إليهم .
دخل الجميع إلى البهو الفسيح الذي انتصبت فيه عشرات المنحوتات لرجال ونساء وأعضاء تناسلية ذكورية وأنثوية ، في حين حفرفي الجدران والسقف أوضاع لممارسات جنسية مختلفة . بدا المكان للملك ومرافقيه وكأنه متحف أكثرمنه معبد وهم يتأملون المنحوتات والنقوش الجدارية بدهشة .
أشار الملك لقمان إلى الجميع بالبقاء في البهوأوالخروج إلى الساحة والتجول فيها أوالجلوس في أحد المقاهي المحيطة بساحة المعبد أفضل لهم من مرافقته لمقابلة الكاهن التي ستختصرعلى الحوار، غير أن الملكة أحبت مرافقة الملك ،فأشارإليها أن تلتهم قضيب الحلوى بسرعة وأن تترك القضيب الذي تحمله مع أستير . أعطت الملكة القضيب إلى أستير وسارعت إلى التهام الحلوى حين رأت الراهب يعود من الداخل .
كان الكاهن في حدود الخمسين من عمره. توحي هيئته بالوقارالشديد والتواضع. وقد استقبل الملك والملكة باحترام بالغ، مع أنهما لم يقدّما نفسيهما كملكين ، فقد انحنى أكثر من المعتاد وأبدى كل ما يعرفه من كلمات الترحيب . وسارع إلى إخبار زوجته للقدوم حين عرف أن السيدة المرافقة للضيف ( رسول السلام ) هي زوجته . وقد بالغت هي الأخرى في الترحيب بالضيفين .
بعد أن قدم الكاهن مشروباً محليّاً للضيفين سألهما عما في مقدوره أن يخدمهما به .
أجاب الملك لقمان :
- في الحقيقة لفت انتباهنا ونحن نمر في سماء بلدكم طقسكم الإحتفالي ، فأحببنا أن نشارك فيه ونطلع على معتقدكم . فأنا شخصياً أحاول الإطلاع على معتقدات البشرية في محاولة للتقريب فيما بينها ، لإيجاد عالم جديد تسوده المحبة والتعاون الخلاق بدلاً من الحروب والنزاعات .
أطرق الكاهن للحظات وهو يشبك يديه على صدره :
- نأمل ألا يكون احتفال شبابنا وشاباتنا بالقضيب الذكري قد أعطاكم فكرة سلبية عن معتقدنا الشنوتي . والحقيقة أن هذا الطقس ليس الوحيد في معتقدنا ، فهناك طقوس كثيرة ناجمة عن مفاهيم مختلفة للمعتقد نفسه ، وهذا الطقس تحديداً يمارس على نطاق ضيق في بلدنا ، وهو يلاقي رواجاً وترحيباً عند فئة من الشباب الطامحين في أن يحيوا الحياة بعيداً عما يمكنني أن أسميه التزمّت ، رغم أن معتقدنا بعيد كل البعد عن التزمّت لكن ليس إلى حد الإبتذال في السلوك . فالحياة في معتقدنا ينبغي أن تعاش بلحظاتها لحظة بلحظة لأن روح الخالق تسري فيها ، وأنها سائرة إلى زوال بعد الموت ، ولذلك ينبغي أن تعاش ويتمتع بها .
قاطع الملك لقمان الكاهن متسائلاً :
- ماذا تقصد بالخالق ؟ هل تقصد به الله ؟
- في الحقيقة هذا تعبير مجازي وظفته لأقرّب مفهوم معتقدنا الغامض جدا إليكم ، فيمكن القول أن لدينا مئات الآلهة التي يقف خلفها خالق كوني واحد مع أنه ليس إلهاً، فهوالمبدأ الكلي أوالقدرة الفاعلة في كل شيء. فنحن نقدس الشمس والقمر والنجوم والسماء والكواكب والأشجار والنباتات والزهور والجبال والأنهاروالصخور والينابيع والبشر ذكوراً وإناثاً والحيوانات ، وفي الإمكان القول إننا نقدّس كل شيء حتى الفرج والقضيب كونهما قائمين على الحياة الإنسانية .
- ماذا لو قلنا إنّ نيافتك تتحدث عن طاقة هي بمثابة ألوهة تسري في الكون والكائنات يتم الخلق والفعل بكل تمظهراته الكونية والإنسانية وغيرها بواسطتها. فلا هي معزولة عن الكون والكائنات ولا هما معزولان عنها ، ولذلك ينبغي احترام كل شيء لأنّها تسري فيه .
بدا الكاهن معجباً بهذا التأويل اللقماني :
- أحسنت سيادتك ! إن ما قلته هو الشرح الأفضل لمعتقدنا.
ولا يمكن للكهنة جميعا وعلى اختلاف معتقداتهم أن يتصوروا مدى دهشة الكاهن حين هتف الملك لقمان قائلا:
- هذا هو معتقدي نيافتك !
فتح الكاهن فمه على وسعه مبدياً دهشة بالغة ، لاعتقاده أن معتقده لم تعرفه أمّة من قبل . تساءل :
- لا أصدق أن ثمة أمّة في الكون تعتقد بما نعتقده !
عقب الملك :
- عفوا نيافتك ! أنا قلت معتقدي ولم أقل أنه معتقد أمّة، رغم وجود بعض الأفكارالتي تقارب المعتقد في معتقدات الأمم جميعا . ثم إننا نتحدث عما هو قائم بالخلق ، ولم نتطرق إلى المفاهيم والتشريعات العقائدية الأخرى ، فأنتم كما فهمت من نيافتكم لا تعتقدون بيوم آخِر وقيامة وبعث ونشور بعد الموت ، وهذا ما أختلف مع نيافتك حوله!
- هذا صحيح ، فهذه مسائل أكبر من أن يحلّها العقل البشري!
- ولماذا لا يجتهد العقل البشري ويحاول، خاصة وأنكم تعرفون أن معتقدكم هو اجتهاد عقل بشري قبل آلاف الأعوام ، وليس فكراً إلهياً.
- الحق معك ! نحن كرسنا وقتنا للعلم والعمل والمحبة ، ولم نول مسألة الخلق أهمية في الزمن المعاصر .
- ما أعتقده لوأنّكم أعطيتم مسألة االخلق القدرالذي أعطيتموه للعلم ، لتصبحوا متفوقين في العالم المعاصر، لقدمتم للبشرية طريقا أفضل للخلاص من مشاكلها ، خاصة وأنكم تتبعون منهجاً حضارياً في فهم المعتقد. ولكنتم بهذا حققتم النجاح في الأمرين العلم والخلق أوالروح إذا جازالتعبير .
شعر الكاهن أنه أمام إنسان لا يخلو من عبقرية فريدة ، وأنه يحمل فكراً مستنيراً يكمل فكره ويغنيه ، وأنه يطمح في الإستماع إليه والإفادة منه . قال :
- كم يسعدني أن أستمع إليكم يا سيدي ، فيا ليتكم تمنحوني بعض وقتكم لأستنيرمن معرفتكم .
- سنلتقي نيافتك ، لكن الآن يتوجب علينا المغادرة لوجود أصدقاء معنا وربما تعبوا وهم ينتظروننا .
*****
بعد خروج الملك والملكة من المعبد فوجئ الملك لقمان بما رآه في أيدي بعض مرافقيه . فقد ابتاعت أستير أربعة قضبان بلاستيكية مختلفة الأحجام . والمفاجأة الأخطرأن نسمة المتزوجة حديثا ابتاعت قضيبين! حتى زوجها ابتاع قضيباً ، وهناك نساء أخريات ورجال ابتاعوا قضباناً ، وإذا كان الملك مقدراً لظروف أستير التي حرمت نفسها من الجنس إلا مع الملك نفسه ، فإنه لم يفهم ظروف الآخرين وخاصة نسمة ، فلم يستطع منع نفسه من اقتحام خصوصيتها . ضمها إليه وهو يسألها " ما هذا يا حبيبتي ؟"
ألقت رأسها على كتفه وهي تهمس:
" زوجي عضوه صغير يا عمو "
أجاب الملك :
- لكن ليس من الضرورة أن تكون المتعة بكبرالعضو !
وقربت نسمة فمها من أذن الملك لتهمس :
- الكبير مث.. ياعمو ! ثم إن عريسي مخ ..! ألا ترى أنه ابتاع لنفسه واحداً ؟! "
وراح الملك يلعن في سريرته حظ نسمة التي كان يعتبرها بمثابة ابنته . ضمها إليه وقبّلها وتابعوا سيرهم خلف الآخرين الذين سبقوهم .
****
(49)
الألوهة مادة وطاقة !!!
في اللقاء الثاني الذي جمع الملك لقمان بالكاهن الشنوتي واقتصرعليهما بحضورالملكة نورالسماء وزوجة الكاهن، عرّف الملك لقمان نفسه كملك واقترح على الكاهن أن يتم اللقاء في شرفة على المركبة الفضائية فوافق الآخر، وقد ابتدأ الكاهن الحوار بالتساؤل :
- أشرت جلالتكم إلى أن معتقدكم يختلف عن معتقدنا بأنكم تعتقدون بحياة بعد الموت ، فهل لكم أن توضحوا لنا هذه المسألة ؟
ودون أن يطرِق الملك لقمان كثيراً تساءل بدوره :
- أشرت نيافتك إلى أن القدرة الفاعلة في الكون والتمظهرات الكونية هي قدرة سارية في كل شيء وهي ليست معزولة عن أي شيئ، ولذلك تكادون أن تقدّسوا كل شيء، وهذا ما فسرته أنا بالطاقة وتمظهراتها
المادية المختلفة ، وسؤالي هنا هل ترى نيافتك أن الطاقة تموت خاصة وأنكم قطعتم شوطاً متقدماً في وعيكم للمادة والطاقة ؟
رد الكاهن على الفور :
- أبدا الطاقة لا تموت كأهم تجليّات المادة وتحولاتها !
وهنا عقب الملك لقمان متسائلاً ، مدركاً أنّه يقود الحوارإلى حيث يريد :
- إذا كانت المادة بتحولاتها وتجليّاتها أزلية وأبدية ولا تموت فكيف يمكن أن تموت بموت الإنسان أو أي كائن آخر ؟!
أطرق الكاهن للحظة ثم هتف متسائلاً:
- ماذا يمكن أن يكون الموت في هذه الحال ؟
هتف الملك دون تردد :
- إنه مرحلة لا غيرمن تحوّلات المادة والطاقة ؟
أبدى الكاهن اعجابه بهذا الرأي وتساءل :
- وما الذي يمكن أن يجري بعد هذه المرحلة ؟
فكر الملك لقمان قليلاً قبل أن يجيب :
- للإجابة عن هذا السؤال لا بد من التطرق إلى الأسباب التي تطلبت أو أدت إلى الوصول إلى هذه المرحلة ، والتأكد من ضرورتها لبقاء المادة والطاقة في صيرورتهما الأبدية .
تحوّل الكاهن إلى مجموعة آذان كي لا يضيّع حرفاً مما سيتفوه به الملك :
- تخيّل نيافتك لو لم يكن هناك موت أو نهاية لحياة الكائنات بما فيها البشر ، أي خلود أبدي ! فما الذي سيحصل حينئذ ؟
تفكّرالكاهن للحظات ويبدو أن خياله أوغل عميقاً في التصور :
- قد يأكل الناس بعضهم بعضاً!
- أجل عزيزي لن يبقى هناك مكان يتسع للبشرعلى كوكبهم ، وقد يأتون على كل شيء حتى أنهم قد يضطرون إلى أكل بعضهم بعضاً كما تفضلت! ففي هذه الحال ماذا يمكننا أن نعتبرالموت ؟
أجاب الكاهن :
- مرحلة ضرورية لاستمرار الحياة !
- أجل نيافتكم مرحلة ضرورية لاستمرارالحياة وتجددها . فدون مادة أجساد الكائنات ستفقد الأرض غذاءها أيضا أي أنها ستفقد مادتها وطاقتها، ولن تنبت فاكهة وخضاراً وأشجاراً ونباتات ، وبالتالي ستموت الأرض نفسها ، وعلى البشرية أن تنتظر مليارات الأعوام لإنتاج حياة في دورة كونية جديدة . أو إنتاج كوكب قابل للحياة عليه .
أبدى الكاهن إعجابه وموافقته على كل ما تفوه به الملك . تساءل :
- وهل ينتهي الأمر هنا ؟
- أبدا نيافتك . هنا يبدأ الدخول في المطلق الأزلي الأبدي . أي الدخول في الألوهة نفسها كمادة وطاقة والتوحد معها !
وهنا عقب الكاهن وقد أدرك أبعاد وعمق فكرالملك لقمان :
- أي أننا نعود إلى الأصل الذي جئنا منه !
- أجل نيافتك . نعود إلى المطلق الأزلي الأبدي الوجودي المادي الطاقوي الألوهي الذي نشأنا منه ونعود إليه ، فنحن هو ، وهو نحن ، لاغنىً لنا عنه ولا غنىً له عنا ، فنحن الواحد في الكل، والكل في الواحد يتحد ! إنها الحياة الأبدية التي لا تنتهي ولا تزول !
راح الكاهن يبدي أعجابه وهو في غاية الدهشة والفرح وكأنّه وجد ما كان يبحث عنه طوال عمره ولم يجده أو يعرف كيف يهتدي إليه ، ولم يجد نفسه إلا وقد اغرورقت عيناه بالدموع فرحاً باكتشاف الحقيقة التي بدت له مطلقة، وهمّ لتقبيل يد الملك لقمان ، غير أن الملك أبى بأن سحب يده وسارع إلى احتضان الكاهن ومعانقته .
راح الكاهن يشكر الملك . وبدا أنه اكتفى بالنتيجة التي أوصله إليها الملك ، فلم يسأل عما إذا كان الإنسان
يحس بوجوده المادي الطاقوي في المطلق ( الألوهة ) . فمجرد وجوده في أبدية الألوهة ذاتها هو بالنسبة إليه أجمل ما يمكن أن يتصوره خياله !
- عاجز عن شكر جلالتكم لمنحي هذه المعرفة الخلّاقة . واسمحو لي أن أبشر بها إذا وافق الإمبراطور على ذلك !
- هذا يسرّني نيافتكم .
حاول الكاهن أن يدعو الملك إلى مائدة غداء غيرأن الملك أبى كون الكاهن ضيفه ويتوجب عليه القيام
بواجب الضيافة ، فأقام حفل غداء خرافي كالعادة على شرف الكاهن .
وافترقا على أمل أن يلتقيا مجدداً !
***
(50)
الملك لقمان في ضيافة الإمبراطورالإله !
لم يتوقع الملك لقمان أن يدعوه الإمبراطورالشنوتي إلى جلسة حوار وحفل غداء بعد أن أخبره الكاهن بقصة الملك الضيف القادم من الفضاء والذي يحمل رؤية قد تغني العقيدة الشنوتية . وكان الكاهن قد قدّم للإمبراطوركممثل أعلى وأوحد للعقيدة ملخصاً وافياً للحوارالذي داربينه وبين الملك .
جرى حفل استقبال مهيب للملك وحاشيته رفعت فيه الأعلام البيض في عاصمة الدولة بناءً على التشاور مع الملك لقمان ، وعزفت فيه الموسيقى لحناً كونيا ً إضافة إلى اللحن الوطني للدولة ، وأدت التحية للملك ثلة من حرس الشرف الإمبراطوري .. وانطلق الموكب بالملك والإمبراطورمن المطارعبر شارع طويل يوصل إلى القصرالإمبراطوري وسط حشود من الجماهير المرحبة بالإمبراطور وضيفه الملك وحاشيته رافعة الأعلام البيض وملوحة بها عند مرورالموكب من أمامها وسط تلويح الإمبراطوروضيفه الملك وقرينته الملكة والإمبراطورة .
جرى الحواربعد انتهاء حفل الغداء الذي كانت الأسماك المنوعة والمشروبات المحلية من أهم عناصره . ابتدأ الإمبراطورالحوار بأصعب الأسئلة وأعقدها كما توقع الملك لقمان:
- هل ترون جلالتكم أن للوجود علّة أوغاية وهل وجد بفعل موجد من خارجه أم أنه أوجد نفسه بنفسه ؟!
فوجئ الإمبراطور بالسرعة التي أجاب بها الملك لقمان مما يشير إلى أنه فكرفي الأمرمن قبل :
- احتمال وجود موجِد من خارج الوجود البدئي احتمال لا يتقبله العقل المستند إلى المنطق والعلم ، أي إلى الفلسفة والعلوم معا ، ففي هذه الحال يكون الموجِد موجوداً في العدم وأوجد وجوداً من العدم . وهذه مسألة لا يتقبلها العقل ، كون العدم يعني أللاشيء. فالإحتمال الممكن هوأن الوجود البدئي بدأ منذ الأزل في هيولى بدئية أوجدت نفسها بنفسها لنفسها، وتطورت ذاتياً عبرتفاعلات وتحولات استغرقت مليارات السنين وعلى الأرجح قرابة أربعة عشر ملياراً من السنين كما يرى العلم . بغض النظرعن دقة الرقم في تحديد عمرهذه الهيولى ، فقد يكون أكثر من ذلك .
ولو أننا انتقلنا إلى العلّة، وأنا افضل استعمال مفردة الغاية سنطرح احتمالين :
الإحتمال الأول : أن تكون هذه الهيولى تحمل غاية غفلة في ذاتها لا تدرك ما هي ، وإذا أردت أن أضرب مثلا يقارب المسألة سأضرب مثلا بطفل يلعب بالألوان دون أن يعرف الرسم كفن ودون أن يدرك أنه سيكون رساماً، سيبدع عالماً جميلاً في مستقبل عمره .
الإحتمال الثاني : هو أن الغاية لدى هذه الهيولى قد نجمت فيما بعد ، وبعد تفاعلات فيها ربما دامت لملايين السنين ، وقد تكون الغاية التي وجدت هي الغاية الغفلة التي تحدثت عنها في الفكرة السابقة ،والتي استغرق تطورها مليارات السنين لتصبح غاية تريد شيئاً ما وليكن خلقاً لكنها تجهل كيف يكون الخلق وعلى أي شكل سيكون . وفي الإحتمالين الأول والثاني سنطرح تساؤلاً رغم أنني أرجح الإحتمال الأول :
إذا كان عمر الوجود ( الكون ) أربعة عشر مليارسنة أو أكثر ولم تنشأ الحياة إلا منذ قرابة خمسمائة مليون سنة ، ولم يتجاوزعمرالإنسان العاقل منها بضعة آلاف محدودة من السنين ، وأن الإنسان العقلاني ( أي الإنسان الذي يفكر بمنطق فلسفي أقرب إلى العلم ) لم يتجاوزعمره ألفين وستمائة عام على الأكثر -إذا اعتبرنا بدء التفكيرالفلسفي فكراً أقرب إلى العلم - - أّمّا الإنسان العقلاني العلماني المتخلّص تماماً من الفكرالمثالي والعقائدي الديني فقد لا يزيد عمره على ثلاثمائة عام ، وهو حسب أمة الأرض بداية عصر أطلق عليه عصرالتنويرالأوروبي - فإننا حسب هذه الرؤية سندرك أن الغاية المثلى من الوجود لم تبلغ ذروتها بعد، وأن أحداً لا يعرف ما هي بالضبط ، وما هوالكمال وكيف سيكون . وهذا يعني أن البشرية ما تزال غير مكتملة الخلق ، وأن الطاقة الخالقة السارية في الكون لم تستكمل قدرتها بعد، ولم تبلغ ذروة تطورها . وإذا جاز لي أن أطرح تصوري للغاية من الوجود ، وبشكل خاص وجود الإنسان ، فإنني أقول إن الغاية من وجود الإنسان هي أن يكون موجِداً بدوره ، وبتعبير مجازي ، أي أن يكون خالقاً ليكتمل الوجود به ، وإن شئت الغاية المثلى لوجوده ، فهي ليست إلا إقامة الحضارة الإنسانية وتحقيق قيم الخير والحق والعدل والجمال . وللأسف يبدو لي أن الإنسان ما يزال بعيدا كل البعد عن هذا الفهم .
آمل أن أكون قد أجبت على تساؤل جلالتكم .
شكرالإمبراطورالملك لهذه الإجابة الفائضة، وتساءل مجدداً :
- هل تعتبرون أن هذه الهيولى البدئية بحد ذاتها تعبرعن ألوهية ما أو تعتبر تجسيداً لها وبالتالي أن كل ما نشأ عنها يمكن اعتباره ألوهة ؟!
أدرك الملك لقمان خطورة السؤال خاصة وأن الإمبراطور يعتبر نفسه بمثابة إله حسب معتقده :
- ليست مشكلة لدي على الإطلاق في أن تكون الهيولى البدئية ألوهة، ويكون الوجود برمته هو الألوهة وأن الألوهة لا تنزه إلا بمفردة لغوية اخترعها البشرهي : الله ، أو الكامي ، أو جاد ، أو التاو ، أو براهمان ، أو حتى بوذا ، المشكلة لدي ما هي الألوهة وكيف نفهمها ، وهل هي خارج المادة والطاقة أم أنها من صلبها . في كوكبنا الأرضي ثمة معتقدات تفهم الألوهة على أنها منزهة عن الوجود ، وأنها تحاسب وتعاقب ولديها جنة ونار ، الأولى للمؤمنين والثانية للكفرة والملحدين ، وينبغي التسليم بقضائها وقدرها ، وإطاعة شرائعها والصلاة لها كل يوم أكثرمن مرة !
ابتسم الإمبراطور وهو يتساءل :
- تقصد ناراً يحرق فيها الله البشرغيرالمؤمنين به ؟
- أجل جلالتك ، والمعذّب فيها لا يموت ويظل يحترق إلى الأبد ، وكلما احترق جلده أو دماغه استبدل بجلد ودماغ جديدين لإدامة عملية الحرق !
لم يصدق الإمبراطورما سمعه ، فتساءل عن مكافأة المؤمنين في الجنة وما فيها من نعم :
- كل ما يتمناه المؤمن من نعم لم تتوفرله في الحياة الدنيا بدءاً بلحم الطيوروالظباء مروراً بأجمل الحوريات وانتهاء بالقصورالفخمة للمؤمنين ، طبعاً مع الخلود وعدم العمل ، فالمؤمن يتمتع بالطعام والشراب والنساء ولا شيء غير ذلك عليه أن يفعله ، حتى العبادة ترفع عنه !
مازح الإمبراطورالملك قائلاً :
- من سوء حظنا أننا أنا وأنت لسنا مؤمنين !
ثنّى الملك على المزحة بقوله :
- أمر مؤسف جلالتك !
شعر الإمبراطورأنه أثقل على الملك بسؤاله الذي تضمن شقين ، ولم يتوقع أن تكون الإجابة مطولة إلى هذا الحد . قال :
- أظن أنني أثقلت عليكم وتحتاجون إلى راحة . وقد نحتاج إلى لقاءات كثيرة إذا كانت كل إجابة عن
سؤال ستستغرق هذا الوقت ! تفضلوا وحاشيتكم إلى قصر الضيافة . فأهلا ومرحباً بكم في بلدكم !
*****
(51)
الخالق العظيم !
الصراع بين الواقع والخيال في دخيلة الملك لقمان قاداه إلى الإعتقاد بأن الوجود لم ينشأ إلا من خيال مطلق أوجدته الهيولى البدئية عبرتفاعلات مديدة في مادتها نتج عنها طاقة هائلة عقلانية لديها القدرة على التخيل ، فشرعت في التخيل وتحقيق ما تخيلته . هذا التفكير لدى الملك جعله يجزم بإمكانية أن تدرك الطاقة وجودها المادي الطاقوي، دون أن يستبعد أن يكون ذلك هوالألوهة عينها . وبناء عليه قررأن يقيم حفل عشاء للإمبراطورالشنوتي وشعبه، يحيل فيه ما تخيّله إلى واقع واقعي مستحثا "الطاقة الكونية بل العقل الكوني بل الألوهة بل الخالق العظيم" على تحقيق ما تخيّله . اطمأن في نفسه لتعبيري الألوهة والخالق العظيم ، أكثر مما اطمأن للتعبيرين السابقين ، رغم إدراكه أن التعبيرين ( السابقين ) لا بد أن يكونا معبّرين عن جوهروطبيعة الألوهة إن وجدت ، وإذا كان ثمة مشكلة في تفكيره فهي إمكانية أن ترى الطاقة في وجودها ألوهة ، وأنها ترضى عن هذا التعبيروتقبل أن يطلق عليها " لا لا! لا بد أنها تفضّل مفردة " ألله " لا لا ! الخالق العظيم " !!
لم تكن الحفلات التي أقامها الملك أو الملك الجني شمنهورأوالشياطين ، تخلو من هذا الأمر، فكان الجميع يشعرون أنهم يحيون في واقع واقعي وليس في خيال ، دون أن يسألوا كيف يتحقق هذا الإعجاز، إدراكاً منهم لاستجابة الخالق العظيم لرغبات هؤلاء انطلاقاً من قدرته الإعجازية غيرالمحدودة . ففي لحظة تأمل من على شرفة في المركبة المحلقة في الفضاء جاهد الملك لأن يخرج من حالة الصراع التي تمور في دخيلته، وراح يستحث قواه والقوى المؤيدة لرسالته والقوة الكونية السارية في الخلق، بل و"الخالق العظيم" نفسه أن تحقق ما تخيله . قاصدا من جراء ذلك أن يجعل الإمبراطور وشعبه يؤمنون برسالته .
انبثق في الفضاء كوكب مصغرمن آلاف الجزرالصغيرة المستديرة المتجاورة المحلقة في الفراغ، أقيم عليها ملايين الموائد (المستديرة أيضا ) على أرضية نباتية ملونة بدت وكأنها منسوجة من أفخرأنواع السجاد ، وقد أحيطت بكراس وثيرة. تخلل الفراغات بين الموائد جداول صغيرة من الخمورالفاخرة انسابت بين آلاف أشجارالزهور والنباتات وآلاف الطيور والأسماك والغزلان والأرانب والخراف والعجول الصغيرة، إلى جانب آلاف كوانين الشواء التي تفوحت منها رائحة شواء الطيور والحيوانات التي كانت تتقلب على سفافيد مختلفة الأحجام، بإشراف حوريات لا يوجد لجمالهن نظير. وتوسّط هذا الكوكب حديقة مستديرة مستقلة بجزيرتها عن جزرالموائد، انبعث منها آلاف النوافيرالمائية الملونة التي كانت تندفع في الفضاء بشكل قوسي في كافة الإتجاهات، مجتازة فضاء جزرالموائد لتسقط خلف أشجارمثمرة وزهور شكلت دائرة هائلة أحاطت الكوكب ، ولتشكل المياه المتساقطة من النوافير القوسية نهراً ملوناً محلّقاً في الفضاء خلف الأشجار، محيطاً بالكوكب كله دون أن يكون جارياً على أرضية، فبدا وكأنه سيل ماء يحلًق في الفضاء حول الكوكب. وقد زين الفضاء العلوي للكوكب بأسراب من ثريات نجومية وأقمار مشعة بألوان مختلفة راحت تحلق راقصة في فضاء جزرالموائد .
حفلت الموائد بكافة أنواع المقبلات والفواكه وكؤؤس كريستالية وصحون وشوك وملاعق وسكاكين من فضة ملونة بماء الذهب !
كانت كل مائدة تدور حول نفسها ببطء في الوقت الذي تدورفيه الجزيرة حول نفسها أيضا لتدورالموائد والجزركلّها حول حديقة مركزالكوكب التي كانت بدورها تدورحول نفسها ، ليشكل الكوكب بذلك تناغماً فريداً بين مختلف جزره وموائده، على وقع موسيقى كونية راحت تحاكي الوجود.
بدأ ملايين المدعوين بالصعود إلى الكوكب في جماعات منتظمة ممتطين مقاعد وثيرة تموضعت على أرضية نباتية سجادية. وكان آخرالوافدين الملك لقمان والإمبراطورالشنوتي وحاشيتهما ..

(52)
في رحاب الخالق العظيم !!
قبل النزول إلى مائدة العشاء الكونيّة ، حرص الملك لقمان على إقامة حفل استقبال للإمبراطور لم يشهد فضاء الكون مثيلا له، فكان أن أقدم على خطوتين اسطوريتين، تمثلت الأولى في إقامة روض شاسع مسطح على أرضية سجادية نباتية . أحاطت جوانبه وفضاءه هلامات لونية شفافة متداخلة متذبذبة يومض منها ذرات مشعة بمئات الألوان المختلفة. رؤي من خلالها مئات الحوريات المحلّقات في الفضاء، الملوحات بأعلام الإمبراطورية في حركات راقصة. وعلى مسافة منهن في الفضاء بدت كواكب ونجوم وشهب ومذنبات صغيرة تحلّق في الفضاء في أسراب أخاذة . ومدت على الروض سجادة حمراء لتمر عليها عربة الإمبراطوروضيفه الملك وقرينتاهما الإمبراطورة والملكة . انتصب على جانبيها مئتا شاب يشرعون سيوفاً باستقامة أمام أجسادهم، تلاهم مئتا حورية يرتدين الملابس البيض ويحملن آلات موسيقية ويعزفن اللحن الوطني للإمبراطورية ، تلاهن مئة فارس يقفون على يمين السجادة ممتطين خيولاً بيضاً لها رؤوس حوريات ، ومائة فارس على يسارها يمتطون خيولاً حمراً لبعضها رؤوس خيول ولأخرى رؤوس دلافين وحوريات ، تلاهم مئتا حورية من حوريات البحرالمجنحات، فمئتا ظبية برؤوس حوريات ومئتا حمامة بيضاء ومئة زرافة. وتمثلت الخطوة الثانية في أن أقدم الملك لقمان على تغيير الوضع المسطح لكوكب الجزر ليتيح لملايين الجالسين على موائده مشاهدة حفل الإستقبال ، فأماله بحركة من يده ليغدو مسرح الحفل في مواجهته . شعر جميع الجالسين بالحركة دون أن يتغير شيء في وضع جلوسهم ودون أن يسقط كأس عن مائدة، ودون أن ينقلب كرسي بالجالس عليه . لكنهم جزموا أن حركة قد تمت لكوكبهم حين وجدوا أنفسهم في مواجهة مسرح حفل الإستقبال الذي أعد للإمبراطور . ووجد الجميع أبصارهم وقد أصبحت حادة بحيث في مقدورأي واحد أن يرى كل شيء وكأنه يجري على مسافة أمتار منه .
افترقت حاشية الملك والإمبراطورعنهما لتهبط على موائدها في الجزيرة المخصصة لها، فيما هبط جلالتهما على عربة صممت على شكل نسرله ظهر مسطح ، ووقفت الملكة والإمبراطورة خلفهما .
انطلقت العربة ببطء ليرفع الأربعة أيديهم في حركة تحية ، وليبدأ حفل الإستقبال وسط أجواء خيالية جعلت الإمبراطور يشعر أنه ليس في ضيافة ملك ، بل في ضيافة الخالق نفسه ! وخاصة حين راحت الهالة الهلامية اللونية الشفافة تزحف وتنتشر لتغمر روض الإستقبال وسماءه ، ومن ثم راحت تنتشروتتوسع لتشمل كوكب الجزروالمدعوين ، مضفية ألوانها الأخاذة وذراتها المشعة ، ليتدرج الكون كله بالألوان التي راحت تتبادل القبل مع ألوانها ومع الحوريات، وترسلها في فقاعات لونية ورذاذاً يمطر خدود وأعناق المحتفين . ليبدو الجميع في عالم يبدو وكأنه ما فوق السحرأوما فوق الطبيعة، بل عالم لا يجيد صنعه إلا الآلهة ! وقد تأكد لهم ذلك حين هبط موكب الإمبراطور والملك على المائدة المخصصة لهما ، فيما كان جميع المدعوين يقفون احتراماً لهما . وليشرع الملك لقمان في الترحيب بالجميع مستهلا كلامه بالترحيب بالإمبراطوروالإمبراطورة والحاشية من الوزراء والعلماء والأدباء والمواطنين من سيدات ورجال . مختتما كلامه بالقول : أهلاً ومرحباً بكم على مائدة الخالق العظيم !
(53)
الدخول في الأسئلة الصعبة !
فيما كانت سفافيد الشواء تحلّق في فضاء الموائد ملبية رغبات المحتفين من اللحوم ، والحوريات يملأن أباريق الخمرمن الجداول الجارية ويجبن بين الموائد ليترعن كؤوس المحتفلين بالخمر، كانت مخيّلة الإمبراطورتحضّر بعضاً من الإسئلة الصعبة التي بدا أنه في حاجة ماسة إلى معرفة رأي الملك لقمان فيها . رغم أن لديه أجوبته كممثل للخالق أو للخالقين على الأرض . لكنه وكما بدا واضحا للملك غيرمتيقن منها وغير متعصب لها على الإطلاق في الوقت نفسه. ورغم أن الملك لقمان لا يدعي اليقين المطلق أيضا ، إلا أن استجابات الطبيعة لرغباته كانت تثيرحيرته . كما أن إدراك الملك أن الوجود لم يكن عبثيا وأن له غاية من الأساس، مسألة يتفق عليها الإمبراطورمع الملك . أخذ جرعة من الخمرأعقبها بقطعة صغيرة من فخذ ظبي . مسح شفتيه بفوطة المائدة بعد أن ابتلعها ، وشبك أصابع يديه على المائدة ناظراً إلى الملك لقمان في مواجهته . أدرك الملك أن ثمة سؤالاً إعجازياً يحضّره الإمبراطورفي الطريق إليه ، ولم يكد يخرج من توقعاته حتى هتف الإمبراطور بلغة رسمية مهذبة :
- هل في مقدور جلالتكم أن تخبرونا ما إذا كنا الآن نأكل ونشرب ونعيش في واقع متخيّل أم في واقع واقعي ؟!
أدرك الملك ما كان يتوقعه . مسح فمه بعد أن ابتلع قطعة فخذ الحمام التي كان يلوكها، وشبك أصابع يديه بدوره، ثم هتف بثقة :
- نحن الآن في واقع واقعي ناتج عن خيال متخيل !
كانت الإجابة صعبة إلى حد ما على الإمبراطور، فتساءل :
- كيف ؟
- هذا الواقع ناتج عما تخيلته أنا ، وما تخيلته أنا ناتج عن عقلي ، وما عقلي وما ينتح عنه من خيال وتحقق إلا بفعل الطاقة السارية في جسدي المتصلة بالطاقة الكونية السارية في الخلق ، وإن شئت الألوهة، وإن شئت الخالق العظيم ! وطالما أننا نحس بوجودنا فهو من منظورنا واقع واقعي، بغض النظر
عما إذا كان من منظورالألوهة واقعاً حقيقياً أوافتراضياً متخيلاً .
وهنا طرح الإمبراطورالسؤال الأكثرإعجازاً حيث بدا له أن إجابة الملك لم تكن مقنعة تماماً ، وتحتمل الشك فيها إلى حد كبير :
- وكيف تستجيب الطاقة الكونية لرغبات جلالتكم وما تتخيلونه حتى لو كنا الآن في واقع افتراضي من منظور إلهي ؟!
أطرق الملك للحظات :
- ما أظنه أن الألوهة تدرك عبرعقلها الكوني ( الكلي ) أن ما يتخيله المرء (وهو هنا أنا ) يتفق مع غاية
إنسانية نبيلة تنشدها هي بدورها فتقوم بتحقيقها .
ورغم أن الإمبراطوركان مدركاً إلى حد ما الغاية من هذا الحفل . إلا أنه أراد أن يضع النقاط على الحروف ليكون الأمرواضحا لديه :
- وما هي الغاية النبيلة من هذا الحفل فوق الطبيعي الذي أقمتموه جلالتكم لنا ؟
أدرك الملك أبعاد السؤال الذي بدا له أنه أقرب إلى السذاجة . أجاب:
- الغاية هي إكرام مقامكم وتحقيق أسمى آيات المحبة بيننا وبينكم ، رغم أن معتقدكم يخالف معتقدنا ، وما لا يقل أهمية هي تقريب معتقدكم من معتقدنا، بل واتباعه حين ترون أن ما يقوم عليه معتقدنا قادرعلى تحقيق رغباتنا .
أطرق الإمبراطور للحظات لإحساسه أن هذه المعجزة التي يعيش فصولها الآن مسألة أكبر من العقل البشري لأن يجيب عنها ، فراح يتساءل :
- لا أعرف جلالتكم ! أشعرأن الأمرإعجازأكبرمن كل ما هو منطقي وعلماني !
شعر الملك لقمان بإحباط قد يودي بكل رسالته إلى الهاوية . تساءل :
- ألا ترون جلالتكم إعجازا في خلق الكون والوجود كله ؟
- بلى !
- إذن لماذا تنكرون الإعجاز البسيط هنا مقارنة بخلق الوجود؟
أطرق الإمبراطور للحظات بدا عليه القلق خلالها . تساءل بقليل من الإنفعال :
- أنا لا أنكرالإعجازهنا كوننا نعيشه بغض النظرعن حقيقته الإفتراضية المتجسدة واقعياً أوافتراضياً، لكنّي أتساءل انطلاقا من أن الألوهة طاقة سارية في الخلق حسب معتقدكم ، فأين تكون الألوهة حين يقدم القاتل على القتل بغض النظرعن معتقده ، وحين يقدم سفاح على تدميرالمدن ( وتابع الإمبراطور بحزن وانفعال ) وأين كانت الألوهة حين أسقطت قنابل نووية على شعبنا ذات يوم لتبيد منه مئات الآلاف ؟
أدرك الملك أبعاد السؤال الصعب . أجاب بعد لحظات من الصمت :
- أقدر شعور جلالتكم وما تفكرون فيه ، وأبدي أسفي وتعاطفي مع شعبكم . لن أخوض في تحليل الماضي وحتى تحليل الحاضر، لأقول : إنّ كل فعل نقدم عليه هو بفعل الطاقة السارية في أجسادنا ، لكن ليس بتحكمها فيه ، فنحن إن ارتكبنا خيراً أو شراً نرتكبه بفعل هذه الطاقة دون أن يخالجني شك بأن الطاقة مع فعل الخير وليست مع فعل الشر . وستسألني لماذا ؟ وسأقول أيضا دون أن يخالجني شك ،إنّ الطاقة غير قادرة على منع فعل الشرالذي لا ينسجم مع مبادئ الألوهة . وقد تسألني لماذا ؟ وسأقول : إن الطاقة الخالقة التي دام تطورها قرابة أربعة عشر ملياراً من الأعوام حتى وصلت إلى ما وصلت إليه ، لم تصل بعد إلى كل ما تريده من قدرة شبه مطلقة على تحقيق قيم الخيروالجمال بالمطلق ، وأن تحقيق هذه القيم لن يتم دون أن يقدم العقل الإنساني على العمل لتحقيقها . فما يتصوره العقل الإنساني ويتخيله يتفاعل مع العقل الكوني عبر الطاقة الكلية السارية في الخلق ، ليتحقق الأمر المنشود ويتم تكامل عملية الخلق بين المخلوق العظيم والخالق الأعظم !!
صمت الإمبراطور للحظات متفكرا ليبدو على ملامحه أنه استمع إلى إجابة منطقية مرضية . فرفع كأسه ليشرب نخب الملك والملكة والإمبراطورة وهو يهتف :
- في صحتكم . أشكر جلالتكم لهذه الإجابة المنطقية . سنتابع الحوار.
دعا الملك لقمان إلى استئناف تناول الطعام والشراب ، وأشار بحركة من يده وإذا بموسيقى صوفية كونية تعم أرجاء الكون داعية إلى التوحد بالوجود !



(54)
الرقص في الزمن المتوقف في المكان الكوني !
شعر الإمبراطور بذكائه أن ثمة توقفاً للزمن أراده الملك لقمان . وإذا كان الزمن لا يقاس إلا بحركة الكائنات فيه ، فإنها هنا ما تزال تتحرك في محاولة منها لكسرالقاعدة، فالموائد تدور حول نفسها في الوقت الذي تدور فيه حول مركزكوكب الجزر ، فكيف يمكن أن يتم هذا الأعجاز ليبدو الزمان الخارجي غير مرتبط بحركة المكان ؟! ما جعله يشعر بذلك هو مرورالكثيرمن الوقت دون أن ينتهي الليل ودون أن ينبثق فجرأو تبزغ شمس ، حتى أن الإحساس بالشبع من تناول الطعام لم يحدث . والأمر نفسه ينطبق على الإحساس بالسكر، فهو شبه معدوم رغم تناول الخمراللذيذ الذي لم يشرب أحد مثله قط . إلا أن النشوة المطمئنة للنفس قد حققت تأثيرها كما يبدومن انتشاء المحتفلين، الذين كانوا يرقصون بالملايين على وقع موسيقى كونية لم يسمع مثلها قط أيضا . إنس مع حوريات وجن مع إنسيات يتمايلون ويتحاضنون ويتبادلون القبل الحارة في لحظات تجلت فيها وحدة الخلق العظيم بوحدة الخالق الأعظم ، ليشعرالجميع بذلك وليتمنوا جميعا أن يتوقف الزمن على هذا الجمال الخلاق بل وأن تتوقف حياتهم عليه ولو بالموت .
كان الإمبراطورمتمتعا برقصة الإمبرطورة مع الملك الجني شمنهورالجبارالذي كان يراقص الإمبراطورة برقص إنساني أقرب منه إلى الرقص الجني المثير، بعد أن خاطبه الملك لقمان تخا طرا بمراعاة التكوين الإنساني للإمبراطورة وأن لا يشرع في شقلبتها بما هوغيرممكن لإنسان أن يقوم به . ويبدو أن شمنهور راعى طلب الملك بحدود حين جعل الإمبراطورة تتشقلب على يديه بحركة بطيئة لثلاث شقلبات متتالية جعلت الإمبراطورة في غاية الفرح ، فلم تشعرإلا وهي تعانق الملك شمنهور بحرارة بعد الشقلبة التي أثارت دهشة الجميع ، خارجة بذلك على الحدود الرسمية الإمبراطورية التي لا تحبذ ذلك ! وبدا أن الإمبراطور بدوره فرح للشقلبة التي كانت بهلوانية ساحرة وإن لم يكن راضيا عن القبلة المثيرة التي كانت حقا قبلة فريدة من نوعها وخاصة حين تفاعل الملك شمنهور مع القبلة ولم يكتف بالتهام شفتي الإمبراطورة بل راح يوسع من دائرة شفتيه ليبدو وكأنه يود احتواء أنفها وخديها. خاطره الملك لقمان أن لا يتمادى مع الإمبراطورة ويحافظ على آداب الرقص! بدت الإمبراطورة الشابة في غاية السعادة بعد القبلة فألقت رأسها على صدرالملك شمنهورالذي أضفى عليها بدوره عاطفة بالغة الحنان مما دفعها إلى الإحساس بأن تبقى في حضنه إلى الأبد وأن يتوقف الزمن على تلك اللحظة .
أمّا عن رقصة الملكة نورالسماء مع شاب وسيم من الإمبراطورية فقد حفلت بكل ما هو ممكن من الإعجازات الجنيّة . فكانت الشقلبة حركة عادية أمام الحركات المتبادلة والمتناظرة التي كانت تقوم بها مع الشاب . ففي الشقلبة شقلبت نفسها معه لينحسرفستانها الملون وليبدو جسدها فائق الجمال لا يستره من أسفل النهدين إلا سروال صغيرأسود التصق بين فخذيها وردفيها ، وتكررت الشقلبة في خمس دورات كانت سرعتها تزيد ثم تتباطأ ليقفا على رأسيهما للحظات، ثم يتشقلبان ليقفا في الهواء على مسافة من مسرح الرقص ولتضم الشاب إليها وتبادله قبلة ثم تقذفه في الهواء وتتبعه محلقة ليتمددا في استقامة في الفضاء شابكين أصابع أيديهما وليقوما بالدوران في الفضاء ببطء ثم بسرعة فائقة وفائقة جداً ففائقة جداً جداً، بحيث بدوا كمتحركين دائريين يدوران في الفضاء في أشكال مختلفة سطحية وعرضية وشاقولية ، وتمنى الملك لقمان أن لا تزيد الملكة سرعة الدوران لتبلغ أقرب إلى سرعة الضوء ، حيث سيتحولان حينها إلى طاقة ولا يعرف بعد ذلك إلا الخالق الشكل الذي سيتمخضان عنه إذا ما عادا إلى إبطاء سرعتهما ..
عادت سرعة دورانهما إلى التباطؤ شيئا فشيئا إلى أن عادا إلى طبيعتهما . هبطا محلّقين إلى الأرض ووقفا ليؤديا التحية إلى الملك والإمبراطوروالجمهور وليتعانقا في قبلة دامت لبضع دقائق، أغمي على الشاب بعدها من شدة المتعة التي شعربها ، ولم يعرف المشاهدون ما إذا كان ذلك ملحقاً للرقصة أم أنه جرى بفعل القبلة ، حتى بعد أن رشت الملكة عطرا على وجه الشاب الذي مددته على أرضية مسرح الرقص ، وقبلت شفتيه بعمق ليصحو ولينهضا معاً ويؤديا التحية للجمهور !
فوجئ المحتفون بموسيقى شرقية تنبعث وبأستير تقتحم صالة الرقص كعاصفة هوجاء بجسد يهتز كل شيء فيه برقص فائق الإبداع ، وبملابس رقص شرقية ذهبية تبدي كافة مفاتن جسدها ، فلم يستر نهديها فائقي الجمال إلا دائرة ذهبية صغيرة مشعة ألصقت على الحلمتين، فيما انتشرت دائرة من ذرات ذهبية وفضية مشعة حول سرتها، وأحاطت خصرها بنطاق ذهبي دقيق تدلى منه قطعتان مستطيلتان طويلتان من قماش ذهبي ملون تخللهما ثنيات صغيرة مستطيلة بدورها. وإذا كان الرقص في الواقع الواقعي لا يتيح لراقصة أن تهز نهديها كل نهد على حدة ، فإن أستير فعلتها ، فبعد أن كان نهداها يهتزان معاً باهتزازات سريعة في الإتجاهين، أوقفتهما معا بإيقاع من ضربة موسيقية، وحين سمعت الضربة الثانية راحت تهز نهدها الأيسر وحده يميناً وشمالاً وسط دهشة الجميع الذي شرعوا في التصفيق . وما لبثت أن ألقت نظرة على النهد الأيمن وكأنها تقول له " تحرّك " غيرأن النهد بدا وكأنه يرفض دون أن يتوقف النهد الأيسرعن الرقص ، فنظرت نحو الأيسر فتوقف لتنظر إلى الأيمن ، لينطلق في الإهتزاز بجنون وليزداد التصفيق اشتعالا .. وما لبثت أن نظرت إلى الأيسر فانطلق مهتزاً ليتناغم مع النهد الأيمن وليتناغم النهدان مع اهتزاز الردفين والخصر وأرجفة الساقين باهتزازات سريعة ، ولتدورأستيرعلى نفسها كعاصفة وشريحتا القماش ترتفعان لترسما دائرة متصلة حول جسدها دون أن تتوقف اية حركة أخرى في جسدها عن فعلها . فبدا فخذاها وساقاها الفاتنان وهما يدوران بها بسرعة فائقة ليدورا بجسدها ليبدو كعاصفة تدورحول نفسها أو كبركان فجر كل ما في دخيلته وراح يدور بمقذوفاته حول نفسه !
حين أنهت أستير رقصتها العاصفة . انحنت لتبادل الجمهورالإحترام وتوزع قبلاتها على الجميع .
هب الجميع وقوفا وهم يصفقون .
ما أن جلسوا حتى همست الملكة نورالسماء للملك " متى يا حبيبي تلبي رغبة أستير في ممارسة الحب معك "؟
أجاب الملك هامسا أيضا :
- لم تعد في حاجة إلي بعد أن ابتاعات أربعة قضبان من أمام المعبد !
- أشك في أن القضبان ستغنيها عنك ! وربما أهملتها أو كسرتها أو نصبتها كتحف !
- وأنا ؟
- ما بك أنتِ ؟
- أصبحت تهملني بتفكيرك الدائم في الخلق والخالق !
- معذرة يا حبيبتي أنا رجل عجوز كما تعرفين ولم أعد شاباً ولا أرغب في منح جسدي طاقة جديدة إن كنت قادراً على ذلك .
- ولو من أجلي !
- قد يحدث ذلك يوماً ! وفي مقدورك أن تتدبري أمرك دون أخذ رأيي !
- الشاب الذي رقصت معه هام بي !
- عليك به وأتمنى لك لحظات جميلة وممتعه معه !
ولم تجد إلا أن تضم رأس الملك وتقبله على خده ليقبلها بدوره . وأطرقت للحظات وهي تفكر في أن الملك لقمان ليس هو الملك لقمان الذي عرفته في رحلته السماوية الأولى . لا تكاد تصدق نفسها وهي تفكر في ممارسة الحب مع إنسي آخرغيرالملك لقمان . بدا لها الأمرغيرأخلاقي رغم أن الملك لا يمانع في الأمر كحق لها كما يبدو .
قطع الإمبراطور صمتهما ليسأل :
- هل تخبرني جلالتكم أين نعيش الآن ، فهل نحن خارج الزمان والمكان أم أننا نعيش خارج الزمان وحده ؟هذا شطر واحد من السؤال . أما الشطرالثاني وهوالأهم : هل كانت الهيولى البدئية تحمل عقلاً في مادتها نتج عنه خيال نتج عنه الإنفجارالكوني إذا صحت نظرية الإنفجار الكوني . وهل كانت المادة الأولى تحمل دماغا بما أن العقل لا ينجم إلا عن دماغ والخيال لا ينجم إلى عن عقل ؟!
أدرك الملك لقمان صعوبة الأسئلة .. قال :
- سأجيب جلالتكم لكن بعد تناول المزيد من الطعام والشراب فنحن في حاجة إلى طاقة متجددة !!
رفع الملك كأسه ليشرب نخب الجميع فيما كانت الموائد تدورببطء شديد حول نفسها وحول الجزرالدائرة بدورها حول نفسها ، وحول مركزالكوكب وليدورالكل حول مركزالكون المتحرك إلى ما لا نهاية في تناغم مبدع لا يمكن أن يكون إلا من صنع خالق عظيم .


