أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - حمدى عبد العزيز - فى مديح طبق الفول الصباحى















المزيد.....

فى مديح طبق الفول الصباحى


حمدى عبد العزيز

الحوار المتمدن-العدد: 5137 - 2016 / 4 / 19 - 20:51
المحور: سيرة ذاتية
    


عندما كنت أنا الطفل الذي تقطن عائلته المساكن الشعبية التي يقف قسم ومركز شرطة إمبابة حاجز بينها وبين نهر النيل الذي تقف على ضفته الأخرى حدائق روض الفرج المليئة بالنجيلة والأشجار وملاهي الأطفال حيث كنت اختلس بعض الأوقات للعبور إليها عبر كوبري إمبابة العتيق الذي بناه الإنجليز
نعم الإنجليز الذين هم بذاتهم الذين كنا نهتف نحن الأطفال كلما سمعنا صوت طائرة في سماء إمبابة
(( ياعزيز .. ياعزيز ..
كبه تاخد لانجليز ))
وكنا ننطق ( كبه) بضم الكاف وبإشارة ما من أكفنا عبر انتصاب أصابعنا الخمس
وقد يحول أحدنا مسار الهتاف إلى
(( أبو خالد ياحبيب
بكره هاندخل تل أبيب ..))
ويصيح أحدنا :
(( موشي ديان الهش الهش
ضرب مراته بطبق المش...))
هكذا ولا نكف عن الصياح والهتاف إلا بعد أن يختفي صوت الطائرات تماماً تلك التي علمنا من الكبار أنها تخرج ثم تعود إلى أحد مطارات إمبابة السرية
كنت لسنوات دائماً ماأضع وجهي بين قضبان بلكونة شقتنا لمشاهدة ماتطل عليه إبتداء من إستعراض فرقة موسيقى الجيش الصباحي إلى مرور خيل السباق الصاخب الذي كان يأتي بها قطار مبطن من الداخل بالاسفنج مرة كل أسبوع ويتوقف في محطة قطار إمبابة التي كنا نطل عليها من جهة البلكونة ولا أعرف حتى الآن إلى أين كانت تذهب طوابير هذا الخيل المتنوع والذي كان يرتدي حللاً مزركشة من القماش يتقدم كل حصان في هذا الطابور رجل في ملابس زاهية يعرفها ذلك الغبار المتصاعد من الأرض الترابية التي يمرون عليها والتي مازالت رائحة استنشاق غبارها عالقاً في منخاري الجنوبي النسق
كنت أشاهد كل هذا من بلكونة ونوافذ شقتنا التي هي شقة رقم 12 بالدور الثالث بلوك 3 والتي كانت تطل نافذتها القبلية على أرض فضاء ( تستخدم كملعب كرة قدم) تفصلنا عن مركز شرطة إمبابة ومن جهة البلكونة كانت تطل على البلوك رقم 2. وطريق الترولي باص فمحطة قطار إمبابة
ومع العلم أن كلمة بلوك كنا نطلقها على كل وحدة سكنية مجمعة
وكل بلوك كان له فريقان خاصان به للكرة الشراب وهما فريق لشباب البلوك الكبار وفريق الأشبال الذي كنت عضواً فيه أنا واقراني
