|
واصل غناءك أيها الرمل..واصلي رقصك أيتها النار
الطيب طهوري
الحوار المتمدن-العدد: 5105 - 2016 / 3 / 16 - 13:00
المحور:
الادب والفن
مجموعة قصصية
الموتى.. يهاجرون أيضا!
الأرض جرداء قاحلة والحرارة في أوج ارتفاعها، والريح جنوبية تهب.. وكان الطفلان قد ابتعدا واقتربا كثيرا من القبور التي كانت تمتد أمامنا .. خلفي وعلى الجانبين رجال يغذون السير مثلي، أطفالهم يسبقونهم أيضا.. صاح الأطفال باكين وهم يسرعون السير عائدين إلينا .. ما الذي جرى؟! تساءل البعض باندهاش.. ربما وجدوا بعض الثعابين..أجاب آخرون.. و.. فوجئنا حين رأينا الجثث تتحرك من أمام المقابر.. هياكل عظمية تتحرك، وأخرى ماتزال بلحمها.. كانت الجثث تجري وراء الأطفال ، والأطفال هلعا يسرعون الجري نحونا.. أخذنا بأيدي اطفالنا وجرينا.. كنا ندرك أن الجثث تكون أكثر سرعة وهي بالقرب من مقابرها، وتخف سرعتها كلما ابتعدت أكثر.. كنا نسرع ونسرع.. والجثث تقترب أكثر.. أحاطتنا الجثث من كل جانب.. وقفنا.. كان الرعب يملأ قلوبنا ونحن نقف مشدوهين .. كان الأطفال يشهقون ويغطون رؤوسهم بأحضاننا وقفت الجثث فارعة الطول.. تكلم أطولها: لقد أفسد أطفالكم اجتماعنا.. قلت في سري: يجتمعون؟!.. لماذا يجتمعون؟! استدارت عظام رأس جثة كانت في مؤخرة الجثث: اجتمعنا من أجل البحث في كيفية نقل قبورنا إلى مكان آخر.. أضافت جثة اخرى: لا أمطار تغسل عظامنا، ولا نسائم شمالية تنعش أرواحنا، لا أشجار تظللنا ولا عشب يمتع أبصارنا .. فكيف لانرحل إذن؟!.. همس الذي كان يقف بجانبي: عجيب ما أرى.. حتى الموتى يهاجرون؟! مدت جثة عظام ذراعها مشيرة إليه: إننا مثلكم يا ولدي..نحس ونتألم ، نفرح ونحزن ( ونطق الراء غينا).. إنه أبي فعلا.. نفس صوته..هكذا كان ينطق الراء.. قال مندهشا.. نعم.. أنا أبوك يا ولدي.. قالت الجثة.. عادت أطول الجثث إلى الكلام: أمامكم خياران لاثالث لهما.. همهم البعض منا: ماهما..ماهما.. إما أن تموتوا.. وسكت.. نظرنا إلى بعضنا مرتعشين.. وإما أن تعاهدونا على عدم المرور بمقبرتنا.. صحنا جميعا: نعاهدكم.. نعاهدكم.. مدت الجثة الأطول عظام يدها اليمنى.. ومد البعض منا أكفهم.. لامست العظام أكفنا المرتعشة.. نعاهدكم على عدم المرور بمقبرتكم أبدا ..أبدا.. قلنا.. استدارت الجثث إلى الخلف عائدة إلى مقابرها.. واستدرنا نحن أيضا إلى الخلف.. مشينا قليلا.. ثم توقفنا.. طريق المقبرة أقرب طريق إلى المدينة .. قال أحدنا.. قال آخر مشيرا بأصابعه : هذا الاتجاه يوصلنا.. هيا إذن .. قال آخرون.. أخذنا نغذ السير.. الأرض جرداء قاحلة أمامنا.. والريح جنوبية تهب.. والحرارة المرتفعة تلفح وجوهنا.. وحين لاح سور المدينة المنخفض أمامنا، كان العطش قد جفف حلوقنا.. وقفنا أمام السور.. أشرنا بأصابعنا إلى حلوقنا الجافة.. رفع الرجال الذين كانوا خلف السور قارورات الماء.. صيوا قطرات قليلة في الكؤوس ووزعوها علينا.. شربنا القطرات ، وأشرنا بأصابعنا إلى الحلوق مرة أخرى.. صبوا قطرات أكثر.. شربناها.. وأشرنا إلى حلوقنا.. صبوا قطرات أكثر من التي قبلها.. وشربناها.. وهكذا حتى امتلأت الكؤوس .. أشار الذي كان في البوابة إلى البعيد.. نظرنا.. تفرجوا على السباق.. قال.. كانت الخيول داخل السور تتقدم بسرعة مذهلة.. وتوقفت حين وصولها.. قال الرجل: يتوقف السباق الآن للاستراحة.. أصابتنا الدهشة ونحن نرى الفرسان ينزلون من على ظهور أحصنتهم.. كانوا عراة تماما.. وخجلنا أكثر ونحن نرى الفارسات تنزلن .. كن عاريات أيضا.. تنتصب نهودهن نافرة ملساء، وتنسدل شعورهن على الأكتاف التي كانت بلون قشر البرتقال.. كانت فروجهن بين الحليقة تماما والتي يغطيها الزغب الأحمر المائل إلى الصفرة.. انتبهنا إلى أن الرجل الذي يقف في البوابة كان عاريا تماما أيضا.. يلمس ذكره بين الحين والآخر بكل عفوية.. ويضربه إلى فخذيه من حين إلى آخر بكل عفوية أيضا.. رفعنا أبصارنا إلى البعيد.. كانت العمارات شاهقة، والقصور فخمة، والخضرة تمتد أمامنا في كل مكان.. كان الرجال الذين أشربونا الماء عراة أيضا.. مد طفلاي أصابعهما إلى الحصان الذي كان يقف أمامهما داخل السور.. مسحا على رأسه.. صاحت شابة عارية فيهما بلغة لم أفهمها.. لكنني أدركت قصدها.. أبعدا أيديكما عن الحصان .. قلت بحدة.. أبعد الطفلان أيديهما وهما ينظران إلي خائفين.. أحسست بالشهوة تملأني.. أدركت ذلك من انتصاب ذكري.. وامتدت إلى الجميع من حولي أيضا.. عرفت ذلك من حركات أرجلهم وعضهم على الشفاه السفلى.. كنا نتظاهر برفع عيوننا إلى الأعلى حتى نتحاشى النظر إلى العري الذي كان يزهو أمامنا..ولكننا.. ننظر.. كنا.. قال الواقف أمام البوابة:تريدون دخول المدينة إذن..؟! نعم.. قلنا دفعة واحدة.. جئنا نبحث عن عمل .. أضفنا.. أهلا وسهلا بكم.. قال.. نحتاج إلى الكثير من العمال..أضاف.. لكن.. انظروا..وأشار إلى الرجال الذين كانوا مايزالون يجلسون على طاولاتهم ، ثم إلى الفارسات والفرسان الذين كانوا قد بدأوا ركوب أحصنتهم متهيئين لمواصلة السباق.. لم نفهم.. قلنا.. عليكم بنزع ثيابكم.. قال.. فوجئنا بطلبه ، ونحن الذين لم نتعود على نزعها حتى أمام نسائنا.. هذا شرطنا.. قال مؤكدا.. نظرنا إلى بعضنا البعض..كانت حيرة المفاجأة تملأ عيوننا.. أخذ بعض الشباب ينزعون ثيابهم البالية الممزقة.. صاح بعضنا معترضين : ألا تخجلون من أنفسكم؟!.. كيف تتعرون أمامنا..؟! قالوا دفعة واحدة: كيف نترك كل هذا السحر ..؟!.. وأشاروا إلى الفتيات الفارسات.. وإلى ثيابنا الممزقة.. باستهجان أشاروا.. كيف نترك هذا السحر ونعود إلى قراكم القاحلة.. كرروا.. قراكم قالوا.. ولم يقولوا قرانا.. فتح الرجل العاري الباب.. دخلوا.. وداعا..وداعا أخيرا.. وإلى الأبد.. قالوا.. أغلق الرجل الباب.. نظرنا إلى بعضنا مندهشين والحيرة تملأ عيوننا أكثر.. استدرنا.. وقفلنا راجعين إلى قرانا.. الأرض جرداء قاحلة.. والريح جنوبية تهب.. والحرارة المرتفعة تلهب وجوهنا.. كنا حفاة نمشي.. الثياب بالية ممزقة.. والرؤوس يملأها الغبار.. والفتيات يبللن خيالاتنا ببعض قطرات ماء عريهن الجميل. سطيف : أواخر ديسمبر 2006