(55)
في العقل ونشأة الكون!
في عالم ليس كالعالم لا قتل فيه، لا إنهمارصواريخ تدمرعمارات على أجساد بشرية، أوجز رؤوس بالسكاكين، لا دمارولا خراب ولا أشلاء بشرية متناثرة، أومحتضرة تحت الأنقاض، أو مقذوفة على شواطئ البحار، ولا أمعاء ذاوية من شدة الجوع، ولا تشرد لحفاة من أطفال ورجال ونساء، يهيمون على رؤوسهم في البراري والآفاق، أو تتقاذف أجسادهم أمواج البحارالمصطخبة بحثا عن خلاص ما، حتى لو كان في حضن شيطان أو في أعماق بحر! هنا في كوكب الملك لقمان وضيافة الخالق العظيم تحلق المحبة محمولة على أجنحة حمام أبيض ملقية عطرها الفواح على رؤوس المحتفين ، لتصدح الموسيقى بأنغام وحدة الوجود ، وتتمايل الأجساد وتترنح وتهتزوتنتشي وتهيم بجمال الخلق والخالق ، وتترع الأباريق من جداول الخمرلتملأ الكؤوس ، وتتهادى الحوريات بين الموائد وكأنهن رذاذ مطر ينعش القلوب ويملأ النفوس بقدسية الحياة ! وتحلق سفافيد الشواء فوق الموائد بلا أجنحة ، متتبعة طرق تحليقها المرسومة دون أن يصطدم سفود بسفود أو برأس إنسان . هنا يتحاب الإنس والجن في أسمى قلائد الحب مؤكدين أن الخالق محبة وخلق وجمال ، وأن وجوده لا يكتمل إلا بمحبتهم وخلقهم وجمالهم ، لتكتمل عملية الخلق وتسود المحبة بين الخالق العظيم والمخلوق الإنسان .
توقف الإمبراطورعن النظرإلى أجساد المحتفين المتعانقة في الرقص ، والتفت نحوالملك لقمان الذي كان يضم رأس الملكة نورالسماء إلى حضنه ويملس على شعرها .
- لم تجيبوني جلالتكم !
أبعد الملك رأس الملكة برفق عن حضنه . أطرق للحظات مسترجعاً الأسئلة في ذاكرته . ثم شرع في الحديث :
- لن أطيل على جلالتكم في الإجابة وسأ ختصرإلى حد كبير، لأن الدخول في العقل الإنساني والدماغ والنفس والروح والضميروالزمان وحتى المكان والله نفسه ووجوده ، مصطلحات أوجدها العقل البشري بعد اختراع اللغة قبل بضعة آلاف معدودة من السنين ، ولم تكن معروفة للبشر قبل ذلك . وهي مسائل أو مصطلحات أعجزت العقل البشري حتى الآن عن إيجاد أجوبة قاطعة عنها، وخاصة فيما يتعلق بالله والعقل.
في الإمكان القول إننا نعيش الآن في توقف خارجي للزمن الكوني الكلي للمجموعة الشمسية التي نتبع لها، أما في واقعنا الحالي فالزمن يسير ببطء شديد بناء على رغبتي ، لذلك لا نشعر ببطئه ، وبالتأكيد نعيش في المكان وليس خارجه ، وأننا نتمتع بكل لحظة زمنية في مكاننا الحالي، وبالتالي لسنا خارج الزمان والمكان !
أما عن أسئلتك المعقدة الأخرى عما إذا كانت الهيولى البدئية تحوي دماغا نتج عنه عقل ونتج عن العقل خيال نتج عنه الإنفجارالكوني الذي بدأت عملية الخلق به ، سأجيبك حسب معرفتي وليس بالضرورة أن تكون معرفتي حقيقة مطلقة .
لن أتطرق إلى حجم وشكل الهيولى البدئية، وما إذا كانت مادة أم طاقة، رغم أن الطاقة ليست إلا شكلاً متحولاً للمادة نفسها، هذا ما يقوله العلم ، لكني أجزم أن العقل البشري حتى اليوم ، لم يصل إلى الحقيقة المطلقة لجوهرالمادة والطاقة . توصّل إلى حقائق نسبية تظل محدودة جداً في علاقتها بالحقيقة المطلقة للوجود.
لقد احتار العقل البشري بكل فلسفاته وعلومه وآلاف أبحاثه في تحديد ماهية العقل . فالعقل والتفكير جوهران غيرماديين لم يجد علماء الفيزياء والبيولوجيا وغيرهم مركزا لهما في الدماغ ، واصطدموا بحاجز مغلق . لكن التفكيرظل منصباً ومركزاً على الدماغ ، على أمل العثورفي المستقبل على إجابات قاطعة بتطورالعلوم والتقنيات التكنولوجية. بعض الأديان حلت المسألة على طريقتها بأن جعلت العقل يصدرعن القلب وليس عن الدماغ ! وهذا ما لم يأخذ به العلم . بعض العلماء افترضوا " بعد دراسات عديدة على مستوى فيزياء الجسيمات الدقيقة وطاقات العقل ، وجود طاقة خامسة غير معروفة فيزيائياً للعقل ، فقال أحدهم " إن الفيزياء المعاصرة اعترفت بأربعة أنماط من القوى( في الكون ) ، هي القوى الشديدة( النووية ) والقوى الكهرومغناطيسية ، والقوى الضعيفة ( النووية ) وقوى الجذب الكتلي ( الجاذبية ) وكلها تخضع لقوانين خاصة بها ، لكن ليس هناك استحالة مقررة سلفاً، تمنعناً من افتراض نظام آخر أو نمط آخر من التفاعل ، بل إننا بانتظار المزيد من البحوث المكثفة " وهذا الطرح يتفق تماما مع طرحنا .
وثمة بادرة أمل أخرى قاد إليها البحث في الظواهرالخارقة للطبيعة ( الباراسيكولوجية ) تكمن في" الطاقة الحيوية " حتى أن العلماء المتحدثين عنها " طالبوا ببناء جهاز طاقوي لفسيولوجية الأعضاء الإنسانية . " هذه الطاقة تحتوي على كل " الأنواع المعروفة عن الطاقة ولكنها في نفس الوقت لا تتميز ولا تتصرف كما يتصرف أي نوع منها " إنها الطاقة الحيوية المحيطة بكل كائن حي " في مستويات متباينة من التطور"
هذا الإكتشاف هو الأكثر قرباً من اجتهادنا الفلسفي بأن الخالق العظيم ليس إلا طاقة الطاقات السارية في الخلق من أعلاه إلى أدناه، وأنها تتمظهر وتتجلى في الوجود بكل مكوناته . وأن الكائنات الحية لا تستطيع أن تقدم على فعل أي شيء دون هذه الطاقة . وإذا ما أردنا الدخول في عملية الشروع في الفعل لدى العقل، فإننا نرى أن أمرًا طاقوياً فوق إلكتروني هائل السرعة يصدرعن الدماغ إلى المجال الطاقوي الحيوي المحيط بالإنسان، المتصل بطاقة الكون الكلية والعقل الكوني، ليقوم العقل بالتفكيرأوالفعل . لقد ثبت علميا أن الميت لا يحسب ميتً بتوقف قلبه عن النبض ، بل بتوقف دماغه عن العمل . وإذا ما تم التأكد من موت الدماغ فالميت يحسب ميتا حتى لو كان قلبه يعمل. هذا يشيرإلى أهمية ودورالدماغ في الإنسان ، كون الأوامرالصادرة عنه، وخاصة ما يتعلق منها بالعقل، على اتصال مباشر بطاقة الخلق الكونية .
بناء على ما تقدم جلالتكم يمكنني القول، إن ثمة إمكانية لوجود دماغ في الهيولى البدئية وثمة إمكانية لعدم وجود دماغ أيضاً إذا كانت الهيولى هي عقل وعقل فقط، ليس في حاجة إلى دماغ ينجم عنه . الإنسان وبعض الكائنات هي من يحتاج إلى الدماغ لتنتج عقلا وفكرا، وليس الخالق العظيم مصدرالعقل وكل شيء في الوجود . وليس بالضرورة أن يصدرالعقل الكوني عن دماغ كالدماغ البشري.
في هذه الحال ليس غريبا على عقل خالق حتى لوكان في بدء تشكّله، أن يشغل خياله في تصورما بدئي للوجود، ربما بعد ملايين السنين من الكمون والتخيل ، بل وإعادة التخيل، إلى أن وصل إلى اكتمال ما في الخيال، ليتم الشروع في الخلق، وليبدأ الإنفجارالعظيم وتبدأ نشأة الكون .
آمل أن أكون قد وفقت في اجتهادي وأجبت على تساؤلات جلالتكم .
أخذ الإمبراطور نفساً عميقاً . ومسح وجهه براحتي يديه . هتف :
- أشكر جلالتكم .. كنت أتوقع أن أستمع منكم إلى ما لم أسمعه من قبل . جزيل شكري لكم .
كان لا بد من استراحة راقصة حين طلبت الملكة نورالسماء يد الإمبراطور للرقص . وهكذا فعلت الإمبراطورة بطلب يد الملك . لم يكتف الجمهور بالتفرج على الرقصة بل هب ليشارك الإمبراطور
والملك رقصهما مع الملكة والإمبراطورة لتكون أشهر رقصة عرفها الكون على الإطلاق !
*******












(56)
في الحقيقة والغاية !
في هدأة الليل العابق برائحة المسك والشواء وسحرالألوان المتماوجة ورنيم الأنغام الحالمة، ورفيف ذبالات الشموع على الموائد ، وتهادي نسيم الحوريات ، وتحليق أسراب الكائنات ، يدخل المعقول في اللامعقول ، والواقع في المستحيل ، والغريزي في الخارق ، فلا يمل الراقصون من تبادل القبل ، ولا يشعر امرؤ بالشبع ، ولا بالحاجة لقضاء الحاجة ، ولا يتنبه أحد لطول الليل ومضي الزمن ، ولا يشعر بالنعاس أوالتعب والحاجة إلى النوم !
يطرق الإمبراطور متفكراً متأملاً ومئات الإسئلة تتصارع في مخيلته وهو يعيش في الواقع المستحيل ،فيما يبدو له الملك لقمان هادئاً في نفسه وقوراً في هيئته لا يعكر صفو مخيلته شيء! يتساءل :
- هل تسمحون لي جلالتكم بتوجيه سؤال خاص لكم !
- تفضل جلالتك !
- من أنتم ؟
لم يبد على الملك أنه تفاجأ بالسؤال .
- أنا الباحث عن الحقيقة، وإن شئت كي لا أطيل الحديث ، عن الخالق أوالله!
- لقد حفل التاريخ بآلاف الباحثين عن الحقيقة ولم يتوصلوا إليها، وإن كان بعضهم يرى في ما توصل إليه حقيقة مطلقة لا تقبل الشك ، لذلك استكانت الأمم إلى معارفها ومعتقداتها وتوقفت أوكاد بعضها أن يتوقف عن التفكيرفي الأمر، فهل تعتقدون جلالتكم أنكم ستتوصلون إليها ؟
- أنا أحاول فإن توصلت فهذا جيد وإن لم أتوصل فقد أكون قد أنرت شمعة في غياهب الظلام !
- وهل تتوقعون أن الخالق يعرف الحقيقة المطلقة ؟
- يفترض أنه يعرف القدرالأكبر من الحقيقة إذا لا يعرف الحقيقة المطلقة . كأن يعرف أنه خالق أو غير خالق بالمعنى الإلهي !
- وهل هناك حقيقة مطلقة ؟
- ممكن ! وممكن لا !
- ما هي الحقيقة المطلقة من وجهة نظركم ؟
- هي حقيقة الحقائق التي ليس بعدها حقيقة . ويمكن القول إنّها اكتمال الغاية .
- وإذا لم يكن هناك غاية ؟
- يكون الوجود عبثاً ولا ضرورة له ! وهذه مسألة شبه مستحيلة !
- لماذا ؟
- لأن من جهد أربعة عشر ملياراً من الأعوام لم يجهد لإيجاد وجود عبثي ! وإذا كان الأمر كذلك
فهو كائن مجنون أوعقل مجنون !
- وما هي الغاية ؟
- تحقيق قيم الخيروالمحبة والعدل والجمال وإقامة الحضارة الإنسانية .
- وكيف عرفتم ذلك.
- كل ما في الكون يشيرإلى ذلك ، بدءاً من جمال الكون بحد ذاته ، مروراً بجمال الطبيعة وانتهاء بجمال الإنسان كشكل! . ويمكن القول إن قيم الجمال، ولوفي الشكل، قد تحققت إلى حد ما ، ولم يبق إلا القيم الأخرى التي لم تتحقق إلا بنسب ضئيلة متفاوتة .
- لماذا حسب رأيكم ؟
- لأن الإنسان لم يدرك حتى الآن الغاية من وجوده . فهو يتخبط في تصورالآلهة وطرق التدين والعبادات والشرائع والمصالح والهيمنة، وإعمال القتل والبغض والحروب، بدلاً عن المحبة وعدم تحقيق العدل .
- وهل تحقيق هذه القيم هوالغاية من خلق الإنسان ؟
- هذا ما أراه !
- ولماذا لم يحققها الخالق نفسه ؟
- وجود الخالق غير منفصل عن وجودنا، ولم يخلقنا من ذاته إلى لنشارك في عملية الخلق ، فالخالق لا يبني مدنا ولا يقيم حضارات ، ولا يحقق قيماً ، وقد خلقنا لذلك ! فعملية الخلق حسب هذا الفهم عملية تكاملية بين الخالق والمخلوق ، ولا يمكن أن يصل الخلق إلى كمال ما ، ما لم تتضافرعملية الخلق بين الخالق والإنسان ، أي أن يعرف الإنسان أن الغاية من وجوده هي أن يكون خالقاً، لأن الخالق يكمن فيه، وبمعنى أدق ، الطاقة السارية في جسده والمحيطة به وبالكون . والمادة المتشكل منها !
صمت الإمبراطور للحظات وهو يفكر في كلام الملك ، وما لبث أن تكلم :
- حسب فهم جلالتكم نحن الآن في بلدنا نساهم في تطويرالعلوم كافة ، وقد قطعنا شوطا جيداً في تطويرها وخاصة العلوم التكنولوجية والإلكترونية ، وأننا نجهد لأن نعيش بمحبة وسلام مع أنفسنا ومع الآخرين ، وأن نحقق قدراً مقبولاً من العدالة الإجتماعية ، وهذا يعني أننا نقوم بدورنا في عملية الخلق وصنع الحضارة الإنسانية ، وأن المشكلة تكمن في أننا لا نعي أن هذه هي الغاية من وجودنا !
- بالضبط جلالتكم . أنتم تقومون بصنع الحضارة، أي بدورمهم في الغاية من الخلق بشكل عام وخلق الإنسان بشكل خاص . عملية الخلق الآن في بداية طورها الأخير وقد لا تستغرق ملايين السنين، إذا ما عرف الإنسان أن الغاية من وجوده هي أن يكون خالقاً مساهماً في عملية الخلق .
- معذرة جلالتكم . لقد أثقلت عليكم بأسئلتي ، سنعمل استراحة ، ونؤجل باقي الأسئلة إلى ما بعدها .
(57)
في الخلق والخالق والبعث والنشور !
أبرق ليل السماء دون غيم ، ودون أن يتبعه رعد . سرب أوتار ملوّنة تبرق متعرّجة متذبذبة في خطوط متجانبة لتشدو بأنغام تحاكي ليل الوجود ، وتتسرب إلى نفوس تبحث عن طمأنينة في غيهب الدخيلة الإنسانية . وحلقت في الفضاء نساء ملائكيات يراقصن شباباً ملائكيين على وقع لحن كوني يحاكي سرمدية الأبدية. تأوّه المحتفلون من أعماقهم عجباً بروعة الجمال المتجلّي في سماء الخالق ، واستشعروا طمأنينة ومتعة تتسلل إلى نفوسهم وتهيم بهم في عالم فوق الخيال.
قطع الإمبراطور تأملاته واستمتاعه بهذا العالم الساحر ليشرب نخب الخالق العظيم رافعاً كأسه . رفع الملك لقمان والملكة نورالسماء والإمبراطورة كؤوسهم وشربوا النخب . مسح الإمبراطورشفتيه بمنديل المائدة وهتف وهو ينظرإلى الملك لقمان :
- يبدو لي جلالتكم أننا متقاربون معكم في معتقدنا حول تفسيرالوجود ، فنحن نستند في فهمنا إلى المبدأ الكلّي الناظم للكون والمتخلل فيه، وأن الوجود يستمد طاقته منه ، لذلك نقدس الظواهر كونها تستمد طاقتها من هذا المبدأ الكلي . غير أننا نختلف عنكم في التفسير، وليس لدينا تصورلما بعد الموت كالبعث والنشورأوالتناسخ أوحلول الأرواح في كائنات جديدة وما إلى ذلك كما في بعض المعتقدات .
- في الحقيقة جلالتكم ، أن المعتقدات كانت تسعى لبعث الأمل في النفس البشرية بعد الموت ، بإيجاد حياة أخروية في ملكوت السماء مع الله ، أو في جنته ، كما في المذاهب السماوية ، أو في التناسخ وحلول الأرواح أوالفناء في المبدأ الكلّي حسب معتقدات أخرى. وهواجتهاد يبعث الأمل في النفس ويحاول أن يعطي معنى للحياة حتى لا تتحول إلى حالة عبثية لا معنى لها . أنا وحسب اعتقادي اجتهدت في الإتجاه نفسه ، أي ببعث الأمل في النفس وإن اختلفت صورة البعث بعد الموت . فالموت عندي ضرورة لاستمرار الحياة وتجددها . حتى لا ينضب مخزون الأرض وبالتالي الكون من المادة والطاقة . فالجسد يتحلل ليعود إلى عناصره الأولية . ذرات من الكلس والفسفوروالحديد والزنك والنحاس والمغنيزيوم والبوتاس والكربون والسيليكون والفضة والذهب والكبريت والألمنيوم والصوديوم واليود وغير ذلك .. وكل ذرة من هذه الذرات تحتوي على طاقة كهربائية سالبة مقابل شحنة موجبة للبروتونات التي تقع في نواة كل ذرة . التفاعل بين هذه المكونات والطاقة السارية في الكون يحيلها إلى طاقة متجددة تتحد مع الطاقة الكونيّة لتكون جزءاً منها ، وبالتالي جزءاً من الذات الكونية ، وبمعنى أدق جزءاً من الذات الخالقة القائمة بالخلق( الخالق العظيم ) تمنح جذورالنباتات في الأرض ما تحتاج إليه من مادة وطاقة لتمنحنا ثماراً شهية ، وتمنح الكون مادة وطاقة تساهم في عملية الخلق ، خلق الإنسان الجميل ، في الطريق نحو خلق الإنسان الكامل ، الإنسان المدرك لوجوده والغاية منه .
بدا الإمبراطورمندهشاً للحظات لهذا المنطق الذي يربط بين العلم والروح . تساءل :
- أنتم تفضلون مفردة الخالق العظيم على المفردات الأخرى، فلماذا ؟
- أرى أن مفردة الخالق العظيم قد تشمل أي تصور للخالق مهما كان حتى لو كان الطبيعة !
- وماذا لو كان الله أوالألوهة أوالكامي أوغيرذلك؟
- الخالق العظيم مفردة تحتويها كلها رغم أنها مفردات لغوية أوجدها البشربعد اختراع اللغة من زمن قريب جدا ، ولم تكن قبل ذلك .
- ومفردة الخالق العظيم أيضا مفردة لغوية حديثة .
- صحيح لكنها تعطي شمولية أكثر . فحين نوظف مفردة ( الله ) العربية الإسلامية مثلا ، يتبادر إلى الذهن الله في مفهومه الإسلامي ، الذي لا يعتبرالفكرالديني الإسلامي اجتهاداً بشرياً، بل حقيقة مطلقة كونه كلاماً منزلاً من الله على نبيه . والأمر نفسه ينطبق على (الرب ) المسيحي ، وحتى على ( يهوه ) اليهودي .
- هل يعتبر جلالتكم نفسه مسلماً ؟
- أجل أنا مسلم تنويري حسب فهمي ، وربما أحمل في دخيلتي صوفياً، إنما غيرتقليدي!
- وهل تنويركم هو تطوير للدين نفسه ؟
- أجل . بل وتطوير للعقائد البشرية كلها، وربما معظم الفلسفات أيضاً إن لم يكن كلّها ، فثقافتي ليست اسلامية فحسب وكذالك معرفتي ، فأنا أستند إلى ثقافة البشرية ومعرفتها بالقدرالذي أتيح لي أن أعرفه وأستوعبه .
- وهل ثمة ما يشير في الدين الإسلامي إلى حاجته لتطوير ؟
- ثمة الكثير مما يشيرإلى ذلك في أحاديث النبي محمد والقرآن . وأهمها ما يشير إلى أن الأمة في حاجة كل مائة عام إلى من يجدد لها دينها . المؤسف أن معظم المسلمين أعادوا الدين إلى الوراء دهوراً ولم يهتموا بالتطوير ، إنطلاقاً من أن كل ما جاء به الدين حقائق مطلقة لا تخضع لزمن ! وهذا أسوأ فهم للدين الإسلامي الذي حض على العلم من المهد إلى اللحد ، أي من الولادة حتى الموت .
- ألا تعتبرون نفسكم نبياً ؟
ابتسم الملك لقمان وقد أدرك أن الإمبراطورتجاهل بعض حديثه عن الغاية من خلق الإنسان :
- لقد تحدثت لجلالتكم عن أن الغاية من خلق الإنسان هي أن يكون خالقاً بدوره ومساهماً في عملية الخلق مع الخالق ، المشكلة أن الإنسان لا يعي ذلك ، وحسب هذا الفهم فأنا إنسان ، قد أكون فيلسوفاً أوحكيماً صوفياً أساهم في تطويرالمعرفة الإنسانية لفهم الخلق والخالق والغاية من الوجود والخلق . ولا أحبذ أن أكون نبياً .
- ما هو موقف جلالتكم من فكرالانبياء والفلاسفة والحكماء؟
- أحترم الفكرالإنساني كله . واحترم كل من كان نبياً أو فيلسوفاً أوحكيماً. فلولا فكرهم والفكرالمعاصر لما كان فكري . ولولا ما ارتكبوه من أخطاء حسب ثقافة زمنهم لما عرفنا الصواب ، أو لما عرفنا أن نجتهد لمعرفة الصواب. وآمل أنني أصبت في اجتهادي ولو بحدود.
- حسب ما فهمت من فلسفتكم أنكم لا تنزهون الذات الخالقة عن الوجود فهل هي كذلك ؟
- بل ننزهها بمفردة لغوية هي (الله) أو الخالق أو ما يشير إلى ذلك في أي لغة، وإن كان هذا التنزيه هو داخل الوجود نفسه وليس خارجه، لكنه يعبرعنه بشكل مجرد.
- أثقلت على جلالتكم بأسئلتي . سأسأل سؤالاً أخيراً وآمل أن لا يجرًنا إلى أسئلة أخرى .
- هل ترون أن الألوهة تدرك وجودها، وإن كانت عقلاً هل هو منزه عن المادة والطاقة ؟
- إذا كانت الألوهة أوالخالق عقلاً فهو طاقة ناتجة عن طاقة ، ولا يعقل أن لا يعي العقل وجوده .
حسب رؤيتي ما الوجود كله إلا تجليات المادة والطاقة . كما سبق وأن قلت .
- وهل يحق لأي إنسان أن يعتبر نفسه إلهاً أوعقلاً أو خالقاً !؟
- بالتأكيد لا، لأن تمظهرالألوهة في الوجود كله، وليس في كائن بعينه . فأي كائن ليس أكثرمن جزء صغير جداً من التمظهروالتجلي الكوني في الوجود .
- ليسمح لي جلالتكم بأن أتساءل ، رغم أننا ما زلنا في بدايات الحوار، إلا أنني بدأت أشعرأنكم تمتلكون أجوبة شبه مقنعة لكل تساؤل ، فلماذا تبحثون عن الله ؟ هل تشكون في وجوده ؟
أدرك الملك لقمان البعد الديكارتي في السؤال الإمبراطوري . ابتسم ثم أجاب :
- أجل جلالتكم . أنا اجتهد ، وأدرك أن اجتهادي ليس حقيقة مطلقة ، بل وقد لا يكون حتى حقيقة نسبية ، فقد يكون الله هو يهوة ويرقبنا الآن من أعالي سماواته ! وأبحث عن الله ليحل لي هذا اللغز الإشكالي .
- وإذا ما وجدت أنه يهوة ؟
رفع الملك لقمان يديه في حركة استسلام قائلا :
- لن أجد إلا الإستسلام لجبروته !
ضحك الإمبراطوروالإمبراطورة والملكة . هتف الإمبراطور :
- سنؤجل الإجابة عن سؤال : وإذا لم تجد الله ، إلى الحوارالقادم ! جزيل شكري لجلالتكم .
- العفو.
****
(58)
تجليات إعجازية للخالق والخلق !
"ازدحمت في الأفق أفلاك ، ودنت كواكب من كواكب، وتألقت في السماء نجوم، وهام في الكون أقماردنت من أقمار، وطاردت شهب شهباً ومذنبات مذنبات ، وهبت على الكون روح الخالق بنسيم منعش ، فضجت الآهات بالآهات، وتأوهت نفوس من أعماق متاهات الروح ، ليختلط الكون كله بالخلق والكائنات ، وشدا في الآفاق لحن، تردد صداه من أرجاء سحيقة، خشع له الأحياء والأموات ، وتفجرت في أديم الأرض طاقة أحالت عناصرألأجداث إلى كائنات طاقوية وطاقات ، أحدثت لجة في معمعة الخلق ، فتأججت نيران براكين وانفجرت مرسلة إلى السماء نذيرا بهول القادم من آيات ! فتراقصت وتلوت وصعدت متحدية قوانين الخلق، لتظل صاعدة في الفضاء إلى ما لا نهاية، آبية أن تهلك مقدارذرة من أديم الأرض ومن آيات الخالق والمعجزات ! واتكأ في بطينة الأرض جبل على جبل، فزلزلت الدخيلة دون أن ينهارسقف بيت على طفل وكهل وفتيات فاتنات. فتنفست الأرض من أعماقها وسبحت باسم الخالق والآيات . وخالط الكل رذاذ عطرتفوح لينعش الكون والكائنات ، فهامت نفوس الإنس بشدو تردد صداه ليرافق أنغاما شدت بحسن وجمال الخالق والخلق والمخلوقات "!
وهو يتأمل ما يعجز الكلام عن وصفه ، قطع الإمبراطور تأملاته وهو يدرك أن الملك أتاح له أن يشعر بما يدور في مخيلته وأن ما يراه ويسمعه من معجزات يدورفي مخيلة الملك أوّلاً ثم يتجسد مادياً في الكون ، حتى أنه شعر بآخركلمات كانت تصطخب بها مخيلته ، وكاد أن يقول لنفسه إن لقمان هذا الجالس في مواجهته على مائدة طعام وخمرمحلقة في الفضاء مع ملايين الموائد، ليس إلا تجسيدا للخالق نفسه ، طالما أن كل ما يحدث في الكون هو من نتاج خياله . بل وكاد أن يسأله " لقمان هل أنت الله " ؟! المشكلة أن لقمان سبق وأن قال له أنه مجرد إنسان وأن الخالق يستجيب لرغباته ربما لمحبته له . أبعد الإمبراطورهذه التساؤلات من مخيلته، وسأل الملك عما كان يدورفي مخيلته من كلامه الإيقاعي الأخير :
- شعرت جلالتكم أن كل ما يجري في الكون، وفي باطن الكواكب، هو برغبة منكم يسبقها خيال معبرعنه بكلام إيقاعي يصوغه جلالتكم في مخيلته، ويستجيب له الخالق ويطبقه بسرعة فائقة، تفوق سرعة الضوء ، حتى أنني التقطت آخر كلمات تفوّهتم بها، فأحببت أن أسألكم : في الجملة الأخيرة جاء أن " نفوس الإنس شدت بحسن جمال الخالق والخلق والمخلوقات " أليست المخلوقات هي الخلق نفسه وأنكم أتيتم بها لاكتمال الإيقاع لما كان يدورفي مخيّلتكم ؟
ابتسم الملك لنباهة الإمبراطورالبلاغيّة وأجاب بعد قليل من الصمت :
- المخلوقات هنا قصدت بها ما خلقه الإنسان من حضارة إنسانية، تشمل المدن وكل ما أبدعه الإنسان، في الهندسة والزراعة والصناعة والعلوم والآداب والفنون والتكنولوجيا . أما مفردة الخلق التي سبقتها فهي خلق الكائنات الحية وغيرالحية . وهو عندي يتم بفعل رغبة الكائنات نفسها في الخلق والتطور .
هذه الرغبة لم تنشأ إلا من رغبات بدائية، كان يتلوها رغبات ترفض واقعها فتنقرض أوتتطور. فلولا القرد البشع الذي كان يرفض شكله ، ويطمح في شكل أجمل وقدرات عضوية أرقى، لما جاء الإنسان الأجمل والأكثر تطورا، في بنيته العضوية ، مارا بحقب كثيرة من التفاعل بين طاقتين ، الطاقة السارية في الكون، التي تتطور بدورها في الكون كله، والطاقة الصادرة عن الكائن نفسه ، ودون هذا التفاعل بين الطاقتين لن يتطورالخلق في زمننا إلى ما هو أجمل وأكثركمالا . لذلك قلنا من جملة ما قلناه " إن عملية الخلق تكاملية بين الخالق والمخلوق ، فالكائنات تخلق نفسها بنفسها بفعل الطاقة الناجمة عن العناصرالمادية التي توفرت لها وتفاعلها مع الطاقة الكونية ( الكلية ) السارية في الكون "
هنا سأل الإمبراطورسؤالا قد لا يستطيع الإجابة عنه إلا الخالق نفسه :
- وكيف يتم هذا التفاعل ، وبمعنى أشمل كيف تنتج الطاقة عن المادة ؟
أدرك الملك لقمان إعجازية السؤال . قال :
- يمكن القول لجلالتكم إنّ ما تم حدوثه خلال أربعة عشرمليارسنة لا يمكن معرفة حقيقته المطلقه إلا من الخالق نفسه حسب زمننا الحالي، أما في الزمن المستقبلي فيمكن القول إنّ العلم قد يتوصل إلى معرفة قوانين الخلق ، وقد يمكنه أن يخلق كائنات حية وربما إنساناً متطوراً جداً. لكن يمكن القول إذا ما نظرنا إلى معجزات الخلية وما تكوده من معلومات هائلة جداً في نواتها، يعجزالعقل البشري عن معرفتها وإحصائها ، إنّ عقل الخالق كان يدوّن كل شيء يتحقق من صحته، في معادلات مرمزة، ليقوم بوظيفته على أكمل وجه . فالمادة كذا مثلا، التي يرمزلها بالرمزكذا، ينتج عنها الطاقة كذا، إذا ما تفاعلت مع الرمزالكوني كذا . وهكذا .. إن أجساد الكائنات هي عبارة عن مختبرهائل للكيمياء والفيزياء لإنتاج المادة والطاقة .
- هل ترى جلالتكم أن الله يعرف لغة ؟
- بالتأكيد لا يعرف وخاصة في بداية التكوين ، لكن يمكن القول إنه ابتكر لغته المرمزة الخاصة .
- وماذا عن اليوم ؟
- إن لغات البشرالمعاصرة تدوّن من قبل البشرأنفسهم ،وتدوينهم لا ينفصل عن تدوين العقل الكوني، كما لا ينفصل كل ما يبدعه العقل البشري عن العقل الكوني ، للوصول إلى كمال ما ذات يوم . ويمكن القول إن كل لغات العالم هي لغات الخالق لأنها لم تتم دون طاقته السارية في الخلق . والحال نفسها تنطبق على ما ابدعه الخلق ، فكل شيء في النهاية هو إبداع الخالق .
- هل ترى جلالتكم أن الخالق في بداية التكوين، قد مرّ بتجارب كثيرة إلى أن بدأ الإمساك بحقائق نظرية !
- بالتأكيد وإلا لما دامت عملية الخلق أربعة عشرمليارسنة . وما هومؤكد أن التجارب بدأت صدفية عشوائية، ولا يعلم إلا الخالق نفسه كم دامت هذه الحقبة ، ربما مليارسنة ، إلى أن أصبحت التجارب مبنية على أسس ممكنة وليست عشوائية . أتصورأن الخالق قام بمليارتجربة فاشلة قبل أن يصل إلى تجربة واحدة ناجحة ، ويبدو لي أن علماء الفيزياء والكيمياء قد يحتاجون إلى القدر نفسه من التجارب ليصلوا إلى نتائج صحيحة قطعية .
- إذن مسألة الخلق في ستة أيام أو بالكلمة ( كن ) ليست واردة في حكمتك الفلسفية .
- هذا مجرد اجتهاد لعقل بدائي لم يكن يعرف العلم ولا الكيمياء ولا الفيزياء . الجيد في الأمرأنه فكّرولو بخطأ في التفكير .
- ثمة أسئلة كثيرة ما تزال تدور في مخيلتي . سأختتم حوارنا في هذه الجلسة بالسؤال الذي أجلته من الحوار السابق :
- وإذا لم يجد جلالتكم الخالق في بحثه عنه ؟
تنهد الملك لقمان بعمق ثم استمد طاقة من الملكة نورالسماء بأن ضمها وقبّلها على خدها :
- يخالجني إحساس أنني عثرت على الله من زمان ، لكن عنادي هوالذي يصرعلى الحقيقة في مطلقها ،
وليس في نسبيتها.
- أشكر جلالتكم
*****