ثم أن هناك مباريات تبدأ بالصيف بعد انتهاء الدراسة في المدارس في عصاري كل يوم بين فرق بلوكات المساكن المختلفة بعد أن تكون بلوكات الأدوار الأرضية قد أخرجت خراطيم مياهها وقامت برش المساحة الترابية التي هي بين كل بلوك وآخر مقابل ليأمن ساكني الأدوار الأرضية شر هياج الأتربة على حجراتهم عبر البلكونات المشرعة والنوافذ المفتوحة تتدلي منها خصلات شعر البنات اللواتي كن يظهرن نصف أقمار وجوههن وراء ( الشيش) الموارب أمام الشباب الذي يصفر صفارات هادئة ليطلق بعدها إشارات الغزل عبر الترنم بمقاطع آخر ماغني عبد الحليم حافظ للحب
هكذا كان عالمنا
وكنا نلعب الكرة الشراب على هذه الأرض وكل منا كان جمهوره عبارة عن الفتاة المحبوبة التي كان يجهد نفسه في المباراة لينال إعجابها أو يبدع إشارات ذات معنى بعد كل هدف يتمكن من إحرازه تجعله يفوز بابتسامة من فتاة أحلامه التي تراقب أدائه في المباراة وبعد المباراة عليها أن تشير له بانطباعاتها عن أدائه ويدور بينهما حوار صامت عبر إشارات اليد والرأس والأعين المبتسمة حيناً والضاحكة حينا والمطرقة حيناً آخر بالخجل المشوب بالوله والامتنان ورقصات القلوب الصغيرة في صدور البنات الناهدة
كان طقسي الصباحي أيام عطلات الجمعة هو أن اتسلم من أبي عهدتي من القروش ومن أمي طبق فارغ للنزول أولاً لشراء الأهرام بعد التأكد من أن عدد اليوم يحمل إشارة في الجانب الأيسر من النصف الأعلى للصفحة الأولى تدل على تأكد وجود مقال محمد حسنين هيكل ( بصراحة) في عدد اليوم
ثم أشتري العشرة أرغفة المعتادة لطعام الإفطار وحزمة البصل الأخضر. ثم انطلق حاملاً كل ذلك إلى عم حماد حيث يقف على عربة الفول التي هي عبارة عن صندوق ممتلئ بالقش تستقر فيه قدرة للفول وقدرة للبليلة وعلى رف جانبي في تلك العربة الصندوق التي يجرها عم حماد بيديه زجاجتين للزيت وثلاث علب للتوابل ممتلأت بالملح والكمون والفلفل الأحمر المطحون على التوالي
وكان عم حماد يرتدي مريلة بيضاء فوق جلبابه المخطط ويمسك بمعرفته النحاسية ويدخلها إلى فوهة قدر الفول محدثاً إيقاعات منتظمة عبر احتكاك المعرفة بالقدر وخروجها ممتلئة بالفول متجهة نحو طبق الزبون أو الزبونة برشاقة ومهارة كنت أحسده عليها
لا أنكر تعلقي الطفولي الشديد أيضاً بطقوس دلدقة خليط الزيت والطحينة بمقدار محسوب على وجه الطبق بعد رج زجاجته ثلاث رجات تضيف نوعاً آخر الإيقاعات التي يبدعها عم حماد
وكذلك كانت تبهرني طريقة يده في تناول ثم فرك فصوص الملح وذرات الكمون وجزيئات الفلفل الأحمر على وجه الطبق بعد أن يسأل الزبون
- محبش ولا ساده؟
وعندما تكون الإجابة ( محبش) تكون فرصتي أنا في متابعة أصابع عم حماد الماهرة وإيقعاتها الحركية المرتبة والمواكبة بعناية لحركات جزعه وهو يقوم بغرف ثم (بتحبيش ) طبق الفول بالكيفية التي وصفتها مسبقاً