أمر بمهمة
دق الباب، ودون انتظار الإذن بالدخول فتحه.. ودخل..مد يده بالرسالة المغلقة.. قال: إنها من مدير التربية شخصيا.. سألته: مافيها؟ لم أفتحها..أجاب..هكذا أمرني السيد مدير التربية ..أضاف برهبة وخشوع.. أخذت الرسالة من يده .. لم أفنحها..وأكملت بقية الدرس.. بعد انتهاء الحصة وقبل التوجه إلى قاعة الأساتذة فتحت الرسالة..وفوجئت بما لم يخطر ببالي إطلاقا..أمر بمهمة.. وتحت هذه العبارة الغليظة قرأت: يكلف المربي ط وابنه التلميذ في السنة الثالثة ابتدائي برعي أغنام قرية المحاديد يومي 9 و10 من الشهر الجاري.. وكانت رجلاي تطويان الطريق طيا .. دق..دق..دق.. سمعت الصوت آتيا من الداخل.. ودخلت.. كان الغضب مايزال يشد أعصابي.. المحفظة في اليد اليمنى.. واليسرى ترفع كفها وتسأل: لماذا؟!.. ولم أفتح فمي..الدهشة أربكتني.. أوامري يجب أن تنفذ حرفيا.. وحتى لا يترك لي أية فرصة للنقاش رفع الورقة التي كانت أمامه وسلمني إياها.. اقرأ.. قال.. وقرأت: لمدير التربية كل الصلاحيات في نقل وتعيين أي شخص تحت إدارته لأي منصب وفي أي مكان يشاء.. وليس من حق الشخص المنقول أو المعين أن يبدي أي اعتراض.. قرأتها؟ سأل.. وأجبت : قرأتها.. عد إلى عملك إذن.. وما ذنب ابني حتى يعاقب بفعل الرعي أيضا؟!..سألت.. إنه من ضمن إدارتي كذلك..عد إلى عملك قلت.. ونهض غاضبا.. لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.. قلت متحسرا وخرجت..
حين خرجت من المنزل صباحا كان أهل قرية المحاديد ورعيانهم قد جاءوا بأغنامهم كانت الأغنام تحيط المنزل الذي أقيم فيه وأسرتي من كل جانب.. كان ابني سامي فرحا وهو يسير خلفها ونحن متجهان بها بعيدا عن المنزل..وكان الخجل يلفني من رأسي إلى أخمص قدمي وأنا أتوارى ببعض النعاج في ذلك المنخفض المحاط ببعض الهضاب التي لاتتيح رؤيته من بعيد، بينما كان ابني يرعى بقية القطيع حيث يرى..وحين رأيته يتوجه بالقطيع بعيدا بقيت في مكاني.. وهكذا حتى غاب عن نظري..والتحقت به بعد أن ذهب الجميع إلى أعمالهم ، والتحق التلاميذ بأقسامهم. عندما عدنا إلى المنزل مساء.. سألته أمه: ماذا أعطوكما أكلا للغداء؟ كسرة وحليبا رائبا..أجاب الطفل.. كسرة وحليبا رائبا؟! تساءلت متعجبة..ثم دخلت المطبخ لتحضير وجبة العشاء.. وكنت أرى من نافذة المنزل تلاميذ القرية متوجهين صباحا إلى المدرسة .. لقد تعمدت التأخر حتى لا يرونني..وحين دق جرس الدخول خرجت وكف سامي في يدي .. كان أهل القرية ورعيانها يجمعون قطعان الأغنام وسطها.. لست أدري لماذا تعمدت لبس البذلة الوحيدة التي أملك والتي خصصتها منذ وقت بعيد لحضور الأعراس ومختلف الأعياد والمناسبات الوطنية والدينية .. ولست أدري لماذا استعملت ربطة العنق ولمعت الحذاء أيضا.. قالت العجوز التي صادفتها في مخرج القرية: الذئاب كثيرة.. احذر وانتبه جيدا.. ودون أن أتركها تكمل ما أرادت أن تقول.. قلت: سأذبح خروفا.. أشوي جزءا منه وأرمي بجثته لها.. فكرة جميلة.. قالت الفتاة التي كانت معها بفرح ظاهر.. أشاحت العجوز بوجهها عنها.. تشجعينه على فعلته إذن..؟! .. و.. كان قطيع الغنم يتجه نحو السهل الواقع بين الجبلين اللذين لا يبعدان عن القرية إلا بحوالي الكيلومترين حيث كان يبنى السد.. وفعلتها .. قبل أن ينتصف النهار كنت قد ذبحت الخروف، وحتى يبدوا الأمر وكأن الذئاب قد أكلته فعلا جئت بحجرمدبب وغرسته في عنقه من الجانبين .. كانت رائحة الشواء لذيذة.. وكنا وحيدين.. إياك أن تخبر أحدا .. قلت موصيا ابني.. لن أفعلها.. قال مبتسما.. رميت معظم جثة الخروف حيث رأيت أحد الذئاب يسير متبخترا.. وعدنا.. القطيع أمامنا ونحن نسير بتثاقل ظاهر خلفه.. أخذ أهل القرية ورعيانها يفصلون قطعانهم عن بعضها ويحسبونها.. ولم أنتبه إلا والرجل يصيح وقبضة يده على عنقي: أين خروفي؟!.. وبابتسامة عريضة أجبت: أكلته الذئاب.. أكلته الذئاب أم أكله إهمالك؟.. قال.. ثم دفعني بكلتا يديه حتى كدت أسقط على الأرض.. ستدفع ثمنه مضاعفا من أجرتك..نحن أهل قرية المحاديد نتحكم في مديرية التربية ..نظر إلي باحتقار ثم أضاف: وفي بقية المديريات.. ما ذنبي؟!.. سألت.. ستعرف ماذنبك.. أجاب.. وكان المدير يسلمني الرسالة الثانية وعلى وجهه ابتسامة عريضة تقول الكثير الكثير. سطيف: 12/01/2007
تلك الرسائل ما أروعها