(59)
النهود الجامحات العابثات الدانيات !
غفا الليّل على الليّل ، وعانق ليل كوكب الملك ليل السماوات ، وهامت في الكون أفلاك، واضطربت أمواج المحيطات صاعدة لتشق عنان السماء، برقص حوريّات وجنيّات . وصدحت أنغام على أوتارلونيّة أبرقت متلألئة مضفية على الدجى سحرالآيات ! واحتضنت كواكبٌ كواكبَ، وتراقصت مجرّات مع مجرّات ، وتألقت في الرقص على مسارح كوكب الملك لقمان نهود كاعبات "حانيات كقطوف دانيات، ناهدات دافقات جامحات عابثات " في فضاء خالق لم يضع للخلق حدّاًّ، دون أن يكتمل كمال الخلق وإبداع الخالق والمخلوقات !
بدا الإمبراطوروقد هام في عوالم إله الملك لقمان، ولم يعد يعرف إن كان في عالم متخيًل، أوعالم من صنع سحرة خارقين ، أو من صنع آلهة ، ولم يجد إلا أن يضم رأس الإمبراطورة إلى حضنه، وهو يرنو إلى نهود الحوريّات والإنسيّات ، وقد تمردت على أستارالحياء، وراحت تهتز بحركات عبثية تحاكي الوجود وجمال الآلهة !
تنبه الملك لقمان إلى الإمبراطوروقد هام في سحرالعوالم فبدا كالمخدَّر. خاطرالملكة نورالسماء التي كانت تلقي رأسها على صدره فيما هو يمسد على شعرها براحة يده اليمنى " هل تتوقعين أن الإمبراطور ثمل أم أنه هائم في ما يراه ويحيط به ؟"
قالت : لا يبدوعليه أنه ثمل ، يبدو أنه مسحور بالعوالم التي وجد نفسه فيها، وخاصة كل ما هو خارق للطبيعة ، من عدم انتهاء لليل ، وعدم الإحساس بالشبع ، وعدم الإحساس بالحاجة إلى التبوّل والتبرز ، وعدم الإحساس بالتعب والنعاس والحاجة إلى الراحة والنوم .
- إنها فرصة لي لأريح عقلي من التفكير في الإجابة عن أسئلته الرهيبة !
-لا أظن أنه سيطيل الإستراحة وربما يفكرالآن في كل الإجابات التي سمعها منك ليعرف ماذا سيسأل .
- آمل أن أجد إجابات مقبولة تدعم رغبتي في أن لا أغادرهذه الدولة إلا وجميع سكانها يؤمنون بمذهبي !
- أتمنى لك التوفيق يا حبيبي رغم أنني أشك في صعوبة مهمتك !
- لا تحبطيني يا نور !
تنبهت الملكة إلى أنه خاطبها بشطرمن اسمها متجاهلاً مخاطبتها كحبيبة وحتى متجاهلاً لكامل اسمها . همست :
- ألم أعد حبيبتك ؟
أدرك الملك غيرتها ..
- بلى يا حبيبتي لا تذهبي بعيداً في خيالك !
- لا أستطيع تصورالمخاطبة بيننا إلا بالحب !
وقاطع الإمبراطورتخاطرهما حين استند في جلسته مبعداً رأس الإمبراطورة عن صدره برفق ، متسائلا :
- هل في الإمكان متابعة حوارنا جلالتكم ؟
- تفضل جلالتك ! لكن لا تعقد الأسئلة !
- لا لن أعقدها . أريد رأيكم في المبدأ الكلّي الذي يستمد الخلق طاقته منه في مفهومنا الفلسفي ؟
شعر الملك أن الإمبراطوربدأ يشك في معتقده . أجاب :
- المبدأ الكلّي ؟ المحرك الأول ؟ اسمان متشابهان . المشكلة ليست هنا . المشكلة تكمن في الجوهر والماهيّة . فهل هما مادة أم طاقة . وإذا كانا طاقة فهل هي طاقة فوق الطاقة؟ أي طاقة خارقة للطاقة لم تعرف بعد للعقل البشري ؟! وهل هما ثابتان أم متحركان وينبثق عنهما كل شيء في الوجود ؟ الفكر الفلسفي بشقيه المثالي (الديني) والمادي ( العلماني المنطقي ) توقف عند هذين المفهومين ولم يبحث عن ثالث لهما . إذاعدنا إلى المفهوم الأول ( المثالي ) سنجد أن مفهوم المبدأ الكلي لا يختلف عن مفهوم الألوهة، التي كانت أولا، وكان وجودها خارج المادة والطاقة، كون المادة خلق ولا يمكن أن يكون الله كائنا مادياً . وإذا ما عدنا إلى المفهوم الثاني حيث المادة الموجودة منذ الأزل دون أن توجدها ألوهة ما ، سنرى أنه ليس هناك إله . السؤال الذي لم تطرحه الفلسفة : أليس في الإمكان أن تنتج المادة ألوهة ما ؟ أوألم يكن في الإمكان التفكيرفي أن المادة ومنذ وجودها، كانت تحمل بذورألوهيتها أو خلقها فيها، وراحت توجد نفسها بنفسها وتطورها ، وما زالت تطورها حتى اليوم، دون أن تصل إلى مبتغاها أوما تطمح إليه . كفنان يمضي عمره في تطوير فنه، ويموت دون أن يبلغ كمالاً يرضى عنه . لقد تطرقنا إلى هذا الأمر من قبل جلالتكم ، وآمل أن أكون قد أضفت جديداً إلى هذا الفهم . علماً أنني أستعمل تعبير( ألوهة) كتعبير مجازي عن الخالق، وليس مجرد صفة له .
أطرق الإمبراطور للحظات . تساءل :
- مسألة أن يكون هناك خالق وغير كامل مسألة لا يتقبلها عقلي ، فهذا يعني أن وجود المبدأ الكلي الذي نؤمن به غير مكتمل حتى اليوم . كيف ترى أن الخلق غير مكتمل حتى اليوم ؟
- هناك الكثير مما يشير إلى أن الخلق غير مكتمل، أي غير كامل، وبما أن الخالق في مفهومي لا ينفصل عن الخلق، فهوغيركامل بالمطلق حتى اليوم. تصوّرأن الإنسان يحتاج إلى ثماني عشرة سنة ليكتمل نموّه ، ويحتاج إلى زمن طويل ليثقف نفسه ويتعلم مهنة أوأكثر في حياته . ولو تطرقنا إلى سنين الحمل وولادة مولود جاهل يحتاح إلى سنين ليتعلم لغة أبويه ويحتاج إلى سنين ليتعلم لغة أخرى، وقد يموت دون أن يعرف الغاية من وجوده ، فإننا سنجد أن الخلق غيرمكتمل . الإنسان يولد جاهلاً وبمعنى آخر ناقصا ، ويموت وهو ناقص أيضاً . ليست هذه إلا أمثلة بسيطة لنقص الخلق تتمثل في خلق الإنسان، الغاية المثلى التي وصلت إليها عملية الخلق ولم تكتمل بعد . لقد مارست الأدب والفن في حياتي ، ولم أشعر يوما أنني بلغت الكمال، لا في فني ولا في أدبي ولا في فكري الحالي ، فما بالك بالخالق العظيم هل يشعرأنه أكمل عملية الخلق وهو الآن في راحة أبدية ؟ أبداً، لن يكتمل الخلق أو يبلغ حداً مقبولاً من الكمال دون أن يولد الإنسان المتكلم العارف للغة أبوية من المهد، والعارف الغاية من وجوده، وهي المساهمة في عملية الخلق، بتحقيق قيم الخيروالعدل والمحبة والجمال ، وبناء الحضارة الإنسانية، وليس الحضارة الهمجية التي يحياها بعض البشراليوم . ودون أن تتحقق هذه القيم على وجهها الأكمل سيظل الخلق غير مكتمل والخالق غيركامل بالمطلق ( رغم كل عظمته ) فكمال الخلق من كمال الخالق .
******
(60)
سحرالألوهة المؤنثة لربّة الجمال يتجلى رقصاً في حضرة الكون !!
سكن الليل . توقفت حركة المجرّات . تقوقع المكان على المكان واستكان الزمان إلى الزمان. تقلّصت موجات الجاذبية . خلدت الكواكب إلى غياهب أحضان المجرّات . اتكأ قمرعلى قمر في فضاء المسكونة، وألقت نجمة رأسها على صدر نجمة . أسدلت شهب أذيالها النارية، وأذعنت المذنبات لنداء الكون ! خمدت أمواج المحيطات والبحار . هبطت على الكون ضربة إيقاع موسيقية تردد صداها مدوياً من أرجاء المعمورة . صمت البشر والجن جميعاً في كوكب الملك لقمان، وراحوا يترقبون الحدث القادم . انطلقت ربّة الجمال محلقة صعوداً في الفضاء، وسط هالة مائية مرتدية ثياباً بيضاً فضفاضة شفافة بالغة الطول ، محسورة عن كتفيها وصدرها ويديها ، مشقوقة على طول جانبيها . ماددة يديها في استقامة أمامها ، محركة قدميها وساقيها بحركات بطيئة قصيرة وكأنها تسبح في بحرمحلق في السماء، وليس في هالة مائية ، مرسلة جمالاً أخاذاً راح يتوهج ملقياً على الجمهور سحراً انثوياً لم يبلغه إلا إلاهات الخلق وربّاته . ضج ملايين الحضورعلى موائد الملك بالتصفيق . توقفت الربّة عن الصعود في الفضاء وشرعت في الدوران حول نفسها ليدورمعها الثوب الفضفاض والهالة المائية . انبثقت في الفضاء خشبة مسرح هائلة الحجم ، هبطت الربّة عليها وهي تدور حول نفسها وسط الهالة المائية . وما لبثت أن وقفت على أصابع قدمها اليسرى ماددة ساقها اليمنى في استقامة مشكلة زاوية قائمة، فيما رسم فستانها دائرة محلقة حول جسدها، وهي تدور بسرعة خارقة للغاية، بحيث لم يعد في الإمكان مشاهدة جسدها وسط الهالة المائية التي كانت تدورمعها .. ضج الملايين بالتصفيق وهم لا يعرفون كيف أصبحت أبصارهم حادة بحيث يرون المشهد وكأنه أمامهم . راحت الربة تبطء من دورانها شيئاً فشيئاً، وبدلا من أن تتوقف رفعت قدمها عن الأرض بقفزة في الهواء، لتقلب نفسها رأساً على عقب، وتشرع في الدوران حول نفسها في الفراغ ، وتنزل نحو الخشبة ماددة يدها اليسرى لتتكئ على أرض الخشبة بسبابتها فقط، وتستمر في الدوران بجسدها والهالة تدور معها، وبدلا من أن ينسدل فستانها إلى الاسفل توقف عند خصرها، ماددا أجنحته حول جسدها، ليرسم دائرة تحلق معها . فيما تألّق فخذاها وساقاها في جمال أخاذ شع منه نورربّاني ! أبطأت الربّة من دورانها حول نفسها لتنقلب في الهواء واقفة على قدميها . ضج الحضور بالتصفيق . مدت الربّة يداً منقبضة ونفضتها مطلقة أصابعها، وإذا بربة فائقة الجمال تنبعث منتصبة على المسرح في وقفة فنية، مرتدية زياً يشبه زي الربّة . ومدت الربّة يدها اليسرى كما فعلت باليمنى، لتنبثق ربة أخرى ، وراحت الربّة تكررمدّ يديها ونفضهما حول دائرة خشبة المسرح السماوي ، وكلما نفضت يداً انبثقت ربّة لتنبثق تسع وتسعون ربة ، يرسمن ثلاث دوائرفنية حول ربة الجمال، كلّ دائرة من ثلاث وثلاثين ربة . وحين شرعت ربة الجمال في رقص ربّاني لا يجيده إلا الربّات، شرعن يقلدنها في تناظرمدهش . وحين راحت الربة ترتفع في الفضاء وهي تدور حول نفسها، شرعن في الإرتفاع عن الخشبة في الوضع الذي هن عليه، ليحلقن على مسافة من الربّة، ويشرعن في الدوران حول أنفسهن كما تفعل الربّة ، وقد انفصلت دوائرهن إلى ثلاث طبقات تكبرإحداها سابقتها .
شرعت الربّة في مدّ يديها في الفضاء ونفضهما على إيقاع الموسيقى الكونيّة، والربّات يقلدنها تماماً دون أن تشذ حركة واحدة عن الوضع المرسوم لها . لينبثق تسع وتسعون وصيفة حورية شكّلن بدورهن ثلاث طبقات، تكبركل طبقة التي فوقها ، وشرعن يرقصن في الفضاء مقلدات رقص الربّات . وما لبثت ربّة الجمال التي كانت تعلودوائرالراقصات، أن شرعت في مد يديها ونفضهما لتقلدها الربات، ولتنبثق تسع وتسعون نجمة في شكل إنسي وتحلق في ثلاث طبقات، أسفل الطبقات السابقة وعلى النسق نفسه . فكل حلقة دائرية كانت أكبرمن سابقتها . وظلت الربّة تكرررقصها ونفض يديها وهي تصعد في الفضاء، وجميع الراقصات يقلّدنها ، فقد تلا حلقات النجوم الإنسانية ، حلقات لدلافين برؤوس حوريات وحلقات لأسماك حوريات وحلقات لكواكب كالبشر، وحلقات لأقماركالبشر ،وحلقات لشموس في هيئة إنسانية مشعة ، وحلقات لشهب ، وحلقات لمذنبات ، وحلقات لغيوم، وحلقات لزهورفي شكل إنساني ، وحلقات من هلامات مائية كالبشر، وحلقات من أشجارالزيتون، فحلقات من أشجار التفاح، وحلقات لحيوانات مختلفة . وكان آخرالحلقات المنبعثة حلقات مكثّفة للمجرات في جماعات إنسانية، كل مجموعة كانت تشكّل هيئة إنسانية ، لتبدو الحلقات في الفضاء وقد شكلّت هرماً مخروطياً كونيّاً يتطاول في أعالي السماء ، رأسه ربّة الجمال وقاعدته المجرات ، وشرع في الرقص على إيقاع موسيقى كونية راح صداها يتردد من أرجاء الكون .
لم يعد الإمبراطوروالإمبراطورة والملايين من ضيوف الله والملك لقمان والملكة نورالسماء قادرين على تصورهذا الجمال الذي يعجزالكلام عن وصفه ، فبدوا في غاية الدهشة وهم يتسمّرون في مقاعدهم كالمسحورين، مطبقين بأيديهم على رؤوسهم، فاتحين أفواههم متأوهين متعجبين، لا يعرفون إن كانوا يحيون في واقع أم في خيال لا يمكن تصوره .
الملك شمنهور وحده أدرك أن كل هذه المعجزات لم تحدث لو لم يتدخل الملك لقمان ويوظف خياله مستحثا إلهه لمساعدة ربة الجمال في رقصتها كونها من بنات خياله .
راحت الموسيقى تتصارع في إيقاعات تتردد من كافة أرجاء الكون توحي بالمطلق المجهول ، لتكفّ الكائنات والربّات عن الرقص المتشابه، ليعبركل كائن عن إحساسه كما يشعر، وكما توحي له الموسيقى
الكونية .. فانبعثت أشكال من الرقص لا حصر لها . وفجأة بدأ فجر في الإنبلاج . أدرك الجميع أن الليل الطويل الذي لم يعيشوه من قبل قط، سينجلي ، وستعود الحياة إلى طبيعتها، دون أن ينسوا ولو للحظة جمال ومتعة هذا الليل في حضرة الألوهة نفسها . ودون أن يعرفوا أنهم أمضوا ليلا يعادل ألف عام من أيامهم ، ودون أن يتغيرشيء في واقع حياتهم ، وكأنهم لم يمضوا إلا ليلة واحدة حسب زمنهم !!
راحت الكائنات تتبدد وتنتشر في الفضاء بحركات راقصة، لتختفي في الآفاق وتتلاشى . كانت تتبدد على دفعات من الأسفل إلى الأعلى . بدأ التبدد بالمجرات .. وكانت الحلقات تهبط إلى أسفل الكون كلما تفرقت حلقة .. راح الجميع يرقبون تفرق الحلقات وتبدّدها واختفاءها .. وحين بدأت الشمس في الشروق ، أو حين داركوكب المحتفين ليبدأ ظهوره في مواجهة الشمس ، كانت حلقة الربات تتفرّق وتتبدد، لتحط ربّة الجمال وحدها على خشبة المسرح الكوني، وتنحني تحية واحتراماً لجمهورالملايين ، الذين نهضوا وهم يصفقون للربّة التي رقصت الكون برقصها .
****
(61)
حُب وقٌبل ما بعد الموت !!
وهو يسترخي على أريكة في حديقة قصره، منتظراً قدوم الملك لقمان إليه بعد بضعة أيام من الحفل السماوي الخارق للطبيعة . راح الإمبراطورالشنوتي يفكر في قدرات هذا الملك الإعجازية، وكيف تنفتح له أبواب السماء وتستجيب لرغباته . مسألة أكبرمن قدرة العقل على استيعابها ، بغض النظرإن كانت حقيقة أم خيالاً أو سحراً . فهل هذا الرجل مجرد ملك أم ملاك أونبي أوحتى إله ، طالما اعتقد ( الإمبراطور ) بوجود آلهة متعددة تستمد قدسيتها من المبدأ الكلي الشمولي المتخلل في الكون . ثمة تقارب ما في فهم المعتقدين ، رغم إصرارالملك على أن فهمه اجتهادي ، وهذه مسألة تحيّرأيضاً ، فهل تستجيب السماء لفهم اجتهادي وتحقق المعجزات ، ليلتبس الواقع بالخيال والممكن بالمستحيل والمحدود بالمطلق وكل شيء بكل شيء .
أقبل الملك لقمان محلّقاً وحده في الفضاء ، ومسألة (التحليق) هذه معجزة أخرى تضاف إلى معجزات الملك ، فكيف يتمكن من التحليق بقامته في الفضاء دون أجنحة ودون أي شيء يساعده على الأمر ؟
حط الملك على مقربة من الإمبراطورالذي نهض لاستقباله . تصافحا بحرارة وقد رفعت الكلفة بينهما بحدود.
- أراك وحيداً ؟! هتف الملك وهو يجلس إلى جانب الإمبراطورعلى الأريكة .
- أحببت أن أخلد إلى نفسي لأفكرفي ما تقوله وما تفعله جلالتكم !
- وهل توصّلتم إلى نتيجة ؟
- ثمة تقارب ما بين مفهومينا، إذا استثنينا مسألة ما بعد الموت، كمرحلة ضرورية في تجدد دورة الحياة الكونية .
- وهل لجلالتكم اعتراض على هذه الفكرة ؟
- بالعكس لقد أراحتني وأجابت لي عن الكثير من الأسئلة المقلقة . فمسألة انتهاء أمرالإنسان بالموت كانت وما تزال مسألة مقلقة للبشرية . أنتم زرعتم الأمل في النفس البشرية .
- لقد كنت لبضعة أعوام خلت أظن أن حياة الإنسان تنتهي بالموت ، لم أكن مرتاحاً لهذه الفكرة إلى أن عثرت على الحل في ليلة أمضيتها في التأمل . ربما أسعفني التوحد بالذات الإلهية في الفكرالصوفي والحلول في المبدأ الكلي القائم بالكون حسب بعض المعتقدات .
- وهل حسمتم الأمرفي أن الإنسان يدرك وجوده المادي الطاقوي في الذات الكونية الخالقة ؟
- أجل حسمتها أيضا . ففكرة أن الطاقة لا تدرك وجودها ( وضربت مثلا بالطاقة الكهربائية التي لا تدرك وجودها رغم أن الضوء مثلا لا يمكن أن يتم دونها ) لم تكن مقنعة لي ، إلى أن اهتديت إلى اعتبارالطاقة الخالقة طاقة الطاقات كلها وليست مجرد طاقة كهربائية ، حتى لو كانت الطاقة الكهربائية تدرك وجودها كطاقة . فلا يعقل أن لا يدرك خالق الكون وجوده . فنحن كبشرندرك وجودنا والكائنات وخاصة الحية منها تدرك وجودها ، فكيف لا يدرك الخالق وجوده المجسد الذي لا ينفصل عن الوجود ؟! مسألة لم تكن مريحة ومقنعة لي فحللتها بالإدراك .
- وهل يدرك الإنسان وجوده المادي الطاقوي في الخالق أوالألوهة أوالمبدأ الكلي حسب معتقدنا ؟
- يفترض أنه اتحد مع الذات الخالقة كمادة وطاقة وأصبح جزءاً منها ، أي من مادتها وطاقتها ، ففي هذه الحال لا يشعر بوجود إنساني بل بوجود كوني شامل وغير محدود . إنه وجود ألوهية.
- وهل يتمتع بذلك ؟
- يفترض ذلك .
- كيف ؟
ضحك الملك لقمان وهو يقول :
- حين أصبح خالقاً أوإلهاً سأخبرجلالتكم !
ضحك الإمبراطور بدوره . تابع الملك متنبئاً :
- أظن أنني لن أتمتع بعملية الخلق فقط، بل وبالقبل التي يتبادلها البشر، وربما ما هوأكثرمن ذلك ، كأن
أتمتع بممارستهم للحب والعمل..ألخ !
تابع الإمبراطورالضحك وكم الأسئلة يتوارد في مخيلته :
- إنطلاقا من رؤية جلالتكم الإجتهادية واعتقادكم بالنشوء والإرتقاء ، ألا يمكن أن تكون هذه الأفكار ما تزال قيد التحقق لدى الخالق . أقصد ما يتعلق منها بإدراك الإنسان لوجوده في الذات الخالقة ؟
أطرق الملك للحظات .
- هذا أمرممكن ، لكن إذا اعتبرنا أن الذات الخالقة مدركة لوجودها، فلا يعقل لمن يتحد معها أن لا يدرك وجوده، كونه أصبح جزءاً منها .
وافق الإمبراطورالملك على وجهة نظره . وأطرق يفكر في أي الأسئلة التالية سيطرح على الملك. وما لبث أن هتف :
- هل في مقدور جلالتكم أن ترتب لي أطوار بدء عملية الخلق حسب تسلسلها .
أدرك الملك صعوبة السؤال . أجاب بعد برهة تفكير :
- المادة الأولية . أو الهيولى البدئية ،أوجدت نفسها بنفسها لنفسها، وهي ما تزال تحقق نفسها بنفسها لنفسها، دون أن تبلغ كمالاً ما . فنحن نفسها وهي نفسنا، والوجود نفسها وهي نفسه ، وكل ما نقوم به ويقوم به الوجود وتقوم به هي، هو تحقيق لنفسها بنفسها ، أولذاتها بذاتها.
الهيولى البدئية مادة وطاقة . كانت تحمل عقلاً بدائياً ، وغاية بدائية غيرمدركة بوضوح . نتج عن العقل خيال . الخيال طورالغاية ، إلى أن أصبحت تصوراً بدائياً . نتج عن ذلك ظهوربدائي ، فسره العلم بأنه الإنفجار الكوني . وبغض النظرعن صحة نظرية الإنفجارأوعدمها ، فإن الحاجة إلى الظهور والتجلي للمادة الأوليّة كان ضرورياً ولا بد منه . لا أحد يستطيع تحديد فترة الكمون . ربما دامت مليارعام . وهذه الفترة تسبق الإنفجارالكوني المفترض ، وإذا كان العلم قد حدد فترة الإنفجارالكوني قبل قرابة أربعة عشر مليارعام ، فإن الهيولى حسب فرضيتنا كانت موجودة منذ خمسة عشرمليارعام أوأكثر بكثير.
لا أحد يستطيع معرفة ماهية العقل البدائي الذي كانت تحمله الهيولى . لكن في الإمكان القول إنّه لا يشبه العقل البشري الناتج عن دماغ . ما يمكننا قوله هو أنه نتج عن طاقة نتجت عن مادة عبر تفاعلات مديدة . وإذا ما أردنا أن نسلسل مكونات هذه المادة الهيولية فليس في مقدورنا إلا القول : مادة . طاقة . عقل . خيال . تصور . تحقق، بدءا بالإنفجارأوغيره . ليس بالضرورة أن تكون بداية التّحقق أوالتجلّي والظهور انفجاراً . لن ندخل في تفاصيل ما بعد ذلك لأن العلم اكتشفها أواكتشف معظمها . لكن في الإمكان القول، إن تشكل الكون قبل ما عرف بالكائنات الحية، أو تشكل الخلية الحية، قد دام ما لا يقل عن ثلاثة عشرمليارعام . وفي الإمكان القول ثلاثة عشرمليارعام من التفاعل والإنقسام . لكن ثمة مسألة لا بد من وضعها قيد الإحتمال . إذا كانت مادة الكون قد جاءت من المادة الأولية، فإننا لا نستبعد أن تكون كل مادة في الكون تحمل العناصرالأولية نفسها أو بعضها على الأقل . وأظن أن أول من أشار إلى ذلك تاريخيّاً هوالفيلسوف اليوناني أناكسيماندر، في القرن الخامس قبل الميلاد . وأشارأيضاً إلى عودة الأشياء الميتة إلى العنصر الأولي ( اللانهائي ) الذي جاءت منه .
ظل الإمبراطور صامتا للحظات يفكرفي ما قاله الملك لقمان ، دون أن يصل إلى قناعة يقينية في ذلك ،
خاصة وهو يدرك أن الملك يرى في فكره اجتهاداً وليس يقيناً مطلقاً .
- أشكر جلالتكم . سنتابع فيما بعد .
****
(62)
الإمبراطور يتمتع بتذوق طعم القُبل !
ظل عقل الإمبراطور منشغلاً بتحولات وتمظهرات المادة والطاقة ، وعمّا إذا كانت تحوّلاً وتمظهراً لخالق
أو لألوهة أو لمبدأ كلّي يتخلل الوجود . فبينما كانا يتجولان هووالملك لقمان في حديقة القصر الإمبراطوري ، توقفا إلى جانب شجيرات لزهورمختلفة الألوان تفوحت منها رائحة أخاذة ، طرح الإمبراطورسؤاله المحيرعلى الملك . تساءل الملك :
- لقد سبق وأن تطرقنا لهذه المسألة .
قال الإمبراطور :
- لكننا لم نشبعها بحثا !
- ليس هناك مسألة في الوجود يمكن اشباعها بحثاً وتخيلاً خاصة إذا ما كانت مسألة غيبية . ولو كانت غير ذلك لما وجدنا آلاف العقائد والفلسفات، ولأمكن الإهتداء إلى فلسفة محددة أوعقيدة مقنعة اتبعتها البشرية . والمسألة نفسها ما تزال مطروحة علمياً وفلسفياً ودينياً، دون أن يتوصل العقل البشري إلى حقيقة مطلقة. وأشك في أنه سيتوصل في المدى المنظور .
إذا اعتبرنا أن مفردات الله والألوهة والمبدأ الكلي ومثيلاتها ، لم توجد إلا بعد اختراع اللغات منذ وقت قريب تاريخيا، فإننا سنستبعد إمكانية أن تعرّف الطاقة نفسها بها ، حتى بمفردات المادة والطاقة ، والتحولات والتمظهرات، وكل ما تعبر به البشرية لغوياً عن هذه الظواهر. يمكن القول إنّ للمادة والطاقة لغتهما الخاصة التي كوّدت بها ملايين المعلومات في نواة كل خلية ، هذه اللغة (الشيفرة) ما تزال مجهولة حتى اليوم للعقل البشري ، وإن استطاع معرفة عمل القليل جداً جداً من رموزها، كالكروموزومات . فجسم الإنسان مثلاّ وحسب بعض المراجع يحتوي على ستين تريليون خلية. أنا سأقذف نصف هذا الرقم بعيداً وأفترض ثلاثين تريليون . وليس هناك خلية إلا وتحتوي على مليارات الكودات، التي لها عمل محدد ووظيفة مختلفة في الغالب. تقول بعض المصادر، إن نواة الخلية تحتوي على خمسة آلاف مليون معلومة ولم يكتشف العلم منها حتى اليوم إلا ثمانمئة معلومة فقط، يتعلق معظمها بالمورّثات !
على ضوء هذه المعلومات قلنا من قبل إنّ فكرة الألوهة أوالله أوالمبدأ الكلي، قد لا تكفي هذه القدرة للتعبير عن نفسها بها ، وربما لها لغتها الخاصة، ومفرداتها الخاصة، التي تعبربها عن نفسها . لذلك فضلت استعمال مفردة الخالق . لكن إذا ما تناولنا المسألة من زاوية أخرى، نعتبر فيها وجودنا لا ينفصل عن وجود هذه المادة الطاقوية الكونية، وأن كل ما نفعله ونخترعه بما في ذلك اللغة التي نتكلمها، هو بفعل هذه الطاقة ، فإننا قد نتقبل إطلاق هذه المفردات على الطاقة، وقد تتقبلها هي وتعتبرها من جملة أسمائها وصفاتها، بل وتعتبرأي لغة مهما كانت، هي لغتها كونها من نتاج قدرتها الخارقة فينا .
توقف الملك لقمان عن الكلام منتظراً رأي الإمبراطورالذي بدا متفكراً ومخيّلته تسترجع تصورات الملك .
لم يتكلم . هتف الملك :
- هل أضفت شيئا إلى فهم المسألة ؟
- أجل جلالتكم لكنكم فتحتم آفاقا جديدة للأسئلة .
- أدرك ذلك في مقدور جلالتكم أن يسأل!
- إذا اعتبرنا أن كل لغة يمكن أن تعتبر لغة إلهية، فهذا يعني أن كل كتاب كونه مكتوباً بلغة ما، قد يكون إلهياً أيضا . والأمر نفسه ينطبق على المخترعات الإنسانية .
- أجل جلالتك . كل شيء يجري بفعل طاقة الخالق، لكن الخالق قد لا يأخذ بما يتنافى مع مبادئه في تحقيق قيم الخيروالعدل والجمال .
- لكنك بهذا الرأي تنزّه الخالق عن الخلق !
- أبداً، ولو نظرنا إلى أي فعل منكر يقوم به إنسان ما، لوجدنا آلاف البشر يستنكرون الفعل الذي قام به ذاك الإنسان . ولنفترض انساناً يقتل إنساناً سنجد ملايين يستنكرون فعل القتل والقاتل. ففعل القتل، تمّ بتوظيف طاقة الخالق السارية في الإنسان، وفعل الإستنكارتم بالأمر نفسه.
- ولماذا ترك الخالق الإنسان مخيراً، بين الفعل الإنساني ونقيضه ، أي بين الخير والشر ؟
- هو لم يتركه . هذا ما توصلت إليه عملية الخلق غيرالمكتملة حتى اليوم. لقد سبق وأن قلت، إنّ عملية الخلق في تطورها، بلغت حد التكامل بين الخالق والمخلوق، وخاصة الإنسان ، فالخالق في حاجة إلى ما يخلقه الإنسان، والإنسان في حاجة إلى ما يخلقه الخالق . المشكلة في فعل الشرالذي يرتكبه الإنسان والذي لم يستطع الخالق أن يضع له حداً حتى الآن . وأعتقد أن الأمر لن يتم إلا بتضافر عملية الخلق بين الخالق والمخلوق . المخلوق الذي هو جزء من ذات الخالق ، والخالق الذي هو جزء من ذات المخلوق . وآمل أن يصل الخلق ذات يوم إلى تحقيق قيم الخيروالحق والعدل والمحبة والجمال.
- هل نعتبر حسب هذا الفهم أن من يقتل إنساناً يقتل الله ؟
- مجازاً نعم . أما واقعياً فلا، فالذات الإلهية طاقة سارية، ومادة متجلية في الكون كلّه، في أشكال متعددة، بما في ذلك الإنسان والكائنات الحية . وليس في الإمكان قتلها بقتل إنسان ما، أو مجموعة بشرية . لكن في مقدورنا القول، إنّ من يقتل إنساناً يقتل جزءاً من الذات الإلهية الخالقة . وأن الخالق يحزن ويغضب ويتألم لذلك. يحزن ويغضب ويتألم بحزن وغضب وألم بشريته . وهذا ينطبق على كل فعل شرّاني يرتكبه الإنسان .
- وماذا عن قتل الإنسان للحيوان لأكله، وافتراس الحيوان للحيوان للغاية ذاتها ؟
- هنا المسألة تختلف لأن هذا القتل أوالإفتراس قانون إلهي مجاز، أو قوانين خلق مباحة ضمن حدودها ، وهو ما يسمّيه البشر قوانين الطبيعة . والأمر نفسه ينطبق على أكل الأعشاب والخضاروالفواكه . فنحن نفترس ثماركائنات حية . وحتى اليوم لا يمكن تجاوز هذا القانون .
- أخذتني بعيداً جلالتكم . سأعود إلى التمتع بعملية الخلق ما بعد الموت ، حين يعود الإنسان بعد موته متحللاً إلى عناصره الأولية ليتحد مع مادة الخلق وطاقته، ليصبح خالقا بدوره ، هل أغنيت لي هذه الفكرة ؟
- حسنا .. حين لم يكن الخالق في مادته الأولية (الهيولى البدئية ) يملك عيوناً يرى بها، وآذاناً يسمع بها، وغير ذلك كثير، خلق بعد مليارات السنين من تطورعملية الخلق الكائنات الحية بما فيها الإنسان ، ليرى بأعينها ويسمع بآذانها ، ويتكلم بلغتها ، ويفكر بعقلها ، وهذا لا يعني أنه ليس لدى الخالق كمصدر للطاقة بشموليّة تنوعها عقل مثلاً، وإلا لما استطاع أن يخلق كوناً ومخلوقات ، لكنه كان في حاجة إلى إغناء وجوده ، بخلق كائنات حيّة لها عيون وآذان وأدمغة وحواس ، تساعده في عملية الخلق ويحقق وجوداً أشمل لوجوده . وإذا ما عدت إلى سؤالك كيف يتمتع الإنسان بعد موته باتحاده مع الذات الخالقة، بوجوده أو بعملية الخلق ، إنه يتمتع بما تبصره عيون مخلوقاته وإن شئت عيونه ، فيرى ما في أعماق البحار وفي باطن الأرض ، وجمال الطبيعة بكل مظاهرها . والأمرنفسه ينطبق على السّمع والحواس كلّها المكتشف منها من قبل العلم وغيرالمكتشف . واتحاد المخلوق بالخالق سيحيله من صفته الإنسانية إلى صفته الألوهيّة إذا جازالتعبير، ليحس ويشعر ويرى ويسمع ويفكرويخلق، بما يخلق به الخالق ويحس به ويشعربه ويراه ويسمعه ويفكر فيه .
علّق الإمبراطور ضاحكاً :
- عفوا لا تنس التّذوّق ، فأنا يهمني أن أتمتع بتذوق طعم القبل وما إلى ذلك ، حين أتحد مع الذات الإلهية !
ضحك الملك وأجاب :
- ستتمتع جلالتك، وربما يكون هذا التمتع من أجمل ما يقدمه الخالق للمخلوق !
- سؤال للتوضيح ! هل يحس الإنسان بلحظة اتحاده مع الذات الخالقة ، التي يفقد بعدها ذاته فيها ليغدو ذاتاً إلهية ؟!
أدرك الملك لقمان إعجازية السؤال وتمنى لوأنّه سُئل لبوذي وليس له ، عمّا إذا كان المؤمن البوذي يحس بلحظة انطفائه في النيرفانا الكونية أولا يحس . ابتسم وهو يدرك أن الإمبراطورلن يؤمن بمعتقده إلا إذا استطاع أن يعرف كلّ شيء عنه . هتف :
- أنت تعقدها جلالتكم . سأجيبك اجتهاداً وآمل أن يكون صحيحاً . شخصياً أرى أن لحظة الإنطفاء في الألوهة أوالحلول فيها، تبدأ بعد موت الإنسان مباشرة ، وقد تمربمراحل تبدأ بالموت وتنتهي باندماج وتفاعل مادة جسد الإنسان بمادة الكون في التراب ، واندماج طاقة جسده وتفاعلها مع الطاقة الكونية . وقد يكون ثمة إحساس ما بالعملية ، تبلغ ذروتها بالتحول إلى طاقة ، أي لحظة الإندماج بالطاقة الكونية الألوهية . حين يفقد الإنسان كل إحساس مهما كان أو لم يكن، ليتحول إلى إحساس ألوهي كوني .
لم يبد أن الإمبراطوراقتنع باجتهاد الملك، وإن أحس أنه اجتهاد ممكن القبول ، فقد راح يزم شفتيه ليطبق السفلى على العليا ، ومن ثم يهتف كالعادة :
- أشكر جلالتكم ! إنه اجتهاد جميل ! سنتابع فيما بعد !
****
(63)
لو آمنت البشرية بالمحبة الإنسانية وحدها ..!
وهما يستلقيان وحدهما على أعشاب حديقة القصرالإمبراطوري ، في استراحة قصيرة دون حوارات قلقة حول الوجود والغاية منه ، ودون نساء يضفين بهجة ما على النزهة ، ودون أجواء فانتازية تجود بها مخيلة الملك لقمان لتلبيها السماء ، تساءل الإمبراطورفي نفسه عمّا إذا كان العقل قد وجد أولا قبل المادة .. ورغم إدراكه أن هذا السؤال يحتمل اللامنطقية بل ويكاد يعرف مسبقاً بماذا سيجيب الملك لقمان عنه ، إلا أنه قرر أن يسأله للملك .
أجاب الملك بعد أن مال على جنبه وكوّع على العشب مستنداً إلى مرفقه محتضناً خده براحة يده ، وقد رفع الكلفة تماماً بينه وبين الإمبراطور :
- ما بك يا رجل هل ستعيدنا إلى البداية؟
أجاب الإمبراطور وقد كوّع بدوره في مواجهة الملك ورفع الكلفة أيضا :
- أتساءل لماذا ليس في الإمكان أن يكون العقل أولاً وبه تم خلق الوجود!
أجاب الملك بصوت لا يخلو من انفعال :
- لأنه لا يمكن أن يوجد عقل في العدم ومن العدم ! هل ستعيدنا إلى البدء بالكلمة ليكن كذا فكان ! أي أنه كان يوجد عقل في العدم ويعرف لغة أيضا ؟!
- أليس العقل طاقة ؟
- أجل! طاقة ، لكنها غيرمادية وإن انطوت على المادة بإدراكها لها !
- كيف تدركها ؟
- هذا ما اصطدمت أمامه قوانين الفيزياء!
- في هذه الحال تكون المادة موجودة في العقل !
- تكون موجودة بشكلها الطاقوي المتحول إلى عقل ، لأن العقل في الإساس ينتج عنها وليس العكس .
- كيف ينتج ؟
- بفعل الطاقة الكونية السارية في المادة .
- هل لك أن توضح لي ذلك .
- لو أخذنا عقل الإنسان مثلاً ، فإنه لا ينتج إلا عن جسم الإنسان كمادة وطاقة . وليس في الإمكان انتاج عقل دون جسد مادي يصدرعنه . ولوانتفى جسد الإنسان ودماغه بشكل خاص ، لما كان هناك عقل .
- وما هو جسد المبدأ الكلي أو الخالق أوالألوهة في هذه الحال التي تنتج عقلاً ؟
أدرك الملك أنّ الإمبراطور يدرك ذلك من الحوارات السابقة ، لكنه يريد أن يجدد معلوماته ليستوعبها على أكمل وجه !
- جسد الخالق حالياً هو الوجود كله وبكل كائناته المنظورة للبشروغيرالمنظورة ! وفي البدء كان الهيولى البدئية.
أخذ الإمبراطور نفساً عميقاً. مسد براحة يده على العشب . انثنى العشب تحت راحة يده وعاد إلى الإنتصاب بعد مرورها عنه . تساءل وهو ما زال يمسد على العشب :
- هل في الإمكان القول إنني الآن إله يداعب عشباً إلهياً؟!
- مجازاً نعم كون الألوهة مجسدة في خلقها كله ، وخلقها كله مجسد فيها ، أما واقعيا فغيرممكن لأنك
والعشب لستما الوجود كله . فأنتما قد لا تشكلان ذرة صغيرة في محيط الوجود الإلهي. وهنا كان خطأ المتصوفة حين كان أحدهم يرى أنه الله والله هو .
تخلّى الإمبراطورعن التكويع في مواجهة الملك وجلس طاوياً ساقيه تحت جسده :
- هل تعرف جلالتكم لماذا أعيد طرح أسئلة تتعلق بمفاهيم طرحناها ؟
تنبه الملك إلى أن الإمبراطورعاد إلى خطاب المجاملة :
- لتتأكد من استيعابك وفهمك لما قلته لك ، ثم إن فهمكم للمبدأ الكلي غيرمجسد. إنه أشبه بالعقل أوالطاقة السارية في الكون دون التجسد فيه ، وبهذا يفقد وجوده المادي . أو أن له وجوداً ثابتاً يصدرعنه العقل والخلق . وهذا الفهم يتفق مع الفلسفة المثالية في عقائد كثيرة ، كما يتفق مع فلسفة أرسطو عن المحرك الأول غير المتحرك .
- أين تضعون جلالتكم فكركم من وجهة نظر فلسفية ؟
ضحك الملك لهذه المبالغة في التخاطب التي عادت إلى لسان الإمبراطور . هتف بلهجة مبسطة جدا :
- ما بك يا زلمه عدت إلى مخاطبتي بتهذيب فائق ، ما أنا إلا راع ابن راع كنته ذات يوم !
ضحك الإمبراطوروهو يهتف :
- لو كان الرعاة والبشر بشكل عام على القدرالذي تحملونه من المعرفة والتهذيب لكان العالم بألف خير! كلما حاولت أن أقنع نفسي أنني أخاطب صديقاً لا يختلف عني ، أجد أنني على خطأ !
- لا لست على خطأ جلالتكم . حين اطلعت على معتقدكم وأنا أبحث عن فكر يغني فكري شعرت أنكم لم تتركوا لي شيئا أفكرفيه . وأمضيت بضع سنوات إلى أن تجاوزت مفاهيمه . أنا أعتبرأن فلسفتي مادية روحية، كونها لم تلغ وجود خالق بغض النظرعن كونه إلهاً أو خالقاً ، ولم تلغ منطق العلم .
- حقاً ؟ هل أغنى فكرنا فكركم ؟
- إنها الحقيقة ! وفي المجمل وكوني إنساناً ينتمي إلى كوكب الأرض شعرت أن بعض معتقدات الشرق الأقصى وأقصى جنوب آسيا تتفوق في فهمها للوجود على معتقدات الشرق الأوسط المسماة سماوية . وفي رحلتي الكونية عثرت على معتقدات لم أجد إلا أن أحترم معتنقيها ولم أتدخل في شؤونهم . لأنني وجدت أنها معتقدات في غاية الإنسانية . تحترم الإنسان وتجلًه ، وهذه مسألة لها غاية الأهمية في معتقدي .
- أنا في غاية السعادة بالتعرف إلى جلالتكم . ولا أعرف إذا في الإمكان أن نتابع حوارنا لهذه الجلسة .
- تفضل . لدينا وقت .
- كيف تفهمون مسألة مثل الحساب والعقاب في بعض المعتقدات . كما تعلم في مفهومنا ليس هناك حساب وعقاب ويوم آخروحياة آخرة بعد الموت .
- بالتأكيد حسب مفهومي ومعتقدي لا يمكن لخالق أن يحاسب ويعاقب ، لأنه حسب مفهومي سيحاسب ويعاقب نفسه ولو مجازاً، وهذه مسألة غير ممكنة . فالحساب والعقاب والتشريعات هي من شأن الأمم وليست من شأن الخالق ، لأن الخالق حسب فهمي هو محبة مطلقة وخير مطلق وجمال مطلق . وهو يسمو على كل ما يتناقض مع المحبة والخير والعدل والجمال . وكخالق لا يمكن إلا أن يكون كذلك . ولا أستطيع أن أتصور خالقاً بهذه العظمة يقلّب جسد إنسان في نار لأي سبب مهما كان .
- وماذا عن الجنة حسب بعض العقائد ؟
- ليس هناك جنة . الجنة هي وجودنا أينما كنّا ، على كوكب الأرض أوعلى كوكب آخر في السماء ، فإما أن نحيله إلى جنة أو إلى جحيم ، كما يحدث على كوكب الأرض اليوم !
- لماذا يحدث ذلك حسب فهمكم ؟
- المشكلة تتعلق في خطأ العقل البشري في اجتهاده المعرفي . فالإنسان حتى الآن يتخبط في معرفة الوجود والغاية منه ، ويتخبط في معرفة الخالق والغاية من الخلق ، دون أن يهتدي إلى الصواب . الوجود في أزمة معرفية. والعقل البشري في محنة . لو أن العقل البشري على كوكب الأرض آمن بالمحبة الإنسانية وحدها ، وكرس جهده لتحقيقها ، متخلياً عن أسلحة الدمار، لتحوًل كوكب الأرض إلى جنة حقيقية تنعم فيها البشرية بالمحبة والطمأنينة والخير . ولخلّصنا الوجود من أهم أزماته !!
وفيما كان الإمبراطوريشكرالملك على حسن فهمه ، أقبلت الملكة نورالسماء محلّقة في الفضاء ، وليس في هذا الأمر ما هو مثير للإستغراب ، المثير هو قدوم الإمبراطورة محلّقة معها ، لأول مرة في حياتها ، كانت تضحك بملء فيها فبدت كطفلة ، وحين بلغتا فضاء الملك والإمبراطورأبت الإمبراطورة النزول ، ورجت الملكة أن تبقى محلًقة بها، فوافقتها على طلبها لتبدو في غاية الفرح والسعادة، والملكة تطيرها معها صعوداً ونزولاً ، في أشكال مختلفة . وبهذا يكون الوضع قد خرج من الواقع المؤلم إلى الخيال الجميل . ضحك الإمبراطور وابتسم الملك . وكان لا بد من جلسة خيالية تسموعلى الواقع الواقعي.
***
(64)
حوريات عربيات يسبحن في أعماق محيط في السماء !
ما أن انتهت الإمبراطورة من تحليقها المبهج في الفضاء برفقة الملكة نورالسماء وحطتا في مواجهة الملك لقمان والإمبراطور، حتى تمنّت وهي في هذه الفرحة الغامرة أن تتناول غداء شواء في مكان اسطوري!
أحبط الإمبراطورالذي ليس في مقدوره أن يحقق أساطير، فنظرإلى الملك لقمان آملا المساعدة . هتف الملك وقد أدرك أنه المقصود بالطلب " طلبات الإمبراطورة أوامر ينبغي أن تلبّى " وتابع موجها كلامه للإمبراطورة :
- أين تفضلين المكان جلالتك، في السماء أم في أعماق المحيط ؟
لم تتوقع الإمبراطورة هذين الخيارين فكادت أن ترقص فرحاً وهي تزم قبضتيها وتهزهما هاتفة " ياي ياي " وما لبثت أن حسمت أمرها :
- في أعماق المحيط ! ليكن في أعماق المحيط !
- أنت تأمرين جلالتك ! وبما أن الحفل سيكون على شرفك في مقدورك أن تدعوي من تشائين !
طارت الإمبراطورة فرحاً ، ونست أنها امبراطورة ينبغي عليها أن تبدي ولوالقليل من الإتزان في سلوكها وردود فعلها على ما تسمع ، فبدت كطفلة تتفاجأ بظواهرالأشياء لأول مرة في حياتها :
- ياي ياي ! ِ
ويبدوأنها أدركت خروجها على التقاليد الإمبراطورية التي تستدعي التهذيب :
- أشكر جلالتكم ! سأدعو مرافقيكم جميعهم وعشرة من المقربين إلينا !
شعر الملك أن الإمبراطوره لا تريد أن تثقل عليه بكثرة المدعوين .
- هذا عدد قليل جلالتك ! في مقدورك أن تدعوي ملايين إن أردت !
لم تصدق الإمبراطورة ما سمعته ، لكن حين تذكرت حفل العشاء الذي شارك فيه الملايين من سكان الإمبراطورية والذي دام لزمن أسطوري دون أن ينتهي الليل . قررت أن تدعو مليون إنسان .
****
لم تمر سوى لحظات حين حلقت في الفضاء مئات السفن العملاقة من زجاج شفاف وآلاف البشر يصعدون طائرين إليها ليجلسوا على مقاعد وثيرة . وما أن انتهى صعود البشر حتى شرعت السفن في الهبوط إلى مياه المحيط محلقة تحت الماء وسط آلاف الأنواع من الأسماك والدلافين والحيتان والأخطبوطات والشعب المرجانية والطيورالمائية والحوريات والأفراس البحرية والنهرية ، ومئات الكائنات غير المعروفة مختلفة الأشكال والألوان والأحجام .
جلس الملك لقمان محتضنا الطفلة عناة فيما بدت الإمبراطورة وركاب السفينة منبهرين بما يحيط بهم من عوالم . قفزت بعض الجنيّات والإنسيّات والرجال والشباب وراحوا يرافقون السفن سباحة في الأعماق دون أن يتعبوا ودون أن يبتلوا بالماء ودون أن يحتاجوا إلى اسطوانات أكسجين .
تساءل الإمبراطور بدهشة مخاطباً الملك وهو يدرك أنهم في عالم خارق لقوانين الطبيعة :
- أين نحن أيها الملك ؟
أجاب الملك :
- نحن في المطلق النسبي !
استعصى الفهم على الإمبراطور . فتساءل عن ماهية هذا المطلق النسبي !
أجاب الملك :
- نسبية الحقيقة المطلقة التي لن يعرفها البشر بسهولة .
- هل يعني هذا أننا الآن لسنا في حقيقة مطلقة ؟
- أكيد !
أخذت السفن تجتازسهلاً ربيعياً بين سلسلة جبال مرجانية عملاقة انتصبت فيه مئات آلاف الموائد العامرة بكل أنواع المقبلات والخمور وأحيطت بآلاف مناقل الشواء التي كان يشوى عليها كافة أنواع اللحوم ! ووقف إلى جانبها آلاف الحوريات والشباب الصغارالذين بدوا في غاية الجمال !!
فجأة انشقت السفن عن أبواب من أسفلها لتنزلق المقاعد بمن عليها لتحط جالسة إلى موائد الطعام ، وانطلق صوت يشير إلى الناس أن يبقوا طبيعيين وكأنهم على اليابسة وليس تحت الماء ، فيما ارتفعت السفن من الأعماق لتختفي خلال لحظات من صعودها وكأنها لم تكن .
بدت الإمبراطورة في غاية الدهشة وهي تجد نفسها جالسة إلى مائدة في ماء لا يبدو أنه ماء ، فلا يبتل المرء فيه ويتنفس بشكل طبيعي ، والموائد تحفل بكافة أنواع المقبلات دون أن تبتل والكؤوس تملأ بالخمور دون أن يختلط الخمر بالماء ، وأعجوبة العجائب النار المشتعلة في الماء وتشوى عليها اللحوم دون أن يطفئها الماء ، وحين راحت تجوب بنظراتها في فضاء المكان لترى الحوريات السابحات مع مئات الكائنات ، والجبال المرجانية الشاهقة التي بدت في غاية الروعة والجمال ،شعرت أنها في عالم من أحلام لا يمكن لبشرأن يحلموا به على الإطلاق . تساءلت عن أكثر ما أدهشها :
- هل تخبرنا جلالتك عن سرهذه النار المشتعلة في الماء ؟
أطرق الملك للحظات وما لبث أن هتف :
- نحن يا سيدتي في عالم لا يدركه إلا خالقه ! في الإمكان القول إننا في عالم يتآخى فيه الماء والنار، فلا الماء يطفئ النارولا النار تؤثرعلى الماء ، وهذا ينطبق على الكائنات كلها هنا . كل يجري بما يتناقض مع المعرفة الإنسانية وقوانين الطبيعة . إنه قانون الخالق حين يشاء أن يخرق القوانين وخاصة تلك التي عرفها الإنسان .
صدحت موسيقى حالمة جعلت المحتفلين يهيمون في العالم الذي وجدوا أنفسهم فيه . نهض الملك لقمان طالبا شرب نخب الإمبراطورة المحتفى بها . شرع الجميع في النهوض وقرع الكؤوس .
عانقت الإمبراطورة الملك شاكرة له كل هذه الحفاوة ألتي أحاطها بها . تساءلت عن الحوريات المحلّقات في الماء عمّا إذا كن حوريات سماويات أم أنهن من كواكب أرضية ؟
قال الملك :
- هؤلاء حوريات سماويات لا يوجد منهن إلا في السماء ، إن شئت حوريات من كواكب أرضية سأحضر من أجلك !
وهنا هتفت الإمبراطورة :
- هل هذا ممكن ؟
- بقدرة الخالق لن يصعب علي شيء !
- أريد حوريات من كوكب جلالتك !
- على عيني !! أنا أنتمي لمنطقة عربية يقال لها بلاد الشام، فيها أربعة بلدان هي سورية والأردن ولبنان وفلسطين . انظري هؤلاء حوريات من بلاد الشام !
تنحت الكائنات المحلّقة في الماء جانبا لتفسح مكاناً في الأعماق للقادمات الجديدات .. ظهرت مائة فتاة سورية بلباس السباحة ، تبعهن سرب من مائة فتاة أردنية ، فسرب من مائة فتاة فلسطينية ، فسرب من مائة فتاة لبنانية ، فبدون كالأقمار وهن يحلقن في لجة الماء . بدت الإمبراطورة وكأنها غير قادرة على تحمّل كل هذا الفرح ، حين نهضت وشرعت بالتصفيق الحارلكل هذا الجمال ، فنهض كل من في الروض المحيطي وشرعوا في التصفيق .
*****
(65)
اختلاط الجن بالإنس !
لم يكد الجمهور ينتهي من التصفيق للشاميات حتى ظهرت في أعماق المحيط أفواج من نساء الكرة الأرضية لا حصر لهن ، فظهر فوج عربيات من مصر والعراق والمغرب والخليج والجزائر كما ظهرت أفواج لنساء آسيويات من كردستان وإيران وتركيا والصين واليابان وأندونيسيا وماليزيا والهند وباكستان ، وأفواج لنساء سود من افريقيا ، وأفواج لنساء من أوروبا وافواج لنساء من الأمريكيتين وأستراليا ... كادت الإمبراطورة أن تطير من الفرح والملك لقمان يضعها في عالم من أساطيرالأساطيرالتي لم ولن ترى مثيلاً لها على الإطلاق ، ولم تعرف كيف تشكرالملك لكل هذا العالم فوق الخيالي .
اختلط الجن بالإنس وحورالعين السماويات بحورالعين الأرضيات، والشباب ببنات الأرض وبنات السماوات، ومخلوقات البر بمخلوقات البحر، والشعب المرجانية بالورود والنباتات . فقربت المسافات وشدت الألحان وترنمت الأوتار، وشنفت الأسماع بما لم تسمعه آذان، وتمتعت الأنظاربما لم تبصره عيون ، وعبقت العطوروأوغلت الأحلام في روعة عجائب المكان ، وسما الذوق وبودلت القبل والعناق، والتفت في لجة الماء سيقان الشباب بسيقان الفتيات ، حتى سفافيد الشواء تألقت رقصاً في عالم سما بالحب معلنا محبة الخالق للمخلوقات !
نهضت الإمبراطورة إلى الرقص مرتدية ملابس سباحة ، فنهضت الملكة نورالسماء والملك لقمان والإمبراطور وربة الجمال ونسمة وأستيروعناة، وكل من كانوا على موائد الطعام .. وشرع ملك الملوك شمنهور الجبار في تقليب فتيات الجن والإنس على راحتي يديه وقد كبرحجمه ليغدو كطود زلزل أعماق المحيط ، فشرعت الفتيات على التشبث بيديه الهائلتين لترقيص سيقانهن وأجسادهن في الماء والتسلق عليهما، أوالسباحة على صدره الفسيح ليتقلبن عليه ويقهقهن وهن في غاية الفرح والسرور .
حين عاد الملك والملكة والإمبراطوروالإمبراطورة إلى موائد الطعام دعا الملك جميع الإنسيات وجميع الحوريات للمشاركة في تناول الطعام .
حلقت سفافيد الشواء في أعماق المحيط وقد تضوعت رائحة الشواء لتعم الأعماق . هتف الإمبراطور متسائلا بدهشة :
-هل يعقل أن تخرق قوانين الطبيعة إلى هذا الحد غيرالمعقول ؟
استغرب الملك السؤال ، إذ بدا له أن الإمبراطورغيرقادرعلى تقبل وجود عالم خارق لكل القوانين الفيزيائية والكيمائية وكل قانون حتى ما لم يدركه عقل بشري بعد !
هتف :
- ألا ترون جلالتكم أن من أبدع القوانين وأوجدها قادرعلى خرقها ؟
عبث الإمبراطور بشعر رأسه وهو يرنو إلى بخار يصعد من سفود العجل الصغيرالمتوقف على ارتفاع من المائدة وقطع اللحم تفصل عنه لتحط في أطباق الآكلين . وما لبث أن هتف :
- لا أعرف أشعر أنني في عالم فوق طبيعي وليس خارقا للقوانين فحسب .
- هي فوق طبيعية وخارقة لك أنت وربما لي أيضا لكن ليس لمن أوجدها !
- كيف لا تكون خارقة لمن أوجدها ؟
- لأنها لا شيء إذا ما قورنت بالوجود المطلق الذي أوجده .
- وإذا كان موجدها هو الطبيعة ؟
- تكون الطبيعة هي الموجِد وبمعنى أدق : الألوهة الخالقة. وهي في هذه الحال قادرة على خرق قوانين أوجدتها !
- ولماذا تريد خرق ذلك في هذا الجو والمكان بالذات ؟
أدرك الملك أن الإمبراطور بدأ بتعقيد الأسئلة . تسأءل :
- ألم تطرح جلالتكم هذا السؤال من قبل ؟
- نسيت !
- أظن أنك طرحته وأظن أنني أجبت !
- أكون شاكراً لو أجبتني مرة ثانية !
- حسنا ! ثمة احتمال أنها تريد أن تقول لنا . أيها البشر مهما فكرتم لن تتوصلوا إلى حقيقتي المطلقة ، أو شبه المطلقة، بسهولة . لذلك ينبغي عليكم أن توظفوا عقولكم على وجهها الأكمل قدرالإمكان لتصلوا إلى حقيقتي وحقيقتكم ، والغاية من وجودكم ! وثمة احتمال آخريتعلق بتحقق ما أتخيله أنا من قبلها ، فتقف إلى جانبي ، لأن غايتي في نهاية الأمرتتفق إلى حد ما مع غايتها .
- ولماذا أنت بالذات وليس أحد غيرك ؟
- لأنني قد أكون الوحيد الذي سعى إليها واتفق سعيه مع غايتها.
- ألم تسعى هي إليك أو إلى البشر ؟
- لا أظن ، فهي لا تسعى إلى أحد لم يدرك الغاية من وجوده . لكن حين رأت أن سعيي دون الآخرين يتفق مع غايتها . وقفت إلى جانبي . ويمكن القول إنّها سعت إلي ! ثم إن وجودي لا ينفصل عن وجودها في النهاية .
- وما هي غايتها ؟
- أن تحقق وجودها على شكله الأكمل ، وإن شئت تحقق ذاتها !
- وكيف يمكن أن يكون وجودها الأكمل ؟!
- سبق وأن تطرقنا إلى هذا الأمر . ليس هناك غاية أجمل ووجود أكمل ، من تحقيق قيم الخير والحق والعدل والجمال وبناء الحضارة الإنسانية وإن شئت الإلاهية !
- وهل هذا الأمر لن يتحقق إلا بعمل الإنسان ورقيّه ؟
- أجل . فهو منها وهي منه .
- ولماذا لم تحققه هي وحدها دون الإنسان ؟
- لماذا تفصل وجود الإنسان عن وجودها ، فالإنسان أرقى ما أوجدته ، ليشاركها، وإن شئت ليساعدها في
عملية الخلق والغاية منه ؟ ولو أنها قادرة على تحقيق ذلك دون عقل الإنسان وعمله ، لفعلت ، وقد تفعل كما خلقت الوجود دون أن يكون هناك إنسان ، لكن هذا قد لا يتم قبل مليار سنة أخرى ؟!
- وهل ترى جلالتكم أن الإنسان يسير في الإتجاه المفترض له أم أنه شذ عن القاعدة ؟
- يمكنني القول إن الإنسان بشكل عام شذ عن القاعدة ، بدليل الحروب والقتل والدماروعدم نصرة الحق وتحقيق قيم العدل والجمال بين الأمم، فالمصالح الذاتية والخاصة والأنانية ما زالت تتحكم بالإنسان ، حتى تكاد المحبة أن تنتفي بين البشر، ومع ذلك يمكن القول إن ثمة شعوبا بدأت تتلمس طريقها نحو حضارة إنسانية تحترم الإنسان ، وثمة علماء ومفكرون وفلاسفة وأدباء ساهموا في ذلك أيضا وما زالوا يساهمون في تطويرالحضارة ، إنما بشقيها الإيجابي والسلبي . فلا يمكن مثلا اعتبارصناعة أسلحة الدمار بكل أنواعها تساهم في تطويرالحضارة الإنسانية ، هي تساهم في تطويرحضارة القتل ، وتفوق القوي على الضعيف . والسبب بكل تأكيد هوأن الإنسان لم يعرف بعد الغاية التي وجد من أجلها ، وأن وجوده لا ينفصل عن الوجود ، بغض النظرعمّا إذا كان الوجود وموجده هوالطبيعة أوالخالق أو حتى الله في مفهومه المطلق كخالق وليس كإله يحتاج إلى عبادة، بل إلى خالقين ومبدعين يساهمون معه في عملية الخلق وتحقيق الحضارة الإنسانية ، وإن شئت الكونية .
ظل الإمبراطورمتفكراً للحظات ليهتف :
أشكر جلالتكم .. رغم أن أسئلتي تكاد تكون مكررة إلا أن إجاباتكم تغنيها كل مرة عن سابقتها وتضيف إليها ما هو جديد .
رفعت الإمبراطورة كأس الملك والإمبراطور لتشرب نخبهما ، فرفعت الملكة كأسها لترفع آلاف الكؤوس بل ولتقرع محدثة رنيناً في أعماق المحيط .
****
(66)
ليلة حلبية مغمسة بدموع الملك لقمان !
في الإستراحة التي أعقبت الحواربين الملك لقمان والإمبراطورألقى الملك نظرة على السفوح المرجانية المحيطة بجانبي الروض وإذا بها تتحول إلى مئات الألوان، ثم على الكائنات المحلقة في أعماق المحيط وإذا بها تتحول كذلك، ثم على الأعشاب البحرية ، فعلى موائد الروض ، وإذا بالعالم يضج في عالم من الألوان المتغيرة بحيث لا يشبه لون لوناً آخر، وسط موسيقى رومانسية هادئة كانت تتردد من كافة أرجاء الروض ، والفتيات يلقين رؤوسهن على صدورالشباب ليمطروا رؤسهن بالقبل وليهيم الجميع في عالم من السحر والمحبة دون حدود .
ما أن أنهت الموسيقى وصلتها الرومانسية حتى انفتح باب هائل وسط سفح مرجاني ليتكشف عن مسرح هائل تقف عليه أكثر من مائة فتاة يرتدين ثياب رقص بيضاء . وظهرت في عمق المسرح فرقة موسيقية وقف خلفها عشرات فتيات الكورال ، شرعت في عزف موسيقى عربية حلبية . وقدم من عمق المسرح شاب وسيم فائق الجمال يرتدي طقما أسود . وقف على مقدمة الخشبة أمام الفتيات الواقفات بانتظام .
بقدراته الخارقة جعل الملك لقمان جميع المحتفين يعرفون اللغة العربية ويتذوقونها حتى أنه نمّى إحساسهم الجمالي العربي ليعيشوا الجو كأنهم عرب . شرعت الموسيقى في عزف لحن " آه يا حلو يا مسليني "
شرع الملك لقمان وجميع المحتفين بالتصفيق. انطلق صوت الشاب يشدو بأبدع ما تجود به الأصوات :
" آه يا حلو يا مسليني .. يلي بنارالهجر كويني
إملا المدام يا جميل وسقيني يا عيني ..
من كتر شوقي إليك ما بنام " !
رفع الملك لقمان كأسه ووقف يشرب نخب الفرقة . ولم يعد إلى الجلوس ، بل وضع الكأس وشرع يغني مع المغني والفرقة ويرقص وهوفي حالة هيام عجيب، وقد راحت دموع تنزلق من عينيه وتنحدرفي انزلاقها على وجنتيه لتسقط على صدره .
" حبيت جميل يا ريتني ظلّه .. حاش الجمال والحسن دا كلّه
لما رأيته ملك فؤادي .. صبّرت قلبي وحملت غلّو"
أدرك الجميع أن الملك يعيش حالة وجدانية ذكرته بسورية وبأوطانه الحزينة المنكوبة، فنهضوا يرقصون معه، كما نهض كثيرون من الجالسين .احتضنته الملكة وشرعت تراقصه وهي تحتضنه ضامة رأسه إلى صدرها ماسحة دموعه .
تمايلت الأجساد بين الموائد بل ووقفت بعض الفتيات السوريات عليها وشرعن في رقص معبّر تفاعل مع أقصى إمكانيات الجسد ، فيما انطلق بعضهن في الماء ليرقصن بمرافقة الدلافين .
أنهت الفرقة الوصلة ودخلت في وصلة جديدة :
" خمرة الحب اسقنيها .. همّ قلبي تنسني
عيشة لا حب فيها .. جدول لا ماء فيه
يا ربة الوجه الصبوح .. أنت عنوان الأمل
اسكريني بلثم روحي .. خمرة الروح القُبل
أن تجودي فصليني .. اسوة بالعاشقين
أو تضني فاندبيني .. في ظلال الياسمين "
وشرع الملك لقمان يكررالمقطع الأخير بانفعال ، دون أن تنضب دموعه:
" أن تجودي فصليني .. أسوة بالعاشقين "
ولم تجد الملكة إلا أن تحتويه تاركة دموعة تنزلق على راحتها ، مدركة أن ذلك يريحه كثيراً ، وأن رغبته في البكاء والحنين إلى سورية والأوطان المنكوبة يكتنف دخيلته . وتمنت الملكة لوفي مقدورها أن تشق صدرها لتضع الملك فيه ، حين قفلت الموسيقى الوصلة ودخلت في وصلة جديدة بمرافقة صوت المغني الذي تجلّى عن إمكانيات ومساحات هائلة في صوته :
" ابعث لي جواب وطمني .. ولو إنه عتاب ما تحرمني
ابعث لي جواب وطمني .
غيابك طال .. وبستنا .. وقلبك مال .. تتهنا .
إن كنت هويت ونسيتني .. وعليه جنيت وما رعيتني
ابعث لي جواب وطمني ..
صبرت عليك وذقت مرار.. وبعثت إليك أخبار وأخبار
أتاريك نسيتني مع الأيام .. ورضيت تفوتني على الآلام
ابعت لي جواب وطمني ..
أنا ليه إله يا ربّي .. من حر الآه ينصفني
مش قادر أقول انته الجاني .. حاصبر على طول على أحزاني
ابعث لي جواب .. وطمني "
أنهك جسد الملك لقمان من الرقص والبكاء ومرافقة الغناء في بعض المقاطع ، وكاد أن ينسى أنه في السماء ، بل في شوارع حلب الجميلة غيرالمدمرة ، حيث تتكئ النوافذ على النوافذ وتحاكي الشرفات الشرفات وتنام الحارات على صدرالحارات، وتنثر قلعتها من أعالي قمتها تحية الصباح زهورً على الحلبيين .
أجلسته الملكة وظلت تحتوي رأسه إلى صدرها وتمسح بيدها ما بقي من آثار دموع على وجنتيه . همس لها :
- هل دعوتم الفرقة للجلوس معنا .
- أجل يا حبيبي دعونا الجميع . المغني والموسيقيين والكورال والراقصات .
- اعتذري لي من الإمبراطوروالإمبراطورة .. يبدو أنني ثملت !
- لا يا حبيبي لم تثمل مجرد حالة حزن انتابتك لتذكر سورية والأوطان المنكوبة .
- تقولين منكوبة ؟ ألم نقم في بداية رحلتنا بسحب السلاح من كوكب الأرض ونقيم السلام ونعيد إعمار سورية ونجعل الفلسطينيين والإسرائيليين يتصالحون ويقيمون دولة ديمقراطية ؟
- أجل يا حبيبي أجل !
- إذن لماذا رأيت حلب وحمص مدمّرتين هل كنا نحلم أم نتخيل؟
- لا يا حبيبي ربما حلم انتابك الآن فرأيتهما مدمرتين!
- أين أنا الآن ؟
- في السماء يا حبيبي في أعماق محيط !
- وهل هذا صحيح ؟
- أجل يا حبيبي .
- وهل هو واقع أم خيال ؟
- بل واقع واقع واقع !
- خلص صدقت طالما أنت تلحين وتصرين على ذلك ! لكن إياك أن أعود إلى الواقع الآخر !
- لا لن تعود يا حبيبي !
- سأعيد الملك شمنهور وملوكه وجيوشه إلى قماقم سليمان إن عدت !!!
احتوته الملكة وراحت تقبله وتربت على ظهره . إلى أن غفا في حضنها . وسط صخب المحتفين وقرع الكؤوس وصدح الموسيقى وتحليق الكائنات في الماء .
****
(67)
رؤيا الملك لقمان في الحلول في الذات الإلهية المطلقة!!
انتفض جسد الملك لقمان أكثرمن مرة خلال نومه العميق على صدرالملكة نورالسماء . أدركت الملكة أن الملك يحلم وإلا لما انتفض جسده . ربتت على ظهره وقبّلت جبينة ، فيما كان الإمبراطوروالإمبراطورة ومئات الآلاف من المحتفين يمتًعون أنظارهم بالعوالم الساحرة وتحليق الكائنات في أعماق المحيط ، ومئات الآلاف يشاركونها التحليق والسباحة دون أن ينتهي نهارأو ينقضي ليل ، ولم يعد أحد يعرف إن كان في نهارأم في ليل ، كما لم يعد أحد يشعربمرورالزمن ، وكأن قوانين الطبيعة قد اخترقت للمرة الثانية في هذه المسألة أيضا .
رفع الملك جفنيه ببطء عن عينيه على أثرانتفاضة صغيرة من جسده. لم يعد إلى كامل وعيه بعد . لم يعرف أين هو . عبق أنفه بالعطرالعابق من صدر الملكة . رفع يده قليلا وحركها في الماء ليدرك أنه ما زال في أعماق المحيط . تنبهت الملكة إلى استيقاظه . قبّلت وجنته .
- هل استيقظت يا حبيبي ؟
همس :
- أجل .
- هل كنت تحلم ؟
- أجل !
- كان جسدك ينتفض بين فترة وأخرى .
- كنت أحلم بما لا يتصوره عقل على الإطلاق !
- بماذا يا حبيبي ؟
- حلمت أنني حللت في المطلق الأزلي الأبدي!
- الله ؟
- الله . الألوهة . الخالق . المطلق !
قبّلت الملكة جبينه . وهمست :
- هذه رؤيا رائعة !
- كلمة رائعة وكل مفردات اللغة لا تكفي للتعبيرعنها !
- ألا يمكنك أن تخبرني شيئا عما رأيته وكنته ؟
- إنه فوق قدرة العقل على التصور!
- كيف ؟
- يمكن القول إنني رأيت نفسي في كل مكان وخارج حدود أي مكان ! أتمنى أن ألقى خالقي بالشكل الذي رأيته فيه في هذه الرؤيا .
- يا ألله يا حبيبي ! قص علي الرؤيا من بدايتها !
-" كنت جالساً في ظل صخرة كبيرة في سهل فسيح صحراوي تنتصب فيه مئات الصخورالعملاقة، التي بدت كمنحوتات هائلة فائقة الجمال، أتأمل في الوجود الإلهي . وكنتم تجلسون على شرفة المركبة على مسافة عشرات الأمتار مني ، دون أن يجرؤ أحد على الإقتراب مني أواقتحام خلوتي وقطع تأملاتي ، حتى أنت لم يكن مسموحا لك أن تقتربي مني ! كان قد مرعلى عزلتي بضعة أيام لم آكل فيها ولم أشرب ،وقد قررت أن أحيا في زهد وتقشف إلى أن أصل إلى الله أوأموت دون ذلك ، بعد أن فشلت في تحقيق العالم الذي أطمح أن أعيش فيه ، وبعد أن تبين لي أنه لم يتحقق شيء مما كنت أظن أنه تحقق. كان كل شيء مجرد أحلام وأوهام وتخيلات . والحق أنني لا أعرف كيف قبلت نفسي الزهد الذي كنت ضده !
- حبيبي !
كنت تهرعين نحوي بين فترة وأخرى، فأشير بيدي إليك أن لا تقتربي مني ، فتتوقفين وتشرعين في البكاء والتوسل إلي أن أكف عمّا وضعت نفسي فيه ، ويهرع خلفك الملك شمنهور ونسمة وعناة وأستير وربة الجمال وآخرون ويشرعون في البكاء والتوسل بدورهم ، دون جدوى مني .
شرعت الملكة في ضم جسد الملك بشيء من الشدة وكأنّها تريد أن تدخل جسده في جسدها، وهي تهمس " حبيبي " فيما هو يتابع :
كنت أجلس إلى جوارالصخرة بصمت مطبق مرتدياً ثوباً أبيض طويلاً وكوفية بيضاء، أمضي نهاري مستندا إليها وأمضي ليلي مستلقياً أونائماً إلى جوارها. لم أشعر بعد ثلاثة أيام من اعتزالي بحاجتي إلى قضاء الحاجة ، كما لم أشعر بحاجتي إلى الطعام والماء ، فلم أجع ولم أعطش ولم أبرد ولم يتغير شيء في . أدركت أن هذا الخرق لقوانين الجسد لم يحدث إلا من قبل واضع القوانين نفسه ، وأنه معي ويدرك ما أطمح إليه . أنتم من تغيرت أحوالكم بسببي فلم تعودوا قادرين على حياة البذخ والترف وأنتم ترون الزهد الذي أعيش فيه .
في اليوم السابع من اعتزالي ظهرلي فجأة شخص يشبهني . كان يجلس أمامي في جلال مهيب . سألته " من أنت " قال " أنا الله يا لقمان " لم أصدق أن أرى نفسي أمام نفسي بعد مليارات السنين الضوئية التي قطعتها بحثا عن الله . فلوعرفت أن المسألة بسيطة إلى هذا الحد لكنت وفرت على نفسي كل هذا العناء . قلت للرجل شبيهي " أنت لست الله ولن تكونه " قال بعد صمت " أجل أيها الحبيب لقمان ، أنا لست الله ، فوجودي حسب فهمك موجود في كل شيئ وكل شيئ موجود في وجودي ، فكيف أكون أنا أنت وتكون أنت أنا ؟ كل ما في الأمرأنني قررت التجسد في انسان لمخاطبتك ، وفضلت أن يكون الإنسان يشبهك كي لا أدعك تذهب بعيداً في انطباعات مختلفة . لم أتمكن من ذلك بسهولة خاصة وأنك أول إنسان أتمكن من التجسد في مثيل له منذ أن وجد الإنسان "
بدأت أقتنع بكلام الرجل بل وصدقت أنني أمام تجسد للذات الإلهية وإن لم يكن الذات الإلهية نفسها أو في مطلقها . لم أعرف ماذا يتوجب علي أن أفعل هل أعانقه ؟ وهل سأشعرأنني أعانق الله ولا أعانق نفسي ؟ ودون أن أخرج من حيرتي مددت يدي وأشرعت حضني ليلقي الله نفسه عليه . احتضنته واحتضنني ، لنشرع في البكاء على كتفينا . نبكي فرحاً بلقائنا وحزناً على عدم تحقيق طموحاتنا . فقد بدا الله حزيناً
لأنه لم يستطع بعد أربعة عشر مليارعام من عملية الخلق أن يحقق الوجود الكامل والإنسان الكامل ، وأنا بدوري فشلت في أن أهدي إنساناً إلى إيماني حسب رؤياي . جففنا دموعنا ونحن نعود إلى جلوسنا ، أحدنا في مقابل الآخر . سألت الله :
- لماذا كلفت نفسك وتجسدت في صورتي لتظهر لي يا إلهي ؟
قال :
- لأنني في حاجة إليك لأن تكون معي على كوكب الأرض وليس في الكون كله !
- أنت بعظمتك في حاجة إلي أنا الإنسان الضعيف ؟
- أجل يا لقمان . وأدعوك لأن تكون مع فكرك . لأن فكرك هو فكري . ألست القائل بتكامل عمليّة الخلق بين الخالق والمخلوق . ألست القائل بأن الغاية من خلق الإنسان هي أن يشارك في عملية الخلق وأن يبني الحضارة الإنسانية ويحقق قيم الخيروالحق والعدل والجمال . هل تراني كنت قادراً على تحقيق ذلك ولم أفعل ؟!
- لكني فشلت يا إلهي ولم أمنع حتى قتل عصفور! ولم أنجح في جعل إنسان يحب إنساناً آخر .
- ينبغي عليك أن تصبركما صبرت أنا . وأنت تدرك كم طال صبري إلى أن تمكنت من خلق الإنسان والوصول إلى ما وصلت إليه .
- يا إلهي لن يكون لدي هذا الصبركإنسان . لن يكون إلا إذا كنت معك وفيك !! خاصة وأن عمري قصير جدا إذا ما قورن بعمرك الأبدي.
وأطرق الله للحظات يا حبيبتي قبل أن يتساءل :
- هل هذا قرارك الأخيرأيها الحبيب ؟
قلت: أجل يا إلهي . فطمعي في محبتك لا يضاهيه طمع . وحلمي بأن أكون معك وفيك لا يرقى إليه حلم .
قال:
- حسنا أيها الحبيب لقمان . سيكون لك ما أردت . وستكون دون البشرأول إنسان يتحد مع وجودي ويحل فيه وهوحي ودون أن يذوق طعم الموت. أتمنى لك وجوداً جميلا في وجودي . وسأجعل من اتحادك بي وحلولك في آية وعبرة ومعجزة للبشرية كلها .. لتسيرفي اليوم القريب على خطاك . ولنحقق ما لم نحققه معا من قبل ، ليرقى الخلق بالحضارة الإنسانية إلى أسمى معانيها ولتسود المحبة العالم .
ومد الله يديه ووضعهما على كتفي قبل أن يعانقني مودّعا . قال .
- أنت بعد اليوم لن تكون أنت . وصورتي هذه لن تكون ثانية . أودعك أيها الحبيب.
وعانقني الله مودّعا يا حبيبتي . وعانقته وأنا أبكي فرحاً وأشكره . ارتفع بضعة أمتارعن الأرض ليختفي بعد ذلك وكأنه لم يكن .
لم تمر سوى لحظات على إختفاء الله في وجوده المطلق . حتى أحسست بقوة تدفعني نحو الفضاء لأرتفع كما أنا في جلستي . أدركت أن وعد الله لي سيتحقق . ضممت أصابع يدي إلى شفتي وأرسلت لك ولطاقم المركبة بضع قبلات عبرالأثير.. وما حدث بعد ذلك لا يمكن لعقل بشري أن يتصوره . فأول ما حدث هو أن جميع المنحوتات الصخرية بما فيها الصخرة التي كنت أجلس إليها طوال سبعة أيام قد نهضت خلفي في أسراب منتظمة . تقدمتها الصخرة التي كنت أجلس إليها . لا أعرف كيف سأستطيع أن أكمل لك هذه الرؤيا يا حبيبتي وأن أصفها بدقة ، فهي كما أشرت أكبرمن أن توصف ".
ضمت الملكة الملك إليها . وعانقته . طالبة إليه أن يأخذ راحة ليكمل لها الرؤيا فيما بعد ، حسب ما يمكن للغة أن تعبر عنه .