ثم بعد ذلك كان انتقالنا من القاهرة - وأنا فى الصف الأول الثانوى - إلى مدينة المحمودية الراسية مباشرة على الضفة الغربية لدلتا نهر النيل قبل أن يبلغ المصب من في نقطة التقاء النهر بالبحر الأبيض المتوسط بكيلو مترات عند مدينة رشيد الملاصقة للمحمودية حيث محل اقامتنا الجديد أثناء حرب أكتوبر 1973

وأول مكان تعرفت عليه بعد منزلنا الجديد كان ذلك المكان الذي كنت أشتري منه الفول المدمس للفطور كصبي في أسرة مصرية متوسطة الحال أو أدنى

كان هذا المكان هو دكان بقالة ( عم جلال سنكل) الذي كان يضع قدرة الفول الصباحية على يمين اللوحة الرخام لدكان البقالة

تحول طقس شراء الفول المدمس يوم الجمعة والإجازات الرسمية والدراسية إلى متعة معرفية كبرى بل ولا أبالغ أنه كانت هناك مدرسة صباحية موجزة في الوطنية المصرية تعلمت فيها الكثير كان طرفاها الأستاذ إدوارد عياد الموجه بالإدارة التعليمية الذي كان يقطن مستأجراً لشقة في مواجهة دكان عم جلال سنكل الرجل القصير ذو الملامح الجادة والذقن اللامعة بعد حلاقة ماهرة برائحة الكولونيا والشارب الخفيف المحفف بعناية دقيقة في وجهه الذي تعتليه طاقية صوف بهية بلون يتناسب مع جلبابه القروي الأنيق المصنوع من منسوجات عمر أفندي الصوفية المفتخرة ماركة سيلكا

كنت اندهش كيف يحافظ عم جلال سنكل على تلك الأناقة ويجمع بينها وبين الوقوف خلف قدرة الفول المدمس والبقالة في آن واحد

والله لقد تخيلته الآن وهو يمسك بمغرفة الفول كمايمسك مايسترو الأوركسترا الموسيقية عصاه
ربما لأن صديقه وابن شارعه الحميم الأستاذ إدوارد عياد الموجه الوقور كان موسيقياً عظيماً كما عرفت فيما بعد بسنتين أو أقل عندما ذهبت إلى بيت الثقافة للقراءة في مكتبته العامة ووجدته هناك يعقب على أداء عازفي الموسيقى وهم يتدربون على عزف مقطوعات الست أم كلثوم وكنت أراهم يعلقون عيونهم به بعد أن ينتهون من العزف ينصتون لملاحظاته وكلماته وكلما فرغ من جملة يهزون رؤوسهم عبر انحناءات التأدب والإحترام والإعجاب والإمتنان

ماعلينا
ليس هذا هو الموضوع الأساسي

الموضوع كان متمثلاً في قدوم الأستاذ إدوارد عياد صباحاً إلى ناصية دكان عم جلال سنكل فيسأله عم جلال سنكل بابتسامة
- إيه الأخبار النهارده
وعلى الفور كانت تدور الحلقة النقاشية
( عرفت مصطلح الحلقة النقاشية فيما بعد ذلك بخمسة عشرة عاماً على يد الأستاذ عبد الغفار شكر الذي كان أميناً للتثقيف في حزب التجمع)

كان الأستاذ إدوارد عياد بعودة الفارع وقوامه الممشوق وشعره الأبيض الناعم الممشط بعناية إلى الوراء تاركاً خصلة منه تتدلي بأناقة على جانب جبهته الوضاءة بعينيه الرماديتين أو ربما السنجابيتين ووجهه المبتسم من خلال تجاعيد حكيمة طيبة ورائعة وبإشعاع يعكس ثقافة عميقة ووطنية مصرية حتى النخاع

يشعل سيجارته الصباحية ويبدأ الحديث حول الوضع الحالي للقوات المصرية
فيقاطعه عم جلال سنكل قائلاً
- بس الواد سعد الشاذلي ولد ماجابتهوش ولاده وهايفعص الإسرائيليين في الدفرسوار

ويرد الأستاذ إدوارد متحدثاً عن مواقف أمريكا والإتحاد السوفيتي وتأثيره على الوضع السياسي العام
ويرد عم جلال سنكل متحدثاً عن دور الصاروخ سام 7 السوفيتي الصنع في تدمير الطائرات الإسرائيلية