رسائل كثيرة تصلني هذه الأيام من أماكن ودول مختلفة، تتربع على مكتبي ومائدة طعامي، وعلى السرير حيث انام أيضا، وفي كل زوايا البيت.. على الأغلفة اسمي وعنواني .. لكنني ما إن أفتحها حتى أفاجأ بحروف اسم شخص آخر يمعن النظر في ملامحي ، ويقول بعد أن تشتد حيرتي: أنا أحمد محمد عز التاج.. أقرأ أحيانا.. وأرميها أحيانا أخرى.. الإسم عز التاج.. ليس غريبا علي .. ليس غريبا أبدا.. أعود إلى الرسائل.. أخرجها من أغلفتها.. أكومها أمامي على السرير تارة..وعلى المكتب أو مائدة الأكل تارة أخرى.. أقرأ.. كلام كثير لا علاقة لي به.. ولا علاقة له بي..أرى صور أناس لا أعرفهم .. بقولون إنهم أقربائي..يذكِّرونني بأيام وسنوات جميلة مضت.. ممتعة.. هكذا يصفونها.. يقولون إنهم قضوها معي .. وأماكن متعددة يسترسلون في وصف جمالها .. يدَّعون أنهم عاشوا وإياي فيها.. يكتبون: هذه صور أطفالنا ألحوا علينا لإرسالها إليك.. إنهم فخورون بك .. يقرأون بنهم قصصك وأشعارك .. يتسابقون إلى سماع صوتك في مختلف الإذاعات ، ويشاهدونك في شتى القنوات التلفزية ، ويحفظون الكثير الكثير مما كتبت.. أحس بشوق جارف إليهم ، أحن بعمق إلى أطفالهم .. أضع بعض صورهم تحت مخدتي حين أنام، وما إن أستيقظ ، وفي أي وقت ، حتى أبادر إلى إخراجها والنظر فيها ، وأزداد شوقا وحنينا إليهم أكثر.. رسائل أخرى تصلني من مؤسسات متعددة: مؤسسة الماء.. شركة الكهرباء والغاز.. مؤسسة الهاتف..و.. أقرأ حسابات مبالغ يطلبون مني دفعها ، وتذكيرات بوجوب دفع مبالغ قديمة لم أدفعها .. ويفاجئني الإسم : أحمد محمد عز التاج أيضا.. لا أناقش.. كأن رِجلا خفية تجرني إلى هناك..أدفع المبالغ بكل رحابة صدر.. وأعود.. أغلفة الرسائل لي ، وفي الداخل يتربع شخص آخر.. يفرك أصابعه.. يطيل النظر في عيني.. يقول إنه أحمد محمد عز التاج.. أحتار.. ماذا أفعل بتلك الرسائل؟.. هل أرسلها إليه..؟ وكيف أرسلها؟ .. لا أعرف عنوانه، ولا الطريق إليه .. أقرأ أشعاره وقصصه ومقالاته كما يقرأها الآخرون .. يعجبني بعضها .. ولا يعجبني البعض الآخر .. لكنني أقرأها .. أقرأ صمته وأساه، وأسمع صوته البعيد يجرني إلى الداخل.. أفرح أحيانا.. وأحزن أحيانا أخرى .. أراه قبالتي يقرأ أو يأكل.. يشرب أو ينام .. يكتب أو يتهجى غيبته.. أعيدها إلى أهلها..؟ ماذا أقول لهم..؟ أفرح وأحزن.. وأشتاق أيضا.. الأماكن التي يذكرونها تلهب مشاعري ، والوجوه التي أراها في الصور تملأني حنينا إلى أصحابها .. صارت الرسائل تلك لذتي ومتاعي.. أحمل الكثير منها في جيوبي حيث أتوجه.. أقرأ بعضها في الحدائق العمومية، وبعضها الآخر في الحافلات.. حين أسير في الشوارع أرى أناسا كثيرين يحيونني .. أعرف البعض منهم ولا اعرف معظمهم.. يسألونني أيضا: كيف الحال؟.. يقول بعضهم: لم نرك منذ مدة.. ويقول آخرون: لم نعد نقرأ كتاباتك.. لماذا؟ ..أين أنت؟ أبتسم لهم، وألمس الرسائل في جيوبي.. وأواصل سيري.. أدخل السوق.. يفاجئني أحدهم: ها أنت ..أخيرا أجدك..أين أشعارك التي كنت تلهب بها مشاعرنا يا رجل..؟ أين قصصك التي كنت ترمينا في خيال عالمها وتتركنا مشدوهين..أين؟ ... أبتسم له أيضا، وأضم الرسائل إلى جسدي.. يشد آخر على يدي.. متى عدت؟ البارحة فقط رأيناك على الشاشة العربستانية تقرأ تقرير لجنة الإشراف على مسابقة شعرية عربية.. متى عدت؟.. أقول مستغربا: لست أنا .. بالتأكيد هو شخص آخر يشبهني.. يؤكد أنه رآني..أضم الرسائل إلي أكثر.. يقسم أنني أنا.. يقول: إنك أنت بشحمك ولحمك.. ثم يتأمل ملابسي ويضيف: وملابسك أيضا.. نفس الصوت.. نفس الحركات والنظرات.. ونفس الملابس .. ألا أعرفك..؟ يقول ثالث: إنك أنت هو..فقط، شفتك السفلى كانت مرتخية بعض الشيئ خلافا لما هي عليه اليوم..ويضحك.. أقسم لهم بأنني لست هو..ويقسمون بأنني هو ذلك الشخص الذي رأوه.. ألمس الرسائل مرة أخرى.. أطمئن إلى أنها معي.. أسرع الخطى.. أدخل المنزل..أراه يحدق في الجيوب حيث الرسائل.. وفي الصمت حيث أسير.. أجلس.. يجلس..أخرج الصور من تحت المخدة.. يخرج الصور.. أفتح شاشة التلفزة أراه أيضا.. إنه أنا فعلا.. بشحمي ولحمي.. وملابسي أيضا.. أسمع نفس صوتي ، وتعانقني نفس أشعاري وقصصي.. وأرى أماكن لا أعرفها.. لا أتذكر إطلاقا أنني ذهبت إليها، أو قرأت أشعاري وقصصي هناك.. فيها.. حين يقدمونه يذكرون اسمه، وبتلذذ عجيب .. يقولون: الشاعر والقاص الكبير أحمد محمد عز التاج.. تشرفنا استضافته الليلة.. و.. من هو؟.. من أنا؟.. تشتد حيرتي.. والرسائل تصلني.. باستمرار تتدفق.. في كل مكان أراها.. باستمرار أملأ جيوبي.. وأخرج.. تخبرني زميلتي التي تزورني من حين إلى آخر في المنزل الذي أقيم فيه وحدي أنها أعطت عنواني لصديقة عربستانية تؤكد أنها تحمل نفس لقبي.. أنذكر اسمها.. أتذكر أن بعض الرسائل قد وصلتني فعلا من تلك التي تذكر اسمها .. حين أراها مكدسة تخطر ببالي فكرة حرقها أو تغيير مقر إقامتي.. تمتد يداي إليها.. أتحسس علبة الكبريت في جيبي .. وحين أهم يخطف العلبة من يدي .. ويرميها .. أعيد الرسائل إلى أماكنها.. أحضنها بعمق.. أتشمم رائحتها.. إنها لذتي ومتاعي.. تملأني شوقا إلى أماكن يذكرونها.. وحنينا جارفا إلى وجوه لا أعرف أصحابها.. أغلق الباب وأخرج .. الدموع تتعانق في الداخل.. والأفق صدى.. يحضنني الشارع أيضا.. يحيونني.. أناس أعرفهم.. وآخرون لا أعرف.. رأيناك البارحة.. سمعنا صوتك.. كنت رائعا.. قصائدك ألهبت مشاعرنا.. قصصك رحلت بنا إلى هناك.. بعيدا.. ذكرتنا بأيام طفولتنا.. أدخلتنا عالم روعة خيالك.. ... ها قد عدت من جديد.. أقول للبعض: لكنني لست أنا.. وأقول للبعض الآخر مؤكدا: والله ما خرجت البارحة من المنزل.. والرسائل تتدفق باستمرار.. أماكن لا اعرفها.. بلدان لم أزرها أبدا .. ولم تزرني.. يلعنون الزمن الذي باعد بيننا.. يحرصون كثيرا على أن أعرف أطفالهم ولو في الصور.. يقترحون علي زيارتهم حيث يتواجدون.. يرددون دوما: إنك جامع شملنا، ومعيدنا إلى أماكن طفولتنا ومرابع صبانا.. يزداد شوقي إلى تلك الأماكن التي لا أعرفها.. وأمتلئ بالحنين أكثر إلى تلك الوجوه التي لا أعرف أصحابها.. هل أحرقها؟.. هل أغير مكان إقامتي؟.. ويجيبني صوت الداخل: إنها لذتي ومتاعي.. ... تلك الرسائل .. ما أروعها. مارس2007
هيفاء