(68)
المعراج السماوي والحلول في الذات الإلهية حسب رؤيا الملك لقمان .
حين رأى الملك لقمان أن الإمبراطور والإمبراطورة يتحاضنان بانسجام رومانسي ويرقبان سحر العوالم المحيطة بهما في أعماق المحيط، ألقى رأسه ثانية على صدرالملكة وشرع في إكمال قصة الرؤيا لها . قال:
" رأيتك يا حبيبتي تثبين وتقفزين في الفضاء لتلحقي بي، وليثب خلفك كل من على المركبة . ونظراً لأن الصخور كانت تتقدمكم في صعودها خلفي فقد توقفت في الفضاء للحظات لتتيح لكم أن تتقدموها . وبالفعل تم ذلك إكراماً لكم . فأصبحت تحلّقين على مسافة أمتار خلفي تتبعك نسمة وأستير، فنساء وفتيات المركبة، فالملك شمنهور وباقي الرجال من الجن والإنس . تابعت صعودي لتصعدوا خلفي تتبعكم الصخور. تغير خط صعودي العمودي لينحني في شبه قوس .أتاح لي تغيير مسارصعودي أن أنظر خلفي إلى أسافل الفضاء لأرى الهول : كون بأكمله يصعد بانتظام خلفي ، وقد تجزأت عوالمه إلى مجموعات انتظمت في أسراب محلًقة خلف الصخور : جبال ، تلال ، كروم ،حدائق ، ورود ، أشجار ، أنهار ، بحار ، محيطات، ينابيع ، شلالات ، كواكب ، شموس ، أقمار ، نجوم ، شهب ، مذنبات ، مجموعات بشرية من نساء وأطفال . كل ما لا يحصى من أنواع الطيور والحيوانات، نسور، صقور ، عقبان ، حمام ، حجل ، لقلق ، رخم ، نوارس ، قبرات ، غزلان ، زرافات ، وعول ، أرانب ، نمور ، أسود ، ذئاب ،قطط ، كلاب.. حيتان ، دلافين ، أسماك ، أخطبوطات ، أفاع .. وشعرت أنه أصبح لدي قدرة فائقة على الإبصار بحيث رأيت بين الأسراب المحلقة خلفي ما لا يصدقه عقل : أسراب من حبات الزيتون الأخضر، وأسراب من سنابل القمح ، وأسراب من قطوف العنب ، وأسراب من التفاح ، وأسراب من البرتقال ، وأسراب من الفريز ، وأسراب من البلح ! وما أثار في نفسي البهجة أكثرهو أسراب الألوان التي أضفت ألوانها على الكائنات كلها ، وأسراب الروايات والأقاصيص، وأسراب الكلام ، وأسراب الأشعار . وأسراب الألحان . وأسراب النايات والأعواد والربابات والكمنجات.. وأسراب الرائحة التي تفوحت ليعبق عطرها في موكب المعراج كله . أجل يا حبيبتي . أدركت أن الله أراد أن يجعل لي آية تكون نبراساً للبشرية مصدقة لما جئت به، من أنه الواحد في الكل ، والكل في واحديته يتحد ، فجعل آيته في هذا المعراج الكوني الذي أقامه لي .
صدحت موسيقى كونية . شرعت الكائنات كلها ترقص في السماء صاعدة خلفي في طريق لولبي وقد لفتني هالة سديمية من ذرات فضية مشعة . ليس في مقدوري أن أصف لك شعوري ومدى فرحتي وأنا أدرك أن الخالق اصطفاني من بين البشر وأنني الآن أزف إليه في هذا المعراج المهيب لأحلً في ذاته وأتحد بها إلى الأبد .
شعرت أنني أحلق في سقف الكون ، وأنه لم يعد ثمة مجال للصعود أكثر، حين انعطف خط تحليقي راسماً دائرة في الكون، لترسم الكائنات ما لا يحصى من دوائر تحليقها خلفي . انبثقت أمامي هالة سديمية من نورأشبه بغيمة ناصعة البياض تخللتها إضاءة خافتة بدت كأنها أنوارشموع . أحسست بجسدي يتوقف قبل ولوج الهالة . أدركت أنها بداية النهاية . ضممت أصابع يدي إلى شفتي وألقيت عليك وعلى الكائنات عشرات القبل . وقبل بضعة أمتار من اقترابك مني هبط موكبك ليمرعلى مسافة أمتارأسفل مكاني .. لوحت لك بيدي . فلوحت بيدك وقد أدركت أنها النهاية . لم تكوني حزينة ولم تكوني فرحة ، وبدا واضحاً أنك تقبًلت إرادتي وإرادة الخالق شبه مرغمة، وأنك تجاهدين قدرالإمكان كي لا تبكي . ابتعدت في رسم الدائرة تتبعك الكائنات إلى أن أصبحت في منتصف قطردائرة في مواجهتي وأنت تلوحين بيديك وترسلين القبل لي . لوح طاقم المركبة وزغردت الكائنات . ألقيت علىيك وعلى الجميع قبلتي الأخيرة ، واسترخيت متمدداً على طولي داخلا في هالة النورالسديمية .. اجتاح جسدي خدر لذيذ لم أشعر بما هوألذ منه في حياتي .. توغّلت في عمق الهالة . وكلما توغّلت في عمقها ازداد شعوري بالمتعة، إلى أن فقدت إحساسي بوجودي دون أن أفقد إحساسي بالمتعة . ولم أعرف أن وجودي المادي كلّه سيتحول إلى متعة مطلقة، دون أن أعرف كيف ، فما وجدت نفسي فيه لا يمكن وصفه . إنه المتعة المطلقة . المتعة التي لا يشعر بها إلا من كان في مرتبة الألوهة . هل تعرفين ما معنى أن تكوني في كل مكان وأن تشعري بوجود كل مكان ؟ أن تكوني في الأصغرالذي لا يوجد أصغرمنه على الأطلاق . ولو أنني ضربت لك مثلا عن حجم هذا الأصغرلقلت لك أننا لو كبرناه مليون مرة لربما كان بحجم رأس دبوس فقط !! فكيف سأصف لك هذه المتعة التي أشعر بها وأنا في هذا الأصغرالمعجزة وأقوم بعملي فيه ! وأن أكون في الأكبرالذي لا يوجد أكبر منه ، فهذا يعني أنني كنت في الكون كله . كنت في مليارات المجرات وأحلق في فضاءاتها وسماواتها . فهل هناك ما هو أجمل من ذلك ؟ وكنت في كل مكان وأرى كل شيء في كل مكان ، وهذا ما لا يمكن وصفه . تخيلي نفسك وأن لك آلاف العيون منتشرة في كافة أنحاء جسدك داخله وخارجه ، فماذا سترين حينئذ ؟ هذا مثال بسيط ولا يمكن أن يعطي الصورة المتخيلة ، فللخالق تريليونات تريليونات العيون، وليس هناك عين في الكون إلا ويرى الله بها كل مكان في الكون، وما هو خارج حدود المكان وفي أعماق الكواكب والبحاروالمحيطات . كل عيون الكائنات مهما صغرت ومهما كبرت وأينما كانت هي عيون الله التي يرى بها . فهل في مقدورك أن تتصوري ماذا كنت أرى حين حللت في الألوهة ؟ وهل في مقدوري أن أقول لك ماذا رأيت . لم يبق شيئ في الوجود إلا رأيته من أصغرجزيء في ذرّة أو في نواة إلى أكبر مجرة .
وليس هذا إلا غيض من فيض مما رأيته وشعرت به وأدركته . كيف سأحدثك عن مكاني الذي أصبح الوجود كلّه ؟ وكيف سأحدثك عن زماني الذي أصبح الزمان كلّه ، لا ماضي له ولا مستقبل كزمن واحد . فالزمان والمكان يجريان في داخلي وليس خارجي . فليس هناك مكان خارجي لأنه لا شيء خارج ذاتي ، وليس هناك زمان مستقل عن ذاتي أو خارجها ، فالزمن يجري ضمن زمني الكلي الذاتي الثابت . فالمجرات تدور في ذاتي أوفي دخيلتي إن شئت . كيف سأصف لك ذلك يا حبيبتي ؟ وكيف سأصف لك شعوري بمتعة القدرة على الخلق التي صرت إليها.. كنت أمنح جذورالنباتات والأشجارفي باطن الأرض ما تحتاج إليه من معادن وماء. وأمنح الأجنة في الأرحام طاقة النمو والتشكل . كنت أهب الحياة لكل كائن أينما كان ، والقدرة على النطق للإنسان ، وما إلى ذلك من كافة أشكال الخلق بما فيها السيطرة على توازن حركة الكون ، بالتحكم بالقوى الجاذبية والكهرومغناطيسية والنووية بشقيها ، وغيرها من الطاقات التي لم يكتشفها العقل البشري بعد"
توقف الملك للحظات عن سرد رؤياه للملكة التي كانت منبهرة في كل ما سمعته. عانقته مقبّلة وجنته ثم سألته :
- هل أحسست بوجود مادي أو طاقوي لك حينئذ ؟
- لا يا حبيبتي لم أحس على الإطلاق وكأنني كنت خارج المادة والطاقة . لم أشعر إلا بمتعة ما أفعل دون أن أدرك ما أنا ، حتى أنني لم أعرف إن كنت إلهاً ، كل ما أعرفه أنني كنت أقوم بعملية خلق وإبداع في غاية المتعة !
المادة والطاقة مفردتان لغويتان أوجدهما البشربعد اختراع اللغة وتقدم العلوم ، ولا تكفيان لا هما ولا الطبيعة ولا حتى طاقة الطاقات أوالطاقة المطلقة أوالقدرة الخارقة للتعبيرعن القدرة الخالقة . إن أفضل تعبير لغوي اخترعه البشرحتى الآن للتعبيرعن هذه القدرة هوالخالق أوالألوهة ، أو الله .
- وأنت أصبحت إلهاً وكنت الله ؟
- فكيف سأصف لك ألوهيتي وما كنته وما رأيته خلالها ؟ إن الألوهة مسألة صعبة على الوصف . وإن كانت مفردة القدرة أوالطاقة هي الأقرب علمياً للتعبيرعنها دون أن تفيها حقّها !
- هل تتوقع يا حبيبي أن تكون نهايتك كما رأيتها في هذه الرؤيا ؟
- أتمنى ذلك !
لم يعرف الملك أنه بذلك ينكأ جروحاً مندملة في دخيلة الملكة، فقد شردت بخيالها إلى الماضي البعيد حين تنبأ الملك ليلة زفافهما في رحلته السماوية الأولى بأنهما سينجبان ابنا فائق الجمال يدعى سحب السماوات، ستنتحر الفتيات على مذبح عشقه، وأن الملك نفسه سيقتل غيلة وغدراً ليستلم الملك شمنهور الحكم من بعده ويشرع في تدميرالكون انتقاماً لمقتله ،فتنشب حروب طاحنة بينها وبين الملك شمنهور لم يحسمها إلا وقوف بعض ملوك الجن إلى جانبها ليقتل شمنهور، ولتتولى هي الحكم بعد ذلك وتشرع في إعادة المحبة التي كان ينشدها الملك إلى الناس .
- هل سيحدث ما تتمناه يا حبيبي قبل تحقيق تنبؤاتك ليلة زفافنا في رحلتك الأولى .
- أوه يا حبيبتي.. أين سرحت بخيالك ؟ إنها مجرد أحلام ورؤى ..
- وابننا سحب السماوات ألن يأتي ؟
- قد يأتي يا حبيبتي ما أدراك فقد لا تتحقق رؤياي قبل عقود !
- آمل ذلك يا حبيبي . أريد ابناً أتمتع بجماله ووجوده معي.. يكفيني أنك ستذهب في الألوهة وتتركني !!
أدرك ألملك أن الملكة بدأت تغارحتى من الله ! فقررأن يواقعها بقصد الإنجاب ويلبي لها رغبتها في ابن . بل وقررأن يطلب إلى الله أن يساعده في حمل سريع ونموأسرع للطفل ، لعله يرضي الملكة .
(69)
الملك لقمان يعد الملكة بطفل معجزة !
فكرتان أصبحتا تهيمنان على عقل الملكة نورالسماء بعد رؤيا التوحد مع الألوهة، التي قصها عليها الملك ، الأولى ، أن يرحل الملك ويتلاشى منطفئاً وحالاً في عالم الألوهة ومتحدا به قبل أن تنجب طفلا منه ، خاصة وأن أحلامه كما يبدو ليست بعيدة عن التحقق . والثانية أن يتعرض للقتل كما في حلمه القديم ويرحل أيضا دون أن يحقق لها الحلم . وثمة قلق آخر مبعثه التنبّؤ بمقتله ، والحروب الطاحنة التي ستنشأ بينها وبين الملك شمنهورلمنعه من تدميرالكون . هاتفته الملكة وهو يرقب الكائنات المبتهجة باختلاطها الذي لم يسبق له مثيل في أعماق المحيط ، ملقياً رأسه على صدرها كما من قبل :
- حبيبي !
- حبيبتي !!
- أريد طفلاً في أسرع وقت !
أدرك الملك أن قلق الملكة يزداد . ابتسم :
- حسنا يا حبيبتي . أعدك أنني سأفعل ذلك ما أن ننهي الحفل ونخرج من أعماق هذا المحيط ، وستكون مواقعة بقصد الحمل بطفل ذكر!
" ياي " وقبلت الملك مبتهجة وهي تهتف :
- آمل أن يلبي الله رغبتنا يا حبيبي !
- اطمئني يا حبيبتي ! لبّى الله لي معجزات أكبرمن هذه بكثير، ألن يلبي لي هذا الطلب ؟ وكي تفرحي أكثر أبشرك منذ الآن بما لا تحلمين به !
- ماذا يا حبيبي ؟
- ستحملين من مواقعة واحدة في يوم واحد وينمو الحمل تسعة أشهروعشرة أيام في اليوم نفسه وتلدينه في آخر اكتمال اليوم !!
" ي....ا....ي ... ياي "
- كل هذا في يوم واحد يا حبيبي ؟
- طبعا ! هذه إرادة إلهي العظيم حين يشاء !
- يسعد إلهك ما أحلاه وما أكرمه يا حبيبي ! هذه تكاد معجزة ولادة حورس من إيزيس !
- لا يا حبيبتي . لا ولادة حورس ولا المسيح ، ولا عشتار ، ولا مردوخ، ولا جلجامش، ولا حتى زيوس ! معجزة ولادتك لابننا ( سحب السماوات ) ستكون أهم معجزة عرفتها البشرية ، فأنت لا تعرفين ماذا سيحدث بعد الولادة .
- ما ذا سيحدث يا حبيبي ؟
- لا يجوز إفشاء السرالإلهي يا حبيبتي . سأتركه حتى حينه ، فقد لا تصدق تنبؤاتي !
وباتت الملكة في عجلة من أمرها لإنهاء الحفل والخروج من أعماق المحيط !
- ألن تنهي الحفل يا حبيبي ؟
- يا حبيبتي أنظري إلى البهجة التي ينعم بها ضيوفنا هل ترين أنه من اللائق إنهاء الحفل ؟
- طيب يا حبيبي أريد أن تطمئنًي على مسألة أخرى لتكتمل سعادتي!
- ما هي ؟
- ألا تخبرني إن كنت ستقتل فيما بعد ؟
- يا حبيبتي هذه رؤيا عابرة ليس من الضروري أن تتحقق !
- ألا تعرف ذلك ؟
- لا أعرف لأنني لم أفكرفيها أصلا إلا ليلة زفافنا !
- أرجوك حاول من أجلي .
- يا حبيبتي تعرفين أنني تعرضت لمحاولات إغتيال كثيرة في رحلتنا السابقة ونجوت منها كلها . فحتى لو حدث ذلك ، فإنني سأنجو بالتأكيد ، ألا تعرفين كم القوى التي تحرسني ؟
- في هذه الحال أريد أمراً منك !
- ما هو ؟
- أن تأخذ عهداً من الملك شمنهورأن يمتثل لإرادتي ويكون تحت إمرتي وأن لا يرفع سلاحاً أو يسخّر جنّا لمحاربتي إذا ما حدث لك أي مكروه !
- وإذا عاهدني الآن ونقض عهده حينذاك ؟
- ما يهمني الآن وحالاً أن تأخذ منه عهداً .
- طيب حبيبتي !
خاطر الملك الملك شمنهور بلهجة آمرة ، وإذا به يحضر بملابس سباحة ويقف في مواجهة الملك :
- أمر مولاي العظيم لقمان محررأرواح الجان من قماقم سليمان !
- ماذا ستفعل أيها الملك إن قتلني أحدهم يوماً ما ؟
- ماذا تقول يا مولاي ؟ هل يمكن أن يحدث هذا وأنا على قيد الحياة ؟
- لنفترض أنه حدث !
- مولاي! دونك لن أقبل بأي وجود للكون وسأحارب حتى من خلقني إن استطعت !
- مجنون ! اسمع !
- مولاي !
- أنا منذ الآن أسامح قاتلي ! ولا أريد أي ثأرأوعقوبة له مهما كانت ! بل أريد مسامحته !
- مولاي !
- اصمت!
- وأريدك أن تعاهدني على ذلك وأن تكون رهن إرادة الملكة نورالسماء من بعدي ، وأن تعمل تحت حكمها !
أطرق شمنهور للحظات ، وما لبث أن هتف بهدوء :
- مولاي أنت تخرق قوانين الطبيعة التي وجدنا عليها ؟ لذلك أعاهدك على الإخلاص للملكة فقط !
- وما هي هذه القوانين ؟
- الإخلاص لأسيادنا فما بالك بمن أنقذنا من السجون الرهيبة !؟
- وهل كان قبولكم السجن في قماقم سليمان إخلاصاً له ؟
- للأسف أجل يا مولاي !
- وماذا لو خرقتم هذا القانون العجيب ، ما الذي سيحدث ؟
- لا أعرف يا مولاي الأمرمتروك لله !
- إذن أخرقه ! وهيا عاهدني ! هذا أمر لن أقبل أن ترفضه ! ثم إنك خرقته حين أخرجتك من القمقم ، بل وأتحت لجميع الجن السجناء أن يعتقوا من القماقم !
ظل الملك شمنهور مطرقاً للحظات دون أن يتكلم ، إلى أن هتف الملك ثانية قائلاً " هيّا"
- أعاهدك يا مولاي.
- تابع ما قلته لك !
- أعاهدك يا مولاي أن أسامح.. أسامح ..
وشرع الملك شمنهور يبكي .. فهو لا يتصورأنّه سيسامح يوماً أي قاتل للملك مهما كان قدره !
- تابع ولا تبك هيا !
- أن أسامح قاتلك بدمك يا مولاي !
قال الملك ذلك وكأنه تخيل الملك لقمان قتيلاً وأنه يسامح قاتله بدمه ، فتلفظ بالكلام وهو ينخرط في بكاء فظيع :
- وأعاهدك يا مولاي.. أن أكون رهن إرادة الملكة نورالسماء.. وأن أعمل تحت إمرتها .
نهض الملك لقمان وراح يقبل الملك شمنهورويمسح دموعه بمنديل من الحريرالأخضر ويضم رأسه إلى حضنه .
تلفظ الملك شمنهور وهو يلقي رأسه على صدر الملك :
- سأقتل نفسي إن حدث لك شيء يا مولاي !
- لا يا مجنون ! لا أريدك أن تقتل نفسك أيضاً ! ثم كيف تتخلى عن كل هؤلاء الجميلات وتنتحر ؟
- بعدك لن يكون هناك معنى للحياة يا مولاي !
- يا مجنون الحياة لم تبدأ بي ولن تنتهي بي . هيا عاهدني أيضا على أن لا تنتحر !
- أعاهدك يا مولاي ! طالما هذه إرادتك !
- وهيا الآن أريد عرضاً خرافياً من عروضك على المسرح لنبهج الإمبراطور والإمبراطورة !
انصرف الملك شمنهور ليظهرعلى المسرح بعد لحظات في عرض جمبازي مدهش مع مائة فتاة ، فيما كان الإمبراطوريفكر بدهشة في عالم الملك لقمان الذي يدع منطق الأسطورة يسير بخط مواز مع منطق الفلسفة ، ليدمج الخطين أحياناً فيختلط منطق الواقع الفلسفي بمنطق الأسطورة الخرافي ، ليجد نفسه ضائعاً في هذا العالم ، بين منطق الألوهة السارية في الكون وبين منطق المبدأ الكلي الذي يعتنقه والساري في الكون أيضاً. ولم يبق عليه إلا أن يحسم الأمرما إذا كان المبدأ الكلّي إلهاً ، أم أنه مجرد طاقة لم يدرك كنهها العقل البشري بعد . ويبدو أن الإمبراطورلم يدرك أنه بهذا التفكير وصل إلى المشكلة ذاتها التي تقلق الملك لقمان ، والتي يرجّح أو حتى يفضّل أن يكون في الأمر ألوهيّة ما ، لأن الملك وكما يبدو لا يريد أن يتخيل وجوداً دون ألوهة ! وأيّة ألوهة ؟!
****
(70)
الرقص المسحور في تجليات الملك شمنهور !!
حين ظهر الملك شمنهور بحجم عملاق جالساً على كرسي ضخم على خشبة المسرح في وضع زاوية قائمة، ضج الآلاف في أعماق المحيط بالتصفيق الحاروهم يتأملون الجسد العملاق للملك . وخلال لحظات ظهر إلى جانبي المسرح مئات الفتيات شبه العاريات يقفن بانتظام . مد الملك يديه في استقامة جانبية إلى مستوى كتفيه . شرعت الفتيات بالقفز في الهواء ومن ثم الشقلبة قبل أن يقفن على يديه وكتفيه ورأسه وفخذيه، واحدة إلى جانب الأخرى ، وشرعن جميعا في الشقلبة على يديه وفخذيه وكتفيه ورأسه . ثم شرعن في الإرتفاع أكثر ليتشقلبن مرتين في الهواء قبل أن يهبطن على يديه وفخذيه ، ثم أكثر ليتشقلبن ثلاث مرات، فأربع مرات، فخمس مرات . وسط تصفيق حارمن الجميع . توقفت الفتيات. مد الملك يديه في استقامة أمام جسده وباعد ما بين فخذيه . شرعت الفتيات في القفز والشقلبة في الهواء ليتبادلن الأماكن مع بعضهن . فقد قفزت الفتيات الخمسون اللواتي على اليد اليمنى ليقفز في مواجهتهن الفتيات الخمسون اللواتي يقفن على اليد اليسرى وعند تقابلهن في منتصف المسافة تنزلق المجموعة اليسرى أسفل اليمنى ، ليتابعن الشقلبة كل في اتجاهه وليقفن مكان بعضهن . فتيات الكتفين وهن خمس فتيات على كل كتف فعلن الأمر نفسه وتبادلن أماكنهن شقلبة ،أما ثلاث فتيات كن يقفن على رأس الملك فقد قفزن في الهواء لتحط اثنتان منهن على قدمي الملك وتعود واحدة لتقف على منتصف رأسه . استمر المشهد في تبادل الاماكن ثلاث مرات لتعود الفتيات إلى الوقوف . ليرتفع الملك عن الكرسي وهو في الوضع نفسه، ويطير في الماء ويتوقف لينفض جسده، وإذا بالفتيات يتبعثرن متشقلبات في أعماق المحيط ، وليمد الملك جسده في استقامة ليهبطن متشقلبات عليه ومن ثم يقفن على جسده على رؤوس أصابع رجل واحدة وليتشقلبن ليقفن على رؤوس أصابع يد واحدة وليتشقلبن ويعدن واقفات . وما جرى بعد ذلك فهوأمرمدهش فقد نفض الملك جسده ليقذف جميع الفتيات إلى أعلى وهن يتشقلبن صعوداً على ارتفاعات غير متساوية ليشرع بعضهن في النزول شقلبه ليهبطن على راحتي يديه فيعود إلى قذفهن في الفضاء وهكذا بدا الفضاء يعج بأكثرمن مائتي فتاة يتقاذفهن الملك وكأنهن طابات ليتشقلبن في لجة الماء في مشهد أخاذ .
توقف الملك عن شقلبة الفتيات، ثم جعلهن يسبحن في الماء في جماعات منتظمة من عشر فتيات، ويشبكن أصابع أيديهن ليرسمن بأجساد مستقيمة دوائرفي الماء، وليقفن في أشكال هرمية وقد اعتلى بعضهن أكتاف الأخريات . إلى أن تمدد الملك وجعلهن يتعلقن بيديه ورجليه وشعره الطويل وشرع يسبح وهن متعلقات بجسده متشبثات به بأيديهن . وما لبث أن نفض جسده ليفرقهن في أنحاء مختلفة ، وتمدد على بطنه لتحط بعض الفتيات على جسده ويشرعن في الشقلبة عليه . وحين نفض جسده مرة أخرى نثرهن حوله وشرع ينفخ من فمه ناراً ملتهبة عليهن لتشتعل النار في جسد كل واحدة منهن على حدة . ضج الجمهور بالصراخ . خاطره الملك لقمان " ماذا تفعل يا مجنون أخفت الناس " ؟ وقبل أن يسمع الملك الإجابة شاهد الفتيات يسبحن مبتهجات بأجسادهن الملتهبة وشرعن في تشكيل أفواج وحلقات نارية ، فأدرك الجميع أنها نارباردة وليست حامية كتلك التي تشوى عليها اللحوم . مد الملك جسده فشرعت فتيات في الوقوف على جسده ليحط أخريات على أكتافهن فأخريات أيضا على أكتاف التاليات وهكذا إلى ان شكلت الفتيات هرما مشتعلا تعلوه فتاة واحدة . شرع الهرم في الإنهيارالمنتظم واحدة فواحدة لتتفرق الفتيات في الماء وتزول النار، وليشرع الملك في شقلبة سريعة جدا ليهبط على أرض الخشبة ولتهبط الفتيات شقلبة بعده ويقفن إلى جانبيه على أرض الخشبة، ولينحني الجميع تحية للجمهورالهائل الذي نهض وشرع في التصفيق .
هتفت الإمبراطورة :
- هذا مدهش !
وهتف الإمبراطورمخاطبا الملك لقمان :
- تضعنا جلالتكم دائما في ما هو خارق وأسطوري في الوقت الذي تكون فيه حوارتنا أقرب إلى المنطق الواقعي !
- ما يبدو لي جلالتكم أن الوجود بحد ذاته هوالأسطورة الأكبر، وأن كل ما نفعله لا يشكل شيئا أمام أسطورة الوجود ، وأن كل ما نفعله هو مواءمة الواقع مع الأسطورة ،وتفسيره على ضوئها !
- أشكر جلالتكم . سنتابع حواراتنا . ويا ليت لو تسمحون لنا بإنهاء الحفل .
- اسمح لي جلالتكم الحفل على شرف الإمبراطورة وهي الوحيدة القادرة على إنهائه .
- الحق معكم جلالتكم .
وبدت الإمبراطورة مترددة في إنهاء الحفل غيرأن الملكة نورالسماء المتلهفة لترى طفلاً لها بعد يوم واحد مسألة تستدعي اختصارالزمن ، فغمزت الإمبراطورة أن توافق ! لكن الإمبراطورة سألت الملك قبل أن توافق:
- كم مضى على وجودنا في هذه الأعماق جلالتكم وهل كنا في الليل أم في النهار ؟
- مضى على وجودنا ما يعادل سبعة أيام ، ولم نكن لا في الليل ولا في النهار ، كان كل واحد منهما يأخذ نصف الآخر، لذا يمكن القول أننا كنا في الليل والنهار !
- تعجبت الإمبراطورة لهذا التأويل اللقماني . وأعلنت موافقتها على إنهاء الحفل .
شرعت السفن الزجاجية في الغوص إلى أعماق المحيط ليصعد الناس إليها .
كانت فتيات الكرة الأرضية من بين الصاعدات إلى السفن . وحين صعدت السفن وهبط الناس على الأرض
سار الملك لقمان نحو آلاف الفتيات الأرضيات وسألهن عما إذا يحببن البقاء هنا . اجبن جميعهن بالإيجاب . سأل الملك الإمبراطورفوافق على إقامتهن وأن يصبحن مواطنات كأي مواطن في بلده . أسكنهن في بلدة أقيمت حديثا . وأمر الملك تجهيزها بكل شيء وملء ثلاجاتها بأنواع الخضاروالفواكه واللحوم ومستودعاتها بكل أنواع الحبوب . وزراعة أرضها وممراتها بالأشجارالمثمرة والزهور والنباتات وإقامة حدائق في منتصفها .
تفرق الجميع على أمل اللقاء .
سارعت الملكة نورالسماء إلى تحضير نفسها للمواقعة المنتظرة . المواقعة الأسطورية التي سينجم عنها الطفل المعجزة "سحب السماوات " الذي سيحمل به في يوم واحد وينمو في رحمها تسعة أشهر وعشرة أيام في اليوم نفسه ، ويولد في آخر اليوم !
عانقت الملك لقمان وهي تسبقه إلى غرفة النوم في المركبة لتستحم وتتعطر وترتدي للسريرما يثيرشهوة الملك ! وفعل الملك الأمر نفسه ، فهو يحرص على الإغتسال والتضمخ بالعطور وارتداء الملابس الخاصة بالسرير قبل المواقعة .
****
(71)
معجزة المعجزات في ولادة ونمو" سحب السماوات "!
ظل سكان الإمبراطورية الشنوتية مترددين في اتخاذ موقف حاسم تجاه اعتناق العقيدة التي جاء بها الملك لقمان ، رغم كل المعجزات التي حدثت في الإحتفالات وعلى أرض الدولة، كما أن الإمبراطورالممثل الأعلى للمبدأ الكلي على الأرض لم يتخذ موقفاً أيضاً يدفع أمة الإمبراطورية في اتجاه اعتناق العقيدة رغم أن معظم السكان كانوا متعاطفين معها ومعجبين بها .. غير أن الأمرتحوّل إلى شبه إجماع لصالح اعتناق العقيدة ، على أثر حدوث معجزة المعجزات بولادة " سحب السماوات " ابن الملك لقمان العظيم ! الذي حملت به الملكة في يوم واحد لينموالجنين تسعة أشهر وعشرة أيام في اليوم نفسه ولتلده الملكة آخر اليوم، لتعم الأفراح سائرأنحاء الإمبراطورية لولادة ابن الملك الضيف !
وكان الملك لقمان قد استحم وتزين وتعطرعلى أيدي ثلاث فاتنات من حوريات الجن والإنس قبل أن يدخل إلى سريرالملكة نورالسماء ليجدها قد تزينت وتعطرت لتبدو في غاية الجمال ، فقبلها ما لا يقل عن تسعمائة وتسع وتسعين قبلة على كافة أنحاء جسدها، قبل أن يشرع في مواقعتها ، لتشعر بمتعة ونشوة لم تشعر بهما إنسية أو جنية من قبل . وطلب إليها الملك أن تظل مستلقية إلى أن تشعر بالجنين يتحرك في أحشائها ، وأن لا تغادرالسرير، والأفضل أن تظل مستلقية لأن حركتها قد تؤثرعلى النموالسريع جداً للجنين نتيجة للعمليات التفاعلية السريعة والقوانين والمعادلات المعقدة وغيرالمعتادة التي تجري في خلاياه والتي لا تقل عن مائة تريليون عملية ومعادلة ، ليكتمل نمو الجنين على الوجه الأكمل . واستلقى الملك إلى جانبها لبعض الوقت ليتأكد من أن عملية الخلق تجري على ما يرام .. ولم يمرأكثرمن بضع دقائق حين شعرت الملكة بالجنين يتحرك في رحمها ، فأمسكت يد الملك وهي تهمس " حبيبي ، لقد بدأ يتحرك في رحمي " قبلها الملك " وقال لها " لا تخافي يا حبيبتي ، إن كل شيء يجري كما أوحى الله لي " وراح الملك يشكر الله ، وما لبث أن هبط عن السرير وجلس خاشعا على ركبتيه وهو يشكرالله ويحمده .
أبقى الملك طبيبتين وثلاث ممرضات من بنات الجن إلى جوارالملكة ، يقدمن لها الطعام ويعتنين بها . وحين مرإثنتا عشرة ساعة على الحمل بدا بطن الملكة وقد كبر، فلم تغادرالسرير. وكان الملك يأتي ويطمئن عليها ويقبلها بين فترة وأخرى .. وجلس باقي ساعات اليوم إلى جوارها وبوجود الممرضات والطبيبتين .
في الساعة الرابعة والعشرين من اليوم نفسه بدأت موجات الطلق تجتاح جسد الملكة وتزداد شيئاً فشيئاً وهي تقبض بيدها على يد الملك إلى أن وضعت طفلاً كأنه البدر . أخذته الممرضات وغسّلنه وألبسنه وأتين به إلى الملكة والملك ليقبلاه، وهو ينطق ماما حين قبّلته الملكة ، وبابا حين قبًله الملك . كانت فرحة الملكة به أكبرمن كل فرح مهما كان ، وكلما تأملت جمال الطفل ازدادت فرحاً .. وحين أزف لها الملك لقمان المعجزات الآتيات لم يعد الكون يتسع لفرحها . فقد قال لها الملك :
" اعلمي يا حبيبتي أن ابننا "سحب السماوات" سيكبر ثلاثة أعوام في اليوم الأول لولادته ، ومثلها في اليوم الثاني ، ومثلها في اليوم الثالث ، وهكذا إلى أن يكمل ثمانية عشرعاما في ستة أيام . ليكون بذلك آية للبشرية تهديها إلى الصواب وطريق الخلاص من واقعها المؤلم . واعلمي يا حبيبتي أن ابننا سيجيد لغتنا وكل المعارف المبدئية في اليوم الأول ، وسيجيد لغتين ومعارف أخرى في اليوم الثاني . وسيجيد معظم العلوم في اليوم الثالث . وما أن يبلغ اليوم السادس وسن الرشد ، حتى يكون قد ألم بالمعرفة الإنسانية كلها . وبناء على ذلك فإن الطفل يحتاج إلى رعاية فائقة طوال الأيام الستة ، لأن العمليات الحسابية ومعادلات قوانين الخلق الجارية في خلايا جسده ، قد تفوق العمليات التي تجري في أجساد ملايين البشر خلال عمر كامل !"
لم تعد الملكة قادرة على إحتمال كل هذا الفرح دفعة واحدة فضمت الطفل إلى حضنها وألقت رأسها على عنق الملك لقمان، وهي تحس بجسد الطفل ينموفي حضنها ، وحين اكتمل اليوم الأول كان الطفل يملأ الدنيا فرحا وهو يتحدث إلى أمه بلغة سليمة ، وحين اكتمل اليوم الثاني كان يخاطب الجنيات بلغة الجن ،وأبناء الإمبراطورية بلغتهم ، ويحل بعض المسائل المعقدة في الرياضيات ، وحين اكتمل اليوم الثالث كان قد حفظ معلومات ما لا يقل عن مائة ألف كتاب . وحين اكتمل اليوم الرابع ألغى بعض قوانين الكيمياء وجاء بما هو جديد ، وحين اكتمل اليوم الخامس بدأ يعرف أين اصطدمت قوانين الفيزياء، وفي اكتمال اليوم السادس حل معضلة الفيزياء وجاء بنظرية لم يعرفها العقل البشري بعد ، أسماها نظرية " العقل الذّرّي " غير أن أحدا لم يصدق أن للذرة عقل ، وبدت النظرية عسيرة الفهم على العقل البشري .
عمت الأخباركافة أنحاء الإمبراطورية الشنوتية عن مولود الملك والملكة الذي تم الحمل به وولادته وبلوغه سن الرشد خلال أسبوع واحد فقط ، فثمًّة من صدق وثمّة من لم يصدق ، فهذه معجزة لم تقدم عليها أية آلهة من قبل . وحين قدم الإمبراطور والإمبراطورة لتهنئة الملك والملكة، وجدا نفسيهما في مواجهة شاب فائق الجمال، لم تجد الإمبراطورة إلا الإنحناء أمام جماله الخارق . ولم تعد خلال جلسة اللقاء قادرة على التفوه بأي كلام وهي تتأمل جماله بانبهار شديد ، ولم تعد تصدق أن يكون قد حمل به وولد وكبرخلال أسبوع ، وراحت تعتقد أنّه منحة من المبدأ الكلي أو الله أرسلاها للملك والملكة تامة الخلق والحكمة والمعرفة . وحين عادا راحت تسأل الإمبراطورعما فكرت فيه، فنفى أن يكون الأمر كذلك ، مؤكدا أن الملك مقرب ومحبوب من خالقه بدليل المعجزات التي قام بها ، فلماذا يبخل الله عليه بمعجزة كهذه ؟ بل وراح يزف النبأ لأبناء الإمبراطورية ويبارك للملك والملكة مولودهم المعجزة .
زحف الملايين من أبناء الإمبراطورية حاملين الورود لتهنئة الملك والملكة، وحين أطل سحب السماوات على الملايين من شرفة المركبة خرت جميع الفتيات والنساء وسجدن على ركبهن لانبهارهن بجماله ، ولم يجد الرجال والشباب بداً من فعل ذلك . وظهرالملك والملكة ووقفا خلفه وراحا يلوحان للملايين متقبلين التهاني .
عقب هذه المعجزة شرع الملايين في دخول عقيدة الملك لقمان أفواجاً، ودون أخذ رأي الإمبراطورالذي لم يكن لديه أي مانع في الأمر، وإن لم يعلن ذلك ، كما أن الإمبراطورة نفسها أعلنت عن نيتها اتباع هذا المعتقد .
****
(72)
هول التّكهنات وسحر المعجزات في شخصية سحب السماوات !
أثار ظهور سحب السماوات المفاجئ وغير المتوقع، والقدرات الهائلة التي يتمتع بها ردود فعل متباينة ومختلفة بين ما هو خارق للطبيعة وما يجهد لأن يقارب العلم . أما الخارقة فقد عزا بعضها الأمر إلى المبدأ الكلّي أوألوهة ما تكفلت بحمل الولد وتشكله في رحم أمه خلال يوم واحد، ومن ثم نشأته خلال ستة أيام ليبلغ سن الرشد. ولا يستبعد أن تكون هذه الألوهة هي إله الملك لقمان نفسه الذي يستجيب دائما لرغباته وتصوراته . غير أن آخرين رأوا أن إله لقمان قد تجسد في شخصه وهومن قام بمواقعة الملكة ، وفي هذه الحال يكون سحب السماوات ابن إله بقدر ما هو ابن الملك لقمان ، وإلا " كيف نفهم ونفسرعدم حمل الملكة من الملك من قبل؟ وكيف نفهم القدرات الخارقة والجمال الفائق الذي يتمتع به "؟! وهذا الرأي دفع آخرين إلى القول إن المبدأ الكلي نفسه هو من واقع الملكة وليس الملك ، لكن آخرين اعترضوا على هذا الرأي لاعتقادهم الجازم بأنه ليس للمبدأ الكلي شكل إنساني ، ويمكن في هذه الحال أن يكون قد أرسل ملاكا لمواقعة الملكة.. غير أن أصحاب رأي الألوهة المواقعة ظلّوا متشبثين برأيهم متعللين بالقدرات الخارقة للشاب، في حين رأى آخرون أنها قدرات جنيّة كون الأم جنيّة، وإنسيّة كون الأب إنسيّاً، وإلهيّة كون الحمل تم بقدرة إلهيّة . ورغم اختلاف الرؤى والتكهنات والتوقعات ظل الجميع متفقين على أن سحب السماوات معجزة إلهيّة لم تحدث في تاريخ الخلق البشري من قبل .
علماء الأحياء والكيمياء والفيزياء راحوا يعللون الأمر حسب معرفتهم ، فالكيميائيون والبيولوجيون رأوا أن الصبغيّات التي تكونت في خلايا الحيوانات المنوية للملك لقمان قد نجمت بالتأكيد عن مواد خارقة لم يتوفرمعظمها لدى الآخرين .. أما الفيزيائيون فلم يتفقوا على رأي فقد رأى أصحاب نظرية البايوألكترونكس أن جسد سحب السماوات لا بد وأن يكون جامعا بين المادة الحية والمادة التكنولوجية الألكترونية لينتج عنهما هذا الإعجاز في الخلق ! وأما أصحاب نظرية النانو تكنولوجي فقد رأوا أن ثمة تعشيقاً جرى للحمض النووي لدى سحب السماوات بزرع شرائح ألكترونية في جسده اكتسب الحمض النووي طاقتها . وقد استبعد كثيرون هذين الأمرين ورجّحوا أن يكون الملك لقمان نفسه هومن كان يملك هذه القدرات عبر تقنيات أجريت على تكوين جسده من قبل ، فأصبح قادراً على إنتاج مورثات خارقة لكل ما هو مألوف ، وأنه ليس في الإمكان التثبت من ذلك إلا بقيام الملك لقمان نفسه بمواقعة نساء أخريات .
ثمّة آخرون رأوا أن سحب السماوات ليس إنساناً بل صورة ليزرية هلوغرامية وظفت طاقة الجاذبية بمعادلات الفيزياء الكمومية " لنرى إنساناً ثلاثي الأبعاد يتحرك أمامنا دون أن يكون إنساناً حقيقيا "ولم يأخذ بهذا الرأي أحد . ولم يترك الفيزيائيون والبيولوجيون نظرية إلا وتكهنوا بها دون جدوى . وأهم ما في الأمرأن معظم الناس قد اتفقوا على أن سحب السماوات هو الإنسان الكامل الذي يطمح الخالق في خلقه وأن أّه وأباه سعيدان به ، بل وأن البشرية كلها ستسعد به .
ثمة مشكلة وقع فيها سكان الإمبراطورية الشنوتية بل سكان دول الكوكب كلّه ، وهي أن صيت جمال سحب السماوات وقدراته الخارقة ومعرفته الشموليّة قد تجاوز حتى حدود الكوكب الذي هوعليه، ليبلغ كواكب أخرى ! فغدت رؤيته طموحاً لا يمكن الإستغناء عنه لدى كل فتاة، وخاصة من الإمبراطورية أولاً ومن دول الكوكب ثانياً . فكان على سحب السماوات أن يظهرعلى شرفة المركبة ولو مرة كل ثلاثة أيام على الأكثر، ليلوح للفتيات المتجمهرات في ساحة المركبة ، اللواتي ما أن يشاهدنه حتى يجلسن على ركبهن ويشرعن في التلويح له وإرسال القُبل له ، فيما هو يفعل الأمرنفسه ولا يبخل على الفتيات بإرسال القُبل لهن عبرأثيرالهواء . ولم يعرف سحب السماوات وأبوه الملك لقمان أنّ جماله سيجر إلى حروب في الأيام القادمة مع أكثر من دولة .
أول المغامرات المغرمات بسحب السماوات كانت أستير، فحين كان سحب في اليوم الخامس لولادته وفي عمره الذي يقترب من الخمسة عشر، لاحظت أستيرأن الفتى يتأجج شهوة . غمزته فغمزها .. تسللت إلى غرفة نومه بعيد انتصاف الليل بأبهى زينة وجمال . لا يُعرف من كان يلتهم الآخرهي أم هو . كانت تلهب جسده بقبلات محمومة وهو يلتهم كل ما يستطيع التهامة من جسدها وقد خيّم رداؤه الداخلي عما بدا لأستيرأنه خارق القوام ! حين بلغا ذروة الوله زلقت رداءه ، لتجد نفسها أمام أعجوبة في الخلق ! ولم تعرف كيف وجدت نفسها تغرق في نشوة لم تتخيلها يوماً . وما تذكره أنه اعتلاها، وأنها كانت تغرق معه في نشوات متلاحقه .
عادت إلى غرفتها وهي في شبه غيبوبة . ولم تعرف أنها ستشعر بالنشوة كلما تذكرت صورة ما شاهدته . وعبثا راحت تحاول أن لا تتذكر، فكيف لها أن لا تتذكر كل هذا الجمال. أقفلت غرفتها على نفسها لتبقى مع تذكرها ونشواتها .. لاحظت أن النشوات تخف مع الإقلال من التذكروالتصور. في اليوم الثالث استعادت توازنها ، حين شعرت أنها أشبعت إلى قدر كاف من الإنتشاء . افتقدتها نسمة التي كانت تربطها بها صداقة حميمة وليال مثلية في السرير . سألتها عن قصة إعتكافها . أجابتها " هل تعديني بأن تحفظي السر؟" قالت "سرك في بئرعميقة "! قالت " المواقعة مع سحب السماوات عن العمركله " لم تصدق نسمة ما سمعته . ما أن لاحت لها أول فرصة لمشاهدة سحب السماوات وكان قد تجاوزسن الرشد حتى غمزته ، فغمزها . تركت زوجها نائماً وتسللت إليه . لم تصدق أستير ما جرى حين رأت نسمة تغلق الباب لثلاثة أيام ..
ربة الجمال ذات الأنوثة الطاغية والجمال الخارق أحست بما يجري . والأهم أن سحب السماوات لم ينتظر أن تغمزه ، فهو كان يترصد خروجها ودخولها غيرأن تخوّفه من غيرة الملك شمنهوركان يحد من إقدامه على الأمر . قررأن يكسر حاجزالخوف ، غمزها ، فغمزته . تسللت إليه حين كان الملك شمنهوريغط في سابع نوم ! لم تصدق لا أستير ولا نسمة أن ربة الجمال أغلقت الباب على نفسها أربعة أيام وليس ثلاثة !
الملكة عرفت ببصيرتها ما يجري . تخوفت أن يرهق سحب السماوات نفسه في مواقعة النساء والفتيات . جلست إليه . عانقته . قالت له دون مقدمات :
- حبيبي لا ترهق نفسك في مضاجعة النساء !
أدرك أن أمّه تعرف .
- لا تخافي يا أمي سأخفف من الأمرقدرالإمكان .
- لماذا قدرالإمكان فقط يا حبيبي ؟
- هل تريدينني أن أحيا دون عشق ؟
- لا يا حبيبي . لكن خفف حتى لا ترهق نفسك !
- هل نسيت يا أمي أنني ابن جنية وأن دماء الجن والإنس تسري في جسدي . وأنني أتمتع بقدرات خارقة على ممارسة الحب !
أدركت الملكة أن المشكلة صعبة !
- طيب يا حبيبي . هل تحب أن تتزوج ؟
استغرب سحب السماوات الأمر .
- أتزوج يا أمي وأترك جميلات الإنس والجن لمن ؟
ابتسمت الملكة . ضمته وقبلته .
- طيب حبيبي . لكن ابتعد عن ربّة الجمال . لا توقعنا في مشكلة مع ملك الملوك . وربما لوعرف أبوك لانزعج . عدني أن لا تعيد الأمرمعها .
- أعدك يا أمي مع أن جمالها يقتلني !
- حبيبي . أعدك بمن هن أجمل منها بكثير، ولا تنس أنها من بنات خيال أبيك !
- كيف ذلك يا أمّي ؟
- حين أراد ملك الملوك شمنهورأن يستحضرلنفسه فتاة لا يوجد أجمل منها طلب إلى قواه الخارقة أن تحضرله فتاة من أقصى ما يمكن أن يتصوره خيال مولاه !!
- يا إلهي يا أمي وهل سأستغل خيال أبي لأحصل على فتاة بجمالها ؟
- لا عليك يا حبيبي . سأتدبرالأمر .
- حسناً يا أمي .
ولم يمر سوى بضع ساعات حين ظهرت على المركبة ملكة جمال مع وصيفتين . كانت الوصيفتان فائقتي الجمال ، أما الملكة فلم يكن ينظرإليها أحد إلا ويزوغ نظره لشدة جمالها !
*****
(73)
الخالق بين التنزيه والتشبيه وقوانين الخلق !
بعيدا عن الملكة نورالسماء الغارقة في محبتها وفرحتها بسحب السماوات والحورية ملكة الجمال التي أحضرتها له مع وصيفتيها ، اقترح الملك لقمان على الإمبراطورأن يذهبا في نزهة جبلية ، لتشوّق الملك إلى الجبال حيث عاش طفولته في ضواحي القدس سارحاً مع قطيع أغنام .اصطحبه الإمبراطورإلى أعلى قمة جبليه مطلة على هضاب وجبال تكسوها الأشجارالمختلفة ، فيما ذهبت الإمبراطورة إلى الملكة نور السماء لتملأ عينيها من حسن سحب السماوات وحورياته .
وهما يجلسان إلى جذع شجرة بطم عملاقة كانت تشرئب بأغصانها وترسلها في كافة الإتجاهات ، سأل الإمبراطورالملك في محاولة لتوضيح واستيعاب ما سبق وأن تطرق إليه :
- فهمت من جلالتك أن القائم بالخلق موجود في الخلق نفسه وأن وجوده مشروط ببقاء الخلق ، فإذا ما انتفى الخلق انتفى وجوده ، إذ في هذه الحال لن يكون هناك إلا العدم ويستحيل أن يكون ثمة وجود في العدم .
- كلام سليم جلالتك .
- وفي الإمكان القول إن الهيولى البدئية التي بدأ بها الخلق منذ أربعة عشرمليارعام ما تزال تخلق نفسها بنفسها لنفسها وتطورنفسها بنفسها دون أن تصل إلى كمال ما تطمح إليه .
- صحيح .
- ألا تظن جلالتك أن لديها تصوّرا لهذا الكمال ؟
- ممكن أن يكون تصوّرا غيرمجلوأوغيرمتضح ، فالكمال المطلق ليس من السهل تخيّله . فلا أظن أن الشكل الحالي للإنسان سيتوقف على ما هو عليه إضافة إلى النظم الإجتماعية والكيانات التي أوجدها والتي ما تزال بعيدة كل البعد عن أي كمال .
- أليس في الإمكان تنزيه القائم بالخلق عن الخلق نفسه ؟
- لقد نزهته بعض المعتقدات حين اعتبرته إلهاً ، بل واعتبرت أن في مقدوره أن يبقى وحده دون خلق لو أراد ذلك ، كأن يبقى جالسا على عرشه السماوي !
- وجلالتك ؟
- أنا لم أنزهة إلا مجازاً بمفردة لغوية استعرتها من لغة بشرية هي الخالق أو الله دون أن أجزم أنه يعتبر نفسه إلهاً . يمكن أنه يعتبر نفسه خالقاً . إذا كان الوجود مكوّناً من مادة وطاقة فليس في الإمكان عزل المادة عن الطاقة أوالعكس ، والخالق ليس خارج المادة والطاقة ، المادة بكل تجلياتها والطاقة بكل ما هو مدرك منها وما هوغيرمدرك حتى اليوم من قبل العقل البشري .
- ماذا يمكن أن تكون الطاقة غيرالمدركة حتى اليوم من قبل البشر ؟
- في الغالب هناك أكثرمن طاقة لكن الأهم هو طاقة الخلق ، فهي لم ولن تكتشف بسهولة ، لأن ما تم نسج خيوطه المعقدة خلال أربعة عشرملياراً من الأعوام قد يحتاج إلى مليارات الأعوام لاكتشافه . هناك طاقة اكتشفها العلماء تسري في الكون كله وتحيط بالأجسام كلّها لكنهم لم يكتشفوا ماهيتها . اعتبرتها أنا طاقة الخلق.
- هل المعتقدات التي رأت أن للخالق - إذا جازالتعبير- عرشاً قد شبهته بكائن ما أوقدمت تصوراً له ؟
- بعضها شبهه بالإنسان !
- وجلالتك بماذا تشبهه ؟
- بالوجود كله وما فيه ، فهو كل شيء وكل شيء هو ! ولا يجوزلشيء بعينه أو كائن بعينه أن يقول أنّه القائم بالخلق أوأنّه الخالق . فالجميع خالق والجميع مخلوق . من هنا يأتي تكامل عملية الخلق بين الخالق والمخلوق أو بين الطاقة والمادة . فكل كائن بحد ذاته يقوم بعملية خلق ذاتية مقررة له موظفاً طاقة الخلق السارية فيه ، كالعنكبوت الذي يقوم ببناء عشه ونسج خيوط شبكته بغاية الدقة .
- وماذا عن وجود العنكبوت بحد ذاته كيف نشأ ، وكيف نشأت كائنات ضارة وكائنات نافعة ، وكيف يمكن أن يكون الخالق في كائنات ضارة وكائنات نافعة ؟
أدرك الملك أن الإمبراطوربدأ يدخل في الأسئلة المعقدة التي أعجزت العقل البشري ! قال بعض لحظة تفكير :
- سأبدأ بإجابة جلالتك من الآخر، وبطرح السؤال التالي ؟
- ألا يتكون العنكبوت من مادة وطاقة ؟
- بلى !
- وألم أقل أنا أن الخالق مادة وطاقة ؟ طاقة تتمظهروتتجلى في مادة ، ومادة تتحول إلى طاقة ، أو ينتج عنها طاقة ؟
- صحيح !
- إذن لماذا لا يكون الخالق موجودا في العنكبوت كما هو في كل شيء؟
- وماذا عن النشأة ؟
- تعرف جلالتك كم مليارات الأعوام التي دامت قبل نشوء الحياة ؟
- أجل .
- وتعلم جلالتك أن كل عنصر كيميائي في الطبيعة يتكون من ذرات متشابهة تختلف عن بعضها في عدد جسيمات البروتونات والالكترونات ، وأن ذرات هذه العناصرهي أبسط مكوّنات الكائن الحي. تشترك جميع الكائنات من البكتيريا إلى الإنسان في ستة عناصر أساسية هي : الكربون ، الهيدروجين ، النيتروجين ، الأكسجين ، الفسفور ، الكبريت . طاقة الخلق أو الخالق إن شئت وضع قوانين ومعادلات لهذه العناصر وغيرها في المادة، أي في التراب أوالأرض بشكل عام . تواجد هذه العناصر يكون بنسب متفاوته في كل مكان . لنأخذ مثلاً مجاري المياه في المدن حيث تنشأ كائنات ضارة . فالمعادلة مثلا تنص على أن نسبة كذا من عنصركذا وتفاعله مع عنصركذا، ألخ.. ينشأ عنها خلق ما، ليس بالضرورة أن يكون هذا الخلق معروفاً مسبقاً أو أن يكون ضاراً أو نافعا . القاعدة متعلقة بنسبة العناصر في المادة وتنوعاتها . فنحن نجد أن ثمة فيروسات تظهر وتسبب أمراضا للبشروتطورنفسها بنفسها وتقاوم حتى الأدوية ، فيضطر الناس إلى البحث عن دواء جديد فعال .. إذن يمكن تلخيص المسألة في أن كل عنصر في الطبيعة قد وضع له عبر مليارات الأعوام قوانين ومعادلات محددة حسب نسبة ما يحويه من مواد وتفاعله مع عناصر أخرى حسب نسب المواد فيها وتنوعها . ولا شك أن هذه القوانين تتطوروتطورنفسها بنفسها بفعل طاقة الخلق السارية في الكون . ويمكن القول أن التحكم المطلق في نسب المواد في العناصرحتى اليوم غير متوفر، كما أن التحكم في العناصر نفسها غير ممكن نتيجة لما تفرزه الكائنات من مخلفات وبشكل خاص البشر ، حيث تختلط مخلفات قذرة ومواد كيماوية ضارة بالتربة فتلوث البيئة وتنشئ كائنات ضارة .
- هل في الإمكان القول إن التوصل لخلق الكائن الذي جاء منه الإنسان قد تأخر كثيرا مقارنة بخلق الكائنات الحية الأخرى ؟
- أكيد فالإنسان احتاج إلى توفرعناصر كثيرة . الكائن البدائي الأقرب إلى البشر قد لا يتجاوزعمره ستة ملايين عام .
- ماذا لو دخلنا في قوانين ومعادلات التوريث !
- بعد أن يخلق الكائن تدون مورثاته في مادته حتى لا تتم العودة إلى الصفر ، فلولا تدوين المورثات لكان تطور الكائنات أكثرتعقيداً، فكل القوانين والمعادلات الأولى التي خلق منها الكائن الأول تنتقل إلى خلفه ،وخلفه بدوره يكسبها تطوراً ، وهكذا ..
- وهكذا تدخلنا جلالتكم في تطورالكائنات كيف تتطور ؟
- تحدثنا لجلالتكم عن الغاية البدائية التي كانت منذ البدء في الهيولى البدئية . والغاية نتاج رغبة ، أو هي بحد ذاتها رغبة ، فكل كائن يحمل في ذاته رغبه لأن يكون أجمل وأرقى وإلا لما ارتقى الإنسان إلى ما هو عليه ولما ارتقى كائن . الكائنات تؤثرفي بعضها وتتأثر وحين يرى كائن أن كائناً آخرأجمل منه مثلا يحاول أن يرقى بجماله فيحدث في من يخلفه ، ليس بالضرورة أن يكون واعياً تماماً للأمر، رغم أن المورثات لا تفوت أي رغبات يمكن أن تراود كائنا وهو يتأمل جمال كائن أجمل منه . وقد تسألني جلالتكم . هل تتأثر النباتات بالنباتات والورود بالورود والأشجاربالأشجار وحتى التفاح بفاكهة ما مثلا ؟ أقول : أجل يا عزيزي هذا ما أعتقده ، فكل الكائنات الحية تؤثربعضها ببعض ، ولولا تلك الرغبات وذلك التأثر لما رأيت هذا التنوع في الخلق ، تأمل الورد ، كل نوع منه يكاد يتفوق على نوع آخرأوأنواع أخرى بجماله. يوجد لدى بعض النساء الحوامل في بعض المجتمعات اعتقاد أن المرأة إذا توحّمت ( اشتهت ) شيئا ما قد يترك أثراً يظهر في مولودها. إنها عملية التطورالتي لا تتوقف ولن تتوقف إلى ما لا نهاية ، إلى أن تبلغ عملية الخلق كمالاً ما قد يحتاج إلى إعادة نظر في قوانين الطبيعة أو الخلق إن شئت .
- جلالتك لا تكاد تميز بين الطبيعة والخالق والخلق !
- هذا صحيح ، فالطبيعة هي الخلق والخالق !
- أشكر جلالتكم . يكفي لهذا اليوم .
****