كنت أنا أتزحزح بطبق الفول إلى الخلف حتى لايلتقطه عم جلال سنكل ويملأه بمغرفته التي خلق منها عصا مايسترو يضبط بها إيقاعات النقاش التي تحتدم أحياناً وتبدأ أحياناً
أتباطأ حتى لايأتي دوري في إستلام طبق الفول وتنتهي مهمتي وتنتهي متعة الإستماع إلى الصديقين الحميمين
عم جلال سنكل
والأستاذ إدوارد عياد
رحمهما الله
الأستاذ إدوارد عياد عرفته فيما بعد وحكى لي كيف أنه عندما ماتت الست أم كلثوم كسر عوده المصنوع من خشب الورد المفتخر بيده وأعطاه إلى زوجته أم جورج وجوليا زملائي في المدرسة الثانوي وفؤاد أخيهم الذي سيصبح بعد عقود مدرساً لبنتي هاله ثم ابني محمد

الأستاذ إدوارد عياد الذي كان موسيقياً بارعاً إذا ما أمسك بالعود أرعش اوتاره بمكنون روح الموسيقى ليشعل آهات المتحلقين حوله في بيت الثقافة بمعزوفات رياض السنباطى الذي كان يرى أن أم كلثوم قد أخطأت خطأً كبيراً عندما تحولت من الغناء على موسيقاه إلى الغناء على موسيقى عبد الوهاب
بل كان يقول متطرفاً في ذلك
أم كلثوم ماتت منذ أن غنت لعبد الوهاب
وان عبد الوهاب صنايعي موسيقى لكن السنباطى معجون بروح الموسيقى

لا أفهم في الموسيقى يااستاذ إدوارد
لكنني أفهم الآن أنك - رحمك الله - كنت أول علامة تنويرية صادفتها وأول مثقف عضوي عرفته على الإطلاق

كذلك أفهم أن صديقك عم جلال سنكل البقال رحمه الله علمني المعنى الذي عرفته من صوت عدلي فخري فيما بعد
( مصر تعرف ف السياسه...)

حمدى عبد العزيز
إبريل 2016



#حمدى_عبد_العزيز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملاحظات شخصية فى مسألة الجزيرتين
- أوراق بنما وعصا المايسترو
- عن جمال عبد الناصر
- أمجاد لطبق الفول الصباحي
- يصل ويسلم إلى الرئيس
- لم أحب رباب
- المرأة حارسة الحياة
- فى قضية الروائى أحمد ناجى
- مقاطعته وعزله وإسقاطه أمر ممكن
- دكاكين بلا بضاعة تستحق الزبائن
- شعبطات الصبي المشاكس
- مكاتبة ومكاشفة للرئيس
- تنبيه عاجل
- هل من طريقة لاستعادة ذلك الصبي ؟
- أن تنهض جدتي
- أربعة شروط عاجلة كي لانذهب إلى مالارجعة فيه
- قبل أن يغادرنا يناير
- حول مقولة شباب الثورة وعجائزها
- في ذكرى الإندلاع الشعبي الكبير
- شعب تونس وشعابها


المزيد.....




- الإمارات تشهد هطول -أكبر كميات أمطار في تاريخها الحديث-.. وم ...
- مكتب أممي يدعو القوات الإسرائيلية إلى وقف هجمات المستوطنين ع ...
- الطاقة.. ملف ساخن على طاولة السوداني وبايدن
- -النيران اشتعلت فيها-.. حزب الله يعرض مشاهد من استهدافه منصة ...
- قطر تستنكر تهديد نائب أمريكي بإعادة تقييم علاقات واشنطن مع ا ...
- أوكرانيا تدرج النائب الأول السابق لأمين مجلس الأمن القومي وا ...
- فرنسا تستدعي سفيرتها لدى أذربيجان -للتشاور- في ظل توتر بين ا ...
- كندا تخطط لتقديم أسلحة لأوكرانيا بقيمة تزيد عن مليار دولار
- مسؤول أمريكي: أوكرانيا لن تحصل على أموال الأصول الروسية كامل ...
- الولايات المتحدة: ترامب يشكو منعه مواصلة حملته الانتخابية بخ ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - حمدى عبد العزيز - فى مديح طبق الفول الصباحى