ـ ابنها أنت؟ ـ نعم.. أجاب.. عيناه واسعتان وعميقتان كعينيها.. نفس السمرة الفاتحة ونفس الشعر الأسود اللامع أيضا.. حين رأيته دق القلب الرابض فيَ بعنف، واضطربت الرجلان اللتان تحملاني.. توجهت نحوه.. أنت ابنها..صح؟ ـ نعم.. قال مبتسما.. وكعادتي في توزيع الحلوى على الأطفال أخرجت البعض مما كان في جيبي وأعطيته.. ـ ما اسمك؟.. سألته.. رضا.. قال .. أعدت اليد إلى الجيب وأخرجت كل ما بقي فيها من حلوى.. ـ خذ.. قلت.. وأنا أمد يدي إليه خفيفا.. كانت الجدران تحاصرني بغيابها.. والنوافذ الصغيرة المسيجة تلاحقني من كل الجهات بطيفها.. ضممته إلى الصدر.. قبلت جبينه.. وحين أطلت بنظراتها المضطربة كان الزقاق ما يزال خاليا من مارته.. فوجئتْ بوجودي.. وفوجئت بابتسامتها الحزينة.. عادت برأسها إلى الداخل.. تأكدت أن لا أحد خلفها.. قالت هامسة: اشتقت إليك كثيرا.. : وإليك أكثر.. قلت بصوت خفيض بطيء.. أشارت إليه.. هو.. إنه هو.. صحت هامسا ورجلاي ترتجفان من شدة مفاجأة الإشارة: .. ابني.. ابني.. وضممته إلى الصدر أكثر.. حين اكتملت أنوثتها كان لي طفلان.. سمرتها الفاتحة كانت حقول قمح تتماوج تاركة في قلب كل واحد منا نحن شباب القرية لهفة الشوق إليها.. عيناها السوداوتان الواسعتان والعميقتان غزالتان نافرتان .. نجري ونجري .. لكننا نعجز عن الإمساك بهما.. كانت ترسل شعرها على الكتفين عاريا ، وتتعمد هزه من حين إلى آخر، فتهتز القلوب منا .. كان البعض ممن تعلم من شباب القرية يسميها هيفاء.. هاهي هيفاء.. انظروا.. هناك هيفاء.. يا للروعة.. هيفاء.. هيفاء.. وحين دخلتُ قسم السنة الأخيرة في مدرسة القرية الوحيدة ونظرت كعادتي إلى وجوه التلاميذ أمامي للتعرف عليهم.. رأيتها.. كدت أصيح: يا للسحر.. وقلت في السر: خالقي كن معي.. ما إن أدخل القسم حتى تبادر إلى مسح السبورة وكتابة تاريخ الدرس.. ومرات تسألني عنوانه وتكتبه أيضا.. كانت ابتسامتها الدفء الذي يسري في الجميع.. تنظر إلى التلميذ فيتجمد في مكانه.. وتنظر إلى التلميذة فتتجمد كذلك.. كل العيون تتوجه نحوها حين تتكلم.. وكل القلوب تهفو إليها عندما تقف.. حين تزوجت أول مرة ، وكان العريس عسكريا، أرسلت زوجتي وولديّ إلى عرسها.. أغلقت الباب وجلست.. وضعت الرأس التائه بين الكتفين.. وجلست.. كانت ابتسامتها تكبر وتكبر.. امتلأت جدران الغرفة بها.. امتلأ السقف أيضا.. وامتلأت الأرض بخطواتها.. كانت تبكي.. وكنت أراها.. حين أركبوها السيارة رفعت رأسي .. ونظرت.. كانت الجدران بيننا.. ورأيتها.. كانت تنظر جهتي.. والسيارة تبتعد.. وتبتعد.. في المرة الثانية.. غامرت وخرجت.. وكان العريس هذه المرة رجل أعمال.. يستورد كل شيء .. ويصدر كل شيء أيضا.. كنت أقف مع جمع المتفرجين حين أخرجوها.. كانت تنظر.. وأنا أنظر.. مشت في اتجاه السيارة.. ومشيت كالآخرين.. تعثرتْ وسقطت.. تعثرتُ وسقطت.. وفي نفس اللحظة .. أركبوها السيارة.. ابتعدتْ.. وابتعدتُ.. كانت نظراتها مشدودة إليّ.. وكانت نظراتي مشدودة إليها.. اشتقت إليك كثيرا.. قالت.. وقلت هامسا: وإليك أكثر.. رفعت المكنسة من جديد.. وراحت تتظاهر بالكنس أمام الباب.. انحنت برأسها إلى الأرض وراحت تتظاهر بالكنس.. وكان الطفل يبتسم..ينظر إليها تارة.. وإلي تارة أخرى.. وكان الزقاق خاليا من مارته.. قالت: كرهت كل شيء.. أعرف ذلك قلت.. وأضفت: لكنها الحياة.. لا مفر من أقدارها.. وفي السر كنت أقول: أعرف أنه لا يأتيك إلا نادرا.. أعرف أنه يقضي يومين في الأسبوع مع زوجته الفرنسية هناك.. ويومين آخرين مع زوجته الجديدة الأمريكية.. هنالك.. وأعرف أنه يقضي يوم الجمعة وأيام المناسبات الدينية في السعودية حيث تعيش زوجته الرابعة.. أما اليومان الآخران فيخصصهما للاطلاع على أحوال أعماله.. وأعرف أنه يُخضع كل عصابات تهريب الجمر والتمر والقمل والرمل والنفط والعفط والحجر والبشر والشيح والريح والأوهام والأغنام له.. كررت: صدقني لقد كرهت كل شيء.. كل شيء.. عادت إلى الداخل .. وأغلقت الباب خلفها.. كنت أسمع نحيبها.. وكان النحيب في داخلي يتعالى.. وكان بعض المارة قد ظهروا في الزقاق من بعيد.. ـ هاهو.. يلازم نفس المكان منذ مدة.. ويسلك نفس الطريق كل يوم..قال لزميله.. ونظرا بألم إليّ.. ـ قال الآخر معلقا: ليس وحده.. لقد كنا كلنا..هل نسيت..؟ ـ لكنه الوحيد الذي ما يزال مشدودا إلى وتدها.. أجاب زميله.. ـ قال الآخر ونظراته تمتد إلى الباب المغلق أيضا: صحيح.. صحيح.. حين ابتعدا.. ضممت الطفل من جديد إلى القلب.. كنت كمن يعصره.. ثم.. أطلقته.. ومشيت.. كنت أسمع نحيبها.. وأسمع نحيبي أكثر..وأنا أمشي متثاقل الخطوات.. كانت حقول القمح خارج القرية سمرتها الذاهلة.. كانت النسائم الخفيفة شعرها المتماوج فوق ساحل المتوسط شمالا والأهاقار جنوبا.. كنت أمشي .. وأمشي.. خطاي ثقيلة والأرض صدفة تضيق وتضيق.. وكان الأفق أمامي عينيها السوداوتين الواسعتين .. كنت أمشي .. وكانت ابتسامتها الأعماق التي تغرس روحي في سواد الرحيل.. كنت أمشي.. وكانت الخطوات قدميها الهاربتين.. ... وكنت أمشي حين سمعت صوت الطفل خلفي: عمي .. عمي.. استدرت بكل جسدي إلى الخلف .. كان الطفل يلوّح بالمنديل من بعيد.. وكان يلهث حين سلمني المنديل.. ـ أرسلته أمي إليك.. قال.. قبلت الطفل.. وفتحت المنديل.. في القلب الحرفان الأولان من اسمينا( هـ ط) تحت القلب: إلى الأبد.. وفي الأعلى كان الهلال يحيط النجمة بكلتا ذراعيه.. نظر الطفل إلي بعمق.. ضمني هو أيضا إلى الصدر.. قبلني.. ثم أعطى الريح لرجليه.. وسار.. وكنت ألاحقه حين رأيت البيوت صخورا تتحرك باتجاه بعضها وتتلاصق.. والأرض شقوقا تكبر.. ووقفت مع الناس مندهشا حين علا صوت الريح مندفعا وغطت وجه السماء غيوم السواد.. وقفت مندهشا .. يد الطفل تمتد نحوي.. وعيناها تزرعان في مقلتيه الشوق إلى البعيد البعيد.