(74)
لا حضارة دون عقل حر!
في اليوم التالي وهما يجلسان في المكان نفسه بجوار شجرة البطم ، طرح الإمبراطورسؤالا أكثر تعقيداً على الملك ، وهو يرسل نظراته إلى السفوح والهضاب المترامية :
- ثمة أمر يحيّرني جلالتك !
- ما هو ؟
- كيف لا يستطيع هذا الخالق مخاطبة الناس مباشرة ليقول لهم ما هو ولماذا خلقهم وما هي الغاية من وجودهم ، لعله بذلك يريح العقل البشري من البحث عن سرالوجود !
بدا السؤال محيرا حقا للملك . قال :
- لأنه طاقة والطاقة لا تتكلم !
- لكن الكلام لا يمكن أن يتم دونها حسب رأيك !
- هذا صحيح !
- فكيف لمن لا يتم الكلام دونه أن لا يكون قادراً على الكلام بل ولا يعرف لغات حسب رأي جلالتكم ؟
- أنت تعيدنا إلى سؤال الكهرباء التي لا تعرف الضوء رغم أنه لا يمكن للضوء أن يتم دونها. سأتجاوز هذه المسألة لأقول : لأنه ليس كائناً إنسياً ولا يملك لساناً ! لكن يمكن القول إنّه يتكلم بألسن مخلوقاته ، ويرى بعيون مخلوقاته ويفكر بعقول مخلوقاته ! فالألسن في هذه الحال هي ألسنه كما هي العيون عيونه وكما هي العقول عقله ، فهو كل شيئ وكل شيئ هو، كطاقة مجسدة في مادة وكمادة يسري فيها وينتج عنها طاقة .
- ولماذا لم يجعل مخلوقاته تعرف الحقيقة المطلقة وتنطق بها طالما أنها هو وهو هي ؟!
أدرك الملك أن الإمبراطور بسعيه إلى المعرفة يحشره دائماً أمام أبواب مغلقة . فكر للحظات مستعيداً بعض مفاهيمه وتأملاته وما لبث أن فجر قنبلة :
- لأن الخالق نفسه لم يعرف بعد ما هي الحقيقة المطلقة ؟
بدا الإمبراطور وقد صدمته الإجابة وأوقعته في دهشة وحيرة . ضغط بأصابع يده اليمنى على جبينه . تساءل :
- أليست قيم الخير والعدل والمحبة والجمال وبناء الحضارة الإنسانية التي ينشدها الخالق حسب رأي جلالتك حقيقة مطلقة ؟
- لا ! إنها حقيقة نسبية كمبادئ !
- كيف ؟
- لأن الخالق لا يعرف كيف سيكون عليه مطلق هذه القيم . وقد سبق وأن تحدثت بالأمس عن تصور غيرمجلوأوغير متضح في مخيلة الخالق لهذه القيم . وسأعود لأذكّر جلالتك بمليارات الأعوام التي استغرقتها عملية الخلق دون أن تبلغ كمالاً مطلقاً . وكم من الكائنات انقرضت لعدم تمكنها من التكيف مع البيئة التي وجدت فيها . فالبقاء يتم فقط للكائنات التي يمكنها التكيف والتأقلم مع البيئة التي تعيش فيها . فثمة كائنات قد تنقرض كما انقرضت الديناصورات مثلا . ولا يستبعد أن تنقرض مجتمعات بشرية في المستقبل لضعفها وعدم تمكنها من السير في ركب الحضارة الإنسانية . فالبقاء لن يكون إلا للأرقى والأقوى والأكثرعدلاً وجمالاً !
أدرك الإمبراطورأن الملك متمكن من منهجه في التفكير وأنه ليس من السهل إختراقه ، وأن كل ما يفكر فيه منسجم إلى حد مقبول وقد يكون الأقرب إلى المنطق والصواب . ومع ذلك ثمة ما يحتاج إلى إيضاح أكثر :
- تضعني إجابات جلالتك أمام تساؤلات كثيرة ، فإذا كانت الألسن هي ألسن الخالق فإن اللغة مهما كانت هي لغة الخالق وأن الكلام مهما كان هوكلام الخالق والأمر ينطبق على العقول وما تفكر فيه والعيون وما تراه ، فكيف في هذه الحال ننسب الكلام السيء كالشتائم مثلا إلى كلام الخالق ؟
حك الملك صلعته بأصابع يده اليسرى فيما كان يعبث ببضع حصوات بيده اليمنى ، أجاب متسائلا :
- كما ننسب الخلق السيء إلى الخالق أيضاً، دون أن يكون الخالق بكليّته ،أي بوجوده الكلّي، هو هذا الكائن السيء . فالكلام السيئ ليس الكلام كلّه ، والخالق بكليّته ليس مسؤولا عنه . ولو أخذنا الكهرباء كطاقة مثلاً ، فبها قد نشغل مصنعاً وبها نفسها قد نحرقه ، فهل الكهرباء هنا هي المسؤولة عن الحرق ؟ القوانين والمعادلات التي وضعها الخالق ، هي حتى الآن لا تستطيع أن تميّزالخيرعن الشر، لذلك نجد أن بعض الأمراض الخطيرة تورّث في الجينات لتنتقل إلى الأبناء ، وفي الوقت نفسه نجد أن مكتسبات كثيرة لدى الإنسان لا يمكن توريثها كالمهارات من لغات وثقافات ومهن .. كل هذه المسائل تشيرإلى عدم اكتمال عملية الخلق ، وقد يحتاج الأمرإلى دهور . ولا يعرف متى يوجد الإنسان والخلق الأقرب إلى الكمال.
- هذه مسألة محيّرة فعلا فكيف يمكن توريث الأمراض ولا يمكن توريث المهارات ؟
- الأمراض تنتج عن عناصرمادية محسوسة كالخلايا السرطانية مثلاً، لذلك يمكن تدوينها وتوريثها . أما المهارات فتنتج عن عقل طاقوي غيرمادي . فالعلم لم يجد مكاناً في الدماغ يمكن اعتباره مكاناً خاصاً بالعقل ، لذلك لا يمكن توريث المهارات ، ويبدو لي أن مسألة توريث المهارات والمكتسبات الإنسانية ستكون من أعقد المسائل في تطويرالخلق . وإذا ما ظل الأمرعلى ما هوعليه لدى الإنسان قد تضطر طاقة الخلق أوالخالق، إلى إعادة النظرفي قوانين ومعادلات التطورالخلْقي ، فلا يعقل أن يمضي الإنسان عمره في التعلّلم ، وفي المقابل لا بد من إعادة النظرفي عمل الجينات الوراثية وتوريث حتى الأمراض . لا بد من إيجاد حل لكل هذه المسائل .
- أعتقد أن الحل لن يأتي إلا بالقضاء على الأمراض .
- ممكن ! لكن ما يجري من سلوكيات خاطئة في الحياة البشرية قد تأتي بأمراض أخطرمن السابقة .
أرسل الإمبراطور بصره بعيداً ساهماً بخياله في عجائب المورثات بين الإنسان والحيوان :
- تبدو الأمور في عملية الخلق والتطورمحيّرة .. فالمهارات لدى الحيوان تورث ، فلا نظن أن العناكب فتحت مدرسة لتعليم نسلها نسج أعشاشها، ولا النحل لهندسة مملكة خلاياه بهذا الإتقان ، ولا النمل لتنظيم جيوشه وحفر مساكنه وإقامة مستودعاته ، ولا الطيور لبناء أعشاشها ، لماذا ورّث الخالق هذه المهارات للحيوان ولم يورثها للإنسان رغم أنها نتاج طاقوي أيضا ؟!
- تساؤلك في غاية الأهمية جلالتك . ما يبدو لي أن الخالق لم يكن يطمح في تحميل بعض الكائنات ما لا قدرة لها عليه ، وحتى الكائنات نفسها لا يبدوأنها تطمح في ما لا تستطيع عمله ، فتم اختيارعمل محدد يخص كل فئة منها يمكن أن تجيده بشكل متقن . وهكذا تم توريث العمل ، هذا إذا كان مورثاً فعلا وغير مكتسب بطريقة خاصة لدى الحيوانات نجهلها نحن كبشر. فلم يكن مطلوباً من فصائل العناكب أو النحل أو النمل أو الطيور، أن تبني حضارة مثلاً وأن تخترع لغات. كان كل ما هو مقرر لها أن تقوم بدور محدود في عملية الخلق . هذه المسألة لو طبقناها على الإنسان لما كان هناك حضارة . تصور جلالتك لو أن الإنسان لم يكن قادراً بعد عملية التكاثرسوى على بناء بيت له حسب مواصفات معينة وهندسة محددة . في هذه الحال لن نرى حضارات وإبداعاً في هندسة العمارة ، بل ولتوقفت الحضارة على بناء البيت وحده ، وفي هذه الحال لن يكون هناك حضارة بمفهوم الحضارة التي تشمل كل مقومات المجتمعات البشرية . والمسألة نفسها تنطبق على كل ما يتعلق بالإنسان وبشكل خاص العقل ، الذي أبقت عملية الخلق عليه حراً طليقاً ليكون لديه القدرة على الخلق والإبداع ، وليساهم بالتالي في الغاية من الخلق، وهي صنع وإقامة الحضارة الإنسانية الأرقى ، أي أن يكون خالقاً ، كونه جزءاً من الذات الخالقة نفسها ، التي كانت وما زالت توجد نفسها بنفسها لنفسها وتطور نفسها بنفسها لنفسها !!
أطرق الإمبراطور للحظات مفكراً بإعجاب في قدرة الملك لقمان على إيجاد حلول ومخارج لكل المحطات شبه المغلقة التي يضعه أمامها، ولم يجد إلا أن يشكره كما في نهاية كل حوار :
- أشكر جلالتكم لسعة صدركم وعمق فكركم .
- العفو جلالتك . وآمل أن أكون محقّاً في اجتهادي الذي لم ولن أعتبره يوماً حقائق مطلقة .
- منذ أن تعرفت إلى جلالتكم لم أرأنكم وضعتموني خارج المنطق . أكاد أن أحسدكم على هذه القدرة .
ابتسم الملك وهو يقول :
- هذا أمرعظيم أن يكون لدي ما أحسد عليه !
****
(75)
الملك والظبية واللبؤة وخرق قوانين الطبيعة !
فيما كان الإمبراطور والملك يجوبان بأنظارهما سفوح الجبال والأخاديد وأعماق الأودية المتعرّجة الحافلة بآلاف الأشجار، ظهرت فجأة من بين الأشجار ظبية تطاردها لبؤة . وحين وجدت الظبية نفسها أمامهما لم تغيراتجاهها لهول الرعب الذي كان ينتابها، فوثبت في الفضاء لتمرمن فوقهما ، غيرأنها لم تتمكن من الهبوط على الأرض بثبات، فكبت على رأسها وانقلبت لشدة السرعة التي اندفعت بها . وحين ظهرت اللبؤة منطلقة بسرعة فائقة أيضا، حدّت من سرعتها لتتوقف بصعوبة على مسافة قريبة من الرجلين الجالسين ، ولتتأملهما للحظات ثم تطلق زئيراً فاتحة فمها على وسعه لإخافتهما ، فيما كانت الظبية تحاول النهوض من كبوتها دون أن تنجح في الوقوف لانكسارإحدى قائمتيها الأماميتين . ارتعدت فرائص الإمبراطور فيما سخر الملك قواه لإيقاف اللبؤة في مكانها وتقدم نحوالظبية . أخذ قائمتها المكسورة بيدية وراح يمسد عليها لتبرأ من الكسر ولتقف الظبية على قوائمها . مسد الملك على رأسها وعنقها وهو يردد " لا تخافي "
أحست الظبية بالأمان فاستدارت لتستكين إلى جوارالملك والإمبراطور . عاد الإمبراطور إلى هدوئه وهو يرى اللبؤة تثبت في مكانها وتتوقف عن الزئير . خاطب الملك اللبؤة وكأنه يخاطب إنساناً " أيه أيتها اللبؤة ، أدرك أنك تمارسين حقك في الحياة ، لكن هذه الظبية لجأت إلينا بعد أن أشفيتها ، ولا شك أن خلفها رشأ صغيراً يحتاج إليها إلى أن يكبر، فهل يرضيك أن تفترسيها ، وتتركي صغيرها وذكرها يحزنان عليها ؟"
وفي هذه الأثناء ظهرذكرالظبية يتبعه رشأ صغير، كانا يتبعان أثرالمطاردة ليريا ماذا حل بالظبية، وحين رأى الذكرأن أنثاه تقف بأمان إلى جوارالرجلين ، اقترب يتبعه ابنه لينضما إلى الظبية . أخذ الملك الرشأ الصغير وضمه إليه . مسد على عنقه وقبّله فيما كانت أمه تتشممه . وفي الوقت نفسه ظهرالأسد ذكر اللبوة يتبعه شبل صغير وقد قدما لينالا حصتهما من الفريسة المفترضة ، وحين رأيا اللبوة تقف في مواجهة الرجلين دون أن تتحرك وقفا إلى جوارها .
نظر الملك إلى اللبوة متسائلا ثانية " ماذا قلت أيتها اللبوة ؟ "
لم يفاجأ الملك حين نطقت اللبوة قائلة :
- وأنا كما ترى جلالتك لدي شبل صغيروزوج كسول يريدان أن يأكلا ، ومع ذلك لن أفترس ظبية لجأت إلى الملك لقمان واستجارت به !
بدا الإمبراطورفي غاية الدهشة وهو يرى إلى اللبؤة تتكلم وتعرف الملك وتقدرلجوء الظبية إليه .
أشارالملك إلى اللبؤة أن تقترب . اقتربت . ملس الملك على رأسها وراح يشكرها :
- أشكر جلالتك أيتها اللبؤة لتكريمك لي واستجابتك لرغبتي، لن أتركك دون فرائس . انظري خلفك .
وحين نظرت اللبؤة رأت ثلاثة خنازير كبيرة تقدم إليهم . توقفت الخنازيرالثلاثة على مسافة منهم ، فيما الملك يتابع :
- ستتبعك هذه الخنازيرطوعاً إلى عرينكم لتفترسوها .. لكن لا تفترسوا خنزيراً أمام آخر . ولا تفترسوا إلا ما تحتاجون إليه . حين تنتهون من خنزيرتفترسون آخر . وإني اعتباراً من اليوم جعلت الخنازير طعاماً لمعشر الأسود ، وسخرتها لكم مدى الحياة ، فلا تهرب منكم ، وتتقبل طواعية افتراسكم لها دون مطاردة ،على أن لا تفترسوا غيرها من الحيوانات، ولا يفترسها أي حيوان آخردونكم ولا يقترب منها .
بدت اللبؤة في غاية السعادة وهي تستمع إلى الملك بتقديمه هذا المنحة الأبدية إلى معشر الأسود :
- إني لعاجزة عن شكرجلالتكم لهذا التكريم الذي غمرتمونا به .
وأشار الملك بيده إلى اللبوة لتنصرف .
- هيا أيتها اللبوة .. انصرفوا وستتبعكم هذه الخنازيرإلى عرينكم .
انصرفت اللبوة يتبعها الشبل والأسد والخنازيرالثلاثة التي بدت راضية بالمصيرالذي قدره لها الملك لقمان . ومنذ ذلك اليوم بدأت الحيوانات ترى قطعان الخنازيرترعى بطمأنينة وجماعة من الأسود تربض مستلقية إلى جوارها أو في وسطها .
****
كان الإمبراطور ما يزال جالسا وهو في غاية الدهشة لما جرى، بينما أسرة الظباء ترعى باطمئنان على مقربة منهما .
- ألا تقول لي جلالتك ما هذا الذي جرى ؟
- جرى ما أريده جلالتك !
- أرجوك وضح لي كيف تكلمت اللبوة وكيف استجابة لك وكيف حضرت الخنازيروأذعنت لإرادتك ؟
ابتسم الملك وهو ينظرإلى الإمبراطور :
- يبدوأن جلالتك لم يقتنع بتجسد الألوهة في الوجود كله ؟ إن من تكلم ومن وافق على رغبتي هوالألوهة في اللبوة وليس اللبوة بحد ذاتها !
- وماذا عن الخنازير ؟
- الأمر نفسه .
- يبدو لي أن الأمرعسيرعلى الفهم .
- لا ليس عسيراً . حين تتذكر دائما أن طاقة الألوهة تسري في كل كائن كما تسري في الكون كله وتحيط به ، وتتجسد في كل كائن كما تتجسد في الكون كله . فمن وجوده بهذا الشمول لن تصعب عليه مسائل كثيرة وخاصة حين تلتقي رغبة الكائن مع إرادة الألوهة لتحدث المعجزة .
شعر الإمبراطورأنه سيسجل نقطة سلبية على الملك . تساءل :
- لكن جلالتكم قلتم في جلسة سابقة إنّ الألوهة لا تتكلم !
- نعم لا تتكلم . لكني قلت إنّها تتكلم بألسن مخلوقاتها فكل الألسن ألسنها كما هي كل العيون وكل العقول
عيونها وعقلها .
- لكن الكلام هنا بدا وكأنه كلام اللبوة وليس كلام الألوهة !
- هو بدا كذلك لأنه نُطق بلسان اللبوة نتيجة لالتقاء رغبات ، رغبتي ورغبة اللبوة ورغبة الألوهة فيها ، وطالما أن الرغبات صادرة عن طاقة الألوهة الكلية فليس غريباً أن تتوافق .
- دائما تضعني جلالتك أمام مسائل معقدة يصعب فهمها . فأنت اليوم تدخلت كعادتك في ما نعتبره خرقاً لقوانين الطبيعة ، وجعلت من الخنازير طعاماً للأسود دون غيرها ، وجعلتها تقدم على ذلك طواعية فكيف لي أن استوعب ذلك ؟
- الأمر نفسه . لقد التقت الرغبات حول مسألة واحدة فتم الأمر.
- وكيف التقت الرغبات في هذه الكائنات ؟
- الرغبات نتاج طاقة ألوهية فينا التقت بطاقة الألوهة الكلية السارية في الكون فتم تحقيق الأمر !
- تفسير نظري جلالتك لا يمكنني أن أعتبره حقيقة مطلقة !
- ولا أنا كذلك . لكن لا بد لي من تفسير ظاهرة بناء على أسئلتك !
- لا أفهم كيف توافق الخنازيرعلى أن تكون طعاماً للأسود ؟
- الخنازير تفترس من قبل الحيوانات الأقوى منها ومن قبل البشر أيضاً ، فما الذي سيتغيرعليها حين تصبح طعاما للأسود وحدها . بالعكس ستتكاثر بنسبة أكثر من قبل .
- وكيف توافق الحيوانات على عدم افتراسها ؟
- لأن الأمرأكثر ما تتمناه الحيوانات الأخرى التي سلمت من افتراس الأسود لها !
- وهل سينطبق الأمرعلى البشر أيضا ؟
- لا .
- لماذا ؟
- لأن البشر يقومون بتربيتها فلم أحرمهم مما يربونه .
أطرق الإمبراطوركالعادة قبل أن يشكر الملك وينهي الحوار.
- أشكر جلالتك .
- العفو .
*****

(76)
اسطورة الأساطير في جمال سحب السماوات !
إذا كان الحمل والنمو والبلوغ وتركيب الجسم والجمال والمعرفة الشمولية، من الأساطير الخارقة التي عرف بها سحب السماوات، فإن جماله أصبح أسطورة الأساطيركلّها، بعد أن عمت بلدان الكوكب كلّها بل وتجاوزتها إلى كواكب أخرى ، فقد قيل إنّه حين يخرج في الليل ليقف على شرفة القصرالذي بنته له الملكة نورالسماء خلال لحظة بقدرات جنية، تنطفئ الأضواء خشية منه ليعم نور ينبعث من وجهه المكان كله مضفياً عليه لوناً ساحراً، لاهو بالأحمرولاهو بالبرتقالي، فهوما بينهما ! كما لم تعد الحكايات التي رويت عن حمله واكتمال نموه في رحم أمه في ليلة واحدة ، وبلوغه سن الرشد خلال ستة أيام كافية للتعبير عن المعجزة ، فقد قيل في بلاد تشبه الهند على الكرة الأرضية أن المعجزة براهمانية بالمطلق وقد تمت دون حمل وولادة أصلاً، وأن سحب السماوات ظهرواقفاً أمام الملكة والملك خلال لحظة ، وأن براهمان ومساعديه من الآلهة سيغيرون طريقتهم في إنشاء الخلق في الأيام والسنين القريبة القادمة، بأن يقولوا للأشياء كوني فتكون ، فاحتج المسلمون على الأمرانطلاقا من أن هذه القدرة لا يستطيعها إلا إلههم الذي خلق الخلق في ستة أيام واستوى على العرش في اليوم السابع ، ولا شك أنه نفخ من روحه في فرج الملكة فجاء هذا المولود المعجزة على الفور وهو نبي كغيره من الأنبياء السالفين.
وفي بلدان شبيهة بالبلدان المسيحية ،قيل إنّ سحب السماوات جاء من الروح القدس نفسه دون نفخ ومواقعة، وأنه تجاوزما فعله في الماضي السحيق مع المسيح، بأن جعل أمّه تحمل فيه تسعة أشهرليكتمل نموه وبلوغه في ثمانية عشرعاماً ، ولا يعلن ألوهيته إلا في الثلاثين من عمره ، فالمسألة هنا تختلف كلية، فسحب السماوات ، جاء إلها خلال لحظة وسيظل إلهاً ، فهو يحمل جوهرالألوهة الواحد المطلق كأب وإبن وروح قدس ! وحين تساءل بعض الناس عن دورالملكة والملك في إنجاب الشاب ، أنكرآخرون أن يكون لهما أي دور مهما كان .
وفي بلاد يعتنق أهلها عقيدة شبيهة بالبوذية قيل حسب تعاليم بودا الدارمانية السالكة طرق الكارمانية المؤدية إلى المطلق النيرفاني الموصل إلى الحلول والإتحاد بالمطلق الأزلي القائم بالخلق، إن المطلق الأزلي هذا هو المسؤول أولا وأخيرا عن ظهور سحب السماوات ، الذي لا يعبّر ظهوره عن الحقيقة المطلقة للمطلق الأزلي ، فهو إنسان عادي غير مترفّع عن الشهوات والملذات ومتع الدنيا، وبالتالي سيصعب عليه دخول المرحلة النيرفانية للخلاص من الشقاء والخطايا والآلام والحلول في المطلق ، وسيعاني من الشقاء مدى حياته.
وفي بلاد تشبه الصين اختصرالأمرعلى أن سحب السماوات هو نتاج مادي طاقوي تاوي لتفاعل حركتي الين واليانغ ودورانهما حول مركزهما الوجودي حسب التعاليم اللاوتسية والشوانغتسية وبعض التعاليم الكونفوشيوسية ! وأنه إنسان قد يحمل بعض الصفات الخارقة الباراسيكولوجية كأن يسلط أنظاره على جبل فينهار !
وفي بلاد تشبه اليابان قيل أن المبدأ الكلي الكامي في العقيدة الشنتوية هو دون شك المسؤول أولاً وأخيراًعن ولادة ونمو سحب السماوات ، وأن ثمة تخوفاً من أن يتحوّل اليابانيون عن تقديس الإمبراطورابن الآلهة إلى تقديس سحب السماوات لما يتمتع به من جمال خارق وقدرات خارقة ، وأن ثمّة تخوفا آخر من أن تنتحر فتيات كثيرات كما انتحرغيرهن على مذبح حبه .
وفي بلاد يشبه معتقدها المعتقد اليهووي اليهودي قيل أن سحب السماوات هو يهوة نفسه وقد تجسّد وتجلّى في شخصيته وأن كل من لا يختتن ويتبعه ويخلص له ويقدم له القرابين من الجداء والخراف والعجول الحليبية الصغيرة المشوية على المحرقة اليهووية سيميته ميتة فظيعة بأن يجعل أسراباً من الجراد تهاجمه وتنهش لحمه.
العلمانيون في البلدان المختلفة شككوا في وجود سحب السماوات واعتبروا أن لا وجود له على الإطلاق ، وأنه ليس إلا أسطورة جديدة تضاف إلى الأساطيرالسالفة ، وأيدهم الملحدون في ذلك غيرأنهم أضافوا قائلين " إذا كان ثمة وجود حقيقي لسحب السماوات ، فهو طفرة نوعية في عمل الطبيعة النشوئي الإرتقائي ! "
اللادينيون واللاأدريون وكثيرون غيرهم قالوا إن، الحقيقة المطلقة لجوهر سحب السماوات لم ولن يدركها العقل البشري على الإطلاق ما لم تتجاوز العلوم الفيزيائية الحاجزالمغلق الذي اصطدمت به حول كيفية نشأة الخلق ، وما لم تتجاوز العلوم الكيمائية حاجزالنِّسب في نوع الخلطة المادية العجيبة التي خلق منها الإنسان لتصل إلى نوع ونِسب الخلطة التي نتج عنها سحب السماوات ، فلا يعرف مثلا إذا كانت بعض المعادن الموجودة في البطيخ قد ساهمت بقدرما في تشكيل الخلطة الحيوية التي نشأ منها ، وهل ساهمت بشكلها البطيخي المتحول من المعادن أم أنها تحللت لتعود إلى أصولها المعدنية وتشارك في خلطة المواد التي خلق منها سحب السماوات !
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد على إختلاف وجهات نظرالأمم في ولادة وظهورسحب السماوات ، فقد اختلفت الطوائف شبه المسيحية حول طبيعة الشاب فهل هو الله نفسه أم أنه ابنه وهل يمثلّه ويتحد معه أم لا ، وهل هو واحد أم اثنان ، أم اثنان في واحد ، أم ثلاثة في واحد ، ثم ما هو الروح القدس هذا ؟ هل هو ملاك أم أنه إله في الألوهة الواحدة التي لا تتجزأ حسب رأي الموحدين غير المهرطقين، الذين يتبعون الدين القويم ؟ ثم ما علاقة الملك لقمان والملكة نورالسماء بولادته فهل هما قديسان أم ملكان ، ثم كيف يحمل سحب السموات خصائص الجن والإنس بأن يكون نصف تركيب جسده جنياً كون أمه جنيّة ، ويكون نصفه الآخر إنسياً كون أبوه إنسياً ، فهل هذا معقول ؟! هذه الخلافات أدت إلى أن يقتتل قويمون مع مهرطقين في العديد من البلدان شبه المسيحية ويقتل القويمون المهرطقين ، مما ينذر بانشقاقات وبحروب طائفية وقتل على الهوية ، لم يجر مثلها إلا على كوكب الأرض في العصورالسالفة الغابرة المغبرّة .
هذا فيما يتعلق بأثر ولادة سحب السماوات في المعتقدات البشرية أما فيما يتعلق بالجمال الربّاني والقدرات الخارقة ، فقد حدث ما لم يتصوره عقل على الإطلاق في تأثير الجمال على عقول النساء تحديداً ، فمنهن من انتحرن على مذبح حبه بوسائل مختلفة حتى دون أن يرينه، ومنهن من تولًهن به وأنذرن أنفسهن لحبه وحده دون غيره، فإما أن يحبّهن هو دون غيره وإلا فليذهب الحب والمحبًون والعشاق والمعشوقات إلى الجحيم ، وإما أن ينكحهن هو دون غيره وإلا فليذهب النكاح والناكحون والمنكوحات إلى جهنم الجهنمات ، ولذلك دخلت الكثير من الفتيات سلك الرهبنة والتحقن بالمعابد والأديرة والكنائس أو اعتكفن في الصوامع والتكايا والكهوف الجبلية والغابات، أوهمن على رؤوسهن في الفيافي والقفار . أما أولئك اللواتي كن يطمحن في تقديم أنفسهن قرابين، على مذبح حب سحب السماوات، فقد كن يحضرن معهن سكاكين وما أن يطل سحب السماوات عليهن من شرفة القصرمرسلا نوره السماوي عليهن حتى يشرعن في طعن أجسادهن طعنات خفيفة وهن يستشعرن نشوة عارمة لم تستشعرها امرأة قط . غير أن سحب السماوات كان يتأثر بمشهد الطعن ، فيمد يده اليمنى ويشرع في المرور بها على صفوف الفتيات ، فما يمرعلى صف إلا ويتوقف عن الطعن وتلتئم جراح فتياته ، لينصرفن بعد ذلك راضيات سعيدات فرحات منتشيات بنشوة فريدة خارقة تكفيهن العمركله وتغنيهن عن أي نشوة مهما كانت .
تخوف الملكة نور السماء على نفسها وعلى سحب السماوات جعلها تشك في أن ما تنبأ به الملك لقمان في رحلته السابقة قد يتحقق على ضوء ما تحقق من معجزات ، فمثلت أمامه لتعلن له قائلة " حبيبي ها هو بعض ما تنبأت به من ولادة سحب السماوات قد تحقق، وأنا متخوفة من تحقق نبوءاتك بأن تقتل، وأن تنشأ حروب طاحنة بيني وبين الملك شمنهور، لن يقدرعلى إطفاء لهيب نيرانها أحد، وأن وعد الملك شمنهور لك بالإخلاص لي لن يتم ، خاصة إذا ما عرف الملك أن سحب السماوات قد واقع محظيته ربة الجمال "
طمأنها الملك إلى أن ذلك لن يحدث، وأن مواقعة سحب السماوات لربة الجمال لن تؤدّي إلى إغضاب الملك شمنهور ، حتى لوعرف، لوجود محظيات كثيرات لديه . ثم إن سحب السموات يبدو سعيداً بعشق ملكة الجمال التي أحضرتها له ويكتفي بمواقعتها وربما مواقعة وصيفتيها أيضا !
لم تفارق الشكوك مخيلة الملكة رغم طمأنة الملك لها وظلت تراقب كل ما يجري بحذرشديد وأحاطت الملك بقوى جنية خفية تحرسه أينما ذهب وحل رغم وجود قوى كثيرة تحرس حياته، وما حملته الأيام القادمة جعلت شكوكها وتخوفاتها تزداد ، فالوقائع الخارقة لكل ما هومألوف التي يقوم بها سحب السماوات دفعت بعض بنات ملوك الجن والإنس إلى طلب يد سحب السماوات ليحظين بجماله ، وهذا ما جرالملك لقمان إلى حروب طاحنة خاصة مع ملوك الجن لم يكن يطمح فيها على الإطلاق .
****
(77)
" حوار الحضارات " وأميرة تقع في حب سحب السماوات !
لأول مرة في تاريخ صراع الديانات يتفق المؤتمرون من أصحاب الديانات السماوية في مؤتمرأطلق عليه " حوار الحضارات "-على اعتبارأن منشأ الحضارات ديني حسب رأيهم - على أن سحب السماوات قد حُمِل به في يوم ووُلِد وبلغ سن الرشد في ستة أيام ، انسجاماً مع خلق الخلق من قبل الله في ستة أيام واستوائه على عرش الكون في اليوم السابع . ففي هذا المؤتمرالذي عُقد على كوكب خارج المجموعة الشمسية التي يتبع لها كوكب الأرض، اتّفق ما يُعتقد أن دياناتهم تشبه الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية على هذا الأمرلا غير، واعتبر ذلك فتحاً عظيماً في "حوارالحضارات" وخاصة حين تنبأ بعضهم بأن عملية خلق الإنسان القادم ستتم حملاً وبلوغ سن الرشد خلال سبعة أيام فقط ، وبذلك ستتخلص النساء من عناء الحمل لتسعة أشهر، ويتخلص الأبوان من عناء التربية لثمانية عشرعاماً، غيرأن هذه المسألة لم تدرج ضمن البيان الختامي لكثرة المختلفين عليها حسب آراء مختلفة، منها من رأى أن هذه المعجزة لم ولن تتم للبشرية القادمة كافة على اعتبارأن سحب السموات مولود من أب قد يكون في نظر الله قديساً أو ملاكاً أو نبياً أوعالماً أو تقيّاً عظيماً على الأقل، وأن أي مولود قادم لن يتم له ما تم لسحب السماوات ، على ضوء ما قيل إن أباه المدعوالملك لقمان ملك تقي عالم مؤمن موحد مبشر، وأن امرأته الملكة نورالسماء ، امرأة جنية مؤمنة موحدة ، وإن أي مولود قادم لن يتم بهذا الإعجاز في الخلق ما لم تتوفرله هذه الشروط ، وإلا فإن هذا الإعجاز قد ينطبق على الحيوانات أيضاً ، فتخيلوا أن ينال قرد مثلا هذه المرتبة القدسية العظيمة من نعم الخالق ، فتحمل القردة وتلد ويكتمل نموابنها في سبعة أيام لا غير . ثم ماذا عن المعرفة الشمولية المكتسبة ،هل يمنحها الله لإنسان لم يصلّ لله ولو مرة واحدة ولم يدخل كنيسة أو معبداً أو جامعاً في حياته . إن هذا الإعجاز لن يتم إلا لمن يستحقونه في نظرالله . ورغم أن كثيرين وافقوا على هذا الطرح إلا أن آخرين لم يوافقوا ، ولذلك لم يدرج هذا الرأي في البيان الختامي للمؤتمرالحواري ، الذي اقتصرعلى الأيام السبعة لحمل وولادة ونمو سحب السماوات . أما الخلافات الجوهرية الأخرى بين المذاهب الثلاثة فظلت قائمة . حتى أن كلمة " مذاهب " التي كانت قد كتبت في مسودة البيان من قبل عالم اسلامي حليق الذقن والشاربين لم يتفق عليها ، انطلاقا من أنها تشير إلى معتقد أو دين واحد في ثلاثة مذاهب ، مع أن الحقيقة ليست كذلك فهي أديان ثلاثة وليست مذاهب لدين واحد ، حتى وإن اتفقت على أن الخالق ( سبحانه) هو نفسه الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش في اليوم السابع . ولذلك تم شطب المفردة واستبدلت ب "الأديان الثلاثة " أما الخلافات المعقدة الأخرى على طبيعة سحب السماوات فقد ظلت قائمة ، فلم يعرف ما إذا كان إلهاً أوابن إله وأنه جامع لأقنوم في ذاته ، أوأنه كائن انساني يحمل صفات النبوّة ، وهو ابن لنورالسماء والملك لقمان . وغير ذلك كثير وخاصة ما يتعلق منه بجوهر وطبيعة الألوهة نفسها ، فهل هي مادة أم طاقة ، وهل ينبغي تطبيق شرائعها وعبادتها والصلاة لها خمس مرات في اليوم أوأكثرأوأقل ؟ ورغم أن جهنم والحساب والعقاب من المسائل القابلة للبحث إلا أنها لم تبحث في المؤتمرانطلاقا من أنها مسلمات بديهية . وحين طرح أحد العلماء إضافة وجود جنة عند الله فيها حورعين إلى بنود الحوار تم استبعاده من المؤتمر واتهامه بالزندقه ، وكادت هذه التهمة أن تلحق بالعالم حليق الذقن والشاربين حين اقترح على المتحاورين إضافة بند يتعلق بالإعتراف بالعقائد الأخرى المختلفة في الكوكب ، وحق الآخرين في أن يتبعوا ديناً ما أو يكونوا ملحدين مثلا ، غير أن المؤتمرين اكتفوا بإبعاده عن لجنة كتابة مسودة البيان التي اكتفت بالإتفاق على أن سحب السماوات حُمل به ووُلد ونَما وكبُر في سبعة أيام !!
الخلافات الأخرى حول سحب السماوات ظلت قائمة أيضاً ، حتى بين الطوائف في الديانات نفسها ، وبين الطوائف والعلمانيين والملحدين واللادينيين واللاأدريين ، بينما سحب السماوات ينعم في جناحه في القصر الضخم - الذي انضمت الأسرة إليه - بجمال ملكة جمال الكون التي قيل أن نصفها جنّي ونصفها الآخر إنسي أيضاً ، كما هي الحال مع سحب السماوات نفسه ، وأنها أجمل سيدة في الكون كله ، وأنها قادرة على أن تنير بنورها أي كوكب تطلّ عليه من علياء ! أجل كان سحب السماوات يتمتع بكل هذا الجمال لتتمتع الملكة بدورها بجماله دون أن يعتبر نفسه إلهاً أو ابن إله رغم كل قدراته الخارقة .. فقد كان يرى نفسه إنساناً تجلت في خلقه قدرة الخالق على الخلق ، وأن هذا التجلي لم يحدث لو لم يكن ابناً لإنسان يحب الخالق والخلق بقلب كبير، ويبحث عن الخالق بنوايا صادقة وعقل سليم ، لمعرفة جوهره وغايته من الوجود .
****
أميرة ذات جمال أخاذ إبنة لملك يحكم دولة على كوكب غير بعيد أبت الزواج طوال حياتها إلا من شاب فائق الجمال لا يوجد مثله في الكون ، سمعت بجمال سحب السماوات فأقسمت بمعبودها ألا تتزوج غيره ، وأطلعت أباها الملك على رغبتها ، فأقسم بدوره أن يحضره لها حتى لو كان خلف سبعة بحارفي سابع سماء . فجهز مركبة فضائية أقلّته إلى كوكب الإمبراطورية الشنوتية ، ليستقبله الإمبراطورالشنوتي بغاية الترحاب ، وحين عرف مقصده ،أخبره أن سحب السماوات هو ابن لملك كبير وضيف عزيزعلى إمبراطوريته وليس في مقدوره أن يبت في الأمر كونه ليس من شأنه . وبناء عليه تم الإتصال بالملك لقمان فحضر . شكرالملك لقمان الملك طالب المصاهرة وأعلن له أن سحب السماوات هو الوحيد القادرعلى تلبية طلبه أو عدمه . أخبر سحب السماوات فحضر . شكر الملك كما شكره أبوه وأعلن أنه لن يتزوج من فتاة مهما كان جمالها ومهما كانت مكانتها وأنه ضد المؤسسة الزوجية من حيث المبدأ ، وأنه نذرنفسه لكل جميلة شريطة أن يعجبه جمالها وأن تقبل مطارحته الغرام ، وبناء عليه يمكن للأميرة أن تحضر وسيتيح لها مقابلته فإن أعجبه جمالها سيمارس معها الحب ، وإن أعجبته ممارسة الحب معها قد يضمها إلى محبوباته إن وافقت ، ويبقيها في قصره وبين محظياته ومحبوباته .
صُعق الملك حين سمع رأي سحب السماوات ، حتى أن الملك لقمان والإمبراطور فوجئا بدورهما بما سمعاه . حاول الملك أن يخرج من حالة الإنصعاق ومن انبهاره بجمال سحب السموات ونظر إلى الملك لقمان ليبدي رأيه في ما سمعوه من الأمير سحب السماوات . قال الملك لقمان إنه يحترم رأي ابنه ولن يتدخل في شؤونه . أغضب الأمر الملك أب الأميرة فهدد بعواقب الأمور إن لم يوافق الأميرعلى الزواج من ابنته دون غيرها ، وأن لا يواقع امرأة دونها مدى حياته . أخبره الأمير سحب السماوات أن يحترم إرادته وأن لا يهدد أفضل له . وهنا تبجح الملك بقوة مملكته وأعلن أنه قادرعلى إرغام سحب السموات بالقبول بشروطه ، فسأله سحب السموات عن قوته ، فلم تمر سوى لحظة حتى حلقت المركبة التي جاء بها في الفضاء أمام أنظارهم . قال له سحب السماوات إن أردت العودة إلى مملكتك فاصعد إلى مركبتك وعد سالما أفضل لك ، فلم يقبل الملك وطلب إلى سحب أن يريه مدى قوته .
نصحه سحب غير أنه لم ينتصح . سلط سحب السماوات نظره للحظة على المركبة وإذا بها تتفجر وتحترق في الفضاء . أسقط في يد الملك ولم يعرف ماذا يفعل أمام هذه القوة الخارقة ، فيما غادر سحب السماوات المكان عائدا إلى قصره .
قام الملك لقمان بإحضار مركبة جنية أعادت الملك إلى مملكته بعد أن اعتذر له عن عدم تلبية طلبه .
حين أخبرالملك ابنته الأميرة بما جرى وقعت طريحة الفراش ولم يعد لها أي شهية لتناول الطعام والشراب . ولم يعد في مخيّلتها غير حب سحب السماوات .
الملكة نورالسماء عرفت بقدرتها التذاهنية كل ما جرى في جلسة الأمير مع الملوك فذهبت إليه وسألته :
- ما هذا يا حبيبي ؟
- ماذا يا أمي ؟
- هل ستواقع كل جميلة تعجبك ؟
- إذا وافقت هي يا أمي وليس بالضرورة أن أرغب في مواقعة كل فتاة تعجبني فقد لا يتجاوزالأمر بضع فتيات ؟
- وهل تظن أن ثمة بين النساء والفتيات من لا ترغب في التمتع بجمالك !؟
- إذن فأنا حلال عليهن وهن حلال علي ! لن أحرمهن مما منحه الخالق لي ولن أحرم نفسي مما منحه الخالق لهن .
- ألم تكتف بملكة جمال الكون التي أحضرتها لك ؟
- بحدود، وحتى الآن فقط !
- وهل عرفت رأيك في المسألة ؟
- أجل ! ووافقت على الأمر لأنها تدرك مدى طاقتي !
- هل واقعت وصيفتيها ؟
- أجل يا أمي !
وملست الملكة على شعر سحب السماوات وقبلته ، ولم تجد إلا أن تقول له " ليحفظك الخالق يا حبيبي "!
*****
(78)
حب عابر للكواكب!!
طال مرض الأميرة ( فتنة النهار ) دون أن تأكل وتشرب إلا القليل من الطعام والشراب ، فنحل جسمها ،وذبلت شفتاها ، وضمرت وجنتاها ، ودمعت عيناها ، وغابت ابتسامتها ، وعمت الكآبة وجهها ، وغاب معظم جمالها ، فبكاها أبوها الملك ، وأمها الملكة ، والخدم والحراس ، والوزراء والأعيان ، والفتيات والفتيان، والرجال والنساء ، ليعم الحزن المملكة كلها لما كانت تحتله من مكانة مرموقة في نفوس الناس، فأقيمت من أجلها الصلوات ، وضجت المعابد بالتضرعات دون أي أمل يرتجى ، فاستشارالملك مستشاريه ، ونوابه وأعيانه ، فأشارمعظمهم بشن حرب على الإمبراطورية الشنوتية . وحين أشارالملك إلى مدى قوة الإمبراطورية بوجود الملك لقمان وأسرته وحاشيته فيها ، وأنه لا يمكن لأية قوة أن تهزمها ، أشاروا عليه بإطلاق بضعة صواريخ عابرة للكواكب على سبيل الإختبار لمعرفة مدى قدرة الإمبراطورية على مواجهتها ، فأذعن للأمروأمربإطلاق عشرة صواريخ غير نووية فأطلقت . دمرها الملك شمنهور حتى قبل أن تدخل فضاء الكوكب بأن واجهها بمذنب واحد راح يتصدى لها وكأنها عصافير محلقة في الفضاء وليست صواريخ ! ذهل القادة العسكريون وغيرالعسكريين لهذه القوى الخارقة التي يمتلكها هؤلاء القوم . وأحبط الملك ولم يعرف ماذا في مقدوره أن يفعل لإنقاذ حياة الأميرة . وذات يوم وفيما كانت خادمة تقدم له وللملكة مشروب الصباح ، رأت الحزن والكآبة يلفان وجهيهما ، فطلبت إلى الملك أن يسمح لها باقتراح ، فوافق . أشارت الخادمة عليه باستشارة حكيم فقيريقبع في كهف في الجبال . أرسل الملك طائرة مروحية تقل وفداً لإحضارالحكيم ، غيرأن الحكيم أبى أن يذهب لمقابلة الملك لأنه كان يعترض على حكمه ، وحين حاول أعضاء الوفد إحضاره رغماً عنه ، فوجئوا بقوى خفية تدفعهم عنه ، فتوقفوا وتوقفت القوى الخفية ، ليهتف الحكيم " حتى لو نجحتم في إرغامي على الذهاب معكم ، فلن تنجحوا لا أنتم ولا الملك في إرغامي على الكلام ، وإن كان الملك يسعى إلى النصح في أمر ما، عليه أن يسعى إلي لأنصحه بما يفعل ، فأنا لست في حاجة لأن أسعى إليه "
وهكذا عاد الوفد خائباً ، فاضطر الملك إلى الذهاب بنفسه إلى الحكيم ، ليجده قابعاً في كهفه وسط كم هائل من الكتب، مرتدياً ثياباً مرقّعة ويعيش على الكفاف . تعجب الملك أن يكون في مملكته أناس يعيشون في هذا المستوى من الحياة ، ورغم ذلك شعر بضآلته أمامه . سلم فرد الحكيم السلام مرفقاً بإشارة من يده دون أن ينهض ، غير أنه رفع جسده قليلاً عن الأرض وهو يميل إلى الأمام .
جلس الملك في مواجهته وأخبره بقصة الأميرة وما فعله لإيجاد حل لمرضها . تفوه الحكيم بكلمات مقتضبة دون أن يبدوأنّه فكرفيها . قال :
" من يطلب المحبة أيها الملك ينبغي عليه أن يسعى إليها بالمحبة وليس بالتهديد وإطلاق الصواريخ العابرة للكواكب. لترسل ابنتك إلى المحبوب رسالة تطلب فيها شفاعته ، وإذعانها لشروط حبّه . فالمحب لا بد له أن يكتوي بنارالمحبوب، ولا ما نع من أن تكتب أنت أولا لمن يعنيهم الأمروللمعني نفسه"!
وهكذا عاد الملك إلى قصره خاضعاً ذليلاً ، لم يجد مفراً من الإذعان لنصيحة الحكيم . أخبرابنته بحقيقة ما جرى . وافقت الأميرة على رأي الحكيم وطلبت إلى أبيها أن يكتب إلى سحب السماوات طالبا شفاعته بها ، ففعل ، وفعلت هي بدورها طالبة إلى سحب السماوات أن يجعل منها وقوداً لنارحبه قبل أن تقضي عليها !!
وما إن عرف سحب السموات بما جرى للأميرة فتنة النهاربعد أن تلقّى رسالة أبيها ورسالتها ، حتى رقّ قلبه لها وحزن للحال التي آلت إليها ، فقرر أن يذهب إليها في الحال ، فاستعان بقوى أمه وأبيه إضافة إلى قواه، لينتقل خلال طرفة عين إلى مخدعها . وجدها نائمة في سريرها . استفاقت الأميرة على يد ناعمة تملس بحنوعلى وجنتها ففتحت عينيها، وإذا بها أمام وجه أخاذ يرسل جماله نوراًّ مبهجا يغمر وجهها ويتغلغل في مسامات جسدها . ظلت محدقة في الوجه للحظات ظانة أنها في حلم، وما لبثت أن نمت شفتاها عن ابتسامة طفيفة وهي تهتف بصوت خافت " سُحب " ابتسم سحب بدوره وهو يهتف " فتنة " حاولت أن ترفع جسدها عن السرير فاحتواها بيديه وضم جسدها إليه . قبلها على جبينها وألقى رأسها على عنقه . وشرع يملس على شعرها . همست متسائلة عما إذا كانت في حلم أم في واقع . همس لها أنها في واقع . اختلجت عيناها بالدموع وهي ترفع رأسها لتتأمل الواقع السحري في جمال وجه سحب وتشرع في تقبيله ليشرع هو بدوره في تقبيلها . وما قبلته قبلة إلا ودبت الحياة بكل حيويتها في مائة مليون خلية من خلايا جسدها ، وما قبلها قبلة إلا ونشطت الحياة أيضا في مائة مليون خلية في جسدها . لم يعرفا كم قبل أحدهما الآخر وهما يغرقان في بحر من القبل ، ولم يعرفا أن الحياة عادت بكل نشاطها إلى ستين تريليون خلية في جسد الأميرة ، لكنهما عرفا أن العافية عادت إلى جسد الأميرة، وأن جمالها تألق كما لم يتألق من قبل .
أمضت الأميرة ليلتها بين أحضان الأميرولم ينهضا من السرير إلا في ظهيرة اليوم التالي . استحما معاً لتحمم الأميرة الأميرويحممها هو بدوره. وحين دخلا إلى صالة الطعام في القصرعمت الدهشة الملك والملكة والحضور والخدم والخادمات ، إذ بدت الأميرة في أبهى جمالها وصحتها وكأنها لم تكن مريضة على الإطلاق ، إلى جانب هذا الشاب الذي فاق جماله جمالها . هتف الملك الذي سبق له وأن رأى سحب السماوات " إنه الأمير سحب السماوات " فشهقت الملكة من أعماقها وهرعت تعانق الأميرة والأمير، وهرع الملك بدوره ليعانقهما ويرحب بالأمير .
وكان الأمير سحب السموات خلال ليلته مع الأميرة قد شعر بحب لم يشعربه من قبل مع الفاتنات اللواتي طارحهن الغرام ، فقرر أن يتخلى عن موقفه من الزواج وأن يتزوج من الأميرة فتنة . فانحنى أمام الملك والملكة ، وهو يهتف " اسمحا لي جلالتكما أن أتقدم بطلب يد الأميرة فتنة النهارلتكون زوجة لي مدى الحياة " لم يصدق الملك ما سمعه من الأمير فضمه إليه وشرع في معانقته كما ضمته الملكة وعانقته .
عم الفرح كافة الحضور وشرعوا في التهاني . وأذيعت الأنباء في المملكة بشفاء الأميرة وطلب يدها من قبل الأميرسحب السماوات ابن الملك لقمان . فعمت الأفراح أرجاء المملكة . وأقدم الملك على تكريم الحكيم بعد أن طلب إليه أن يقبل تكريمه ، فاشترط الحكيم أن تلبى طلباته ، فطلب إليه تكريم كافة الحكماء والفلاسفة والأدباء والعلماء والفنانين والكتاب ، وأن يمنحهم بيوتاً ويخصص راتباً شهرياً لكل منهم يكفيهم لعيش كريم ، وأن يقدم لهم ضماناً صحيّاً مدى حياتهم ، فوافق الملك على كل طلبات الحكيم .
بلغت الأنباء مسامع الملك لقمان والملكة نورالسماء فحضرا للإحتفال بخطوبة الأميروزواجه .
(79)
عجائب الزمان في عرس الأميرة والأمير .
من غرائب العجائب وربما المعجزات التي لا تصدق أن تنتقل أسطورة ولادة سحب السماوات ، إلى بلدان وكواكب مختلفة ، وبمرويات مختلفة ، ففي الوقت الذي شرع فيه بالإحتفال بزواجه من الأميرة " فتنة النهار" في مملكة النهار نفسها ، دون أن يفكرسحب السماوات إطلاقاً في أنه إله أوابن إله أوأنه ولي أو نبي أو قديس أو ملاك ، أو أنه جني بالمطلق أوإنسي بالمطلق ، كانت تحتدم في العديد من الدول والبلدان والكواكب والطوائف المختلفة صراعات دامية مختلفة على شخصيته ، فقد اقتتلت طائفتان يعتقد أنهما مسلمتان على كونه ولياً لله أم أنه نبي ورسول ، ليسقط جراء الإقتتال أكثرمن نصف مليون قتيل من الطرفين . هذا في الحرب المعلنة الدائرة ، أما في الصراعات العشائرية والحزبية والأسرية فحدث ولا حرج ، فقد قتل زوج زوجته لأنها لم تؤمن بأن سحب السماوات ولي لله على الكون كله وأنه قادرعلى تغييرنظام الكون ، وانشقت عشيرة عن قبيلة لأن القبيلة لم تعترف بأن "سحب" رسول محبة للعالمين . وانشقت جماعة عن حزب تنويري لقناعة أفرادها أن سُحباً ليس إلا المهدي المنتظر، وأنه سيعيد البشرية إلى الصواب . أما الأغرب من كل هذا أن يقدم متطرفون من أصحاب المفاهيم المختلفة على قتل مئات المثقفين العلمانيين من الذين لم يعترفوا بوجود سحب السماوات على الإطلاق !
أما في الطوائف المعتقد أنها مسيحية فكاد الدم أن يجري للركب في بعض البلدان بين من يعتقد أن سحب السموات، هوالمسيح نفسه وقد ظهر من جديد لينقذ البشرية من آلامها ومصائبها، وأنه إله وابن إله وروح قدس، وبين من لا يعتقد بذلك على الإطلاق حسب تفاسير ومفاهيم مختلفة . فأقدم الأولون على جزرالآخرين وتقطيع أوصال مئات الآلاف منهم !
كانت كل هذه الفظائع تجري في الكواكب الأخرى في الوقت الذي كان فيه يحتفل بزواج سحب السموات من الأميرة فتنة النهارعبراحتفال مهرجاني مبهر شارك فيه الملايين من الجن والإنس وأبناء المملكة النهارية والإمبراطورة الشنوتية . فقد انتظم موكب العروسين في ساحة قصرالملك ليتقدمها في الخروج إلى الشارع موكب الفرسان ممتطيي الخيول ثم موكب الموسيقين فموكب الراقصين فموكب الراقصات فموكب الاطفال حاملي الورود فموكب العروسين وقد وقفا على محفة تجرها أربع خيول ، وقد أحيط بهما أربع حوريات فاتنات ، تبعهما موكب ملك وملكة كوكب النهار، رافقهما الملك لقمان والملكة نورالسماء والإمبراطور والإمبراطورة الشنوتيان، ومن الجن الملك شمنهور وبعض ملوك الجن منهم الملك حامينار والملك ابليس الشيطان وربة الجمال وملكة الجمال ، كانوا يقفون بانتظام على محفة بالغة الطول أعد فيها مقاعد خاصة للوقوف . تبعهم موكب كبارالشخصيات وزوجاتهم . فموكب لكبارقادة الجيوش . فموكب لخدم وخادمات القصرالملكي ..
كان الموكب يسير ببطء وسط الآلاف من الناس الذين يشرعون بالتصفيق كلما أقبلت أو مرت محفّة العروسين ومحفات المواكب الأخرى من أمامهم .. في الوقت الذي كانت تحلّق فيه بانتظام فوق الموكب فرق من حوريات الجن وفرق من الخيول الطائرة وفرق من الظباء وفرق من الحمام وفرق من النسور العملاقة . وفرق من حوريات البحر اللواتي رؤوسهن رؤوس إنسيات وأجسامهن أجسام سمكية ! وبدا الناس في غاية الفرح والإنشراح وهم يشهدون من الجمال ما لم يشهدوه من قبل ، ويرقبون جمال الأمير والأميرة بذهول كلما مرموكبهما من أمامهم .
بدأ الموكب قبيل أصيل اليوم ليسير في شارع عريض طوله خمسة عشركيلومتراً ، ليعود إلى القصر في شارع موازوقد حل الظلام ، فأنيرت السماء بأسراب منتظمة من الشموع ، وأسراب منتظمة من الورود المشعة بأنوارمختلفة ، وأسراب منتظمة من نجوم فسفورية ، في حين كانت فرق الحوريات ترقص محلقة في الفضاء وقد أشرعت ملابسها البيضاء الفضفاضة لنسمات خفيفة أحالت أذيالها إلى سحب طائرة . بدا الناس وهم في غاية البهجة يشعرون أنهم ليسوا في عالم من السّحر فحسب بل في السحر نفسه ، فشرعوا يرقصون في الشوارع والحدائق والمتنزهات وهم يرقبون سحر هذا العالم على ملايين الشاشات الكبيرة التي تبث من الأقمارالصناعية في مملكة النهار والإمبراطورية الشنوتية .
انتهى الحفل بالعودة إلى ساحة القصر ليجلس العروسان على منصة مائدية مع كبارالمدعوين ، فيما انتشرت في الساحة آلاف الموائد الزاخرة بأجود أنواع الأطعمة والخمور .
أدركت الأميرة أن ثمة محتفين كثيرين خارج الساحة يرقصون في الشوارع والحارات فأبدت أسفها للأميرلأن هؤلاء الناس لن يتذوقوا طعام وخمورالحفل . أطرق الأميرلبرهة وما لبث أن أمال رأسه نحو أمه ألتي كانت تجلس إلى جواره فذاهنها بأمرما ، وما لبثت أن أمالت رأسها إلى الملك لقمان لتذاهنه ، أطرق الملك للحظة وراح يجول بنظراته نحو وجوه الملوك من الجن ، ولم تمرسوى لحظات حتى كانت أسوارساحة القصر ترتفع بهدوء وتتلاشى وكأنها لم تكن لتبدو موائد الطعام والشراب وقد عمت الأماكن كلها بما فيها الأماكن غيرالمنظورة في كوكبي المملكة والإمبراطورية ، ولتحتفل ولأول مرة في تاريخ البشرية أمم مختلفة في كوكبين مختلفين على مائدة واحدة بمناسبة عرس واحد في أكبرمائدة عرفها الكوكبان . صرخ البشر جميعا متأوهين لشدة الدهشة التي ألمت بهم حين رأوا معجزة قد تكون معجزة المعجزات تتحقق. تأوهت الأميرة بدورها وشرعت في التصفيق بهجة وفرحاً لما رأته وألقت رأسها على حضن الأمير، فيما كانت الكاميرات تنقل بهجتها لتعم الكوكبين ، فشرع البشر جميعا بالتصفيق .
شرع الناس في الرقص وتناول الطعام والشراب فيما كانت الكاميرات تتجول في كوكبي المملكة والإمبراطورية ناقلة ما يجري من فرح وبهجة في معظم أماكن الكوكبين .
صافح الأمير والأميرة كبارالمدعوين وانصرفا إلى مخدعهما بعد انتصاف الليل ، فيما دام الرقص والغناء مع الآخرين إلى أن "أشرق الصباح ، وأضاء بنوره ولاح ! وتوقف الراوي عن الكلام المباح ، بعد أن طال العناق ، والتفت الساق بالساق وغرق الشباب والفتيات في متعة المذاق ، وطعم الخمر المراق " فانصرف الجميع مبتهجين ، وهم في أحسن حال مرت عليهم مدى الحياة . فيما راح الأمير والأميرة يتمتعان أحدهما بجمال الآخر في ليلة كانت أجمل ليالي العمر .
(80)
حرب طاحنة وسحب سماوية !
عاد سحب السماوات وعروسه " فتنة النهار"بعد بضعة أيام إلى الأمبراطورية الشنوتية في زفة فضائية مهيبة تقدمتها أفواج من الملائكة المجنحين والجن الطائرين دون أجنحة ممتطيي الخيول البيض ، ثم مئات الحوريات الفاتنات فمئات من الحوريات الظبيانيات اللواتي رؤوسهن رؤوس ظباء وأجسادهن أجساد حوريات كن يمتطين وعولا متعددة الألوان ، فيما امتطت الحوريات الفاتنات بسطاً طائرة كن يرقصن عليها رقصات لا يتأتى مثلها إلا في ملكوت السماء . وجلس سحب وفتنة على محفة طائرة مكشوفة وقد أحيط بهما أربع حوريات سماويات ، تبع محفتهما اثنتا عشرة حورية رؤوسهن رؤوس خيول وأجسامهن أجسام حوريات كن يحلقن بانتظام بأجنحة فضية ويرسمن في الفضاء حركات جمالية منوعة ، تبعهن فرقة من الدلفينات الحوريات أيضا رؤوسهن رؤوس دلفينات وأجسادهن أجساد حوريات فاتنات، كن يحلقن واقفات أحياناً وعلى بطونهن أوعلى ظهورهن أحياناً أخرى، وكن عاريات تماما لا تخفي أجسادهن شيئا من جمال النهود والأفخاذ والسيقان ، تبعهن فرقة من الحوريات النوقيات اللواتي لم يكن لهن رؤوس وأجساد إنسيات أوحوريات ، بل كن نوقا خارقات الجمال ينطقن بأجمل الكلام ويشدون بأجمل الأغنيات في زفة العروسين .
وقد حلق فوق الموكب وأسفله أسراب من الورود المختلفة من الفل والنرجس والنسرين والجوري وشقائق النعمان وياسمين الشام ، وعلا الجميع ألف فارس من فرسان الجن المغاوير لحراسة الموكب، كل جني منهم يستطيع أن يطلق ألف نيزك كل نيزك منها يمكنه أن يدمّر كوكباً بحجم الكرة الأرضية ! كانوا ينتظمون كل مائة فارس بلباس مختلف وألوان خيول مختلفة .
كان الموكب يحلق على ارتفاعات منخفضة بحيث تسنى لجميع سكان الكواكب الإنسية والجنية مشاهدته بوضوح وهو يمر في فضائها ، وحين دخل فضاء الكوكب الشنوتي راح ينخفض أكثر ليدخل فضاء الإمبراطورية الشنوتية على ارتفاعات منخفضة جدا ، إلى حد أنه كان يضطر إلى الإرتفاع حين يواجهه جبل عال أو سلسلة هضاب مرتفعة .
خرج جميع أبناء الإمبراطورية من بيوتهم أومن مواقع عملهم وراحوا يرقبون الموكب الأخاذ المحلّق في فضاء كوكبهم . وحين شرعت محفة الأميروالأميرة في الهبوط على أرض حديقة القصرالأميري راحت الأفواج المرافقة تحلق بانتظام فوق القصر وفي فضاء العاصمة .
استقبل الأميران بحفاوة بالغة من قبل الملك لقمان والملكة نورالسماء والإمبراطوروالإمبراطورة والملك شمنهور وملكة الجمال وربة الجمال وعشرات المستقبلين من الجن والإنس، وبدا أن الحياة ستسير بانتظام وفرح وسعادة دون أي شيئ يمكنه أن يعكرصفوها ، لو لم يكن جمال سحب السماوات ما يزال يشكل طموحاً يمكن تحقيقه للأميرات الفاتنات من بنات ملوك الجن والإنس ، رغم زواجه من الأميرة فتنة النهار.
*****
لم تمر سوى بضعة أيام حين التقى الأمير بمحظيته ملكة الجمال ووصيفتيها وأعلن لهن أنه لن يتزوج على الأميرة فتنة النهار، وأنه لن يقيم أية علاقات غرامية خارج الحياة الزوجية ما لم يكن هناك ضرورة لذلك ، وأنه في مقدورهن أن يعتبرن أنفسهن حرات من الإرتباط به وأن يعشن حياتهن كما يشأن سواء ببقائهن في القصرأو في مغادرته. فاخترن أن يبقين في القصر ومن ضمن أسرة الأمير، فرحب بهن هو والأميرة .
****
ما لم يكن في الحُسبان أن أميرة جنيّة مغرمة بمواقعة الجميلين من أبناء الجن والإنس وهي ابنة ملك جني يحكم كوكباً جميع سكانه من الجن . سمعت كغيرها بجمال سحب السماوات فأعلنت لأبيها رغبتها في تملك هذا الأميروضمه إلى قائمة معشوقيها . ونظراً لأن أباها كان يحبها كثيراً أعلن أنه سينفذ رغبتها، فلم تطلب منه طلباً إلا ولباه لها ، بحيث بلغ عدد الجميلين من أبناء الجن والإنس الذين أحضرهم لها كرهاً أوطواعية تسعا وتسعين أميراً وجميلاً .. وحين عرف أبوها الملك أن الأمير متزوج وأنه لا يمكن الحصول عليه بوسائل سلميّة ، جند جيشاً من مليون جني جبار ووجهه لمحاصرة كوكب الإمبراطورية الشنوتية بكل ممالكها ودولها ، وأعلن أنه سيدمرالكوكب ما لم يتم تسليمه الأميرسحب السماوات .
لم يكن الأمرسهلاً لا على سحب السماوات ولا على الملك شمنهور، والأسوأ أنه لم يكن سهلا على الملك لقمان نفسه ، وقد نذر نفسه لرسالة سلام حتى مع الجن ، وها هو يجد نفسه أمام كارثة حقيقية سيضطر لمواجهتها إلى خوض حرب لا هوادة فيها . أمر بإقامة سد من مليون جني للوقوف في وجه جيش الجن الغازي المحاصر للكوكب ، و أبرق إلى ملك الجن رسولا يدعوه إلى لقاء . فالتقيا في الفضاء بين الجيشين . الملك لقمان بصحبة الملك شمنهورالجبار. والملك الجني بصحبة قائد جيشه. حاول الملك لقمان بكل دماثته وسمو أخلاقه أن يثني الملك الجني عن مطلبه ، وأن يقدم له مائة من أبناء الجن الجميلين ليكونوا من معشوقي ابنته ، غير أن الملك أبى التراجع عن مطلبه . أنذره الملك لقمان أن جيشه قد يتحطم دون أن يحقق مأربه ، فلم يأبه بالإنذار.
ما إن عاد الملكان إلى الكوكب حتى بدأت الحرب . أطلق جيش الملك الغازي ملايين الشهب والمذنبات فتصدى لها جيش الملك لقمان بملايين أكثرقوة منها ودمرها ، فأطلق الآخرملايين النيازك ، فدمرت ، وأرسل أنهاراً من النيران الملتهبة فواجهتها أنهارمن الماء وأطفأتها ، فحمم من المقذوفات البركانية ووجهت بحمم أخرى ليلتهب الفضاء بالحمم المنصهرة في محيط الكوكب ، ليبدو للرائي وكأن القيامة قد قامت في آفاق الفضاء .. أدرك سحب السماوات أن هذه الحرب الفضائية قد لا تنتهي بين هذه القوى الجنية فقرراستخدام قواه الخارقة للمرة الأولى .
لم يصدق الملك الغازي نفسه حين دفعته خاطرة تذاهنية إلى إلقاء نظرة على كوكبه ، فرآه يتفجر وكأنه قنبلة ليتبدد في أشلاء متناثرة تحترق في الفضاء وقد قضي على كل حياة فيه ، بما فيها حياة ابنته ومعشوقيها . صرخ من أعماقه متفجعاً ،غير أنه لم يكمل صرخته حين رأى سيفاً هائلاً يحصد الأجساد من منتصفها يدنو من جسده وجسد كل من حوله من الجن ليقسمها إلى نصفين . لم تمرسوى لحظات حين حوّل السيف المهول أجساد مليون جني إلى أنصاف أجساد مبعثرة ومتهاوية في الفضاء .
لم يصدق الملك لقمان ما جرى غير أنه توقع أن يكون سحب السماوات هو من قام بهذا الفعل الفظيع . هاتفه تخاطراً :
- سحب هل أنت من فعل هذا الأمرالرهيب ؟
لم يفاجأ . حين تردد صوت سحب في مخيلته :
- أجل يا أبي !
- لماذا يا بني ؟
فوجئ الملك لقمان بكل معنى الكلمة هذه المرة، حين هاتفه سحب قائلا :
- أنا لست رسول سلام يا أبي ، أنا رسول قتل ودمارلقوى الشرأينما كانت في الكون !!
تأوه الملك لقمان من أعماقه لإحساسه أن كلّ ما فعله قد يذهب هباء ، بل وراح يتمنى أن يكون كل ما يحدث هو مجرد خيال لا غير، بما في ذلك وجوده هو !! ألقى رأسه على كتف الملكة التي كانت تقف إلى جانبه في الفضاء ، فضمته إليها وهي تدعوه إلى الهدوء وعدم التفكير في المعقول واللامعقول!!
****