ديسمبر2007
شبرالحفارين
...إنها الليلة الثالثة التي أبيت فيها ساهرا ذاهلا مترددا: أحفر أو لا أحفر..والعام الجديد تقترب بدايته بسرعة ما كنت أتصورها قبل هذه الليالي أبدا..و.. أتذكر أنني حملت الفأس أكثر من مرة ، وتراجعت عن الحفر أكثر من مرة أيضا عندما حلت بداية السنة الماضية.. أذكر أن أخي الذي يليني مباشرة في ترتيب ولادتنا حاول نزعها مني مرارا دون جدوى.. ترجاني إعطاءه الفأس ولم أعطه..قال: إذا خفت هاتها ، اترك الأمر لي ، سأحفر بدلا عنك .. لكنني لم أعطه.. منذ الصباح حتى بداية اليوم الثاني وأنا أرفع الفأس وقبل أن أهوي بها على الأرض أتراجع .. ويصيح أخي: هات الفأس .. هاتها.. حين انتهى اليوم الأول تنفست الصعداء وانسحبت خجلا ..ولم أعد إلى البيت إلا بعد أيام.. احتج أخي كثيرا.. حملني مسؤولية عدم الوفاء بالعهد .. وجر باقي أفراد الأسرة إلى تحميلي المسؤولية .. واجهني الجميع غاضبين علي وساخطين على سلوكي .. رفعوا رؤوسهم وقالوا لي بحدة لم أعهدها منهم قبل اليوم: أنت أكبرنا ، والعادة جرت أن يتم الحفر من قبل الأكبر دائما.. وصاح البعض: يالك من جبان.. منذ زمن بعيد سألوها : أيتها الأم صارحينا .. من يكون أبونا؟.. قالوها بصوت خافت مليء بالتردد والخجل.. وحقيقة الأمر أنهم كانوا قد طرحوا عليها نفس السؤال وبنفس التردد والخجل منذ أن مات جدي بحسرته التي ملأ قلبه بها أهل القرية الذين كانوا كلما أنجبت جدتي ولدا ورأوه يكبر أمام أعينهم وتتضح ملامح وجهه التي لا تشبه بالمرة ملامحه، إلا وتهامسوا فيما بينهم : إنه ابنه.. مشيرين إلى ذلك القادم الذي كان يأتيهم حاملا تينه وزيتونه على البغال التي يدفعها بعصاه الزيتونية أمامه.. كانوا يقولون لبعضهم : انظروا عينيه .. ألا تلاحظون أنهما بنفس لون عينيه وشكلهما..إنها نفس القامة ..نفس لون البشرة.. يعلق بعض الكبار: هل نسيتم؟ لقد كانت وهي صبية تستقبله بالفرح العارم .. ألم تكونوا تلاحظون ذلك الفرح على ملامح وجهها ، وترونه يسرع السير في خطاها ؟ ألم تكونوا تشاهدونه وهو يملأ حجرها مبتسما بحبات التين والزيتون فيما لا يعطي الأخريات من مثيلاتها أكثر مما يملأ أكفهن ؟ ويضيف آخرون: ومن دون كل أهل القرية كان لا يحلو له المبيت كضيف إلا عند أبيها أو زوجها ؟ كان الكلام في البدء همسا لا يتجاوز حدود الإثنين أو الثلاثة..لكنه وبسرعة مذهلة انتشر بين كل نساء القرية .. بين كل رجالها ، وحتى أبنائها وبناتها.. وأمات جدي بحسرته وهو يحس باحترامهم له يقل وتقديرهم يختفي ، ويرى غمزاتهم بعينيه ويسمع همساتهم بأذنيه .. ورغم أن جدتي كانت تحتج وتسب وتشتم حين كانوا يطرحون السؤال المتردد الخجول.. إلا أنها كانت تهدأ تماما بعد احتجاجها ذاك وتجيبهم بانشراح تام: لا تتسرعوا .. سيأتي اليوم الذي تعرفون فيه كل شيء..ثم تأمر بإغلاق فم كل من يحاول مواصلة الحديث بوضع كف يدها اليمنى على فمها.. وكانت تلك الإجابة المبهمة لا تزيدهم إلا ألما وسخطا .. لكنهم كانوا يجرون أرجلهم ويخرجون الواحد تلو الآخر ساهمين.. كانت جدتي ملكة جمال القرية .. حقيقة لا ادعاء.. منذ صغرها كانت مثار اهتمام الجميع.. وحين جاء جدي على فرسه الشهباء لا بسا بردته البيضاء الناصعة وممتشقا سيفه اللامع رحب به أهل القرية كثيرا .. تنافسوا على ضيافته .. ذبح بعضهم الكباش وذبح البعض الماعز ، أما الآخرون من فقراء القرية فقد اكتفوا بذبح الديكة.. ولأنهم استحسنوا حكاياته التي كان يرويها لهم بشكل مشوق جذاب ويملأها بالكثيرمن الحديث عن شجاعته و مغا مراته العجيبة.. وارتاحوا لآياته التي كان يقرأها عليهم فقد طلبوا منه الإقامة بينهم معلما لأبنائهم ومرشدا لهم في حياتهم.. ولم يبد الأمر غريبا لهم أبدا حين سمعوه يقول ودون أدنى تردد : على الرحب والسعة.. لا أتصور أنني أجد مكانا لي أفضل من الإقامة بينكم ..ثم يضيف وهو يتأمل وجوهم بعمق: والله لقد أحسست بأنني واحد منكم منذ أن أنزلتني هذه الشهباء بينكم، مشيرا بأصبعه إلى فرسه التي كانت تقف غير بعيد عنه.. ولم يكن جدي سوى شخص عادٍ ، قصير القامة بعض الشيء ، عيناه أميل إلى الجحوظ وبشرته سمراء فاتحة.. لكنه سرعان ما صار حكيم القرية ،مدبرأمورها والمخطط لحاضرها ومستقبلها.. ولم تكن جدتي سوى واحدة من بنات القرية ، لكنها كانت الأجمل بينهن جميعا.. كان كل واحد من رجال القرية يمني نفسه بأن تكون زوجة ابنه مستقبلا .. و.. .. خطفها جدي من أعين الجميع .. أدخلها قلبه وهي ما تزال صبية تتعلم حروف الهجاء على يديه ، وتحفظ آي القرآن من شفتيه.. لم يتردد أبدا حين رآها وقد صارت في سن الزواج القروي .. تقدم بسرعة فرسه الشهباء نحو أبيها ، وأمام جميع من كان حاضرا طلب يدها .. ذهل الجميع.. لكن أبا جدتي قال ودون أي تردد أيضا: مبارك زواجك من ابنتي.. ثم أضاف وكأنه يبرر قبوله السريع ذاك: يا حكيم قريتنا ومعلم صبياتها وصبيانها .. قبل عام من وفاتها كرروا عليها نفس السؤال خجلين مترددين ، وبشفاه تكاد ترتجف.. و..أطرقت جدتي برأسها طويلا، ثم رفعته وتوجهت بعينيها الحادتين إلى عيونهم التي كانت موجهة نحو الأسفل واحدا واحدا .. لم تحتج كالعادة.. لم تسب ولم تشتم.. لم تقل لهم مثلما تعودوا أن يسمعوا : لماذا تسألون؟ ألا يكفي أنكم موجودون؟ بل قالت وبصوت فيه الكثير من الخشوع والرهبة: سأخبركم يوم موتي.. ولم تزد كلمة واحدة.. نظروا إلى بعضهم البعض .. حاولوا التكلم من جديد.. وصمتوا حين رأوا عكازها الفرسي يحملها ويسير بها بعيدا عنهم.. وخرجوا الواحد وراء الآخر .. وانتظروا.. كانوا يحسون أن يوم موتها قريب .. وكانوا ينتظرون.. وكان جدي على فرسه الشهباء حين دخلت الموت ومسحت على أصابع رجليها.. انتفضت جدتي وصاحت بصوتها المرتعش الذي كان ما يزال قويا: تعالوا يا أبنائي.. واجتمع الأبناء باكين حولها.. سمرت عينيها في عيني كل واحد منهم .. الأكبر أولا ثم الأوسط فالأصغر.. قالت: احفروا كل سنة شبرا في الحوش.. كررت :كل بداية عام جديد شبرا.. أضافت: شبرا واحدا.. لا أقل ولا أكثر.. وأغمضت عينيها إلى الأبد.. نظر الأبناء إلى بعضهم البعض حائرين.. ضربوا الأكف بالأكف..وكان واضحا أنهم لم يفهموا شيئا.. لكنهم فهموا.. بعد أن دفنوها وعادوا إلى الدار باكين .. قال أبي: هل فهمتهم يا أخوي قصد كلا مها؟ ولم يترك لهما أية فرصة للكلام حين أضاف: إنه السر.. أبونا.. أليس كذلك؟ قال الأصغر.. وانتظروا.. ولم يدم انتظارهم كثيرا حين شاهدوا غيم العام الجديد يتقدم نحوهم .. لمن يكون شرف بدء الحفر ياترى؟ سأل أبي.. وأجاب الأوسط: لك يا أخي.. أنت أكبرنا.. ورفع أبي الفأس .. لكنه قبل أن يبدأ الحفر انتبه: شبر ماذا يا أخوي؟ طولا أم عرضا أم عمقا ؟ واتقفوا على أن يكون طولا وعرضا وعمقا معا.. و.. سقط أبي ميتا بعد أن قاس الطول والعرض والعمق وتحقق من إجادته الحفر .. في السنة الموالية رأيت عمي الأكبر حائرا مترددا.. وحفر أخيرا..تشجع وحفر.. وفرح كثيرا حين رأى نفسه واقفا بعد نهاية الحفر والتأكد من قياسات الطول والعرض والعمق.. لكنه لم يجد شيئا.. تماما كأبي.. في السنة الثالثة.. حفر.. والتحق بأبي.. ولحق بهما عمي الأصغر بعد الانتهاء من حفره الثالث.. وها أنذا أقف حائرا مترددا : أحفر .. لا أحفر.. أحفر.. لا أحفر.. أح.. فر.. لا.. أح.. فر.
ديسمبر 2007
إنهم يذبحون البشر
غير بعيد عن حلقة الرجال جلست.. الطفل جنبي يأكل قطعة الخبز بالزلابية التي كنت قد وضعتها وسطها.. تقدمت.. وفوجئت وأنا أمد يدي لمصافحة الرجال من خلف ظهورهم برؤيتي علي الراهم وعمي موسى والشيخ خليفة ورابح بن امحمد وعمي علاوة الموتى بثيابهم البيضاء.. رأيت في الحلقة أيضا رجال القرية الأحياء..وبنفس الثياب كذلك.. كنت ألمس اليد اليمنى للذي أصافحه ، وألمس أحيانا يده اليسرى عندما أنتقل لمصافحة الذي يليه..ولا أنتبه لذلك إلا بعد أن أصافحه.. قال علي الراهم:إننا مثلكم تماما.. نقيم الأعياد كما تقيمونها.. ونذبح الكباش كما تذبحون.. علق سليمان: لا شك أنها كباش ميتة.. وأضاف عمر شيوبة: أليس كذلك ياعمي خليفة؟ وضحك الجميع.. وازداد ضحكنا أكثر حين شاهدنا أحمد بورأسين يتقدم نحونا ببطء جارا إليته الضخمة العجيبة.. ..قال عمي موسى: لكن الكباش هذه المرة مرتفعة الأثمان كثيرا.. كثيرا.. وماذا نفعل نحن الأحياء إذن..ياعمي موسى؟.. سأل أحمد الراهم .. تنحنح عمي علاوة، ثم قال: افعلوا مثلما كنا نفعل يا أحمد الراهم، أم تراكم نسيتم؟.. وما إن استدار أحمد الراهم الذي كان يشد بيده اليسرى على بطنه إليه ليجيبه حتى كان الطفل يجذب يدي ويجرني لنعودا إلى نفس المكان..
كنا نسمع أصوات كباش بعض الجيران المقتدرين.. وكنت هناك.. بعيدا.. أعدو مع أطفال القرية حول الكبش الذي سنوزعه بالتساوي.. حين صاح الطفل: لم يبق للعيد إلا يومان .. أين كبشنا..؟ علقت أمي العجوز: كان صغيرا جدا..أضحية هذا العيد يجب أن تكون أكبر..تكفينا بهدلة العام الماضي.. وقفت.. جذبت يد الطفل..وصعدنا إلى الأعلى.. كانت قطعان الأغنام تشكل حلقات متداخلة حول الهضبة..وأمام كل مجموعة يقف رجل أو اثنان أو أكثر.. كنت أمسح على رأسه وأنا أضع يدي على ظهور الكباش المليئة شحما ولحما.. أقول لصاحب الكبش: أعطيك في هذا الكبش كذا.. أقول ذلك وأرفع صوتي حتى يسمعني الطفل.. ويجيب صاحب الكبش: ما زلت بعيدا..لن أبيعك الكبش بهذا السعر.. ألا تعرف بأن أسعار علفها قد ارتفعت بشكل جنوني..؟ أطأطئ رأسي وأتحرك.. وأقول في سري: أعرف أعرف .. وأقول لصاحب الخروف: أعطيك في هذا الخروف كذا..وأرفع صوتي كذلك.. ويرد صاحب الخروف: ما زلت بعيدا كثيرا.. ويشد الطفل يدي..وأضمه بحنان عميق إلى الصدر .. وأهمس: ما معنا من مال لا يكفي لشراء حتى أصغر خروف في السوق يا بني.. أيقظنا الحمار.. صلينا الفجر وأيقظنا الحمار.. ركبت أمي العجوز وركب الطفل خلفها..وسرنا.. علينا أن نسرع أكثر .. وحركت رجليها.. وما إن شرعتْ أصابع يدي تداعب قطعة الطبشور التي كانت تقفز في الجيب مرحة سعيدة، حتى سمعت العجوز تقول للطفل: ربط الرجل المرأة إلى ظهر الحصانين..رجلها اليمنى إلى ظهر الحصان الذي كانت عيناه إلى الشرق.. واليسرى إلى ظهر الذي كانت عيناه إلى الغرب.. أوقف ابنه خلف الثاني ووقف هو خلف الأول.. وفي اللحظة التي ضرب فيها مؤخرة الحصان الذي يقف خلفه ، ضرب ابنه مؤخرة الحصان الآخر .. وانطلق الحصانان بسرعة جنونية ..كل حصان في اتجاه.. وجفل الحمار.. كاد أن يُسقط العجوز والطفل حين سمعنا الصراخ يأتي من بعيد.. بعيد.. ولم تكمل حكايتها.. وكنا على مشارف السوق حين انتصف النهار تقريبا.. ربطت الحمار إلى جذع شجرة الخروب الهرمة.. ونثرت ربطة الحشيش أما مه.. وابتسم الحمار..