(81)
هذيانات وكوابيس لقمانية !
صدمة كبيرة أوقعها سحب السماوات في نفس الملك لقمان بتدميرالكوكب الجني وإبادة سكانه . فإذا كان هذا العمل ليس إلا البداية فما الذي ستشهده الأيام والأعوام القادمة ، هل سيقوم سحب بتدمير كوكب الأرض أحب الكواكب إلى قلبه كونه ينتمي إليه ؟ حين التقاه بعد بضعة أيام من تدميركوكب الجن ، أخبره أن ما يظن أنه أقامه على الأرض من محبة وسلام مجرد وهم لا غير، وأن القتل والسحل والإغتصاب والإحتلال واضطهاد وقتل الشعوب وتجويعها ، أمورما تزال تجري بكل الوسائل الممكنة، وأعلن أنه سيعلق آلاف الزعماء على كوكب الأرض من أرجلهم ويجعلهم يحلّقون في سماء المدن والعواصم، وأنه سيقلب بعض المدن والعواصم رأساً على عقب ويجعل عاليها أسفلها ، وأن على أبيه أن يخرج من عالم الخيال والأوهام ويعود إلى الواقع . وحين عارضه الملك محتجاً على سوء ما تضمره نفسه من عدوانية فظيعة، هتف في وجهه بانفعال " أنت وهم يا أبي ووجودك وهم ومحض خيال ، وتحيا في واقع متوهم ينبغي عليك الخروج منه. العدالة الإنسانية لا يمكن أن تتحقق بسلام "! وقع الملك بعد هذا اللقاء في حالة من الإضطراب النفسي والإكتئاب وراح يهذي في نومه بمفردات الواقع والخيال والوهم ، حتى أن حالات الشك في وجوده عادت تدهمه بين فترة وأخرى . استيقظت الملكة على هذيانات واضطرابات مختلفة كانت تنتابه ذات ليلة في نومه، وشرعت في تجفيف عرقه المتصبب. استيقظ هلعا . راح يستعيد بعض وعيه وهو يتأمل وجه الملكة . سألها بريبة :
- أين أنا ؟
أدركت الملكة أنه لم يستعد كامل وعيه بعد :
مسحت بيدها على جبينه ووجنتيه وهي تردد:
- - اسم الله عليك يا حبيبي ، أنت بين أحضاني !
- ومن أنتِ ؟
- أنا حبيبتك الملكة نورالسماء!
- ومن أنا ؟
- أنت الملك لقمان يا حبيبي !
- وهل أنا موجود ؟
- أكيد يا حبيبي أنت موجود !!
- وهل وجودي مجرد وهم أم أنه حقيقة ؟
ضمته الملكة إليها وهي تميل بجسدها حانية عليه :
- حقيقة يا حبيبي حقيقة .
- وهل أنا نتاج خيال أم أنني واقع ؟
أدركت الملكة عمق السؤال ، مما يشير إلى أن الملك بدأ يستعيد كامل وعيه !
- أنت واقع يا حبيبي !
- واقع متخيل وليس واقعاً واقعياً أليس كذلك ؟
- حبيبي أنت موجود إن كنت واقعاً واقعياً أو واقعاً متخيلاً .
- اليس الواقع المتخيل وهماً ؟
- لا ياحبيبي ، إذا كان الواقع المتخيل وهماً ، فإن وجودنا وهمي كوننا نتاج خيال إلهي من ضمن التخيل الإلهي للوجود ! ولذلك لسنا وهماً !
- وهم رباني ؟!
- حبيبي ! دعك من الأسئلة الصعبة !
- طيب قولي لي بصدق ، هل أنا الملك لقمان أم محمود شاهين !!
- حبيبي أين سرح عقلك ؟ أنت الملك لقمان ولن تكون إلا الملك لقمان !
- إذن أنا الشخصية الإنفصامية لمحمود شاهين !
- لا يا حبيبي !
- إذن نتاج خياله !
- لا ! لأنك لست مجرد خيال أو وهم . أنت مكون من لحم ودم !
شرع الملك في الضحك على اللحم والدم وهو يحاول قدرالإمكان الخروج من حالة القلق والأسئلة الصعبة . فطلب إلى الملكة أن تأتيه بكأس خمر . نهضت الملكة وأتت بكأسين . استند الملك في السرير لتستند الملكة إلى جانبه .
هتف بعد أن شرب نخب الملكة وأطرق للحظات :
- هل تظنين أن ابننا عدواني ؟
- لا أظن يا حبيبي !
- بماذا تفسرين تدمير كوكب الجن وإبادة سكانه ؟
- رغبة في الإنتقام ممن عادونا !
- أليست الرغبة في الإنتقام عدوانية ؟
- السؤال الأهم هو من كان السبب في إيجاد الرغبة ؟
- أشعر أن ما جرى هوعدوانية أنتجت عدوانية أفظع منها لمواجهتها ، وليس مجرد رغبة في إحقاق حق أو انتقام ممكن ، كهزيمة الجيش مثلا ..
- انس الأمر يا حبيبي لترتاح !
- كيف أنسى يا حبيبتي وابني أوقعني في كوابيس وهو يرى أنني مجرد وهم يحيا في عالم وهمي ؟
- طرح الأسئلة غيرالمعقولة يقودنا إلى اللا معقول !
- طيب ! سأطرح سؤالا معقولا ! من أين جاءت هذه النزعة في الإنتقام الفظيع إلى نفسية ابننا وهو لم يعش في مجتمع يورثه أو يكسبه نزعات غيرإنسانية ؟
صمتت الملكة مطرقة للحظات وما لبثت أن هتفت بما صعق الملك !
- ربما اكتسبها منك يا حبيبي إذا اعتبرناها عدوانيّة !
عدل الملك جلسته وهو ينظرإلى وجه الملكة ليهتف بانفعال :
- مني أنا ؟
- أجل يا حبيبي . ربما اكتسب ابنك كل مورثاتك بما في ذلك رغباتك المكبوتة في الإنتقام ممن
أساءوا إليك أوقتلوا الشعوب بكل أسلحة الدمارالفظيعة ؟!
- يا إلهي يا إلهي !
- آسفة يا حبيبي إذا أزعجتك !
- أبدا يا حبيبتي ! إنك تقولين الحقيقة !!
*****
لم تمر سوى بضعة أيام حين رأى الملك لقمان كابوساً فظيعا لم يشهده امرؤعلى الإطلاق . رأى سحب السماوات يقيم القيامة على كوكب الأرض . يقلب مدينة تلابيب وبعض مدن العالم رأساً على عقب ! ويدمر مئات القصور بأن يجعل عاليها أسفلها أيضاً ، ويعلّق آلاف الزعماء والقادة من أرجلهم ويجعلهم يجوبون فضاء المدن والعواصم، ويدمرملايين السفن الحربية والغواصات وحاملات الطائرات والمطارات والقواعد العسكرية بكل أشكالها ، وينزع كافة أنواع السلاح من الكوكب ويدمّرها، موظفا ملايين جنود الجن لتنفيذ أوامره ، فيما ملايين البشريرقبون بدهشة بالغة كل ما يجري على الكوكب ، وصوت سحب السماوات يتردد من كافة أرجاء الكوكب ومن كافة فضاءاته معلناً بصرامة توحيد دول الكوكب والقضاء على الفقروالجوع وتحقيق فرص عمل للجميع وتحقيق قيم الحق والعدل والمحبة والجمال وبناء الحضارة الإنسانية ، وعدم التفريق بين الأمم والشعوب معلناً أن أمم كوكب الأرض أمة واحدة ، لا فرق بين أوروبي وآسيوي ، وبين أمريكي شمالي وأمريكي جنوبي .
انتفض الملك لقمان في سريره وهو يرى إلى مجموعة من الزعماء الشرق أوسطيين محمولين من أرجلهم بمخالب نسورعملاقة تجوب بهم فضاء المدن والعواصم ، وقد تدلت أيديهم أسفل أجسادهم دون أن يأتوا إلا القليل من الحركات العشوائية العابثة في الفضاء في محاولة منهم للإحساس بالرمق الأخير من الحياة وليس النجاة بالتأكيد . هب الملك جالساً في السرير لتستيقظ الملكة على انتفاضة جسده التي كانت مروعة بحيث كاد أن يقذف نفسه خارج السرير .
احتضنته الملكة وراحت تهدئ من روعه . أحضرت له كأس ماء ، ولأول مرة بدأ ينتابها إحساس بالندم على الإلحاح الذي مارسته على الملك لقمان لتنجب طفلا ، فكان سحب السماوات ، الذي وكما يبدو أنه أحال حياة أبيه إلى جحيم .
هتف والملكة تمسح وجهه مبسملة :
- سيقتلني سحب السماوات يا حبيبتي . يريد أن يحقق بالحرب والدمارما يظن أنني لم أستطع تحقيقه بالسلم !
ضمته الملكة إلى حضنها وشرعت لأول مرة في البكاء للحال الذي آل إليه الملك .
****
(82)
الملك لقمان طريح الفراش !
ظلت الكوابيس والأحلام تلاحق الملك لقمان لبضعة أسابيع إلى أن وقع طريح الفراش . في الأيام الأخيرة صاريهذي في اليقظة ببضع مفردات غيرمترابطة وغيرمفهومة ، غيرأن إرادة داخلية كانت تدفعه لأن يعي ما يحدث معه ويواجهه دون نصيحة أطباء نفسانيين ، وحتى دون استشارتهم ، فقررأن يعطي نفسه راحة لبضعة أيام يتخلى فيها عن طرح الاسئلة الوجودية والإجابة عنها . الملكة نورالسماء التي كانت في غاية الحزن لما ألم به لم تترك وسيلة إلا واتبعتها لإراحة نفسه ، فملأت غرفته والشرفة التي يجلس عليها في القصر، بأجمل الورود التي يعشقها كالبنفسج والجوري والنرجس والنسرين والفل والأقحوان وشقائق النعمان . وأحضرت له كل ما يحبه من أغان وموسيقى ، وخصصت ما لا يقل عن ساعتين كل ليلة للمسامرة خلال العشاء مع محبيه ومرافقيه ، والإستماع إلى موسيقى حية وأغان لمغنين ومغنيات ،ومشاهدة عروض رقص لفاتنات ، وسط أجواء من البهجة والفرح وتبادل الأنخاب وتناول أطيب المأكولات ، مانعة الجميع من طرح أية أسئلة عليه مهما كانت ، وخاصة من قبل سحب السماوات الذي بدا حزينا للغاية لمرض أبيه .
ذاع خبر مرض الملك لقمان في كافة أنحاء الإمبراطورية ودول الكوكب ، إضافة إلى كوكب النهار، فعم الحزن الكوكبين، وأقيمت الصلوات في المعابد والحدائق والساحات والبيوت داعية آلهتها أن تحف برعايتها الملك وتعيد إليه صحته .
نجح الملك بإرادته الذاتية وبمساعدة الملكة ومحبيه من الناس، في التوقف عن الهذيان في حالات اليقظة ، والتقليل من الكوابيس والأحلام خلال الليل ، بأن عمدت الملكة إلى إجراء مساج له قبل النوم مستحثة الطاقة الإيجابية في جسده ، وإسماعه موسيقى حالمة هادئة ، وقيامه بالإسترخاء التام وممارسة الشهيق والزفيرفي اللحظات الأخيرة قبل النوم.
استعاد الملك كامل عافيته خلال ثلاثة أسابيع ، وبدا مشرقاً ومنشرح الأساريروهو يتبادل القبل بالسلامة مع نسمة وربة الجمال وأستير. وسمح بزيارته لمن يشاء .
كان الإمبراطورالشنوتي والإمبراطورة من أول زواره . استقبلهما الملك بالاحضان وهو يهتف
" اشتقت لكما ، كيف أحوال الإمبراطورية والناس ؟"
" نحن الآن بخير جلالتك بعد أن عرفنا أنك تماثلت للشفاء ، كنا قلقين عليك ، ومتخوفين من أن لا تستجيب الآلهة لصلواتنا بإراحة نفسك"!! أجاب الإمبراطور .
ابتسم الملك لتعبيرالآلهة وعمد إلى عدم تجاهلها في شكره :
" أشكر جلالتكم . محبتكم ومحبة الناس والآلهة ساعدتني على تجاوزالأزمة ، وآمل أن نستعيد حواراتنا في وقت قريب"
" حتى لو لم نعدها ، أشعر أنني اقتبست من معرفتكم ما يكفي لحياة أجمل تعم البشر "
شعر الملك بثقة في نفسه تدفعه لأن يعيد طرح الأسئلة الوجودية دون ريبة من استعادة الكوابيس والأحلام . هتف متسائلا :
" هل تسمح لي جلالتكم بطرح سؤال عليكم على ضوء الحوارات التي جرت بيننا ، أو حتى بتجاهلها "
" تفضل جلالتك "
" هل فكرتم يوما ما في أن الوجود وهم "
تخوفت الملكة نورالسماء من أن تعود الحالة للملك ، فهتفت متوجسة وهي تضع يدها على كتفه " حبيبي "
هتف الملك " لا عليك يا حبيبتي لا تخافي " فيما أجاب الإمبراطور :
" أبدا ! لم يخطرهذا الأمر في بالنا لأننا أناس واقعيون ونرى أن وجودنا واقعي وأن الحياة واقعية ،والخلق واقعي، وينبغي أن نحيا الحياة دون أوهام ودون طرح اسئلة معقدة لا يمكن الإجابة عنها بمنطق إطلاقي قطعي "
ظل الملك مطرقا للحظات وكأنه يراود نفسه فيما إذا كان عليه التعمق في الحوارأوالتوقف عنه . ويبدوأن النازع الأول قد تفوق على الثاني .
" ثمة مفكرإسلامي ، اعتبر أن الوجود وهم، أوتخيّل افتراضي للخالق ، وأن لا وجود إلا للخالق نفسه ، فهو الوجود الوحيد الواقعي والحقيقي، وكل ما عداه وهم ، وحين يتوقف الخالق عن خياله الإفتراضي سينتفي الوجود كله .
فكرالإمبراطورلبرهة مستحثا عقله الواقعي، مدركا مدى تعقيد الطرح :
" أنت تدخلنا جلالتكم في مسألة معقدة للغاية ، أهمها هل الخالق موجود خارج الخلق ويتوهمه أم أنه موجود في الخلق نفسه ؟! "
" حسب اعتقادي أنه موجود في الخلق نفسه ، فلا يمكنني تصور وجود خالق خارج الخلق لأنه لن يكون هناك إلا العدم "
" السؤال هنا هل هو موجود في كل كائن في الخلق ، أم أن له وجودا مستقلا عن الكائنات"؟
" حسب اعتقادي أيضا أنه موجود في كل كائن كطاقة ومادة "
" الطاقة والمادة جلالتكم يمكن أن يكون لهما وجود مستقل في كينونة إلهية مستقلة عن كينونة الكائنات الأخرى . ولنفترض أن الشمس هي الخالق ألا يمكن أن تكون مستقلة بذاتها عن الكائنات الأخرى لو أرادت ؟! "
أدرك الملك أن الإمبراطور يقود الحوارإلى معتقده فهومن سلالة إلهية تنتمي إلى الشمس . هتف :
" وما حاجة الشمس إلى ذاتها وحدها إن انتفى وجود الخلق الذي تتخيله أو تتوهمه "
" مسألة الوهم ليست مطروحة عندي ، هذا طرح المفكرالإسلامي الذي حدثني جلالتكم عنه ، المسألة عندي مسألة خلق فعلي غير متوهم ولا يمكن الإستغناء عنه ، لأنه جزء من تكامل وجود كلي للخالق الشمس "
لم يصل الملك إلى نتيجة حاسمة كان يأمل أن يصل إليها . تساءل :
" في هذه الحال هل يمكننا أن نقول أن الشمس موجودة في كل كائن ومستقلة بذاتها ايضا " ؟!
" الافضل أن نقول أن كل كائن يستمد طاقته منها ، وأنها تستمد وجودها الكلي من ذاتها ومن خلقها في الوقت نفسه "
ذاهنت الملكة الملك طالبة إليه أن لا يرهق نفسه ، وأن لا يثقل على الإمبراطور، فأذعن لها .
****
(83)
غرام ممتع وجنون فلسفي !!
ظلت مسألة الوجود الوهم تراود مخيلة الملك لقمان بعد أن انتهت إلى طريق مغلق في الحوار مع الإمبراطور. تخوفت الملكة من أن تعود الحالة المرضية إلى الملك ، فأغرقت أيامه ولياليه بالحوريات الفاتنات من صغيرات بالغات وحتى غيربالغات ، كن يرقصن رقصات مثيرة تنضح بالإغراء وإبرازمفاتن الجسد، على أمل أن يسلينه عما يفكر فيه . أدرك الملك نوايا الملكة حين أغوته إحدى الحوريات الصغيرات خارقات الجمال وهو ثمل بعض الشيء ذات ليلة، وأشهرت في وجهه نهدين بديا كصقرين يهمان للإنقضاض عليه ، فلم يجد نفسه إلا وهو يقع فريسة لهما. وحين شرعت الحورية في تعريته وهي تمطر جسده بقبل ملتهبة وتلعقه بلسان يقطرشهدا ، شعرأنه يغرق في عالم غيرمتناه من المتعة أعاد الشباب إليه . واقع الحورية أوهي واقعته ليتواقعا كما لم يحدث في مواقعة من قبل ! وحين استيقظ في سريره قبيل ظهيرة اليوم كان ما يزال يستشعرلذة المتعة ، وكانت الملكة تستلقي يقظة إلى جانبه وتمد يدها فوق صدره المشعرالعاري وقد اتكأ نهدها الأيسرالعاري على مقربة من موقع قلبه .أمال رأسه قليلا إلى وجهها ليرى ما إذا كان مع الملكة أم مع الحورية . انفرجت شفتا الملكة عن ابتسامة طفيفة وهي ترفع يدها لتملس على خده ، ومن ثم تلثم خده الآخربقبلة خفيفة . همس دون أن ينسى أنه كان ضحية إغواء مثيرة للغاية أنسته الإخلاص لأية أنثى في العالم :
- حبيبتي ابعدي حورياتك عنّي !!
همست وهي تبتسم :
- ألم تتمتع يا حبيبي ؟
- بلى ! و لكن متعة كهذه قد تنسيني كل شيئ إلا هي !
- أنت في حاجة لأن تنسى وترتاح يا حبيبي لا أتصورأن أراك تهذي مرة أخرى .
- سأعمل على أن لا أهذي ، لكني لا أستطيع تجاهل ضرورة وجودي بأن يكون لوجودي ضرورة ! لا أستطيع أن أحيا على هامش الوجود ، طالما أشعرأن لوجودي غاية لا بد من القيام بها. !
- حبيبي أرجوك ! تخلّى عن الأسئلة الكبيرة ولو لبعض الوقت ، حتى تشعرأنك عدت إلى كامل صحتك !
- أشعر أنني في كامل صحتي يا حبيبتي ! لكن أرجوك أن تبعدي حورياتك عنّي أو لا تدعيهن يغرقنني بالأغواء والإثارة !
ابتسمت الملكة وهي تملس على شعر صدره مستمتعة بمرور يدها فوق حلمة ثندوته التي تعلو موقع قلبه ! لم تكن الحورية الملتهبة خارقة الجمال المتفننة في عالم الجنس والمتعة إلا هي وقد تقمصت شكل حورية صغيرة لتمتعه . لم ترغب في أن تقول له أنها هي ، فقد لا يعود يستشعرالمتعة التي شعر بها . كذلك لن تعود هي إلى استشعار متعة الحب خارج نطاق الحياة الزوجية !! بدت مترددة في الإجابة . شك الملك في الأمر لترددها ، لا سيما وأنّه سبق لها وأن فعلت ذلك في رحلته السماوية الأولى ، بأن تقمصت شخصية أسترحين شعرت أنه يشتهي مواقعتها ، فكشف أمرها ولم يواقعها ، بل ونهاها عن تكرارالأمر . لكن يبدوأنها حاكت التمثيلية بين مجموعة من الحوريات غيرالمتقمّصات حتى لا يكتشف الأمر . همس ليقطع الشك:
- حبيبتي ! هل كانت الحورية أنت ؟
أجابت دون تردد لتقطع الشك !
- لا لست أنا يا حبيبي !
اقتنع الملك بإجابتها لإحساسه أنها لا يمكن أن تكذب عليه أو تخفي الأمرعنه .
- طيب عديني بما طلبته !
- أعدك فقط بالتخفيف من الإغواء والإثارة يا حبيبي !
- حسناً! ومال على جنبه ليحتضنها ويقبّلها قبل أن ينهضا من السرير !
*****
استأنف الملك حواره مع ابنه سحب السماوات هذه المرة ، الذي حضر مع زوجته الأميرة الإنسية فتنة النهارالتي بدت في غاية الجمال والرّقة . بادرها الملك مازحاً :
- كيف تجدين الحياة يا عمّو مع أمير نصفه جني ونصفه الآخرإنسي ؟
أجابت الأميرة بمرح :
- ليس ثمة حياة أجمل من هذه يا عمّو!
وألقى نظرة نحو الأمير :
- وأنت يا سحب كيف ترى الحياة مع إنسية ؟
- جميلة يا أبي !
- قل لي يا بني ؟
- ماذا يا أبي ؟
- أما زلت ترى أن وجودك ضرورة لتحقيق قيم الخيروالحق والجمال بالقوة ؟!
نظر سحب إلى أمه التي زجرته قاصدة أن يتهرب من الإجابة . وكانت قد أوصته أن يتهرب قدرالإمكان من الإجابة عن تساؤلات أبيه حتى لا يعيده إلى الحالات التي انتابته .
- ليس هناك شيء يستحق الحياة يا أبي فوجودنا وهم والوجود كلّه وهم !
- لم يدرك الأميرأن إجابته ليست تهرباً، بل غوصاً في صلب الموضوع ، وأنه نكأ بها كل جراح أبيه الدفينة !
- هل توضّح لي ذلك يا سحب ؟
نظر سحب إلى أمه ثانية وقد بدت الحيرة على وجهه . تنبه الملك للأمر :
- لا تذعن لأمّك يا سحب ، فلن أجن ثانية ، فهيا يا بني ، وضح لي ؟
- أنا لست موجوداً يا أبي كما أنت ، ولم أدمركوكباً ولم أبد جيشاً !
- لا أفهم ذلك يا بني . كيف تكون غيرموجود ولم تدمر كوكباً ولم تبد جيشاً .
- المسألة معقدة بعض الشيء يا أبي .
- لا عليك من التعقيد فأنا قادرعلى فهمه إن وضّحته !
- نحن تصوّرلتخيّل غيرمجلوأوغيرمتجسد اُريد لنا أن نرى هذا التصوّرمجسداً كما أراده هو رغم أنه مجرد تخيّل !
- ومن هو القائم بالتخيل غيرالمجلو ؟
- القائم بما نسميه الخلق ، أوالخالق أو الله أو الطاقة إن شئت !
بدأ الحوارينحوإلى التعقيد أكثر ، وخاصة بوجود محاوركالملك لقمان .
- ولماذا لم يجسد الخالق تخيّله بنفسه وتركه للإنسان وربما للكائنات الحية الأخرى أن تراه مجسداً وهو ليس كذلك ؟
- لوفعلها الخالق يا أبي لتوقف عن التخيل ووصل إلى المطلق الممكن الذي ليس بعده مطلق آخر ، وهذا ما لا يريده الخالق!
رجت الملكة الإثنين أن يتوقفا عن هذا الحوارغيرالمعقول ، فرجاها الملك أن تكف عن تدخلاتها لأن الحوارمع الأميربدا له ممتعاً للغاية .
- كيف ولماذا سيتوقف ؟
- كمهندس يخطط لبناء عمارة فيشرع في تخيل شكلها ومن ثم تصوره بوضع مخطط لها ومن ثم الشروع في البناء ، فإذا ما بناها انتهى من التخيل والتفكيرفي المخطط ! أو كفنان يفكر في رسم لوحة ، فإذا ما رسمها انتهى من تخيلها. والإثنان في هذه الحال لم يبلغا بفعلهما ذروة الإبداع .
- لكن المهندس قد يفكرفي بناء عمارات أخرى والأمر نفسه ينطبق على الفنان .
- لأنهما يدركان أن فعلهما ليس ذروة الإبداع ، كما يدرك الخالق أن تصوره المتخيل ليس ذروة التصور. لذلك لا يفكر في الشروع في البناء إلا بعد بلوغ التصورذروته ، فعمارته واحدة متعددة الأشكال هي الوجود بأكمله ولا يمكن أن تتكرر، فإذا ما بناها قبل اكتمال التصورانتهى الأمر. وفي هذه الحال تكون بنيت على تصورغيرمكتمل الخلق والإبداع ، لذلك صمم مخلوقة لأن يراها مكتملة وهي ليست كذلك ، بل ليست موجودة إلا في التصورالمرحلي للخالق الذي دام لأربعة عشرمليارا من الأعوام دون أن يصل إلى تصورمكتمل بالمطلق أو شبه المطلق ، ولا يعرف إن كان سيصل ، لذلك صمم المخلوق الإنسان لأن يرى ما هوغيرموجود إلا في خياله كخالق على أنه موجود !!!
أدرك الملك لقمان مدى عمق تفكيرابنه القائم كما يبدوعلى فلسفة نظريات فيزيائية ، بل وأدرك الفرق الهائل بين فكرابنه وفكره ، فالملك لقمان يرى أن عملية الخلق تمر بمراحل تطورية لم تنته بعد، بينما يرى الأميرأن عملية الخلق الحقيقية لم تبدأ بعد ، وكل ما يجري هو مجرد تخيل وتصور لخلق مرحلي غير موجود في الواقع .
شعرأنه في حاجة إلى راحة لتناول الغداء مع الأمير والأميرة وليتابعا الحوارالذي لم يسبقه حوار مماثل منذ أن وجد العقل البشري !
*****

(84)
تحليل أميري للتمظهرالوهمي !
تخوف الملك لقمان من أن تضع فلسفة سحب السماوات فلسفته في مهب الريح ، جعله يمضي معظم وقت تناول طعام الغداء وهو يفكرفي إيجاد وشائج مشتركة بين الفلسفتين بحيث تكمل إحداهما الاخرى كما تكمل فلسفته فلسفات ومعتقدات البشرية دون أن تلغيها بالمطلق . وظلت الأفكار تلاحقه حتى في القيلولة التي طلب أن تتاح له بعد الغداء ، فقد حلم أنه يتحاور مع ابنه وأنه كان يسخرمن فلسفته ، فاستيقظ قلقا مضطربا . تنبهت الملكة للأمرورجته أن يؤجل الجلسة الثانية من الحوارمع ابنه لبضعة أيام ، فلم يذعن لها ، بل وهتف بإصرار " هذا ابننا من لحمنا ودمنا، ويبدوأنه اكتسب من مورثاتنا كل ما اكتسبناه وعرفناه في حياتنا ولا أستطيع أن أتمهل في معرفة العقل الذي يفكر به " وحتى لا يعرّض الجلسة إلى مداخلات من الملكة أوالأميرة طلب أن تقتصرالجلسة عليه وعلى سحب .
جلسا على انفراد في زاوية متطرفة في أحد صالونات القصرالذي بنته الملكة ليكون أحد أجنحته الضخمة مقرا للأميرسحب ، فيما تكون باقي الأجنحة لها وللملك ولباقي الحاشية الملكية .
ابتدر الملك الحديث بأن تساءل :
- قل لي يا سحب !
- ماذا يا أبي ؟
- لقد انتهينا حسب رأيك إلى الصورة المتخيلة غيرالمتجلية في العقل الكوني للخالق ، وأنه أراد للكائنات غير المتجلية فيها وبشكل خاص الإنسان ، أن ترى أنفسها متجلية وترى الوجود المتخيل فيها أيضا متجلياً ، رغم أن الأمر مجرد تصور متخيل في العقل الكوني ( الكلي ) للخالق . هل هذا صحيح ؟
- أجل يا أبي !
- السؤال ! لماذا أراد الخالق أن يجعل الإنسان المتخيل يتجلّى- وبمعنى أدق أن يرى نفسه متجليّا -والكائنات المتخيلة بدورها ، تتجلى ، قبل أن يكتمل تخيّل وتصورعملية الخلق برمتها ، كونها لم تكتمل بعد في المتخيّل الإلهي ، لماذا لم ينتظرالخالق إلى أن يكتمل تصوره لمتخيّله ، ليقوم بإظهاره إلى الوجود مكتملاً وحقيقياً وليس مجرد صورة وهمية يراها البشروالكائنات متجلّية ؟!
أدرك الأمير عمق السؤال الذي طرحه أبوه . أطرق للحظات في محاولة لترتيب أفكاره، وإيجاد المفردات المناسبة للتعبيرعنها .
- لأن الخالق يا أبي يحتاج في كل مرحلة من مراحل التخيّل المديدة إلى أن يرى ما تخيّله مجسداً لتكتمل الصورة المتخيّلة وتتوضح في عقله الكلي الكوني. هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، فإن الخالق لم يظهرهذا المتخيّل لرؤيته فحسب ، بل ليتيح له المشاركة في عملية الخلق كون المتخيل المخلوق جزء من ذات الخالق نفسه . فإذا كان المخلوق المتمظهرالإنسان مثلا ، فإنه يقوم بدوره بالتأثير والتأثر في عملية الخلق ، كونه جزءاً من الذات الخالقة نفسها، وينبغي عليه أن يقوم بدوره في الغاية التي تمظهر ووجد من أجلها ، وهي المساهمة في عملية الخلق !
شعر الملك أنه يستمع إلى فكره هو وليس إلى فكر ابنه . هتف :
- أنت هنا تعيدنا إلى فكري أنا يا بني !
- أجل يا أبي . الفرق بيننا هو أنك ترى التمظهرالمتجلّي حقيقة واقعية مكتملة نسبياً ، أي أنها لم تبلغ كمالا مطلقا أوشبه مطلق، بينما أراها أنا وهماً لحقيقة نسبية لم تكتمل بعد، وأنها ما تزال قيد التشكل قبل أن تكتمل لتتمظهر بشكل حقيقي واقعي يمكن اعتباره انتهاء الغاية أو الكمال الممكن .
- أين تضع تدميرك لكوكب وإبادة جيش من مليون كائن جني حسب هذا الفهم ؟
ضحك الأميرحتى كاد أن يقهقه رغم عمق السؤال وأبعاده المختلفة، مما جعل الملك يهتف مستنكراً :
- هل تضحك على أبيك يا ولد ؟
- حاشاك يا أبي . لكن سؤالك قادني إلى المتخيل البشري . فقبل أن نتحدث عما فعلته يمكن تناول الأمر من وجوه عدة . فمن هم هؤلاء الجن . ومن هوالخالق نفسه ؟ العقل البشري توقع وجود خالق لوجود خلق رآه متمظهراً في أشكال متعددة لا تحصى ، بغض النظرعن حقيقة التمظهرأوتوهمه ، فهل توقع هذا العقل لجن وشياطين وملائكة لم يرهم يوماً متمظهرين هو توقع صحيح؟ أم أنه مجرد وهم متخيل ساعد على إيجاده اختراع اللغة؟ ولوأننا أخذنا الأمرمن وجهة نظر فلسفتي التي ترى أن التمظهرالوجودي وهم ، أريد لنا أن نراه حقيقة مجسدة ، فماذا ستكون عليه الحال مع الجن غيرالموجودين أصلا في المتخيّل الإلهي المفترض، والذين لم يتمظهروا إلا في اللغة البشرية المجردة؟ إن مفردات خلق وخالق وإنس وجن ..ألخ ، أوجدها العقل البشري بعد اختراع اللغة من زمن قريب جدا مقارنة بعمرالوجود ، وقبل ذلك ، لم تكن البشرية تعرف إن كان هناك خالق وإنس وجن وملائكة . ولم يكن البشر يعرفون طبيعتهم حتى عبّروا عنها بمفردات لغوية تجريدية . وهنا يأتي دورالتأثيروالتأثرالذي تحدثنا عنه . وبناء على هذا الفهم فنحن نتعامل مع موروث متخيل هوهنا نتاج عقل بشري بدائي ليس لمتخيله وجود . وإذا ما أخذناه من ناحية التأثير في عملية الخلق فهو تأثيرسلبي بالمطلق، يشكل عبئا على عملية الخلق وفهمها، ككل المفاهيم البدائية التي أخفق مجتهدوها في تقديم فهم منطقي إنساني للخلق والخالق ولعملية الخلق بحد ذاتها .
وإذا أردنا أن نتناول تدميري للكوكب وإبادتي للجيش من هذين المنظورين ، التمظهرالوهمي والموروث اللغوي، فإنني لم أدمر ولم أبد إلا الوهم والموروث اللغوي البدائي ! لكن إذا ما افترضنا أن الوجود الوهمي هو تمظهر لوجود الشرحسب ما قام به ملك الكوكب ، فإنني قمت بالغاية التي وجدت من أجلها وهي أنني قمت بتدميرقوى شرّانية خلصت البشرية من وجودها ! آمل أن أكون قد أجبت بشكل مقبول على تساؤلك يا أبي .
بدا الملك مرتاحا بعض الشيء لتحليل ابنه .. هتف بعد إطراقة :
- قد أؤيدك في معظم ما أتيت به يا بني ما عدا التدمير والإبادة . ألم يكن في المقدور ثني الملك عن حربه بوسائل مختلفة بغض النظرعن الوجود الوهمي أوالمفترض ؟
- ألم تحاول أنت يا أبي وفشلت ؟
- بلى ، لكن ألم يكن في مقدورك تجنب الإفراط في استخدام القوة ؟
- بالتأكيد يا أبي كان في الإمكان فعل ذلك ، لكن مفهومي عن الجن وتصوري للوهم هما ما دفعني إلى
ذلك .
- مسألة تداخل الوهم بالحقيقة مسألة أوقعت العقل البشري في حيرة بحيث لم يعد قادراً على معرفة أيهما وهم وأيهما حقيقة، وكم قاد الوهم البشرية إلى حروب أزهقت أرواح الملايين .
- وما زالت توقع يا أبي !
- هذا صحيح !
- ألا ترى أن سعيي للرقي بالحضارة الإنسانية عبر وسائل سلمية يمكن أن يثمر ؟
- سيثمر يا أبي لكن ليس في المدى المنظور . أنا أرى أن الطريق الأسرع للرقي بالحضارة الإنسانية يقتضي استخدام الأمرين "الجزرة والعصا" حسب ما يقول الناس !
ضحك الملك للحظات ،ثم صمت متفكراً، وما لبث أن هتف:
- حسنا يا بني ، ثمة مسائل كثيرة حول فهم الوجود والغاية منه لا بد من طرحها معك ، لأرى أين نتفق وأين نختلف ، فقد أفيد من ثقافتك ومعرفتك وأوظفهما في رسالتي قبل رحيلي عن الدنيا .
- لا تنس يا أبي أنني نتاج مورثاتك ، فلولاك لما كنت أنا !
- ومورثات أمك ؟
- أمي نتاج موروث لغوي وهمي بشري يا أبي لم تورثني إلا الخرافات والأساطير !
عاد الملك إلى الضحك ، وصورالواقع والخيال تراود مخيلته ، وتذكر حديثه مع رجل المعرفة على كوكب الزهرة في رحلته السماوية الأولى حين كان أديبا فقط ولم يصبح ملكاً بعد . ما يزال يذكر بعض كلماته " المشكلة أيها الأديب أنك ترى الحقيقة خيالاً ولا تريد أن ترى الخيال حقيقة ، وآمل أن لا يضيع عقلك بينهما "
****

(85)
حديث الروح في بوح الملك إلى الأمير!
وهما يستلقيان على جانبيهما في حديقة القصرتحت شجرة زيزفون وارفة الظلال تفوحت منها رائحة عطرة وسط أضواء خافتة كانت تعم ليل الحديقة ، وموسيقى شجية تتسلل أنغامها الخافتة عبرهدأة الليل وهمس الأشجارإلى الأشجار ووشوشة الورود إلى الورود، فتح الملك قلبه إلى ابنه الاميرحين طلب إليه أن يحدثه عن أهم محطات حياته. راح الملك يقص عليه بعض ما استحضرته ذاكرته من وقائع حياة مفعمة بالشقاء والتشرد :
" وضعتني أمي يا بني في حقل حصاد كما قيل لي . أقامت لي خصاً من القصب ظللته بكيس من الخيش يقيني حر الشمس . وما أن لفعتني وأرضعتني حتى ألقتني على كيس خيش آخرواستأنفت الحصاد مع أبي والحاصدين .. حين عادت بعد هنيهات لتطمئن عليّ وجدت أفعى تتمدد على جسدي وتلقي رأسها على عنقي . بسملت أمي وتوسلت إلى الله والأنبياء أن تغادرالأفعى جسدي دون أن تلدغني . وفعلاً غادرت الأفعى دون أن تلدغني ، غيرأن أبي رأى الأفعى فصرخ بالحاصدين " الأفعى الأفعى " وشرع هو والحاصدون في مطاردة الأفعى بالحجارة دون أن يصيبوها . لجأت الأفعى إلى غمر من الزرع ودخلت تحته . هرعت أمّي وألقت نفسها فوق غمرالزرع لتحمي الأفعى من حجارة الحاصدين كونها لم تلدغني. صرخ بها أبي بأقذع الشتائم أن تنهض عن الغمر وتتركهم يقتلون الأفعى ، غيرأن أمّي لم تستجب رغم أن بعض حجارة أبي أصابت ظهرها . رفعت غمر الزرع عن الأفعى وأخذتها بيديها وضمتها إلى صدرها وجرت بها إلى أطراف الحقل وأطلقتها .. وهنا حدث ما لم يؤكده أحد إلا أمي ، فقد وقفت الأفعى على ذيلها وتنبأت لأمي بأنني سأكون ملكا !!!"
" كان أبي يا بني أقسى أب يمكن أن يتخيله المرء . ظروف الحياة الصعبة لشبه فلاح ورعوي جعلته كذلك . هجره معظم أبنائه ما أن بلغوا سن الرشد . عاشت أمي معه أياماً مريرة تحت وطأة ظلم فظيع . كانت حين تغضب تقلب الصاج الذي تخبزعليه العجين، وتسخم وجهها بسخامه ، وتهيم على وجهها في الجبال مفجرة غضبها على الحياة، وعلى الوجود كله . كان أبي يلحق بها ممتطيا بغله، باحثا عنها في الأودية والأخاديد ، وما أن يجدها حتى يسوقها أمامه ويجلدها برسن البغل على ظهرها إلى أن يعيدها إلى البيت "
" ليس هذا إلا أقل القليل مما واجهته أمي في حياتها دون أن يستطيع أحد أن ينقذها منه أو من هذا الجحيم . سلام عليك يا أمي . سلام على روحك وعلى أرواح كل الأمهات اللواتي عانين مثلك وربما أكثربكثير في زمن القتل "
وجد الملك نفسه يجهش بالبكاء للحظات . ضمه سحب السماوات إليه وراح يربت على ظهره..
" لم تكن الحال معي أقل مما كانت عليه مع أمّي . تذوقت طعم سياط أبي منذ نعومة أظفاري .المرّة الأولى حين كنت في حدود الخامسة. دخلت إلى مقثاة للفقوس إلى جوار مسكننا ورحت أقطف ثمار الفقوس قبل أن تنضج . جلدني أبي بقطعة حبل على ظهري. الجلدة الثانية كانت وأنا في حدود السابعة. وضعني أبي ناطوراً على حقل للذرة خوفا من أن تدخل إليه حميرأوأغنام وترعاه ، وذهب إلى القدس للتسوق . حين عاد قبيل الأصيل قيد رسن البغل إلى حجروراح يتجول على أطراف الحقل . يبدو أن حماراً أو لصاَ قد جاء الحقل ليلا واقتطف بعض عرانيس الذرة . فقد وجد أبي العديد من سيقان القصب دون عرانيس، فشرع في خلعها من الأرض ووضعها تحت إبطه . تكسرت هذه السيقان على ظهري طوال الطريق إلى البيت لقرابة ميل أوأكثر .. سمعت أمي صراخي فهرعت لحمايتي قبل قرابة مائة متر من البيت "
" أدخلني أبي المدرسة التي تبعد عن مواقع سكننا المتنقل " كوننا نقيم في بيت منسوج من شعر الماعز " قرابة سبعة أميال . ننهض قبيل الفجرحين يصيح الديك صيحته الأولى التي نادراً ما يخطئ الديك توقيتها ، وكأن ساعته البيولوجية قد أعدت بإحكام ! نقطع أنا وأخي وبعض الأطفال معظم المسافة في الظلام حاملين حقائب كتبنا وطعام غدائنا على ظهورنا . لم يكن طعامنا أكثرمن رغيف خبزوقطعة جبن ، أو حبة بطاطا مسلوقة أو مقلية ، أو حبة بندورة !"
" في الصف الرابع وقعت عن البغل وهو يجري . انكسرت يدي اليمنى . تغيبت عن المدرسة ثلاثة أشهر إلى أن جبرت يدي ، لكنني رسبت في الصف "
" في بداية الصف الثاني الإعدادي أخرجني أبي من المدرسة لأرعى قطيع الغنم الذي يملكه ، قرابة مائة وخمسين رأسا من المعزوالنعاج .. أمضيت قرابة ثلاثة أعوام ونيف في رعيها . تعلمت خلالها العزف على الناي والمجوز والأرغول ، وكنت أطوع الأغنام على صوت أرغولي . كنت طفلا متميزاً في رعي الأغنام وتوليدها وحلبها ومخاطبتها .. أطلقت على بعض المعزأسماء بعض فتيات البلدة ، وما أن أنادي العنزة حتى تحضرإلي . وكنت الراعي الوحيد (المثقف) الذي نادراً ما يخلو جيبه من كتاب يقرأه، وحين أتيت على كل السيرالشعبية وبعض الكتب القديمة التي كان أبي يضعها في صندوق خشبي مخلًع ، طلبت إلى أخي الذي صار في المرحلة الثانوية ويتابع دراسته في المدرسة الرشيدية في القدس، أن يزودني ببعض الكتب ، فكان أول كتاب أحضره لي هو " ألف ليلة وليلة " .. ويا له من كتاب كم أفرحني وأبكاني قبل أن يحيلني إلى كائن منفصم الشخصية ، لأرى نفسي ملكاً ، أنام على أحلام ملكية ، وأستيقظ لتراودني أحلام ملكية في يقظتي ، ونظراً لأنني لم أكن أعرف إلا ملكاً واحداً فكنت أتمثله دائماً في مخيلتي ، وغدوت صديقاً حميماً له ، وتزوجنا من أختين من فتيات البلدة ، وعرض علي التنازل لي عن عرش المملكة غيرأن شهامتي أبت ذلك !! إذ لم يكن في مقدوري أن أخون مثلي الأعلى وصديقي الحميم "!
" هربت يا بني من بيت أبي ومن رعي القطيع على أثر ضربة فأس كسرت كتفي، وجهها لي أبي لأنني اختلست بضعة قروش من محفظة نقوده .. استأجرت غرفة صغيرة في بلدة قريبة من القدس ، ورحت أعمل في أعمال يومية : بناء البيوت ودهنها وتبليطها أو في حفرالآباروحفرالإمتصاص .. أصعب عمل واجهته كان حمل صفيحة الإسمنت المسلح ، كنت أشعرأن كتفي سينكسر حين أرفعها لأضعها عليه .
تعرضت لحادث كاد أن يودي بحياتي لتتحطم أحلامي الإنفصامية بالملكية ، فقد قفزت من الباص قبل أن يتوقف ، سقطت لأسحل على الإسفلت إلى جانب الباص دون أن تطأني عجلاته .. اصبت بجروح ورضوض ما يزال بعضها ماثلا في جسمي حتى اليوم "
" طال تشردي يا بني لأعمل في أعمال مختلفة ، ولأتعلم الطهي في فندق جمعية الشبان المسيحية في القدس ، ولأعمل بعدها ليس في الطهي في المطابخ بل في صالات الطعام كنادل ، ولأغادر القدس إلى عمان . لم تطل فترة عملي ، فقد حدثت حرب بين العرب وإسرائيل هزم فيها العرب هزيمة منكرة واحتل الجزء المتبقي من فلسطين إضافة إلى أراض عربية . أسمى العرب هزيمتهم نكسة . اضطررت بعد أشهر من الحرب إلى الإلتحاق بتنظيم مقاتل ضد الإحتلال. التحقت بدورة هندسة متفجرات في بغداد . لم أمارس عملي على الإطلاق كمهندس متفجرات . كنت أمضي وقتي في القواعد أقرأ الفلسفة الماركسية وبعض كتب زعيم يدعى ماوتسي تونغ إضافة إلى بعض الروايات والأشعارالعربية . ذهبت فيما بعد مع دورية مقاتلة إلى الأرض المحتلة . دخلنا عبرالبحر الميت ليلاً على قارب مطاطي . اصطدمنا بكمين للإحتلال على شاطئ البحر. نجونا منه بأعجوبة بأن تفرقنا ودخلنا عبرالأخاديد والأودية إلى الأرض المحتلة . إنّها المرة الثانية إن لم تكن الثالثة التي أنجو فيها من الموت ، إذا ما اعتبرنا أن سقوطي عن البغل وكسر يدي كان المرة الأولى . أمضيت قرابة ثمانية أشهر في الأرض المحتلة، كانت أكثرأيام حياتي شقاء وتعباً ومغامرات لا يصدقها المرء .. عدت إلى الضفة الشرقية ليلاً عبرالبحرالميت جالساً في إطارسيارة، بوضع مؤخرتي فيه ، مدليّاً رجلَي في الماء، متشبّثاً بيديّ بالإطار، وبندقيتي وذخيرتها مشكولتان إلى صدري . كانت ليلة جحيمية رهيبة. قرابة ثماني ساعات وأنا أجلس متشبثاً بالإطارمستسلماً للأمواج التي كانت تقذفني نحو الجنوب الشرقي. كنت أدرك أن مقاومة الأمواج ستؤدي إلى قلب الإطار، وهذا يعني نهايتي، فلم أجد إلا الإستسلام لها لأذهب معها أينما ساقتها الرياح ، ترفعني إلى قمتها فأرتفع معها، ثم تنساب هابطة فأهبط معها . كنت أجدّف بيدي أحياناً حين تمرالموجة لأعدّل اتجاهي نحوالشرق، في محاولة يائسة لتقصير المسافة في عبورالبحر، لكن ما أن أرى الموجة قادمة حتى أتوقف عن التجديف وأتشبّث بالإطار، وأسلّم نفسي لها ، لتعيدني إلى الإتجاه الذي تسوقها الرياح إليه نحوالجنوب الشرقي، عكس ما أريد . تمالكت أعصابي طوال الليل ، ولم أتح لها أن تنهارإلا بعد أن راحت الأمواج تقذفني على الرمال الشرقية عند الفجر، طرحت بندقيتي وجعبة الذخيرة جانباً، وأطلقت لها العنان وأنا أستلقي على الرمل فارداً يدي ورجلَي، لأرتجف من قمة رأسي حتى أخمصي قدمي "
" وهكذا يا بني نجوت من سلطات الإحتلال ومن الموت للمرة الرابعة ولو كنت أدرك أنني سأصبح ملكاّ ذات يوم كما أنا الآن، لما حزنت طوال الزمن الفائت ! وجدت نفسي بعد أشهرلاجئا في دمشق مع زوجة شبه أميّة، على أثر حرب مؤسفة نشبت بين شعب واحد أريد له أن يكون شعبين، بل أكثر، كما رسم المستعمرون قبل بضعة عقود من ذلك التاريخ . كانت فرصتي لأن أعيد ترميم عقلي، وسط ظروف معيشية قاسية في خشّة صغيرة، وراتب من تنظيمي لا يكفي لحد أدنى من العيش الكريم ، رغم أنني كنت أمنح معظم وقتي للعمل في صحيفة التنظيم . كنت أشعر بعقدة نقص كبيرة نتيجة لإخراجي من المدرسة في وقت مبكر، فكان لا بد من حل هذه العقدة . كدت أن لا أترك شيئا إلا وقرأت فيه، في مجالات الآداب والفنون . فلسفة . لغة . أدب . تاريخ . علم نفس. أساطير. معتقدات . صحافة . نقد . فكر. رسم. مسرح. علم جمال. تصوف. سينما. سياسة . اقتصاد . شطرنج ! إضافة إلى انتماءات على فترات مختلفة إلى معاهد ، صحافة وإعلام ( في القاهرة ) . سكرتاريا وإدارة أعمال . تصوير . سيناريو سينمائي . انكليزي. ألماني. فرنسي. إضافة إلى ممارسة الكتابة الصحفية والأدبية والنقدية والتاريخية والفكرية بحدود. أصدرت عشرة كتب خلال ما يقرب من عقدين من الزمن، عدا المقالات الكثيرة وعملي الصّحفي "
" رحل أبي عن الدنيا يا بني بعد قرابة خمسة أعوام من قدومي إلى دمشق . ذرفت عليه بعض الدموع فهو يظل أبي . ورحلت أمي بعده بعشرة أعوام دون أن أراها ودون أن تراني . بكيتها كثيراً ، وتذكرت معظم أيام شقائها .. هجرت زوجتي التي حاولت كثيراً أن أخلصها من شبه أميتها دون جدوى . أنجبت منها طفلا وطفلة . تزوجت من أوروبية ( ألمانية ) حاصلة على أعلى الشهادات .. غير أن الحياة الزوجية يا بني أعقد من أن تحلّها شهادات . إن أصعب شيء في الحياة يا بني هو أن يعيش رجل وامرأة منسجمين مع بعضهما مدى الحياة. يحتاج الأمرإلى معجزة وإرادة لا تقهر ! افترقنا بسلام يا بني لأضرب عن الزواج دون العشق ما دمت حيّاً . عرفت قبل طلاق الحياة الزوجية وبعدها الكثير من النساء ، بعضهن عشقتهن وبعضهن لا، لكن أهم شيء فعلته هوأنني وجدت الوقت للتفرغ للأدب والفن والفكر ،وإغناء المعرفة التي تظل ناقصة مهما قرأ المرء "
" لجأت إلى الرسم يا بني بعد أن تعثر نشر ثلاث روايات لي ، لأجد نفسي أغرق فيه لما يقرب من عشرين عاماً . كما أنه أتاح لي أن أعيش بكرامة عكس الكتابة التي لم يكن ريعها يكفي للحد الأدنى من حياة كريمة. أقمت أكثر من ثلاثين معرضاً منها ما هوفي برلين وباريس. ورغم ذلك كان ثمة صراع في دخيلتي بين الكلمة واللون الذي أسرني، إلى حد أنني خاطبته هامساً له وأنا أراه يرسم ظلال الطيف عبر قطرات المطر :
"يا لون ، حين زارني طيفك في شفق الفجر ، مؤتلقا بروح الخالق في سنا البرق وتحت ظلال المطر، لتنقذني من ربق الكلام وأسر الزمن ، وتقودني إلى آفاق الحلم ، أغواني سحر جمالك ، وأنا أتيم في سُدم فيئك . وذاهنني الله أن أتبعك ، فتبعتك ، لتحملني وأحملك ، عبر فضاءات الروح ونبض الأحاسيس، إلى غياهب المطلق وأغوارالمجهول .
يا لون ، يا رفيقي ، يا صديقي ، يا حبيبي ، كم من أيام كنت وحدك فيها ، تنير ظلمة الهزيع من حولي بشموع ترقص، وكم من ليال كنت وحدك فيها ، ترسم تفاصيل الحلم ، بعد أن خان الزمان زمانه وضاق صدره بصريح الكلام ؟!
يا لون ، كان الكلام عشق روحي ، فغدوت أنت روحي ، لأغدو كلمة في لون ، ولوناً في كلمة ! فماذا في مقدوري أن أقول لك ، حين يمنع الكلام من أن يقول كلامه ، من أن يبوح بمكنونات بدئه ؟!!
أنا مدين لك أيها اللون ، مدين لك بودي ، مدين لك بعشقي، مدين لك بكل خلايا عمري ، فشكراً يا لون ، شكراً يا أحمر، شكراً يا أصفر، شكراً يا أزرق . وعذراً يا لون ، إذا ما خنت نفسي وخنتك ، بتقييد حريتك أحياناً، وكبح جماح طموحك ، في خلق جديد ،خلق لم تبصره عيون بعد ، ولم تسمع به آذان ، ولم تدركه حواس وعقول ، ولم يضمره إحساس ، إذ يبدو يا لون ، أننا حقاً مسيرون ، ولن نوغل في غور المطلق ، وتصور العدم ، ما لم نكبح جماح القدر ، ونمسك زمام الخلق "!
"اندلعت حرب في سوريا يا بني دفعتني إلى التشرد من جديد، تاركاً خلفي متحفاً يعج بالمنحوتات واللوحات والمخطوطات والتحف والكتب والمؤلّفات. أكثر من ألف لوحة ومنحوتة وتحفة ، ومؤلفاتي كلها إضافة إلى مخطوطات غير منشورة . كل ما يشكّل نسيج روحي ظلّ هناك ، حتى نايي الذي كان رفيق عمري أكثر من القلم.
لم يتقبل ابني وجودي لأقيم معه في عمان ، فإذا كان أبي من أسوأ الآباء فإن ابني هو أسوأ ابن يمكن أن يتخيله المرء . لم ألق منه إلا الجحود والتنكّرحتى لأبوّتي ، قلت له وأنا أغادر بيته " إن عرفت أنك تسير في جنازتي يوم موتي سأنهض من موتي لأبصق عليك، وأتابع رحيلي مطمئنا إلى مثواي"
" عدم وجود سوق مقبول. للرسم في عمان ، أتاح لي العودة إلى الكتابة ، لم أكتب في حياتي أكثرمما كتبت في الأعوام الأربعة التي مرت على وجودي في عمان .. أكثر من خمسة عشر مؤلّفاً معظمها في الفلسفة والفكر والعقائد والأساطير . كان علي أن أتوسع في الطريق الثالث في فلسفة الوجود، وهو مذهب " وحدة الوجود" وكان علي أن أجدد أحلامي الإنفصامية بالملكيّة التي راودتني في الطفولة ، فأعدت إحياء شخصية الملك لقمان التي سبق وأن تخيّلتها في رواية ملحمية تحمل اسم الملك نفسه، وتعج بالأساطير الإنسانية المتخيلة التي ترسم شخصية الملك ! فإن كنت يا بني ترى أن الوجود ما هو إلا المسودة المتخيّلة التي يقوم الخالق بتصميمها لخلق الوجود ، فما أنا إلا المسودة المتخيّلة التي يكتبها مؤلِّف يدعى محمود شاهين لمشروع روايته القادمة ، وإذا كان الخالق عندك يا ولدي يتيح للمتخيل الوهمي أن يمارس وجوده ويشارك في عملية الخلق وتصميم المسودة ، فقد أتاح محمود شاهين لي أن أشارك في صنع المسودة لأغدو ملكاً بحق، وأتزوج من ملكة جنية وأنجبك يا سحب السماوات "
ظل سحب السماوات ساهماً بدهشة للحظات، وهو يفكر في رحلة كفاح أبيه في الحياة، ولا يصدق أنّه ليس أكثرمن شخصية إنفصامية متوهّمة لمؤلّف ، يعوّض بها ما واجهه من عثرات الزّمن . أتاح لها أن تتصرف بحريّة، وتخلق عالمها ليكتمل وجودها في ذهن منتجها ، ليقوم بإعادة صوغها وإظهارها للملأ . هتف :
- يا إلهي يا أبي ، هل نحن مجرد وهم ؟
استغرب الملك الأمر وهتف :
- أنت الذي ترى الوجود وهماً يا بني، لم تعد تصدق أننا أنا وأنت وهم، لقد سبق وأن قلت لي ذلك ، هل ضعت بين الوهم والحقيقة يا بني؟!
أطبق الأمير يديه بشدة على جانبي رأسه وهو يكاد أن لا يصدق أن كل شيء وهم ، وأن أباه لم يقص عليه ملخصاً لقصة حياته إلا ليعيده إلى الوهم، بل ووهم الوهم الذي قد تكمن الحقيقة المطلقة فيه !
****
(86)
خطف سحب السموات !!
انتفض الملك لقمان مستيقظا من نومه على صراخ الملكة نورالسماء ليسمع الصّراخ يتردد من كافة أرجاء القصرالملكي . إنس وجن يصرخون حتى الملك شمنهور نفسه يصرخ . لم يدرك الملك ما يجري فسأل الملكة لتجيبه من أعماق فجيعتها :
" لقد خطف سحب السماوات أيّها الملك "
" كيف عرفت أنه خطف ، ومن في مقدوره أن يخطفه ؟"
" قالت الأميرة فتنة أنها أحست به ينهض من على السريرإلى جانبها ، وحين فتحت عينيها رأته يرتفع عن السرير مستلقياً على ظهره ليتجه إلى الباب ويخرج منه ، هتفت "سحب حبيبي" لكنه لم يجب ، نهضت وهرعت لعلها تعرف ما يجري، لكنه كان قد اختفى ، ولم تعثرعليه في أية غرفة أخرى في القصر. حينها أدركت أنه أختطف ، فشرعت في الصراخ "
بدا الملك غيرمصدق لما بدا له أنه جنون . تساءل :
" ألم يكن الأميرمحروساً من قواه ومن قوى جنية أخرى ؟"
" بلى ! لكن القوى الخاطفة سحرت كل القوى الحارسة ووضعتها في حالة سبات فظيع "
" والأمير نفسه هل وضع في سبات أيضاً"؟
" يبدو أن الأمر كذلك أيها الملك "
أشار الملك إليها أن توقف هذا الصراخ في القصر وأن تدعو فتنة إلى الحضور، وخاطر الملك شمنهور متسائلا :
" ما الذي جرى أيها الملك ؟"
" لا أعرف يا مولاي . ما أعرفه أنه مرت علي فترة خلال الليل لم أعد أشعربوجودي، ويبدوأنها الفترة التي خطف فيها الأمير "
" هل حاولت أن تعرف شيئا "
" حاولت يا مولاي دون جدوى "
" ما تتوقع أن يكون نوع هذه القوى أيها الملك ؟"
" ربما قوى أقدر من قدرات الجن قد تكون إلهية يا مولاي "
" وما حاجة الآلهة لأن تخطف كائناً ليس إنسياً بالمطلق وليس جنياً بالمطلق ؟"
" لا تنس يا مولاي أن سحب يحمل صفات الألوهة أيضاً وأن كواكب وأمماً عبدته على أنه إله "!!
تعجب الملك لما سمعه للمرة الأولى من الملك شمنهور، مع أنه نفسه لم يرفي ابنه أي صفات للألوهة المطلقة، فكيف رأى شمنهور وآخرون في الكون فيه ذلك ، بل وراح الآخرون يتصارعون حول ماهيته حسب ما عرف فيما بعد ؟ حاول أن يخاطر بقواه الأميرلعله يعرف أين هو ، هتف في مخيلته :
" سحب حبيبي أين أنت ؟ أنا أبوك الملك لقمان، لا تدع قلوبنا تنفطرعليك يا ولدي، خبّرنا أين أنت وماذا جرى لك "
صمت الملك لبرهة لعله يتلقى تخاطراّ يجيب دون جدوى . وشعر لأول مرة في حياته السماوية أنه عاجز ،وأن ثمة قوى كثيرة تفوق قدراتها قدراته وقدرات ابنه. لا يصدق أن ثمة قوى يمكنها أن تبطل قوى وقدرات سحب الخارقة ، فكيف لم يتمكن سحب من إنقاذ نفسه ، وكيف أصبح عاجزاً حتى عن إعلامنا بمكان وجوده؟
حضرت فتنة النهار لتخبر الملك بما أخبرته للملكة .
أحس الملك أن الدموع ستطفرمن عينيه وأن صرخة هائلة تتهيأ للإنطلاق من أعماقه ، فكبح دخيلته، وصرف الجميع من حوله ودخل إلى غرفة النوم .أقفل الباب خلفه وانطرح على السرير مطلقاً العنان لمشاعره مجهشاً بالبكاء .
خاطره الملك الملاك إبليس من داخل قصره في أعماق المحيط الأطلسي على كوكب الأرض:
" هل تبكي أيها العزيز لقمان" ؟
أدرك الملك أن المخاطر ليس إلا الملك إبليس نفسه . أجابه:
" فجيعتي أكبر من أن توصف أيها الملك ، فقدت ابن السماء الذي عوضت بوجوده فقدان ابن الأرض "
" لا تحزن أيها العزيزسأعمل كل جهدي لأعرف أين اختفى سحب السماوات ومن اختطفه إن كان قد خطف "
" أنت معيني في الملمات أيها الملك ، وسأظل ممتنا لك مدى حياتي "
شرع الملك في مسح دموعه وعدّل من وضع جلسته على السرير منتظراً مخاطرة الملك ابليس. خاطره ابليس بعد لحظات :
" الأمير سحب السماوات مختطف من قبل إله جني جبار يملك قدراً ما من أسرارالوجود ، ولديه قدرات خارقة شبه إلهية بحيث في مقدوره تحقيق معجزات كثيرة. لديه ابنة ربة فائقة الجمال اسمها عشتار، هي ربة الخلق والجمال ، وربة الخصب والعطاء والحب ، لم تتزوج في حياتها المديدة . سمعت بجمال الأمير سحب السماوات ، فزارته في صورة مخفية ، فأذهلها جماله السماوي، وأدركت أن من يحمل هذا القدر من الجمال لا يكون إلا إلهاً أوابن إله ، فأخبرت أباها الملك برغبتها في الزواج منه رغم أنه متزوج . أنزل أبوها الإله سباتاً على الأميروحرّاسه من الجن . وحمله جني إلى قصرالأميرة بلمح البصر . وهي تراوده الآن عن نفسه في الحجرة السابعة من أجنحة قصرها السبعة في المحيط السابع من المحيطات السبعة المعلقة في السماء السابعة من المجرات السبع لأبيها الإله "
أطبق الملك لقمان بيديه على وجهه لهول ما سمعه من الملك إبليس، وكبت صرخة هائلة في دخيلته ،وتساءل لعل الملك إبليس يجد له مخرجا لإنقاذ الأمير :
" أليس ثمة أمل في إنقاذ الأميرأيها الملك ؟"
" المسألة أعقد من عقول الجن والإنس جميعاً أيها الملك ، ولا يمكن أن يحلّها إلا عقول آلهة لها قدرات خارقة قادرة على أن تقول للأشياء كوني فتكون ، أو لكائن أو إله خارق يستطيع أن يعرف سرالوجود ويفك ألغازه ، فبانكشاف السّر يمكن أن تتم القدرة على فعل أي شيء . وثمة أمرآخرجلالتك وهو أن يتم حل الأمر بين الأمير والربّة بوسيلة ما ، وثمة إحساس يراودني في أن مسألة تكمن خلفها قدرات خارقة وتعقيدات لا نهاية لها لن تحل إلا بهذه الطريقة"
ظل الملك لقمان في حيرة من أمره لبعض الوقت ، فيما كانت حالة طوارئ تنشأ على الكوكب الشنوتي وكوكب ملك النهار والعديد من كواكب الجن والإنس حين عم الخبر بعض كواكب الكون المأهولة . فقد استنفرالملك شمنهورمليارجني مغوار كل جني قادرعلى تدميركوكب بأكمله وكذلك فعل الملك حامينار والد الملكة نورالسماء والملك نذيرالزلازل صديق الملك لقمان في رحلته الأولى ، والملكة نورالسماء نفسها ، أما والد الأميرة فتنة النهاروبعض كواكب الإنس ، فقد وضعت آلاف الصواريخ العابرة للكواكب المحملة برؤوس نووية وهيدروجينية على أهبة الإستعداد ، حتى الملك إبليس الذي يدرك أن كل هذه القوى لن تنجح في حل الأزمة ، استنفر قواه الجبارة ، وراح الجميع ينتظرون إشارة بدء حرب من قبل الملك لقمان تشن على الكواكب والمجرات ! غير أن الملك لقمان فاجأهم حين خرج من اعتكافه في غرفة نومه بقوله " أوقفوا كل شيء ، فهل ستشنون حروبا فظيعة دون أن تعرفوا على من تشنونها ولماذا ؟ "
وهكذا راح الإنس والجن يمضون وقتهم وهم في حيرة من أمرهم لما وقع للأميردون أن يفارق الحزن وجوههم ، ولبست الأميرة فتنة زوجة الأميرالسواد حداداً عليه وكذلك فعلت أمّه الملكة نورالسماء وجميع الحوريات والملكات والنساء والفتيات في القصر .
***
(87)
ثمة أمل في نجاة سحب السموات من براثن العشق !
اعتكف الملك لقمان قرابة يومين في غرفة نومه ، وعاد إلى اعتكافه حين وجد نفسه عاجزاً عن فعل شيء ينقذ الأمير سحب السماوات أو يعرف أين هوعلى الأقل . لكنه لم يعتكف هذه المرة في غرفة نومه بل تحت شجرة الزيزفون التي أمضى بضع ساعات تحتها مع الأمير يقص عليه سيرة حياته . استند بظهره إلى جذع الشجرة ومد ساقيه على طولهما وشبك يديه على بطنه وأغمض عينيه، محاولاً قدرالإمكان الإسترخاء والتأمل . جاءته الملكة والحزن يلف وجهها . سألته :
- هل تريد أن تصل إلى الحقيقة يا حبيبي ؟
أدرك الملك أبعاد سؤالها :
- لست بوذا يا حبيبتي ولا أريد أن أصل إلى الحقيقة ، يكفيني ما عرفته عنها حتى الآن ، لكني أريد أن أعرف أين ابني ، أرجو أن لا يزعجني أحد ولا يقطع علي خلوتي .
فهمت الملكة أنه لن يحضر وجبات تناول الطعام . سألته:
- هل ستبقى دون طعام وشراب يا حبيبي ؟
- أحضروا لي زجاجة ماء فقط . وإذا ما جعت سأخبركم .
عادت الملكة إلى القصر، فيما عاد هو إلى استرخائه . تذكر عبارات الملك إبليس حول إله أو كائن خارق يعرف سرالوجود ليحل المشكلة . "سر الوجود ؟" تساءل في نفسه . " لعل سرالوجود يقوم على كلمة . تذكرأن كلمات وطلاسم لا تتعلق بسرالوجود منحت له في رحلته الأولى من قبل ملوك جن، استعاد معظمها . " وتذكر مطلع إنجيل يوحنا " فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ" لكنه يدرك أن الكلمة لم توجد قبل اختراع اللغة منذ بضعة آلاف من السنين ، وأن اسم الله نفسه لم يعرف قبل ذلك ، ولم يكن في الإمكان التعبيرعنه بمفردة مجردة . لكن قد يكون الله هو الكلمة دون أن يكون كلمة مشكلّة من أحرف ، بل كيان مستقل! وقد تكون الكلمة مجرد مصطلح مجازي تم فيما بعد للتعبيرعن القائم بالخلق . لم يفكر منذ أن صعد إلى السماء في أنه سيجد نفسه ضعيفاً إلى هذا الحد. خالجه شعورأن الله تخلى عنه طالما شعردائما أنه معه ، بل وأشعره بوجوده معه في أحيان كثيرة . ألم يحيي له الموتى في جحيم داجون في رحلته السابقة وفي بداية رحلته هذه ؟ لم يجد أمامه غيرالكلمة يعبربها عن ضعفه وعن الحال التي وجد نفسه فيها " يا إلهي " وثنى ساقيه ملقياً ساعديه على ركبتيه واضعاً رأسه عليهما . شعر بحاجته إلى البكاء وذرف بعض الدموع . سقطت الدموع على ساعدية . استسلم لحالة الحزن وهو يهتف في دخيلته " يا إلهي " وما لبث أن أضاف إلى العبارة كلمات أخرى في محاولة يائسة لتوضيح رجائه من إلهه " كن في عوني يا إلهي " وظل يردد كلماته لبضع ساعات دون أن يغير وضع جلسته . وحل الليّل دون أن يغيّرها ، وأشرق الفجر دون أن يغيّرها .
الحال في القصر تحوّلت إلى حزن وكآبة وحداد . لم يعد لأحد رغبة في الطعام أوالشراب . وعم الصّمت كافة أرجائه التي لم يعد يسمع فيها إلا نواح الملكة نورالسماء والأميرة فتنة النهارعلى الأمير. وفيما كانت ألوان الفجر تتبدد في الأفق سمع الملك لقمان صوتاً يخاطره قائلا :
" لا تبك أيها الحبيب . سأقول لك كلمة ، إن حافظت على سرها ولم تخبرأحدا أنك ملكتها ، استطعت أن تصنع معجزات لا يقوم بها إلا من حازوا قدراً كبيراً من الألوهة "
أدرك الملك أن المخاطر ليس إلا الله . أجاب:
"سأفعل يا إلهي. أشكرك من كل قلبي"
وبدأ يدرك أن سر الوجود قد يكمن فعلا في الكلمة !
جاءه التخاطر مردداً الكلمة ثلاث مرات ، وتوقف ولم يعد.
لم يعرف الملك ما إذا يتوجب عليه أن يردد الكلمة في نفسه مرّة واحدة أم ثلاث مرّات . جرّب أن يرددها مرّة واحدة ليخاطر بعد ترديدها سحب السماوات متسائلا " أين أنت يا بني" ؟ وما أن فعل ذلك . حتى جاءه صوت سحب السماوات مخاطراً " لا تقلقوا يا أبي أنا بخير " وتوقف التخاطر.
شعر الملك أن سحب في وضع لا يتيح له أن يقول أكثرمن ذلك حتى لا يلفت انتباه من هو في حضرتهم أن أمراً ما قد طرأ له. وبالفعل كانت الربة عشتارتجلس في مواجهة الأمير وتحاول عبثا إقناعه بالزواج منها أو ممارسة الحب معها كربة للحب ، وتنبهت إلى أن الأمير صمت للحظة ، فسألته عما إذا كان هناك شيء ، فأجاب " لا ليس هناك شيء ، مجرد محاولة لتركيز ذهني لأجيب عن أسئلتك أيتها الربّة "!
نهض الملك وسار بخطوات متمهلة ودخل إلى صالون القصر باش الوجه منفرد الأسارير إلى حد ما . طالبا إلى النساء أن ينزعن ثياب الحداد وإلى الجميع أن يعودوا إلى حياتهم الطبيعية لأن سحب السماوات بخير . نهضت الملكة وتشبثت بعنقه متسائلة فيما وثبت الأميرة متلهفة لسماع التفاصيل ،غيرأن الملك لم يؤكد إلا ما قاله .
****
في جناح الربة عشتار،عرف سحب السماوات حين استفاق من نومه أن مختطفه جرّده من كل قواه الخارقة للطبيعة، وأنزل عليه سباتا ليختطفه ، وأنه لم يعد لديه إلا عقله ليواجه به رغبات الربّة الطامحة في الحب . أدرك سحب أن نقطة ضعف الربّة تكمن في عشقها لجماله ، وأن في مقدوره أن يناورعلى هذه النقطة إلى أن تتغيرالأحوال ، خاصة وأنه عرف أن قوى أبيه لم تقدرعلى فعل شيء حتى حينه . وحين جاءته مخاطرة أبيه توقع أن يجد أبوه حلاً ما طالما أنه أعاد إليه قدرته على التخاطر .
هتفت الربة وقد نفد صبرها كما يبدو :
- أيها المجنون هل هناك من يرفض الزواج أو ممارسة الحب مع ربّة الحب والجمال نفسها ؟
- أبدا أيتها الربّة ، بل سأكون سعيدا إذا ما وجدت يوماً أن عاشقتي ليست إلا ربّة الحب والجمال بكل جلالها . وأظن أن زوجتي ستكون سعيدة بذلك ، خاصة إذا ما بارك جلالك زواجنا !
- إذن لماذا لا تفعل ؟
- أيتها الربّة أنت اختطفتني اختطافاً وأبطلت قواي وجعلت زوجتي وأمي وأبي وكل حاشيتي تندبني وتحزن على فقدي ، فكيف سأخلص لحبك ؟
- سأصلح كل شيء إلا قواك، ما عدا الخارقين فيك ، جمالك وجمال مبعث الخصب والمتعة فيك !!
ابتسم الأمير . بدت ابتسامته لها كإشراقة فجر، ألقت نفسها عليه وراحت تقبل شفتيه . دفعها الأمير بلطف وهو يهتف :
- مهلا أيتها الربّة ! هل هكذا تعشق الربّات ؟ لا تريدين إلا جمالي و... مبعث الخصب في ؟ هل يعقل هذا ؟ هل أنت ربّة بحق ؟
- بل أنا ربّة الربّات أيها الأميرالإله . واهبة الحب والجمال التي لم تتمتع يوما بالحب !!
- إذا كنت ربّة الربّات وتمارسين العنف مع من هام عشقك به فكيف بالآخرين ؟
- لا أحتمل أن يعارضني أحد أيها الحبيب ، إرادتي ورغباتي يجب أن تنفذا!
- أنت ربة دكتاتورة !
- ليكن !
- ولماذا لم تتمتعي بالحب ؟
- كنت أتمتع بحدود بمنحه للإنس والجن !
ومدت يديها لتتحسس إحداها خده فيما راحت الأخرى تتحسس موضع الإثارة في جسده . بدت متهيجة بعض الشيء . أدرك الأميرأنها فرصته ليملي رغبته عليها . أبعد يديها بلطف ، وهتف :
- سأمارس معك الحب دون زواج إن أعدت لي قدراتي التي أبطلتها !
وعادت لتمد يديها وتتحسس أسفل بطنه وهي تهتف بغنج:
- وما حاجتك إلى قدرات خارقة يا حبيبي ؟
- ألا تريدين أن أمتعك كما يجب ؟ مبعث الحب يريد قدرات خارقة أيضا !
وأبعد يديها . شعر أنها بدأت تستوي! تريد أن تنقض عليه لتأكله أكلا !
- ما حدود قدراتك الخارقة يا حبيبي ؟
- هي قدرات بسيطة ، كأن أجعل ما ترغبين فيه بالحجم الذي تشتهين وأن أمارس الحب بشهوة متدفقة !
هتفت (واو) وهي ترسم حجماً له في مخيلتها وقد أدركت تماماً أن إعادة قدرات الأمير لصالحها وصالح الحب . قالت :
- سأطلب إلى أبي أن يعيد إليك كل قدراتك ، أريد أن أراك تتفجر كبركان وتفجرني معك !
- هيا افعلي في الحال !
- عدني أنك ستواقعني !
- أعدك !
وشرعت في التخاطر مع أبيها الإله ليعيد لسحب السموات كل قواه المستلبه !
****
88))
صرخة الربة عشتار في ذروة الوصال !!
راح الأمير سحب السماوات يترقب عودة قدراته إليه بعد أن فرغت الربّة عشتار من التخاطر ذهنياً مع أبيها الإله . ألقت نفسها على الأمير وشرعت في تقبيل عنقه وهي تتحسس بيديها مكمن الإثارة في جسده " هل عادت إليك قواك يا حبيبي " أحس الأمير برعشة خالجت جسده فأدرك أن قدراته الخارقة قد عادت إليه ، وكي يتأكد ألقى نظرة على شمعدان ضخم من خلف ظهرالربة التي كانت منشغلة في تقبيل عنقه وتحسس جسده، انشق الشمعدان من منتصفه ، أعاده الأمير إلى وضعه دون أن تتنبه الربة " لا يبدو أنها عادت كلها أيتها الربة "
رفعت الربّة رأسها عن عنقه وأوقفت يدها اليمنى عن العبث والتحسس :
- ألا يكفيك ما عاد من قوى ؟
- لا أعرف !
لم تشعر بأي استجابات شهوانية من قبل الأمير، مما دفعها إلى الإعتقاد أن أباها لم يعد فعلاً إلى الأمير كامل قواه وقدراته ، فعادت إلى التخاطر معه ليؤكد لها أنه أعاد إليه كل ما كان يمتلكه . تساءلت :
- أبي يؤكد أنه أعاد إليك كامل قواك فلماذا لا أجد استجابة منك يا حبيبي ؟!
صمت الأمير للحظات يفكركيف سينقذ نفسه من هذا الأسر دون أن يعرف شيئاً عن هذا العالم الذي تدعي الربة وأبوها أنه عالم آلهة !
- يا حبيبتي أبوك اختطفني اختطافاً، وأنت تراويدنني عن نفسي بما يشبه الإرغام ، والمحبة تقتضي أن تمارس بمثيلها ، لا أفهم كيف تكونين ربة للحب والجمال وتمارسين ما يتناقض مع الحب والجمال ! إن أردت مواقعة كما تشتهين لا بد أن نخلق بيننا عالماً من المحبة والجمال والحب ، وأنا ما زلت على وعدي!
تنبهت الربّة إلى أنه خاطبها " حبيبتي " لأول مرة ، بل وأدركت أنه محق في كلامه . توقفت عن العبث بجسده وتقبيله . هتفت :
- أنت محق يا حبيبي ، إنها طبيعتي الغريبة . كيف يمكن أن نخلق بيننا عالماً من المحبة والجمال لندخل في عالم الحب؟!
ابتسم الأمير وهو يمد يده لأول مرة ليملس على شعرالربّة الذي كان بطول جسدها :
- ربّة تمنح الخصب والمحبة والجمال ولا تعرف كيف يمكن أن تخلق عالماً يتناغم فيه الحب والجمال ! حدثيني عن عالم أبيك، عن سر قوته، عنك ، عن فهمكم للوجود ؟
اعتدلت الربة في جلستها على السريرالربّاني إلى جانب الأميرالإله حسب رؤيتها ، جاهدة لأن تخرج من الحال التي كانت فيها:
- نحن نعتقد أن ثمة خالقاً أكبر للوجود لا يعرف أحد ماهيته . هذا الخالق هو من أن أنشأ الكون بكليّته وأنشأ الخلق فيه ، وجعل من بعض مخلوقاته آلاف الآلهة المساعدين له، وأوكل إليهم مهمات ما مختلفة في عملية الخلق . أبي هو أحد هؤلاء الآلهة له بعض القدرات الخارقة وليس مطلق القدرات ، فثمة قدرات لآلهة أخرى تفوق قدراته ، القدرة المطلقة لا يمتلكها إلا الخالق الأكبرللوجود والخلق . ولا يستطيع إي إله أن يقوم بعمل خارق دون موافقة إرادة الخالق الأكبرعليه ، هذه الإرادة لا يمكن استشعارها إلا بتنفيذ العمل الخارق أوعدم تنفيذه . أبي يرى أنه إله لسبع مجرات من الجن والإنس ، وكل مجرة تحوي آلاف الكواكب . يعلو هذه المجرات سبع سماوات ، ونحن الآن في حجرتي السابعة من أجنحة قصري السبعة في المحيط السابع من المحيطات السبعة المعلقة في السماء السابعة من هذه المجرات؟ عند أبي جنات وجهنمات في كل مجرة . جنات للجن وجنات للإنس . وجهنمات للجن وجهنمات للإنس. الطريق إلى الجنات تمرعلى ملايين الحبال الممدود فوق نهرعريض من الحمم المنصهرة ، فالمؤمن الذي كان مخلصاً لأبي ومؤدياً لشرائعه يجتازالحبل بسهولة وكأنه يسيرعلى أرض فسيحة ، أما غير المؤمن فيسقط عن الحبل لتبتلعه الحمم المنصهرة .
قاطع الأميرالربّة متسائلا :
- لكن الجن يستطيعون اجتيازالحبل بقدراتهم الخارقة ؟
قالت الربة :
- لا يا حبيبي أيها الإله الجميل !
- لكني لست إلهاً أيتها الربة ، أنا مجرّد أمير!
- بل أنت إله أيها الأمير! أما ما يتعلق بتساؤلك عن الجن ، فهم يفقدون قدراتهم يوم الحساب ويعودون إلى طبيعة أقرب إلى الطبيعة البشرية !
- وهناك يوم حساب أيضا ؟
- أجل أيها الحبيب !
- وما هي شرائع أبيك في العبادة ؟
- الشهادة أنه أحد الآلهة الكباروالصلاة له كل يوم مرة واحدة ! وهناك شرائع أخرى تتعلق بتنظيم الحياة الإجتماعية في عالمي الإنس والجن !
- الآن حدثيني عن طبيعتك أنت وكيف تهبين الحب والجمال والخصب للآخرين .
- أنا من طبيعة ربانية جنية إنسية . أرادني الخالق الأكبرأن أكون في شكل إنسية وأحمل قدرات جنية وربانيّة محدودة !
- ومن يتحكم في إرادتك ؟ أبوك أم الخالق الأكبر ؟
- بل أبي . الخالق الأكبرانتهى أمره مني !
- وكيف تهبين ما تهبينه للبشر والجن ؟
- الهبة تأتي تلقائيا من وجودي ،كونها مرتبطة بي .
وصمتت الربة عن الكلام للحظة ثم تساءلت :
- هل هناك ما لم أخبرك عنه يا حبيبي ؟
- لم تخبريني عن الحب ؟
- أنا لم أمارس الحب في حياتي . أستشعره وأتصوره فقط دون أن أمارسه . أشعر أن طبيعتي الربوبية تستدعي أن لا أمارس الحب إلا مع رب، وحتى الآن لم يتسن لي ذلك . حين سمعت بوجودك شعرت أن أملاً لاح لي في أفق أحلامي . زرتك متخفية فهالني جمالك. ربما لم أعرف كيف أتصرف معك ، لذلك تصرفت بفظاظة عبر قدرات أبي . الحق معك في أن تصرفاتي لا تليق بربة . أرجوك أن تسامحني وأن تنسى قدر الإمكان ما حدث ، ولك أن تعتبر نفسك حراً من الآن وأن تغادر مخدعي بسلام دون فعل شيئ يذكر . لكني أرجوك واتوسل إليك بكل ليالي عمري التي حرمت من الحب الحقيقي ، أن لا تحرمني من حبك ، خذني جارية عندك أحضر لك الطعام ، أغسل ثيابك ، أسرح شعرك ، أقلم أظافرك ، أعبدك ! لكن لا تحرمني من حبك !
بدت الربة وقد تحولت إلى النقيض مما كانت عليه ، ودخيلتها تفيض بمشاعر إنسانية ربّانية بحق . رق قلب الأمير لها ، فشرع يملس بيده على وجهها ووجنتيها ، فيما شرعت هي في تقبيل باطن يده ، وقد انحدرت دموع حارة من عينيها . ضمها الأمير إلى حضنه وشرع يمسح دموعها بالقبل ، لتغرق هي معه في القبل الحارة الملتهبة ، وليعري أحدهما الآخرعلى وقع القبل ، وليبحرا في عالم من وله العشق والوصال ، لم يدخله ربان من قبل على الاطلاق ، ليلتحما بجسديهما ليغدوا جسداً واحداً ومتعة اللذة تسري متغلغلة في كافة مسامات جسديهما، وحين بلغا ذروة النشوة في الوصال صرخت الربة صرخة هائلة تستشعر فيها أقصى حدود اللذة بأقصى حدود الألم ، لتسمع صرختها في السموات السّبع والمجرّات السبع، وليدرك كل كائن في هذه المجرّات والسماوات ، أنها صرخة الربة عشتار وقد بلغت ذروة الوصال !!
*****

(89)
حرب الآلهة على الأبواب !
خلد الأميرسحب السماوات والربّة عشتارإلى نوم عميق استيقظا منه في وقت متأخر، وبعد أن استحمّا أعدت الربة للأمير مائدة ربّانيّة من طعام الآلهة ، لم يعرف الأميرمنها أي نوع من اللحوم أوالخضارأو الفواكه ، لكنه ما أن يتذوق قطعة من أي صنف حتى يشعر بنكهة لذيذة لم يستشعرها لأي طعام من قبل . والأمر نفسه انطبق على نوع الخمرالربّاني الذي بدا أن الرشفة منه تنشط الدماغ وتحفّزالخيال وتفجّر الذهن ، ليجد المرء نفسه وقد أصبح شاعراً وفيلسوفاً إن لم يكن إلهاً . وبدت الربة وقد تألق جمالها وانشرح صدرها وأشرق وجهها ، وهي تجلس بثوب أزرق حريري شفاف ، عارية الذراعين والكتفين والعنق والصدر، لتبدو حلمتا نهديها من خلف الثوب كنصفي حبتي فستق حلبي مقشرّتين ، تتوقان إلى من يقضمهما! وأضفى حضورها على الجو هالة ربّانية أحالت كل شيء إلى فرح وبهاء ، فبدت صالة الطعام وكأنها ترقص مع الموسيقى الحالمة التي كانت تتردد من كافة أرجائها ، فيما عم الفرح والإبتسامات النوافذ والمناضد والصحون والكؤوس والشوك والسكاكين والملاعق والورود التي على المائدة ، وبدت هذه الأخيرة وهي تؤتي اهتزازات خفيفة وترسل ذبذبات راقصة يتفوح منها عطرالألوهة الأخاذ ، وبدت الستائر وهي ترف بأقمشتها الملوّنة وتتمايل وكأنها طيورتحلق على تؤدة في سماء رومانسية. وكانت حوريتان ملائكيتان ترتديان ثياباً بيضاً تقومان بخدمة الربّة والأمير، وقد بدتا كحمامتين وهما ترفان بأجنحتهما البيض بين الموائد وفضاء الصالة .
كانت الربة تجلس إلى جانب الأمير وتلقمه بيدها بين لحظة وأخرى قطعة صغيرة من لحم لم يتذوق أطيب منه . سألها :
- ما هذا اللحم يا حبيبتي ؟
- لحم خاص بطعام الآلهة يا حبيبي كما هو كل شيء على المائدة . يمكن القول إنّه أقرب إلى لحم الرشأ !
- وهل هذا الطعام خاص بالآلهة فقط ؟
- أجل يا حبيبي !
- هل هذا يعني أن الأمم محرومة منه ، ولا يوجد لديها حيوانات مثل هذه الحيوانات ، ولا نباتات وأشجار مثمرة مثل التي لدى الآلهة ؟
- أجل يا حبيبي للآلهة حيواناتها وأشجارها ونباتاتها!
شرع الأمير في الضحك وهو يهتف متسائلا :
- أي آلهة امبريالية هذه ؟
لم تفهم الربّة كلمة امبريالية . تساءلت :
- ماذا تقصد بإمبرياليّة يا حبيبي ؟
- إنها مفردة لغوية يطلقها أبناء كوكب يقال له الأرض ، على طبقة بشرية وصلت في ثرائها أعلى مراحل الرأسمالية !
صمت الأمير فجأة مركزاً ذهنه . تساءلت الربة :
- هل هناك شيء يا حبيبي ؟
- عفوا حبيبتي . أبي يخاطرني .
وعاد إلى تركيز ذهنه :
- حبيبي طمئني عنك . لا أصدق أنك بخير ولا تخبرني بما يجري . استنفرت كل القوى الممكنة لأشنّ حرباً لإنقاذك إذا دعت الضرورة .
- لا تقلق يا أبي . أنا فعلاً بخير، لكن ثمة مسائل لا بد من حلّها . إذا احتجت إلى مساعدة سأخبرك .
- حبيبي . لقد أضفت إلى قدراتك كل ما هو ممكن ، فلا تتأخرفي طلب ما هو محال أوشبه مستحيل .
- أشكرك يا أبي . أعطني أمي !
- حبيبي !
جاءه صوت أمه متهدجاً :
- ماما حبيبتي لا تبكي أنا بخيرسأكون معكم قريباً ! أعطني فتنة !
- حبيبي حبي عمري!
- فتونة حبيبتي . اشتقت لك . لن أتأخرعليك . لا تقلقي علي حبيبتي .
أوقف الأميرالتخاطرالتذاهني !
هتفت الربة وقد أدركت أن الأمير يجيد التخاطر كما الآلهة وكبارالجن :
- وتقول أنك لست إلهاً يا حبيبي وتجيد المخاطبة بالتخاطركما الآلهة !
- إنها هبة من الله يا حبيبتي !
- من هو الله يا حبيبي ؟
- ربما الإله الأكبركما هو في معتقدكم . أما عندنا فنطلق عليه الله أوالخالق أو المطلق الأزلي حسب بعض أسماء أبي له !
- أليس هناك آلهة مساعدون له !
- في مفهومنا أنا وأبي، البشرية كلها مساعدة له لكنها ليست آلهة وإن كانت تحمل قدراً من الألوهة في ذواتها .
- لم أفهم !
- أظن أن الأمرصعب عليك !
- لكن حاول أن تفهمني .
- الخالق في فهمنا طاقة سارية في الكون والكائنات ومادة مجسدة في الكون والكائنات ، فهو الوجود كلّه وما فيه، والوجود كلّه وما فيه هو . فهو الواحد في الكل والكل في الواحد هو ! وبهذا تكون الألوهة بجزئيتها موجودة في كل كائن ليقوم بدوره في عملية الخلق وبناء الحضارة الإنسانية وتحقيق قيم الخير والحق والعدل والجمال .
أدركت الربّة عمق الهوة بين فكرها وفكرالأمير وإمكانية أن تؤثرهذه الهوّة على علاقة العشق بينها وبين الأمير . هتفت :
- حسب هذا الفهم أنت لست إلهاً لكنك غيرمعزول عن الألوهة بشموليتها .
- صحيح .
- وأنا كذلك حسب فهمك .
- أيضا صحيح !
- وهذا يعني أننا أنا وأبي الإله لسنا آلهة بل ونقوم بأعمال لا ترضى عنها الألوهة !
- بل وبما هو ضد الغاية من وجودكما! فأبوك يوظف قوته للحصول على ما يريد ويحتاج إلى عبيد يعبدونه ويصلّون له ، ويقيم جهنماً يعذب فيها العصاة من غيرالمؤمنين به ، وجنّة لمن يعبدونه ، وكل هذه المسائل تتناقض مع مفهوم الألوهة ، التي هي خيربالمطلق ومحبة بالمطلق وعدل بالمطلق وجمال بالمطلق .
انفرجت شفتا الربّة قليلا لتفتح فمها وترفع رأسها متأوهة وهي تدرك ما لم تفكرفيه من قبل على الإطلاق . وتنبّهت إلى أن الأميرلم يعد يخاطبها ب يا حبيبتي.
- يا إلهي الأكبر كم يختلف مفهومكم عن مفهومنا. هل تظن أن الخطأ في فكرنا أم في فكرالإله الأكبر؟ !
- وكيف عرفتم أن الإله الأكبر فكّر واعتبر نفسه الإله الأكبر ؟
- هكذا قيل لنا ودون في كتبنا المقدسة .
- هذا ما فكرفيه أسلافكم وليس هناك إله أكبروإله أصغر !
- هل سيؤثرهذا الأمرعلى عشقنا يا حبيبي ؟
توقف الأمير للحظة يفكر، ليتابع بما هو خارج حالة العشق المؤقتة مع الربة :
- لا تنسي أيتها الربة أننا في حالة حب مؤقتة ، فلا أنا حبيب أبدي لك ولا أنت حبيبة أبدية لي ، فأنا رجل متزوج كما تعلمين ، واختطفني أبوك عنوة من أحضان زوجتي ، وهذه مسألة تستحق العقاب ، ومع ذلك تجاوزت المشكلة وتعاطفت معك بعمق مشاعري وغمرتك بمحبتي وقمت بفعل الحب معك كما لم أفعله من قبل مع أنثى ، رغم أنني قطعت شبه عهد لزوجتي أن لا أمارس الحب إلا معها . الآن أعرض عليك أمرين لا ثالث لهما : أن تبقي في دنياك وأعود أنا إلى دنياي ، أو تذهبي معي لتنضمي إلى حاشيتي معززة مكرمة كربّة إن شئت . تعيشين حياتك دون أن تسيئي إلى أحد ، وتمارسين الحب مع من يعجب بك وتعجبين به دون أن يؤثرالأمرعلى مشاعرآخرين . ولا تعرفين قد يكون لنا ليلة غرام أخرى وربما ليال لسبب ما في يوم ما ، وأنا واثق أن فتنة ستحترمك وترحب بانضمامك إلى حاشيتنا .
اغرورقت عينا الربة بالدموع وألقت رأسها على حضن الأمير وهي تردد:
- عاجزة عن شكرك أيها الأميرسأختارأن أبقى معك حتى لوعارض أبي وجميع مساعديه من الآلهة والجن ، وسأتبع معتقدك لأنني اقتنعت به !
- لكن ثمة مسألة قد تجعلك تغيرين رأيك !
- رفعت الربة رأسها عن حضن الأمير لتتساءل :
- ليس هناك مسائل تثنيني عن رأيي فما هي هذه المسألة ؟
- ما لا تعرفينه أيتها الربة أن أبي رسول محبة للبشرية ومحارب للشرأينما وجد إنّما بوسائل فيها الحدود العُليا من الإنسانية ، فهو يحرص على أن لا يريق دماً حتى للأشرار . وما جئت أنا إلى الوجود إلا لأكمل رسالة أبي وبسفك الدماء إن دعت الضرورة . ولا أظن أننا أنا وأبي سنتجاوز سبع مجرات يؤلّه أبوك نفسه عليها ويبسط رعبه عليها ، خاصة وأنه يمارس جحيمه في الحياة الدنيا وليس في الحياة الآخرة حسب ما أظن !
- أجل أيها الامير جحيم أبي قائمة منذ الآن على الأحياء ، فكل من يشك في أمرإيمانه يساق إلى الجحيم القائمة على كل كوكب ، ويرغم على عبور نهرالحمم المنصهرة سائراً على الحبل الممتد فوق النهر . ويستحيل على أي إنسان اجتيازهذا الحبل ، فالجميع يسقطون في نهرالحمم لتبتلعهم ، وبعضهم لا يستطيعون الإنتظار، ليعيشوا كل هذا الرعب وهم يرون الناس تتمايل أجسادهم فوق الحبل ليختل توازنهم ويسقطوا في الجحيم ! فيلقون بأنفسهم في النهر.
- أي سفاح هذا أبوك ايتها الربة ؟ وماذا عن الجن هل يجري عليهم العقاب نفسه ؟
- أجل أيها الأمير يجردهم من جنيتهم ويجعلهم يعبرون فوق الحبل . لكن الجن غيرالمؤمنين أو المشككين في ألوهيّة أبي ليسوا كثيرين كالبشر. لا أعرف حسب ما قلت لي ، ما الذي ستفعلانه بأبي إن انتصرتم عليه سلما أو حرباً؟
- لا بد من إنقاذ البشرمن ظلم أبيك سلماً أوحرباً ، وبما أنه جني أظن أن أبي سيسجنه في قمقم !!
- أبي قوي جداً أيها الأمير ولن يكون انتصاركم عليه سهلاً بل إني أبدي منذ الآن خوفي عليكم ، وأشك في أنه سيقبل الإذعان لاي شرط من شروطكم بسلام !
- ما مدى قوة أبيك ؟
- لن تصدق إذا ما قلت لك إنّ أبي - حسب ما يقول هو، فلم أره يفعل ذلك – قادرعلى أن يطبّق السموات السبع على بعضها وكأنها ألواح صفيح !!
أطرق الأمير للحظات مفكّراً في الكيفية التي حصل بها هذا الجني على هذه القدرات الخارقة . لم يجد غير أن يعتبرها أخطاء في الخلق إذا صح وجودها .
- هل سبق وأن رأيته يفعل أشياء خارقة ؟
- سبق له وأن دمرمجرة بكاملها وكأنها لم تكن . ورأيته يلعب بكواكب وكأنها طابات !
أدرك الأميرخطورة المواجهة مع أبيها . سألها :
- هل حددت موقفك الآن أيتها الربّة مع من ستكونين على ضوء حديثنا هذا ؟
فاجأته الربّة حين هتفت :
- أنا معك أيها الأمير ولن أغير رأيي مهما كان الثمن . أبي إله ظالم جداً ولا أظن أن هناك إلهاً أكثر ظلماً منه وليس في استطاعتي أن أكون معه .
- أشكرك أيتها الربة .
وضمها إليه وقبّلها على وجنتها .
****