ثم جلس.. ثنى رجليه الأماميتين .. وجلس.. وقبل أن أستدير رأيته يخرج الشوكة والسكين ويشرع في تقطيع أعواد الحشيش.. ورأيت العجوز وقد جلست بين جمع العجائز المثرثرات..و.. عدت والطفل إلى نفس المكان.. وجلسنا غير بعيد عن حلقة الأحياء الموتى.. كنت بعيدا ..هناك..مع أطفال الجيران نعدو خلف الكبش الذي سنوزعه بالتساوي.. وكانت اليد تشد على يدي.. كيف الحال أخي الطيب؟ كيـ.. ورفعت رأسي.. لا تيأس قال..نحن إخوة يا أخي.. نهضت واقفا.. واحتضنا بعضنا.. لم أرك منذ أكثر من سنة..أضاف..وقبل الطفل الذي كان يلتصق بيده اليسرى.. ولم أنتبه إلا ونحن نقف أمام الذبائح التي كانت تصطف على طاولة الخشب الطويلة..وأخي عبد الحميد يقفز في اتجاهي.. طفلك هذا ..صح؟.. إنهما أخواي بالرضاع قلت للطفل الذي كان ما يزال ملتصقا بيدي اليسرى.. اختر ما تشاء..وجه عبد الحميد كلامه إلي.. وأضاف عبد الرحيم: والله سنبيعك بنفس الثمن الذي اشترينا به.. ترددت بدءا.. ووافقت في النهاية.. آخذ نصف ذبيحة.. قلت.. مبارك .. قال عبد الحميد ومد ساطوره.. كانت الذبيحة إسماعيل أخي بالرضاعة أيضا.. مد ساطوره..قص الفخذ اليسرى.. والرأس تبتسم.. شق الصدر نصفين.. والرأس تبتسم.. نزع الذراع اليسرى بكتفها.. والرأس تبتسم.. طبعا، ستأخذ الرأس والأحشاء..قال عبد الحميد.. لا تجوز ذبيحة العيد إلا برأسها وأحشائها .. أضاف عبد الرحيم ..ومد ساطوره جهة الرأس.. وارتعد الداخل في.. استيقظت كل حواسي دفعة واحدة.. كانت الرأس تبتسم لي.. عيناها مصوبتان نحو عيني.. وكانت الريح تهب جنوبية قوية..والسحب المليئة بالغبار طبقات تغطي سماء السوق.. وكنت أسمعهم يصيحون من كل الجهات: لقد جن الرجل.. لقد جن.. كنت أعدو..والصوت يتدحرج أمامي وخلفي: إنهم يذبحون البشر.. إنهم يذبحون البشر.
25/12/2008
ركبتي وقطار المستشفى
أوقف الرجلان اللذان كانا يلبسان الأزرق السماوي العربة التي كنت فيها تحت مربع الضوء .. كنت وحدي ..في الأعلى عينا جورج بوش الكبيرتان ترسلان أشعتهما الحادة الى رجلي اليسرى..في الجهات الاربع جدران تلبس البياض .. أغمضت عيني..و..فتحتهما بعد مدة لا أدري مقدارها بالتحديد..فوجئت وأنا أنظر جهة اليمين بفتاة سوداء تتفحص مجموعة أوراق بإمعان كبير ..تأملتها جيدا ..كانت كوندا ليزا رايس وزيرة خارجية الوم أ السابقة ..بدت لي ملامحها أجمل مما أعرفه عنها في الصورة عادة عبر المجلات والشاشات ..لا أخفي عليكم ..توقف ألم ركبتي وانتقل الفرح إلى أعلى ..كان يطل برأسه من حين إلى آخر متأملا جمال سوادها .. فجأة وقفت الفتاة السوداء كوندا ليزا رايس ..ببطء سارت نحوي .. ما بك؟ ..سألت ركبتي ..أجبت اليسرى إذن ..علقت ..وبابتسامة عريضة عادت إلى مكانها .. أغمضت عيني من جديد ..و..فتحتهما بعد مدة لا أدري مقدارها بالتحديد أيضا .. نظرت إلى حيث كانت ..لم أجدها .. نظرت إلى الأعلى ..ما تزال عينا جورج بوش ترسلان أشعتهما الحادة نحو رجلي اليسرى .. دخلت مجموعة مختلطة من لابسي الأبيض الناصع والأزرق السماوي.. توجه الأزرق السماوي إلي ..وضع إبرة السيروم في ذراعي اليسرى وربط على ذراعي اليمنى بخيط لم أتبين شكله بوضوح .. توجه لابسو ولابسات الأبيض الناصع إلى ما يشبه الشاشة في الجدار الشرقي ..وضعوا الصورالطبية لركبتي عليه وانطلقوا في نقاش لم أسمع كلامه جيدا.. لم أشعر إلا والقيء ينزلق من فاهي خفيفا ..و..غبت عن الوعي تماما .. هل كان العمال الصينيون والكوريون الشماليون والفيتناميون والكوبيون هم الذين يرممون ركبتي اليسرى ؟..هكذا تهيأ لي وأنا في غيبوبتي تلك .. حين استيقظت كان القطار الذي كنت فيه قد دخل النفق ..كانت عجلاته ترتفع وتنزل بي فوق مربعات البلاط غير المستوية ..كانت القاطرة امرأة لا تتوقف عن إصدار أبواقها :أجذب يدك يا رجل حتى لا تصطدم بالجدار.. لا أريد تحمل مسؤولية ما يمكن أن يقع لك.. اعتدل ..ما بك ؟..ألا تسمعني ؟..اللعنة على الممرضين والممرضات الذين تركوني أشتغل وحدي ..أطباء آخر زمان ..الكل نائم ..وحدي أعمل ..ماتت ضمائر الجميع .. أخيرا توقف القطار .. أنتم أيها الصغار إشربوا حليبكم ..بحثنا عن ملابسك أيها الرجل ولم نجدها ..لا ندري أين هي ملابسك أيها الطفل ..قلت إشربوا حليبكم ..بسرعة ..هيا .. الألم الحاد في عيني يزداد بتواتر متصاعد .. تعالي أيتها الممرضة ..كنت أريد دواء منها يخفف ذلك الألم .. ماذا تريد مني يا رجل ؟ تقدمي إلى هنا أيتها الممرضة ..أريد أن أشكرك على عملك .. ابتسمت الممرضة وتقدمت .. أمسكت جفوني بأصابعي وفتحتها بصعوبة .. شكرا لك أيتها الممرضة..أنت تعملين بجدية ونشاط أكثر.. لا شكر على واجب ..هذا عملي .. هل من دواء لهذا الألم الحاد الذي ينغرز في عيني ؟ سأرى قالت ..و..غادرت .. انتظرت طويلا دون جدوى ..الألم يزداد وأصابعي لا تتوقف عن فرك عيني .. دخلت ممرضة أخرى..كررت طلب الدواء وانتظرت ..دون جدوى أيضا.. حين جاء الطبيب أخبرته بأمر الألم..أشار إلى ممرضة كانت ترافقه :ضعي بعض السيروم في عينيه ..و..غادر .. لم تستجب الممرضة .. أريد البول ..قلت لممرض ..هل من وعاء خاص بذلك..ولم يستجب الممرض لطلبي.. انتبهت إلى ركبتي التي كانت هي كذلك تصدر ألمها الحاد .. رفعت الغطاء عنها ..فوجئت بالبياض الناصع يلف رجلي من فوق الكعب إلى منتصف الفخذ.. العينان عاجزتان عن الرؤية والركبة متوقفة عن الحركة ..