(90)
المحبة المطلقة في إله مطلق المحبة !
وهما يحتسيان القهوة في شرفة قصرالربة ويرقبان عبرالزجاج حوريات البحر والدلافين والحيتان وأسماك القرش المحلّقة في أعماق المحيط وسط شعب مرجانية أخاذة كانت ترسل فروعها في اتجاهات مختلفة ، تساءل الأميرسحب السماوات :
- أين نحن الآن أيتها الربة ؟
- نحن في شرفة الجناح السابع من أجنحة قصري السبعة في أعماق المحيط السابع في السماء السابعة من المجرات السبع التي تقوم عليها ألوهية أبي ! !
دهش الأمير لوجود هذا المكان في أغوار الكون الهائل . تساءل :
- وهل يقيم أبوك في هذا المحيط ؟
- أجل . يقيم مع أمي الربة عناية !!
- ماذا تقترحين علي لأجنّب أنفسنا وأجنّب أباك الحرب المهلكة بيننا ؟
- لو أدرك أن أبي يقبل المساومة لأشرت عليك بالتفاوض معه على إيقاف العذاب وإطلاق حرية التعبير للجن والإنس ، وحتى حرية المعتقد، دون الإساءة إلى معتقد آخرأوأحد آخر، والإقرار بحق الجميع في المواطنة المتساوية على آلاف الكواكب ! مقابل عدم معاقبته أوسجنه في قمقم من قبل أبيك !
- أليس هناك أمل في أن يقبل ؟
- أشك في ذلك ! لكن لا مانع من المحاولة !
- هل نحاول معاً أنا وأنت ؟
- أنا بالتأكيد ورقة رابحة في يديك من ناحية وخاسرة من ناحية أخرى ! رابحة إذا ما تبين أنّ لديه نيّة للتفاوض ، وخاسرة إذا ركب رأسه وأصرعلى الرفض مهما كان الثمن ، فقد لا يضير أبي أن تتدمر المجرات السبع التي يؤلّه نفسه عليها مقابل أن يبقى إلها !
- لكننا سنعرض عليه الإبقاء على ألوهيته ، فيكسب ألوهيته ويكسب أممه ومجراته . سيكون في غاية الحمق إذا لم يوافق .
- لكنه سيفقد سلطته الشمولية المطلقة ، وأشك في أنه سيقبل بسلطات دستورية ديمقراطية عادلة تحكم الكواكب وتقوده نحو إقامة الحضارة الإنسانية وتحقيق قيم الخير والعدل والجمال التي تنشدانها أنت وأبوك .
صمت الأميرللحظات ثم هتف :
- على أية حال سأستشير أبي رغم إدراكي أنه سيوافق على التفاوض مع أبيك على السلام . كما أنني أريد أن أجيء إلى أبيك من موقع قوة لا من موقع ضعف ، ليكون بيدي ورقتان ، قوتي وأنت !
- بل ثلاث أوأربع ورقات ، قوة أبيك أيضا وقوة القوى التي ستناصره .
- صحيح .
- ماذا ستفعل هل سترسل نيزكاً أو جرماً يحلًق فوق عرش أبي ؟
ضحك الأمير للفكرة . هتف:
- لا ! أريد أن ترافقيني إلى أكبر جهنم على أكبركوكب في مجرّات أبيك . وسترين حينها ماذا سأفعل !
- حسنا . متى تريد ذلك؟
- الآن !
- لكني لا أعرف إن كانت قواي قادرة على أن تنقلنا إلى هناك بسرعات فائقة !
- لا عليك سأستخدم قواي ! لكن علي أن أخاطرأبي للحظات لأخبره بما أخطط له ، وليكون بقدراته في عوني.
نهضت الربة لتهيء نفسها للإنتقال إلى جحيم أبيها ، فيما شرع الأمير في التخاطر مع أبيه ، وإطلاعه على ما ينوي فعله . وافق الأب على كل ما طرحه الأمير، وأكد له أنه سيكون بكل قواه معه ، وطلب إليه أن يطلب إلى الله في مطلق ألوهيته أن يقف معه ويأخذ بيده !!
عادت الربة وقد ارتدت ملابس آلهة الحرب ، فبدت كجنرال بشري في زي عسكري ! إنما دون رتب من السيوف والنجوم والتيجان ! ضحك الأميروهي تقف باستعداد وتردد :
- أنا جاهزة يا سيدي القائد !
- حسنا أيتها الربّة لنكن هناك !!!
لم تصدق الربّة حين وجدت نفسها تحلّق فوق جحيم أبيها في هذا الكوكب ، وتدرك أن قوى الأمير أكبر بكثير مما توقعتها . هتفت وهي ترى آلاف البشر يسقطون في جحيم أبيها أويلقون بأنفسهم فيها مرغمين .
- اوه ! لم أتوقع أن تكون قواك خارقة إلى هذا الحد أيها الإله !
- آمل أن تتفوق قوانا على قوى أبيك . دعينا الآن نوقف هذه الفظائع وننقذ البشرمن هذا الجحيم .
كانت جهنم"الإله القاهر" كما أطلق على نفسه مقامة على نهر من الحمم المنصهرة شبه البركانية ، بين سلسلتين من هضاب بعرض حوالي ألفي متر، وبطول يمتد في أراضي الكوكب لآلاف الأميال ليصب في محيط من الحمم الملتهبة، تلقى فيه أيضاً ملايين أجساد المعذبين ممن لا يتقيدون بشريعة الإله، ومن الملحدين الذين لا يعتقدون بوجوده، ومن الكفرة الذين يتبعون عقائد مختلفة لا تؤمن بألوهة غير آلهتها . وبدت ملايين الأرتال من الأطفال والشباب والفتيات والرجال والنساء والعجائز تقف إلى جانب النهر منتظرة دورها ، ليعبر كل فرد فيها فوق حبال حديدية لا يزيد سمكها على سنتمترات ، امتدت بالآلاف عل عرض النهربارتفاعات مختلفة لا تقل عن ثلاثة أمتار ، حسب ارتفاع الطبيعة على طول الشاطئ، فلا يستطيع العبور ، وهو يتمايل على الحبل ليختل توازنه ويسقط في النهر لتبتلعه الحمم وتصهره .
تساءل الأمير وهو يرقب فظائع لا يتصورها العقل :
- لماذا يحرق أبوك الأطفال ؟
- الإيمان عند أبي يبدأ من سن الخامسة ، وعلى الأهل أن يعلموا أبناءهم الشريعة بدءاً من سن الثالثة ، فإذا بلغوا الخامسة وهم لم يتعلموها اعتبروا زنادقة وملحدين، فيساقون إلى الجحيم ! لذلك يتم تعليم الشريعة في الكواكب بكل السبل الممكنة في البيوت والمدارس والمساجد والإذاعات ومحطات التلفزة ، بشكل مباشروغيرمباشر ، يتمثل في الغناء للإله والرقص والدعاء له وتقليد المصلّين وارتداء الزي الذي تفرضه الشريعة وتحذيرالأطفال من عذابه ، وما إلى ذلك .
- أي إله مجرم هذا ، أشك في أن أبي سيقبل بسجنه في قمقم ، وربما ينزل به أقصى أنواع العذاب . ويؤسفني أنه أبوك أيتها الربّة !
- لم أعد أشعر بالحاجة إلى أسف على آلهة من أمثال أبي أيها الإله !!
ومد الأمير يده اليمنى وحركّها يمينا وشمالاً إلى أقصى مدى ثم مد اليسرى ليحركها كذلك ، وإذا بكل شيء يتوقف في مكانه ، ما عدا الذين كانوا يعبرون الحبال فوق النهر ، فقد هبطت عليهم قوى خفية وأعادتهم إلى طوابير الشواطئ .
لم يصدق الناس ما يجري فباتوا في غاية الدهشة وخاصة جلاوزة الإله الذين تسمّروا في أماكنهم ولم يعودوا قادرين على فعل شيء .
هبط الأمير والربة على طابور من الأطفال . أخذ الأمير طفلة في منتهى الجمال في حدود السادسة من عمرها كانت تقف مرتجفة في أول الطابور وآثار الدموع ما تزال على وجنتيها ، ضمها إلى حضنه وطار محلّقا بها ، بينما أخذت الربة طفلاً واحتضنته وطارت محلقة به خلف الأمير . كان الطفل يقف خلف الطفلة في الطابور وتبين أنه أخوها . هتف الأميرمخاطباً الطفلة التي شعرت بالأمان بين أحضانه :
" ما اسمك يا حبيبتي ؟ "
" أسيل "
" الله ما أجمل هذا الإسم يا حبيبتي ! أجمل من لحن!"
" شكرا يا عمو . هل ستنقذنا من عذاب الجحيم يا عمّو؟ "
" طبعا يا حبيبتي ولن أدع أحداً يمسكم بعد اليوم "
" هل ستقدرعلى الله القاهر؟ "
" سأقدر بإذن إلهي يا حبيبتي "
" هل إلهك يحب الأطفال يا عمّو ؟"
" يحب الأطفال وكل الناس يا حبيبتي ولا يعذب وليس عنده جهنم "
" أحب إلهك يا عمّو"
" وهو يحبك كثيراً يا حبيبتي "
طوقت أسيل عنق الأمير بيديها وألقت رأسها على كتفه مستشعرة طمأنينة فائقة!
" أين بابا وماما يا حبيبتي ؟"
" ألقاهم الإله القاهر في النار "
" لماذا يا حبيبتي ؟ "
" قالوا لنا أننا أسرة كافرة فأحرقوا ماما وبابا وهاهم يريدون أن يحرقونا أنا وأخي "
يكاد الأميرأن لا يصدق ما يسمعه ، فهل يعقل أن يكون هناك إله على هذا القدر من الظلم؟ لم يعرف كيف في مقدوره أن يعوض الطفلة وأخاها عن فقدان الأبوين ، فليس في مقدوره أن يحيي الموتى . خاطب الطفلة عارضاً عليها بعض الهدايا :
" ماذا تريدين أن أحضرلك يا حبيبتي . عندي هدايا للأطفال من كل شيء ، حتى عرائس حوريات "
فتحت الطفلة عينيها اللتين أغلقتهما حتى لا ترى هدير وأمواج الحمم المتلاطمة ، وهتفت من خلف كتف الأمير:
" ما بدي ! بدي ماما وبابا "
شعر الأميرلوأن خنجراً طعنه لكان أهون عليه من هذا الطلب . شعر بالفضاء يتأرجح به وكأنه يود قذفه خارجه . لم يعرف أنه وجد نفسه في الموقف الذي وجد أبوه نفسه فيه في رحلته السماوية الاولى وهو يحلق بالطفلة نسمة فوق جحيم داجون . تمالك نفسه ، وخاطرالله من شغاف قلبه ، وأعماق حزنه:
" إلهي الحبيب كلّي القدرة ومطلق الألوهة ، أتضرع إليك بمطلق محبتك ، ومطلق قدرتك ، ومطلق خيرانيتك ، ومطلق عدالتك ، ومطلق إنسانيتك ، ومطلق ألوهيتك ، أن تعيد الحياة إلى كل من أحرق في جهنم هذه"
ولم يكد ينهي كلامه حتى راح النهر يقذف ماءً عذباً بدلاً من الحمم الملتهبة، وتفجرت آلاف الأنهارعلى شواطئ نهرالجحيم وراحت تلقي مياهها العذبة فيه وتطفئ الحمم المتدفقة . انبعث دخان هائل من جراء إطفاء الحمم ، فانهمرت أمطارغزيرة من السماء وشرعت في تبديد الدخان .. خاطرالأمير قواه الجنية المساعدة أن تحمل ملايين البشروتبعدهم عن الشواطئ ، أو تحلّق بهم بعيداً في الفضاء . فيما كان الأمير والربّة يحلّقان بالطفلة وأخيها بعيدا عن الدخان وإطفاء الحمم.
تلقت الربّة عشتارصرخة تخاطرية من أبيها يسألها عما تفعله ، حين علم من الإله الموكل بالكوكب أن الربة عشتار برفقة إله آخرقاما بإيقاف حرق الملحدين والكفرة وغيرالمتقيدين بالشريعة القاهرية . لم ترد الربّة على أبيها وحذرت الاميرسحب السماوات أن يحتاط بكل قواه لأن هجوماً نيزكياً أوما شابه ذلك قد ينطلق نحوهما في أية لحظة . أخبرها الأميرأنه احتاط لكل شيء وراح يرقب إطفاء الحمم متابعاً تحليقه في الفضاء مع الطفلة تتبعه الربّة والطفل وملايين البشرالمحلقين بمساعدة الجن .
تم إطفاء الحمم ونهرالجحيم والأنهارالمحدثة تقذف ماءّ عذباً .. تابع الأمير تحليقه فوق مجرى النهر ليبلغ المحيط الذي يصب فيه . رأى بعض الأجساد البشرية تظهرفي النهر وهي تخابط بأيديها وأرجلها في الماء . صرخ بالجن أن ينقذوا ملايين المحروقين الذين راحت الحياة تعود إليهم . شرع الجن بإلقاء أنفسهم في النهر والمحيط وانتشال البشر والتحليق بهم في الفضاء . شعر الجميع أنهم في يوم القيامة ، وأن القيامة قد قامت بالفعل ، لكنها ليست قيامة إلههم القهارالشرّانية ، بل قيامة خيرانيّة لإله هو بحد ذاته خير مطلق ومحبة مطلقة وعدل مطلق وألوهية مطلقة .
شرع الأمير في شكرالله جهراً والدموع تنزلق من عينيه ، فشرع جميع المحلقين في السماء من إنس وجن يشكرون الله ، مرددين "شكرا لله" بل وراحوا يترنمون بالكلمتين لتتحولا إلى أغنية بنغمات روحانية مختلفة.
هتف الأميرإلى الطفلة أسيل :
" ألن تبحثي معي عن بابا وماما يا حبيبتي ؟"
" هل أحياهم إلهك يا عمّو؟"
" أجل يا حبيبتي هيا استديري وابحثي معي بين الناس المحلّقين "
لم تبحث أسيل كثيراً والأمير يحلق بها .. رأت أمها وأباها بين المحلقين . هتفت " ماما . بابا " فيما كان أخوها يهتف بدوره " ماما. بابا "
****
(91)
حرب الآلهة الكونيّة !
في الوقت الذي كان فيه الملك لقمان والملكة نورالسماء والإمبراطورالشنوتي والإمبراطورة والملك شمنهوروالعديد من ملوك الجن وحاشية الملك لقمان يرقبون المعجزات الخارقة التي تجري على يدي الأميرسحب السماوات، كان الإله القاهر يخاطرابنته عشتار وهو في غاية الغضب وقد انقلبت محبته لها إلى كره فظيع " ليت أمك لم تلدك ، ليت ذاك اليوم كان جحيماً تطبق فيه السماوات على صدورالبشر والآلهة ، ليتك كنت طعاماً لوحوش الغاب، على أن أراك تنقلبين علي وتشهرين تمردك في وجهي، ومع من أيتها العاقة ؟ مع من اختطفته لك لأملأ لياليك فرحاً وبهجة وطيب وصال . هل أعمى عشق ذاك الوغد عينيك فتنكرت لأبيك ؟ هل سحرك بحسن مفاتنه وغيب عقلك عن سلوك الصواب ؟ جعلت منك ربة لتكملي ربوبيتي لا لتعاديها . سأعلقك مع ذاك الوغد من أقدامكما وأجعل الطيورتنهش لحمكما ، لأمتع ناظري وأشفي غليلي منكما "
كان الأميرسحب السماوات قد طلب إلى الجن أن يذهبوا بالبشرالناجين إلى أماكن سكنهم وبقي هو والربة في الفضاء بأن جلسا على محفة في مقصورة طائرة. وقد وظف الأمير قواه ليستمع إلى التخاطر الجاري بين الربة وأبيها . وما أن توقف الإله القاهر حتى أشارالأميرإلى الربة أن تعرض على أبيها السلام حسب ما سبق لهما وأن تحدثا حوله ، وأن تحدثه بمودة قدرالإمكان :
" اسمع يا أبي ، إن احترامي للأبوة في شخصك يدفعني إلى مخاطبتك باحترام ، إن الإله سحب السماوات يعرض عليك السلام مقابل الإبقاء على حياتك ، ومنح الحريّة للبشرفي أن يكونوا أحراراً في معتقداتهم ورؤاهم والنظام الذي يحكمهم بالعدل والمساواة بينهم ، دون أي فرق بين إنسي وجني ، وأي معتقد ومعتقد آخر "
جاء الصوت مرعداً عبر تخاطرالأب :
" الحرية هي عبادتي وتنفيذ شرائعي أيتها الناكرة لحقوق الأبوّة ، وحقوق الألوهة .. ومن سحب السخافات هذا حتى أذعن لشروطه بالسلام ، سأجرده من كل قواه وأجعله ذليلاً بائساً حين أعلّقه من قدميه "
" لن تستطيع أن تفعل شيئاً يا أبي ، وقد رأيت ما قام به سحب السماوات من معجزات في الخلق ، حتى إحياء الموتى الذين صهرتهم في حمم جحيمك "
لم تكن مسألة إحياء الموتى من القدرات التي يمتلكها الإله القاهر، فرد على ابنته بالقول :
" إذا كان سحبك الذي أعمى عينيك وأغلق عقلك يجيد إحياء الموتى فأنا أجيد إبادتهم ثانية وأبيد معهم المليارات من البشر. أنا الإله القاهر"
" أنصحك بأن توافق يا أبي حتى لا تخسر سكان كواكب مجراتك ، وتخسر نفسك، ولا تندم في يوم قد لا يكون بعيداً ، وسأعمل على الإبقاء على ألوهيتك "
" ألوهيتي هي كل شيء أيتها العاقة ، فإما هي أو لا شيء "!
" وما حاجتك إلى ألوهيتك وحدها دون إنس وجن في عالمك ؟ "
" ألوهيتي هي كل شيء "
" هي الحرب إذن "
" وقد بدأت أيتها العاقة الناكرة "
نظرت الربة إلى الأمير والرعب يجتاحها . ضمّها الأميروهو يهتف :
" لا تخافي ثمة عشرة شهب انطلقت نحونا سأجعلها تغيراتجاهها وتصعد في الفضاء لأدمرها بعيداً عن الكوكب حتى لا تؤذي أحداً . ثم لا بد من الإنتقال إلى خارج الكوكب لننقل الحرب إلى هناك حرصاً على سلامة الناس "
تنبهت الربّة إلى الشهب وهي تقدم منطلقة من بعيد ، ثم وهي ترتفع لتمرمن فوقهما على ارتفاع شاهق وتتابع صعودها في الفضاء لينطلق شهاب هائل ويعترضها معا لتتفجر في الفضاء .
حاول الإله القاهر استخدام قواه لشل قوى خصمه دون جدوى ، استغرب الأمر فقد سبق له وأن جرده من قواه حين اختطفه ، أدرك أنه احتاط للأمر فوظف قدراته وربما امتلك قدرات أخرى ، وحين رأى ما فعله سحب بالشهب توقع أنه سينقل الحرب إلى خارج الكوكب فأحاط فضاء المقصورة بأسراب من الجن المخفيين . أدرك الأميرالأمر فواجههم بأسراب مماثلة ، انطلقت آلاف الشهب في اتجاه المقصورة ، تصدى لها جن الأمير، غير أنه لم يكن في استطاعتهم أن يغيروا اتجاه الكثيرمن الشهب فدمروها في منتصف مسافة انطلاقها ، فيما دمرت الأخرى على ارتفاعات عالية.
ارتجت الأرض من جراء أصوات الإنفجارات المدويّة في الفضاء ، دمّرت بعض بيوت المدن على سكانها ،وسقطت مئات الصواعق على بشر. والتهب الفضاء بسحب من نار مشتعلة، وسحب من دخان هائل . دب الرّوع في قلوب الناس . لم يجد الأميرمفراً من استخدام قوى أكثرفاعلية . أحاط فضاء الحرب على الكوكب بظلام دامس قادرعلى ابتلاع كل شيء ليحيله إلى عدم، وجعله يزحف من كل الجهات ليبتلع كل ما يواجهه من جن ونيران وشهب ودخان ، ولم يتوقف إلا على مقربة من فرق الجن المحيطة بمقصورة الأمير والربة .
" هيا لننتقل من هنا إلى خارج فضاء الكوكب ، يكفي ما حدث من دمارضحية هذه الحرب الملعونة "
هتف الأمير مخاطباً الربّة . ولم يفرغ من كلامه إلا ومقصورتهما تحلق على بعد آلاف الأميال من الكوكب والكواكب الأخرى في المجرة . غير أن انتقالهم وضعهم في مكان يتوسط المجرات السبع ، إذ راحت الشهب والمذنبات تنطلق عليهم بالملايين من كافة الإتجاهات في الفضاء السحيق . وظف الأمير ملايين الجن للتصدي لها ، فالتهب الفضاء بالنيران الملتهبة ليبدو وكأنه الجحيم عينها .. حاول الأمير استخدام قواه للسيطرة على قوى الإله القاهر وشل قدراته التدميرية دون جدوى ، فخاطر أباه مستنجداً . حاول الملك لقمان بدوره فلم ينجح رغم ترديده لكلمة السرالممنوحة له مما يفترض أنه الله المطلق كلي القدرة . مما دفع الملك إلى الإعتقاد بأن الحكمة الإلهية اقتضت ألا تمنحه مطلق السرالقاضي بالقول للأشياء كوني فتكون ، بل منحه محدوديته التي يمكنها أن تنفذ قدَراً ما من الطلب وليس الطلب كلّه ! فقد لوحظ أن الشهب والمذنبات التي تطلقها قوى الإله القاهر ليست بحجم الشهب والمذنبات التي يطلقها الأمير وأبوه.
دامت حرب الشهب والمذنبات لبضع ساعات بحيث امتدت لتشتعل في فضاء المجرات ، واستعان الأمير وأبوه بقوى الجن من أنصارهم وحتى قوى الملك إبليس نفسه ، فانطلقت شهب ومذنبات هائلة راحت تحصد في طريقها كل ما يعترضها من جيوش وشهب ومذنبات مضادة .
أدرك الإله القاهرأن حرب الشهب والمذنبات لم تعد مجدية لهزيمة خصمه ، فشرع في إطلاق نيازك بأحجام كوكبية ، يكفي تفجيرإحداها إلى تدمير مجموعة من الكواكب المسكونة بالجن والإنس وغير المسكونة، يؤدي تدميرها بدوره إلى توليد ضغط هائل يؤثرعلى الكواكب الأقرب فتتفجر بدورها ، مما ينجم عنه إحداث سلسلة من التفجيرات الكوكبية غيرالمتناهية يمكن أن تدمّرالكون برمته. أطلق الإله القاهرهذه النيازك الكوكبية في كافة الإتجاهات لتحيل الكون إلى جحيم مستعر وكأنه يقول علي وعلى أعدائي !
وجد الأمير سحب السماوات نفسه في وضع يثيرالرعب فاستعان بقوى أبيه الذي استعان بدوره بكل قوى الجن والإنس وتضرع إلى الله نفسه أن يقف معهم في حربهم ضد هذا الإله . انطلقت نيازك لتواجه نيازك ، وكواكب لتصطدم بكواكب . ولأول مرة شارك الإنس في حرب كوكبية بأن أطلقوا الصواريخ الهيدروجينية والنووية العابرة للكواكب في اتجاه النيازك والكواكب المعادية . تحول الكون إلى فضاء يلتهب بالحمم الجحيمية ، وأصوات الإنفجارات المزلزلة ، فدمرت آلاف الكواكب المأهولة بالإنس والجن ،ولم يبق كائن في الكون من إنسان وحيوان وجن إلا وشعر بالرعب الفظيع . ولم تنجح كل هذه القوى في تدمير قوى الإله القاهروالإنتصار عليه .
صرخ الأمير سحب السماوات " ما العمل يا أبي ، الكون يدمّر؟ " وبدت الربة عشتاروهي في غاية الرعب بينما المقصورة التي تقلها هي والأمير، تختفي وتظهرفي فضاء جديد مبتعدة عن الكواكب المنصهرة والنيازك المنطلقة . جلس الملك لقمان خاشعاً على ركبتيه ، مخاطبا الله من أعماق قلبه " إلهي كونك يدمر يا إلهي فكن معنا ، ومدّنا بقوة من قواك ننتصر بها على أعدائك وأعدائنا " وظلّ الملك جاثياً على ركبتيه إلى أن خاطره هاتف طارقاً مخيلته " لبيك أيها الحبيب انظرإلى السماء " وحين نظر الملك إلى السماء رأى ظلاماً دامساً يحجب الفضاء العلوي كله ، فيما ظل الفضاء السفلي منيرً . غمر الظلام أكثرمن ألف مجرة كانت تتفجر فيها الكواكب وتضطرم فيها الحمم والنيران ، ابتلعها الظلام وكأنها لم تكن ، ليعم الهدوء والصمت كافة أرجاء الكون .
ظل الملك ومن معه بل والبشروالجن في كل مكان، مطرقين للحظات حين بدأ الظلام بالإنحسارعن الكون ، وكلما انحسرعن مجرة عادت كما هي قبل اندلاع الحرب ، وحين انحسر الظلام عن أكثر من ألف مجرّة كانت تعود إلى ما كانت عليه وكأن حرباً كونية لم تقم . غيرأنّها لم تعد إلى الإيمان الذي كان عليه سكّانها من الإنس والجن ، بل إلى الإيمان بالإله الواحد ، مطلق القدرة ، مطلق الخيرانية ، مطلق المحبة ، مطلق العدل، مطلق الجمال . كائن واحد لم يعد كذلك ، هو الإله القاهرالذي جرّد من قدراته، كما جرّد جميع مساعديه من الآلهة من قدراتهم ، ليكونوا في أدنى القدرات الإنسانية على الإطلاق.
كانت فرحة الملك لقمان وكل من معه بل والبشرية جمعاء أكبرمن أن يعبّرعنها بكلام ، وقد أدركت تماماً أن الألوهة تدخلت ولأول مرة في تاريخ الخلق ، لإنهاء حرب كونيّة . فشرع الجميع وفي كل مكان يشكرون الله . أما الملك لقمان الذي لم ينهض من جثوته على ركبتيه في حديقة القصر . فقد انحنى ليقّبّل الأرض ويردد " شكرا يا إلهي شكرا يا إلهي " وهو يستشعر في طعم القبلة جمال الألوهة ومحبة الله .
ألقت الربة عشتار رأسها على صدرالأمير سحب السماوات وهي تشكر الله . احتضنها الأمير بيديه وكل عواطفه . هتف :
" هيا يا حبيبتي "
أدركت الربّة أن الأميرعاد ليخاطبها من أعماق مشاعره ب " ياحبيبتي " ردت :
" إلى أين يا حبيبي "
" نبحث عن الإله القاهر والربّة عناية ، نستطلع أحوالهما ونطمئن عليهما ، أم أنك لا تريدين الإطمئنان على أمك وأبيك ؟ "
" يا إلهي كم قلبك كبيريا حبيبي ،عكس الإنطباع الذي كوّنته لدي حين حدثتني عن القضاء على الشر بالقوّة إن تطلب الأمر "
" أنا ابن رسول محبة يا حبيبتي ، وأعتقد بوجود إله هومحبة مطلقة ، وخير مطلق ، وجمال مطلق ، ولا يمكنني أن أكون إلا كذلك "
وعادت الربّة إلى إلقاء رأسها على صدرالأمير، ليقبل شعرها ، ويغمرها بمحبته ، وقد أدرك تماماً أن محبتها تغلغلت في أحشائه ، لتغدو بحجم حبه لزوجته الأميرة" فتنة النهار" إن لم تكن أكثر .
*****

(92)
الآلهة بلا ألوهة !
في سفح يخلو من الأشجارالمثمرة ، وتكسوه نباتات مختلفة وشجيرات بريّة ، بدا الإله القاهر يتقدم زوجته الربّة عناية ومئات من رجال منهكين كانوا يوما آلهة مساعدين له على بعض الكواكب والمجرّات .. كانوا يرتدون أسمالاً بالية على أجساد هزلت حتى أصبحت مجرد جلود على عظام ، وينتشرون باحثين بين الأعشاب عمّا يمكنهم أن يأكلوه، فيما كانت السماء تمطر رذاذاً، وتنذر غيومها المزدحمة في الفضاء بعاصفة مطرية قادمة .. اقتطع القاهر خصلة عشب من نبتة برّيّة وشرع في أكلها ، استطيب طعمها فأومأ بيده إلى الربّة وهتف طالبا إليها أن تأتي لتشاركه الأكل من النبتة، مؤكداّ لها أنها طعام خاص بالآلهة ! جاءت الربّة واقتطعت خصلة من فروع النبتة وما أن لاكتها في فمها مستطعمة مرارتها حتى بصقتها وهتفت :
" طعام آلهة أيها الأحمق ؟ حتى المعز لا تأكلها "
ابتلع القاهرما كان في فمه وهتف بصوت متلعثم :
" انت لم تتذوقي ريحان الآلهة من قبل لتعرفيه "
" ليست ريحاناً أيها البائس، هيّا قم لنبحث عن جرف أو كهف نلتجئ إليه فالسماء تنذر بعاصفة هوجاء "
ونظر نحو السماء ليرى غيوماً سوداء قاتمة تحجب الفضاء:
" عاصفة ؟ الإله القاهر سيأمرها أن تتوقف يا امرأة "
" أيها الأحمق لم يبق من الإله القاهر إلا حماقتك وهزالك "
أرعدت السماء منذرة بمطرأكثرغزارة . زاد المطرمن انهماره .. وقف القاهرومد يده نحو السماء وصرخ بها :
" توقفي أيتها العاقة، من أمرك أن تنهمري دون إرادتي ؟! وأنت أيها الرعد ليخرس صوتك إلى الأبد ، هل تتحدى الإله القاهرأيها الوغد؟ "
ازداد المطرانهماراً ليزداد القاهرغضباً وصراخاً مشرعاً يده اليمنى في وجه السماء تارة ويده اليسرى تارة أخرى صارخاً بكل قواه :
" قلت لك توقفي أيتها العاهرة أنا الإله القاهرأخاطبك "
انصب المطرصبّاً . أخذت عناية بطرف ردائه وراحت تقوده عنوة نحو جرف صخري، فيما كان ( الآلهة ) الآخرون يلتجئون إلى جروف وكهوف .. ظل القاهريحاول الإفلات من يد الربة التي تجرّه من طرف ردائه وهو يتوعد السماء بالويل :
" سأجرّدك من كل سحابة تغطي عريك وأشقك إلى نصفين وأضرب بك الأرض، أيتها العاقة كتلك الملعونة التي تمردت عليّ وهامت حباً بعشيقها لتعلن معه الحرب عليّ "
تمكنت عناية من شحطه إلى الجرف والوقوف في مكان يقيهما المطر، وقد ابتلت ثيابهما وراح الماء يقطرمنها . وفي هذه اللحظات ظهرت في الفضاء مقصورة الأميرسحب السماوات والربة عشتار . وبدأت العاصفة تهدأ شيئا فشيئا . هتف القاهرمخاطباً عناية بينما كانت المقصورة تنزل نحوهما :
" أرأيت ؟ ها هي مقصورة عرشي تهبط إلينا والسماء تبدأ في إطاعة أوامري "
" هذه ليست مقصورة عرشك أيها الأحمق "
وفي هذه اللحظة كانت الربة عشتار تنزل من المقصورة يرافقها الأمير سحب ليحطا أمامهما .
توقفا في مواجهتمها . هتفت الربة " أبي " تأملها القاهر للحظات ليهتف:
" أنت أيتها العاقة ؟ سأجعل طيورالسماء تنهش لحمك قطعة قطعة "
وبدت عناية وهي في غاية الدهشة لتهتف بكلمة واحدة " عشتار" ؟
دنت عشتارمنها وعانقتها وهي تردد " أمي " ثم اقتربت من أبيها وضمت رأسه إليها وراحت تربت على ظهره وتردد:
" حسنا يا أبي دعك الآن من طيورالسماء ، وهيا معي لتخرج من هذا الوضع المزري "
شرع القاهرفي بكاء مرير وكأنه أدرك واقعه وعاد إليه بعض وعيه ، فاستسلم لها باكياً حزيناً ذليلاً !
أصعدته عشتارهو وأمّها إلى المقصورة .
تساءل الأميروهو ينظر إلى عشرات الآلهة الذين كانوا يتقوقعون أمام الجروف والكهوف وقد فقدوا ألوهيتهم :
- ماذا سنفعل بهؤلاء البائسين ؟
- أظن أن هذا حكم الله فيهم حين لم يقدّروا مقدارالألوهة التي وضعها الله في أجسادهم .
قادت إجابة الربّة الأمير إلى أن يذهب بخياله إلى فلسفة أبيه التي غدت فلسفته، تساءل :
- إذا كانت هذه هي حال الآلهة حين يفقدون ألوهيتهم ، فما الذي ستكون عليه حال الإنسان إذا ما افتقد طاقة الألوهة السارية فيه والمتجسدة في جسده ؟!
- سيكون هراء ونفاية يا حبيبي !!
- وربما يكون وحشاً ، كما هي حال بعض البشراليوم ! مع احترامي للوحوش !
وأردف:
- ألن نفعل لهؤلاء شيئا ؟
- لنمنحهم بعض الطعام إذن ، وآمل أن يرضى الله عن عملنا !
وأشارت الربة بيدها في الفضاء وإذا بموائد من الطعام تنزل عليهم . وأشارت إلى أمّها وأبيها وإذا بهما يرفلان بملابس جديدة ومائدة طعام تنبعث أمامهما . هتفت :
- والآن يا حبيبي ؟
- إلى حيث أبي وأمي وزوجتي يا حبيبتي !
******
كانت ليلة حافلة التقى فيها الأحبة واحتفلوا بعودة الأمير سحب السماوات . فصدحت الموسيقى ورقصت الحوريات وترنمت المغنيات بأجمل الإغنيات .
أفرد الأمير جناحاً خاصاً في القصر للإله القاهر والربّة عناية ، غير أن الإله حين عاد إليه بعض وعيه لم يستطع تحمل الحال التي وجد نفسه فيها مجرّداً من ألوهيته ومن كل شيء حتى جنيّته ، مجرد إنسان بسيط للغاية يحتاج إلى من يساعده في كل شيء ، فآثر الإنتحار بأن غرس خنجراً في قلبه .
أقيم له جنازة متواضعة لم يشارك فيها إلا الربّة عشتاروالربّة عناية والملك لقمان والملكة نورالسماء والأميرسحب السماوات ، وبعض أبناء الجن والإنس.
الأمير سحب السماوات وجد نفسه في حيرة بين محبته لزوجته الأميرة فتنة النهار ومحبته للربّة عشتار . فجمعهما في خلوة وطلب إليهما أن تنظرا معه في الأمر وتجدا حلاً له لعلهما تخرجانه من حيرته . ابتدرت الأميرة فتنة النهارالكلام . قالت :
" فرحك هو فرحي يا حبيبي وحبك هو حبي، فلا أستطيع إلا أن أحب من أحببت ، وأهيم بمن همت به ، لتكن الربة عشتار زوجتك إلى جانبي ولتكن أول أميروإله يتزوج من ربّة وأميرة "
وقالت الربّة عشتار :
" أشكرك أيتها الأميرة لنبل مشاعرك ، لقد اختطفت منك الأميرعلى يدي أبي في المرة الأولى وجعلتك تعيشين في حزن لأيام طوال ، فلن أختطفه منك مرة ثانية حتى لا تعودي إلى أيام حزنك . فاهنأي يا عزيزتي بحبك للأمير، وكوني له زوجة وفية مخلصة، ويكفيني أن أكون صديقة لكما، أفرح لفرحكما ،وأحزن لحزنكما ، وأبعد الأخطارعنكما مهما وجدت إلى ذلك سبيلا "
لم يصدق الأميرأن المسالة ستحل بهذه السهولة . فعانق الربة والأميرة وشرع في تقبيلهما معا . وأفرد جناحاً من أجمل أجنحة القصر للربة .
هذا ما كان من أمرالأمير سحب السماوات والربّة عشتار وزوجته الأميرة فتنة النهار . أما ما كان من أمر الملك لقمان فكان مسألة أخرى لا يمكن للعقل أن يتصورها . فقد غدا الصراع في دخيلة الملك على أشدّه ، بين الملك الذي يريد محمود شاهين أن يكونه في شخص الملك لقمان ، وبين الملك الذي لا يريد الملك لقمان له أن يكون محمود شاهين . ولم يكن هناك من قوة قادرة على حل هذا الإشكال الفظيع ، فاختار الملك طريقا ثالثا ينقذه من الوضع بأن لا يكون أحد الإثنين !!
*****
(93)
الملك لقمان يذهب في المطلق الأزلي!
هل ضاع الملك لقمان بين الحقيقة والوهم ، حين راح الصراع يتأجج بينهما في دخيلته ؟ فهل هو محمود شاهين أم الصورة الإنفصامية المتوهّمة له في شخصه ؟! وهو لا يريد الأمرين، لا يريد أن يكون محمود شاهين، ولا يريد أن يكون الصورة المتوهّمة في الملك لقمان . يريد أن يكون الملك لقمان الحقيقي المستقل بذاته عن الإثنين، وليذهب الملك لقمان المتوهم وكل ما فعله في الوهم إلى الجحيم ، وليذهب معهما محمود شاهين نفسه.
" لن تخرج يا لقمان من عباءتي كيفما فكرت وأينما ذهبت ، أنا خالقك وصانعك "!
" لا ! أنت لست خالقي، لم يخلقني أحد غير الله ، ولن يمنحني حريتي وإرادة الفعل لدي غير الله" !
" حتى لو ذهبت إلى الله وحللت في الألوهة نفسها ، لن يكون ذلك إلا بإرادتي"
" ومن تظن نفسك ، هل أنت الله "؟
" حاشا الله أن أكونه يا لقمان ، ما أنا إلا أنت ، أنت حقيقتي ووهمي. قدري أن أكونك وقدرك أن تكونني "
" إذن دعني أتصرف بحريّتي "!
" أنت تتصرف بكل حريّتك يا لقمان . منذ أن أخرجت الملك شمنهور من قمقم سليمان قبل عشرين عاماً إلى أن أنجبت الأمير سحب السماوات وحتى اليوم، ولم أتدخل إلا نادراً جداً ! ربما مرّة واحدة حسب ما أذكر"!
" لا أريد أن أشعرأنني أنت ! ولا أريد أن أرى ذاتي فيك ولا أريد أن ترى ذاتك فيّ "
" لك الحق يا لقمان في أن لا ترى ذاتك فيّ ، لكن ليس من حقك أن تمنعني من أن أرى ذاتي فيك !"
" ليتني أستطيع أن أمنعك من أن ترى ذاتك فيّ "
" هل تكرهني يا لقمان ؟ "
" لا أكرهك لكني لا أستطيع مجرد تصورأن أكون أنت ، أنا الملك لقمان ، ملك الملوك لقمان ، ملك ملوك الملوك لقمان " !!
استيقظت الملكة نورالسماء على هُذاء الملك لقمان الانفعالي . كان العرق يتصبب من وجهه . احتضنت رأسه وراحت تمسح عرقه وهي تذكراسم الله . نهضت وأحضرت له كأس ماء . أسندته وأسقته بيدها .
" اشرب يا حبيبي واهدأ ، هل عادت الكوابيس إليك ؟ "
" هل سمعتِ ما كنت أهتف به ؟"
" أجل سمعت يا حبيبي "
" يبدو أنه هُذاء جنون العظمة "
" حاشاك من الجنون يا حبيبي "
" لكن ما معنى تضخيمي للقب الملك إلى هذا الحد ؟"
" مجرد محاولة لتأكيد ذاتك في مواجهة خصم يجهلك "
" إنه هو ليس هناك أحدٌ غيره "
" من هو يا حبيبي "
" المؤلف الذي تخيّلني وأوجدني "
" حبيبي أنت حقيقة ولست مجرد كائن متخيّل "
وهنا هتف الملك للملكة بما لا يمكن لعقل أن يتصوره :
" ولن أكتفي بأن أكون حقيقة ما في نسبيّتها، أوحتى في كليّتها ، بل في الحقيقة المطلقة ذاتها، في مطلقها الذي لا حقيقة ولا مطلق بعده ، حقيقة الحقائق ، مصدرالحقائق كلّها، فإما أن أكون كذلك أو لا أكون ! لن أظل أسير مؤلّف أراد لي أن أكون صورة من متخيّله الإنفصامي " !!
*****
في اليوم التالي أمر الملك لقمان بالرحيل . قام هو والملكة بزيارة خاطفة إلى الإمبراطور والإمبراطورة ليودعاهما، ويمنحاهما القصرالذي بنته الملكة نورالسماء .. اعتذر الملك عن عدم استكمال الحوار بينهما .. أشارالإمبراطور إلى أن معظم سكان الإمبراطورية يتداولون أفكاره ويأخذون بها ، وأنه يأمل أن يلتقيا ثانية . عانق الملك بحرارة وإحساس ينتابه بأنه سيفقد شيئاً من ذاته . ولم تستطع الإمبراطورة كبح دموعها وهي تعانق الملكة والملك وحتى الملك شمنهور البارع في الرقص وأخذ القُبل !
أقلعت المركبة متوغلة في أعماق الفضاء . راح الملك يرقب كلً كوكب تحلّق المركبة في فضائه ، إلى أن حلّقت فوق كوكب غيرمسكون ، رغم أن طبيعته بدت مزهوة بالأشجارالمثمرة والنباتات والورود المختلفة . أمرالملك بالنّزول على أعلى هضبة من سلسلة هضاب عالية .
أقام ذلك اليوم حفل غداء حضره كل من على المركبة . وحرص على معانقة كل فرد مودعاً، مدعياً أنّه سيذهب في خلوة مع نفسه يكون فيها وحده ، وأن لا يقلقوا عليه أبداً . حاول الأميرسحب السماوات أن يعرف شيئاً عما يدفعه إلى هذه الخلوة دون جدوى . الملكة نورالسماء وحدها أحست بدوافع الملك ، ولم تخبرابنَها عنها إلا بعد أن غادرهم الملك محلّقا ليحط إلى جانب صخرة على أعلى قمة في الهضبة .
" لقد زهد أبوك بحياة الدنيا يا حبيبي وقد لا يعود إلينا أبدا "
فوجئ الأمير بما قالته أمه :
" ماذا تقصدين يا أمي ؟"
" يريد أن يذهب إلى الله "
أجاب الأمير بدهشة :
" ماذا ؟ وكيف "
" هناك طريقان لا ثالث لهما . إما أن يصطفيه الله إلى جواره وهو حي ، وإما أن يموت ليصطفيه بعد ذلك "
" يا إلهي ! هل هذا يعني أنه سيظل إلى جانب الصخرة دون طعام أو شراب إلى أن يموت ؟ "
" أويذهب في الحقيقة المطلقة التي يبحث عنها "
" هل تقصدين الله ؟"
" أجل يا حبيبي ، فالله هو الحقيقة المطلقة وليس هناك حقيقة مطلقة غيره "
أدرك الأميرأنّ أمه تجيبه بما يعتقده هو نفسه . غير أنّه كان يظن أنّه لا يمكن لأحد مهما كان أن يذهب في الحقيقة ، أو يطلبها ، كونها خصوصية إلهية لا يمكن لأحد أن يبلغها . تنفس من أعماقه وألقى نفسه على أريكة .
سألته الأميرة فتنة :
" هل تظن أن أباك لن يعود يا حبيبي ؟"
" لا أعرف ، وإن بدا الأمر كذلك "
******
كان الملك لقمان يجلس بخشوع إلى جانب الصخرة التي أحاطتها مجموعة من الورود المزهرة بينها شقائق النعمان . وكانت القمة كلها تزهو بأنواع مختلفة من الورود والشجيرات الخضرالتي أزهرت متفتحة عن براعم بيضاء وبنفسجية ، فيما كانت تنتصب على سفوح القمّة وامتدادات الهضبة آلاف الصخور والأشجار بأحجام مختلفة . وبدت الصخور وكأن أيدي نحاتين تدخلت في تكوينها فأحالتها إلى منحوتات في غاية الإبداع . وبدت الأشجارأيضاً وكأن مقص بستاني قد مرعليها ليهذب جمالها فقص كل غصن تطاول ليبدو نشازاً بين مجموعة من الأغصان المتناغمة .
كان ذهن الملك منصباً على التركيز في مخاطبة الله والتضرع إليه راجياً إياه أن يأخذه إليه :
" إلهي وأنت وِجهتي وجاهي ، ونوري وخلاصي ، أتوق إليك ، أتوق إلى حقيقتك ، أتوق إلى مطلقك اللا نهائي. فخذني إليك يا إلهي ، اجعلني قطرات ماء تروي جذور نبتة عطشى ، حفنة تراب تغذي ساق زيتونة ، مادة خلق لا يكون خلق إلا بها ، طاقة تعانق قدرتك وتنصهر فيها . تحيل الظلام إلى نور ، والعدم إلى وجود!
أخرجني يا إلهي من الظلمة إلى نورالحقيقة ، نورك ، حقيقتك ، فقد سئمت يا إلهي من وجودي المتوهم في مخيّلة ، ولم أعد أعرف إن كنت حقيقة أم وهماً . لم أعد أعرف إن كان ما حققته من محبة وعدالة وهماً أم حقيقة ، ولم أعد أعرف إن كان ثمة معرفة تجعل من الحقيقة وهماً ، ومن الوهم حقيقة ، خارج نطاق قدرتك المطلقة ! فخذني إليك يا إلهي ، وانقذني من حطام السنين المتوهّمة التي وجدت نفسي أغرق في محيطاتها المتلاطمة "
******
مرعلى الملك لقمان ستة أيام دون أن يتناول شيئاً من الطعام والشراب، وحتى دون أن يدخّن سيجارة وهو المدمن على التدخين. احتمل الجوع واحتمل العطش، ولم يعد يشعر بهما . ربما لأنه كان لا يحب هذه الطريقة في الكشف! وحين كان النعاس يراود عينيه، كان يغفو لبعض الوقت ويستيقظ . منع كافة أشكال التخاطروالتذاهن معه أوالإقتراب منه . كانت الملكة نورالسماء والأمير سُحب السّماوات والملك شمنهور يحلّقون لبعض الوقت على ما يقرب من مائة مترمنه ، مترقبين حاله التي لم يطرأ عليها أي تغيير . عم الحزن أسرة المركبة صغاراً وكباراً . وشرعوا يتضرّعون إلى الله أن يكون معه .
مرَّفي مخيلة لقمان وهو يجلس متأملاً ، محنة أيوب مع يهوة ، محاولاً المقارنة بين وضعه ووضع أيوب . لم تكن محنة أيوب باختيار منه، بل بمكيدة شيطانية، جعلت يهوة يقدم على إخضاع أيوب لتجربة يختبر فيها مدى إيمانه ، فسلّط عليه الشيطان ليبدد ثروته، ويفتك بأبنائه وبناته، ويضربه بفالج يطرحه في الفراش، ويجعل الدود ينهش لحمه ، ليكفر أيوب بيهوة وباليوم الذي ولدته أمّه فيه " لا لا هو أمر مختلف ، فقد أقدم على الأمر باختياره وليس بمكائد شيطانية ، ثم إنه يشك في أن يكون إلهه يحمل أي صفة من صفات يهوة ، وأنّه سيختبر مدى إيمانه "؟
جهد الملك ليبعد هذه الأفكار التي لا مجال فيها للمقارنة من مخيلته .. فها هو يستقبل اليوم السابع من خلوته مطمئناً إلى أن الله سيأخذه إليه ، وإذا كان ثمة سبب يدعو الله لأن لا يستجيب بسرعة لرغباته في الذهاب إليه ، فهو ليس إلا محاولة لثنيه عمّا يرغب فيه ، ليبقى متمتعاً بحياة الرفاهيّة التي يحياها .
****
كانت الشمس ترتفع بضعة أمتار عن مشرقها، مرسلة أشعتها الفضيّة على الروابي والسفوح ، والملكة وحاشية المركبة يرقبون من أماكنهم على الشرفات حال الملك لقمان ، حين التمع برق هائل في السماء وقد اخترقها من الأفق إلى الأفق ، ليدوّي بعده قصف رعد هائل بإيقاعات منتظمة، وكأنه طبلٌ هائلٌ يضرب عليه موسيقارمحترف ، موحياً بتوقع حدوث أمر خارق للطبيعة . دوى القصف لسبع مرات متتالية كان يخف كل مرة عن سابقتها ،غير أنّه امتد في المرة السابعة بضربات خفيفة متلاحقة في فضاء القمة التي يجلس عليها الملك لقمان ، والتي كانت الأنظار مسلطة عليها . انفصلت ذروة القمّة عن مكانها لترتفع بالملك لقمان والصخرة التي يستند إليها والورود المحيطة بهما في الفضاء، وتشرع في الإرتفاع والتحليق بشكل دائري راسمة حلقات لولبية في معراج الملك إلى السماء.
دمعت عينا الملكة نورالسّماء وانفجرت بالبكاء وهي تهتف ملوّحة بيدها " مع السلامة يا حبيبي " وألقت رأسها على صدرالأميرسحب السماوات الذي كان يداري دموعه .. صرخ الملك شمنهورمن أعماقه ليغرق في بكاء لم يعرفه جنّي من قبل ، وليشرع جميع من كانوا على المركبة في البكاء. لم يلتفت الملك لقمان نحوالمركبة أو نحوالأرض، فقد غدا من عالم السماء وراح يشخص بأنظاره إليها ، مدركاً أن الله قد استجاب له، واصطفاه لأن يكون معه في مطلق وجوده الكلي الأزلي .
صعدت الورود التي كانت عل سفوح القمة في تشكيلات منتظمة متتبعة معراج الملك . تلاها الورود التي كانت على الهضبة كلّها ، فالأشجار التي كانت على القمة ، فالأشجار التي على الهضبة . فالصخور كلّها التي كانت على الهضبة . ارتفعت في أسراب منتظمة ، سرب يتبعه سرب . وصدحت في السماء موسيقى كونية ، ظهرعلى أثرها آلاف من الملائكة ممتطيي الخيول ، حلّقوا في أفواج منتظمة تقدمت المعراج وأحاطت به. كما ظهرت آلاف من حوريات السماء فائقات الحسن، شرعن بالتحليق في تشكيلات جمالية في فضاء المعراج ..
ظلت الملكة والأمير وأفراد المركبة يرقبون معراج الملك إلى أن أوغل بعيداً في الفضاء السّحيق ، ليروا السماء تنشق إلى نصفين، راحا يبتعدان عن بعضهما ، ليدخل معراج الملك وكلّ المشاركين فيه إلى عالم السماء الأرحب . وليلتحم النصفان بعد ذلك ليعودا إلى وضعهما الطبيعي .
*******
هتف الأمير سحب السماوات مخاطبا أمّه ، متسائلا:
" ماما "؟
التفتت الملكة إليه :
"هل ما جرى لأبي وما شاهدناه ، حقيقة، أم أنه مجرّد وهم ؟!"
ولم تجد الملكة إلا أن تجهش بالبكاء - الذي لم تفرغ من آثاره بعد - على الملك الذي ارتحل إلى السماء ولن تراه ثانية !!
****
نهاية الملحمة.
21/6/2016
















ملحق :
النص الكامل لقصيدة مذهب وحدة الوجود الحديثة التي يرد بعض المقاطع منها في الملحمة :

إما أنت أو لا أحد !!
أحسست بدنو الأمد
وأنا الوحيد دون أحد
هتفت باسمه من عمق الجراح
مثل لي بجلال مقتصد
همست: هل لي ببوح يعتمد؟
قال : قل ما لم يسمعه أحد
وأكمل رسالتك
فلن تعيش إلى الأبد
****
قلت : أشهد أن لا إله إلا أنت
إنك " الواحد الأحد "
وإنك " الله الصمد "
وإنك " لم تولد ولم تلد "
" ولم يكن لك كفوا أحد "
****
قال: لقد قيل هذا من قبل !
*****
أضفت : وأشهد أنك القدرة
السارية في الخلق
فإما أنت أو لا أحد !
وأن الإنسانية حبيبتك
وإنها إليك تستند
وأنت عليها تعتمد !
عشق الأحبة متبادل
بنبض القلوب
وآهات الروح
ورعشة الجسد !
لا يكتمل الحبيب إلا بالحبيب
فلا اكتمال بحب منفرد
سعي الخلائق إلى الكمال
بسعي الخالق يتّحد
فإما كمال يعم الخليقة
وإما انتهاء إلى الأبد !
****
قال: أحسنت إذ اجتهدت
فالإجتهاد حق معتمد
فأنا في الهي والنحن والهُم كنت
والهي والنحن والهُم والكلّ
في أناي تتحد
فلا معزل لفرد عن كل
ولا معزل لكل عن فرد
تنزهت باسمي ( الله )
ولا تنزيه غير ذلك يعتمد
******
أنا في الهيولى البدئية كنت
دون أن يكونني أحد
أوجدت نفسي بنفسي لنفسي
دون أن أدري ما الغاية
وما القصد ؟
وبقيت دهوراً كامناً
لا أدري إن كنت أدري
ما اريد ، وما لم أرد
كجنين في رحم أم
غافل عمّا يستجد
إلى أن ضاق بي الكمون
وضقت به، فانفجرت
محطماً جدران الهيولى
التي عنها انبثقت
لأنتشر في كون شاسع
حدوده لا تحد
ولينبثق معي الخلق
كائناً من رحم المهد
*****
فكل كائن كان فيّ
وفي كل كائن كنت
فانا الكينونة دون حد
وآفاقي لا تحد
فليس للحد منّي حد
ولا حد حيث كنت
أنا " الله " أل بلا حد
لا غنى للخليقة عنّي
ولا غنىً لي عن الخليقة
فنحن الواحد في الكلّ
والكلُّ في الواحد يتحد!
*******
محمود شاهين .
آذار 2012











الفهرس
1- إنتحارجميل ............................................................................................. 3
2- خطاب إلى الجن والإنس................................................................................ 7
3- عالم منزوع السلاح.................................................................................... 10
4- المحبة والإيمان المطلق يسودان العالم .............................................................. 12
5- سجون بلا سجناء حرية وكلمة....................................................................... 14
6- الملك لقمان يهبط على جنة لا جهنم فيها ........................................................... 16
7- أرواح القديسين والعلماء تصعد إلى السماء......................................................... 19
8- أسعد بشر في الكون خالدون في دنياهم وخالدون في الألوهة ..................................... 21
9- الحب في كوكب المحبة والجنات ...................................................................... 24
10- رقصة الملك شمنهور في حفل زفاف نسمة ........................................................ 26
11- كوكب المحبة والجنات يحتفل بعيد النور............................................................ 28
12- كوكب الدكتاتور وزبانيته ............................................................................ 31
13- حين يرتعب الجنرالات ............................................................................... 34
14- الله يمثل في قلوب الناس ............................................................................ 36
15- تعاليم لقمانية واغتصاب جماعي ................................................................... 40
16- ثورة النساء على ظلم الرجال والحكام ............................................................ 43
17- غلمان الخليفة وحلم الملك لقمان بدولة تحكمها النساء .......................................... 47
18- دولة النساء الديمقراطية العلمانية .................................................................. 51
19- فرحة الأمم بالمحبة والسلام ........................................................................ 53
20- البشر والجن على موائد الله ........................................................................ 56
21- فصل الختام في رحلة الملك لقمان الفضائية الأولى ............................................... 58
22- الوجود تحقق خيال ................................................................................... 61
23- كوكب الحب والجنون والأحلام ...................................................................... 63
24- حب بلا شروط وأمهات منجبات ..................................................................... 66
25- الرحيل إلى الخلود الأبدي في حفل بهيج ............................................................ 68
26- روض شمنهوري يفوق الخيال .................................................................... 69
27- نسمة الغدير ترحل إلى السماء ...................................................................... 73
28- الملك لقمان في كوكب الملحدين .................................................................... 79
29- الوجود بين منطق العقل ومنطق الأسطورة ....................................................... 82
30- حوارات فلسفية على موائد سماوية وراقصات حوريات ......................................... 84
31- تجليات الحب على الأرض وفي السماء............................................................ 87
32- الألوهة في الإنسان والإنسان في الألوهة ......................................................... 89
33- بشر يتعبدون لأنفسهم دون أن يدروا .............................................................. 91
34- مستقبل كوكب الأرض لا يبشر بخير .............................................................. 95
35- الوجود مادة وطاقة لا ينفصلان .................................................................... 97
36- وحدة الوجود ومذهب الملك لقمان ................................................................. 101
37- غيرة ملكية وحديقة محلقة في الفضاء ............................................................ 106
38- انقلاب تكنولوجي ينتج إلها تكنولوجيا ............................................................. 109
39- قوانين خارقة وإعجازية ............................................................................ 115
40- العشاء في بحر معلق في السماء ................................................................. 118
41- الأنوناكي والطوبى التي لا يعرف الكهنة ما هي .................................................121
42- قوانين طبيعية وطموحات لقمانية ................................................................ 125
43- اعترافات رهبانية وفظائع عقائدية ................................................................ 128
44- منطق الظاهرومنطق الباطن في فلسفة الكاهن الطوبي ......................................... 132
45- نسور لقمانية تنفذ أحكام القضاء .................................................................. 135
46- الله على المسرح السماوي ......................................................................... 140
الجزء الثاني :
47- مهرجان القضيب المقدس ......................................................................... 146
48- آلهة بلا حدود ....................................................................................... 149
49- الألوهة مادة وطاقة ................................................................................ 153
50- الملك لقمان في ضيافة الإمبراطورالإله ......................................................... 155
51- الخالق العظيم ...................................................................................... 158
52- في رحاب الخالق العظيم .......................................................................... 159
53- الدخول في الأسئلة الصعبة ....................................................................... 160
54- الرقص في الزمن المتوقف في الزمان الكوني ................................................. 163
55- في العقل ونشأة الكون ............................................................................ 166
56- في الحقيقة والغاية ............................................................................... 169
57- في الخلق والخالق والبعث والنشور ............................................................. 171
58- تجليات إعجازية للخالق والخلق ................................................................. 174
59- النهود الجامحات العابثات الدانيات ..............................................................177
60- سحر الألوهة المؤنثة لربة الجمال يتجلى رقصا في حضرة الكون ...........................179
61- حب وقبل ما بعد الموت .......................................................................... 181
62- الإمبراطور يتمتع بتذوق طعم القبل ............................................................. 184
63- لو آمنت البشرية بالمحبة الإنسانية وحدها ..................................................... 187
64- حوريات عربيات يسبحن في أعماق محيط في السماء .......................................... 190
65- اختلاط الجن والإنس ............................................................................... 193
66- ليلة حلبية مغمسة بدموع الملك لقمان ............................................................196
67- رؤيا الملك لقمان في الحلول في الذات الإلهية المطلقة .......................................... 199
68- المعراج السماوي والحلول في الذات الإلهية حسب رؤيا الملك لقمان .......................... 203
69- الملك لقمان يعد الملكة بطفل معجزة ............................................................... 206
70- الرقص المسحور في تجليات الملك شمنهور....................................................... 210
71- معجزة المعجزات في ولادة ونمو سحب السماوات ................................................ 212
72- هول التكهنات وسحر المعجزات في شخصية سحب السماوات .................................. 213
73- الخالق بين التنزيه والتشبيه وقوانين الخلق ...................................................... 217
74- لا حضارة دون عقل حر ............................................................................. 221
75- الملك والظبية واللبؤة وخرق قوانين الطبيعة ..................................................... 224
76- أسطورة الأساطير في جمال سحب السماوات .................................................... 227
77- حوار الحضارات وأميرة تقع في حب سحب السماوات .......................................... 230
78- حب عابر للكواكب .................................................................................. 232
79- عجائب الزمان في عرس الأميرة والأمير......................................................... 234
80- حروب طاحنة وسحب سماوية .................................................................... 236
81- هذيانات وكوابيس لقمانية ......................................................................... 239
82- الملك لقمان طريح الفراش.........................................................................243
83- غرام ممتع وجنون فلسفي.......................................................................... 245
84- تحليل أميري للتمظهر الوهمي ..................................................................... 249
85- حديث الروح من الملك إلى ابنه الأمير ............................................................ 252
86- خطف سحب السماوات ............................................................................. 256
87- ثمة أمل في نجاة سحب السماوات ................................................................. 259
88- صرخة الربة عشتار في ذروة الوصال............................................................. 263
89- حرب الآلهة على الأبواب ...........................................................................266
90- المحبة المطلقة في إله مطلق المحبة .............................................................. 271
91- حرب الآلهة الكونية ................................................................................. 276
92- الآلهة بلا ألوهة .................................................................................... 280
93- الملك لقمان يذهب في المطلق الأزلي ............................................................. 283
************
إمّا أنت أو لا أحد ! ( قصيدة وحدة الوجود الحديثة) .................................................. 289
محمود شاهين في سطور ................................................................................297












الروائي والفنان محمود شاهين في سطور
من مواليد القدس 1946
درس الصحافة في القاهرة ( في معاهد إعلامية وصحفية )
ودرس الأدب العالمي والعربي والأسطورة والعقائد البشرية والفلسفة دراسة خاصة .
روائي . قاص . فنان تشكيلي . باحث . ناقد .مفكر. ويكتب الشعر كهواية .
*أعمال أدبية :
1- نار البراءة – قصص – دار ابن رشد – 79
2- الخطار – قصص – دار القدس – بيروت – 79
3- الأرض الحرام – رواية – وزارة الثقافة – دمشق – 83 ( ترجمت إلى التركية عام 2002 )
4- الهجرة إلى الجحيم – رواية – المؤسسة الجامعة – بيروت – 84
5- الأرض المغتصبة – رواية – دار الشيخ – دمشق – 89
6- غوايات شيطانية – رواية ملحمية - نثر وشعر (ترجمت إلى الألمانية عام 99 ) ( نشرت بالعربية على شبكة الإنترنت) وصدرت عن دار نينوى في دمشق عام 2008)
7- موتى وقط لوسيان – قصص – وزارة الثقافة الفلسطينية – رام الله – 98
8- رسائل حب إلى ميلينا . دار البيروني -عمان . بدعم من وزارة الثقافة الأردنية
9- ألملك لقمان . ملحمة روائية .جزءان.نشرت على شبكة الإنترنت أولا ثم صدرت عن دار نينوى في دمشق 2009)
10- أبناء الشيطان – رواية قصيرة دار البيروني . عمان 2014
11- أديب في الجنة . ملحمة روائية فلسفية في جزأين تكمل ملحمة الملك لقمان .
منشورات على النت:
- الخالق . الخلق . الغاية . دراسات في العقائد والأساطير الشرقية .وتقديم فهم معاصر لماهية وجوهرالخالق، والغاية من الخلق.تخلص إلى أن الخالق محبة مطلقة وطاقة سارية في الخلق ومتجلية فيه ، وأن الغاية من خلق البشرهي أن يكونوا خالقين ، لمساعدة الخالق في عملية الخلق ، فعملية الخلق تكاملية بين الخالق والمخلوق عند محمود شاهين ، وأن الغاية من الخلق هي تحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال وإقامة الحضارة الإنسانية التي لن تكتمل عملية الخلق إلا بها .
- شاهينيات : مقولات وخواطر في الفكر الإنساني والمعرفة والخلق والخالق ،تكمل موضوع شاهين عن الخلق والخالق والغاية من الخلق : 1268 مقالة ومقولة منشورة حتى 30 آب- 2016
- أيوب التوراتي وفاوست غوتة ( دراسة مقارنة في عدة فصول)
- ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة . ( بحث تاريخي نقدي في عشرة فصول يتطرق إلى تاريخية شخصية المسيح ونشأته ومن ثم رسالته ومن ثم إلى فلسفة الألوهة ومن ثم النظرفي شخصية المسيح من وجهة نظر صوفية )
- قراءة نقدية لسفر التكوين التوراتي .( عشرة أجزاء )
- قراءة نقدية لطوفان نوح .
- السلام على محمود درويش . ( أشعار عن ديوان محمود درويش ، لماذا تركت الحصان وحيدا )
- مقالات في الألم الإنساني والمعرفة منها :
تحولات الألوهة من الأنوثة إلى الذكورة
التحالف بين يهوة والشيطان
- فصول من روايات
- قصص قصيرة وأشعار.
*أعمال صحفية :
فلسطين أرض وحضارة – الدار الجماهرية – طرابلس – 85
حرب المواجهة في لبنان – الاعلام الموحد – دمشق – 83
*- دراسات ومقالات نقدية في صحف ومجلات شهرية وفصلية أهمها :
- التحول من البداوة إلى النفط في مدن الملح
- الحزن الدفين - دراسة في قصص الأديبة الفلسطينية سميرة عزام
- مقالات في الرواية الفلسطينية
- مقالات في الرواية العربية
- مقالات في الرواية العالمية
- مقالات في القصة الفلسطينية
مخطوطات لم تنشر :
- الأرض المغتصبة – جبل المنطار, رواية
- الأحزان المتعانقة – رواية
كما ترجمت بعض قصصه إلى الانكليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية والاسبانية والروسية وغيرها, وبيعت بعض قصصه إلى السينما والتلفزيون .
- حولت قصته "نارة البراءة" إلى المسرح وعرضت في عمان عام 1991
*أقام محمود شاهين خلال سني حياته الفنية ما لا يقل عن ثلاثين معرضا شخصيا في العديد من مدن العالم منها باريس وبرلين وفينا والقاهرة ودمشق والناصرة والشارقة وعمان ووارسو ،عدا معرضه الدائم في دمشق لقرابة خمسة عشر عاما ، بحيث أصبح له ما لا يقل عن سبعة آلاف لوحة في أكثر من ثمانين بلدا في العالم . و أقام معرضه الشخصي الثالث في عمان منذ أن عاد إليها منذ تموز 2012 ، في منتدى الرواد الكبار خلال شهري تموز وآب 2016
*مر شاهين بأكثر من مدرسة فنية خلال مشواره الفني إلى أن انتهى إلى أساليبه التي تنتمي إليه وحده . وأصبحت تقنيته في الرسم الجداري مميزة جدا ، فهو يمارس الرسم والحفر والزخرفة في معظم أعماله المستوحاة من الأساطير والتراث القديم والشعبي الحديث. وتزخر بعض لوحاته الكبيرة بما لا يقل عن أربعة وعشرين تشكيلا مختلفا ‘ فيما يزخر بعضها بقرابة أربعين .
لجأ شاهين إلى الرسم الذي كان هوايته ،حين تعثر نشر بعض أعماله الروائية لجرأتها وصداميتها مع الواقع . وقد نشر بعض أعماله التي كانت ممنوعة فيما بعد ، ك" غوايات شيطانية ، سهرة مع ابليس "و ملحمة ( الملك لقمان ) عن دار نينوى في دمشق .
*مقتنيات عامة لبعض الأعمال الفنية :
المتحف الوطني بدمشق – لوحتان (70*100 )
وزارة الثقافة الفلسطينية
مكتب م.ت.ف – دمشق
المركز الثقافي السوري - باريس
متحف القدس
المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة – عمان
*******



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هرمت وتعبت وأسعى إلى استراحة في زمن القتل دون جدوى!
- أديية في الجنة . ملحمة روائية فلسفية . النص المعدل. الجزء ال ...
- تحطيم العقل والدخول في الجنون !
- * الغاية من الوجود !
- لواعج النفس الإنسانية بين قدرين !
- تحطيم العقل ! إشكالية النص الروائي بين اللغة والفكر!
- شاهينيات: في الزندقة والأحلام والمحبة والعار .
- وحين التقينا يا إلهي ..!!
- البطل الروائي والحلول في الألوهة !
- ابتسامة يخالجها الحزن على بصيص شمعة في الظلام !
- أبحاث وأشعار!
- * لن تخرسوا أصواتنا مهما فعلتم !
- حملة التضامن مع الشاعرة والكاتبة التنويرية الأردنية زليخة أب ...
- أديب في الجنة . ملحمة أدبية فلسفية . الجزء الثاني.
- أديب في الجنة (93) ( الفصل الأخير) * الملك لقمان يذهب في الم ...
- أديب في الجنة (92) * ألآلهة بلا ألوهة !
- أديب في الجنة (91) * حرب الآلهة الكونية !
- * ترقبوا - حرب الآلهة الكونية -!
- أديب في الجنة (90) * المحبة المطلقة في إله مطلق المحبة !
- أديب في الجنة (89) * حرب الآلهة على الأبواب !


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - أديب في الجنة . الجزء الثاني. المعدل.