يا ويلي ..قلت ..والبول يكاد يفر من أنبوبه .. صحت بأعلى صوتي :أيها الممرضون أيتها الممرضات ..أين أنتم ؟..تعالوا إلى هنا أيها الـ...والـ... اسكت أيها الرجل.. أنت في المستشفى .. كيف أسكت وأنتم لا تبالون بشيء ..لا عمل لكم سوى الثرثرة الفارغة ..هل تعرفون من أكون أيها اللامبالون ؟ أخي جنرال ..قلتها بطريقة بدت أكثر جدية .. لست أدري كيف وردت تلك الجملة على لساني .. سأرفع بكم تقريرا إلى السلطات العليا..سأخربها عليكم أيها الـ.. نظروا إلى بعضهم البعض ..تهامسوا فيما بينهم ..بدت الحيرة على وجوههم ..كانوا أكثر اندهاشا وضياعا .. جاء الممرض مسرعا بوعاء البول.. وجاء مسرعا أيضا بعد أن أنهيت .. جئني بما أغسل به وجهي وأطرافي .. بماذا أمسح ؟صحت بنبرة حادة .. أسرع إلي بالمنشفة ..ووضعت ممرضة سائل السيروم في عيني .. هكذا إذن ..قلت في سري مبتسما..وأغفيت .. رأيت بجانبي تلميذي القديم الذي درسته في السنة الأولى ثانوي وتم طرده لفشله مرتين في الانتقال إلى السنة الثانية .. كان الوالي يربت على كتفه..لا بأس ..إنه التواء في الكعب فقط ..سلامتك..إذا احتجت لأي شيء إتصل بي مباشرة ..هذا رقم هاتفي الخاص.. إلى جانب الوالي رأيت مدير الشباب والرياضة ومدير الثقافة أيضا وشخصيات أخرى لا أعرف مهامها .. خرج مدير الثقافة من القاعة مسرعا بعد أن لمحني وتيقن من أكون .. مدير التربية أيضا كان حاضرا ..ولحسن الحظ أنه لا يعرفني .. بعد أن خرج الوالي تجمع الممرضون والممرضات والأطباء والطبيبات حول تلميذي القديم الذي هو الآن لاعب في أحد الفرق المحلية .. سمعت أحدهم يقرأ برقية التمني بالشفاء العاجل التي أرسلها وزير الشباب والرياضة شخصيا .. حين أستيقظت من إغفاءتي تلك كنت وحدي .. كان الرجل المقابل لي ما يزال يطلب الإتيان بملابسه ليخرج ..كان الطفل الذي على يساري يطلب هو أيضا ملابسه .. وكان الرد في الحالتين :لم نجد ملابسك..لا ندري أين هي ..سنطلب من أهلك الإتيان بملابس أخرى لك كي تخرج.. إيه يا ركبتي ..أيتها التي تنام في حصار البياض الناصع سأحرسك أياما طويلة وطويلة ..قلت في سري ..وتذكرت الحادث .. كيف لم أنتبه لقشرة الموز اللعينة تلك؟..أين كان عقلي؟..أضفت ..و.. في عربة القطار المنكسرة كنت ..يدي اليمنى تمسك بحافة النافذة خوف السقوط واليسرى تتشبث بحافة العربة المائلة .. ألا توجد عربة سليمة ؟سألت الممرضة التي كانت تقف بجانبي .. لا توجد.. ردت .. قلت للممرض الذي كان بجانبها :أما من مخدة ؟ لا ..أجاب.. نزع أخي معطفي وحذائي وجعل منهما مخدة لرأسي .. فجأة ..سمعت حديثا جانبيا ..تتبعته حتى عرفت مصدره ..كانت ممرضة في المكتب المقابل لعربتي المنكسرة تقول لزميلتها وزميلها :لي أمنية واحدة ..أطلب من الله صباحا مساء وفي كل صلواتي تحقيقها .. ما هي؟..سأل الممرض.. أريد فلانا (ذكرت إسما نسيته).. ضحك الممرض وضحكت الممرضة زميلتها .. أمسكت يمناي جيدا بحافة النافذة..قلت بصوت مرتفع وأنا أرفع يسراي إلى الأعلى مفتوحة الكف : أنت أيها الممرض.. وأنتما أيتها الممرضتان ..يا ملائكة الرحمة ارفعوا جميعا أيديكم للدعاء.. مندهشين رفعوا أيديهم وهم يرون يدي ترتفع إلى الأعلى مفتوحة الكف .. يارب ..حقق لهذه الممرضة أمنيتها ..قلت ذلك وأنا أشير بأصبعي إليها .. قال الممرض : يبدو هذا الرجل طيبا ..و..توجه إلي ..جاءت الممرضتان وهما تبتسمان .. ماا سمك يا عم؟..سألني الممرض .. الطيب ..أجبت.. صاح الممرض مبتهجا:ألم أقل لكما إنه رجل طيب ..ها هو اسمه يؤكد ذلك .. قالت إحدى الممرضتين مبتسمة :هل من خدمة نقدمها لك يا عم ؟ عربة فقط ..أريد عربة بدل هذه المنكسرة .. اسرعت وجاءتني بالعربة ..بلطف حملوني ووضعوني فيها .. هل من خدمة أخرى ؟سأل الممرض.. مخدة ..قلت قالت الممرضة التي دعوت لها :للأسف الشديد يا عم ..لا توجد مخدات والله ،لكني سأحل المشكلة .. أخذت غطاء من عربة في القاعة المقابلة لعربتي من جهة الشمال..لفته على بعضه وجعلت منه مخدة وضعتها تحت رأسي .. ماذا أيضا أيها الطيب ؟..قال الممرض .. البول ..قلت هامسا .. أسرع ووضع الحاجز الأخضر ومدني بوعاء البول .. عادوا إلى مكتبهم وبقيت وحدي ..النعاس يراودني والأضواء الوهاجة تنغرز في عيني أكثر .. أشرت بيدي للممرض :ألا يمكن نقلي إلى مكان آخر ضعيف الإنارة ؟.. أطفأ الأضواء التي فوق رأسي مباشرة .. الطبيب يمنعنا من نقلك لأن العملية ستجرى لك فور الإنتهاء من التي تجري الآن لشخص آخر .. انتابتني إغفاءة أعتقد أنها كانت طويلة ،استيقظت منها على وقع صوت عجلات العربة يقودها ممرضان ..رفعت رأسي ونظرت إلى الأمام ..غرفة العمليات .. جاء دوري إذن ..قلت .. توقفت العربة..قال أحد الممرضين :عليك بنزع ثيابك..سأساعدك.. حين مد يده إلى...تفاجأت ..حتى هذا ؟..حتى هذا ..أجاب .. وضع الملابس في كيس بلاستيكي ورماها في الرواق المجاور للغرفة دون أن يكتب اسمي عليها .. فتحا الباب وسارا بي نحو الداخل .. هل يمكنكما الإتيان بقلم وورقة أكتب فيها تعهدا بالتبرع بأعضائي لكل من هم في حاجة إليها ؟.. تفاجأ الممرضان بطلبي الذي بدا لهما غريبا .. قال أحدهما :لا داعي لذلك .. العملية بسيطة.. أضاف الثاني .. وضعا العربة تحت مربع الضوء .. نظرت إلى الأعلى..كانت عينا جورج بوش مصوبتين نحو ركبتي اليسرى ..كان الحقد يملأهما بشكل عميق .. أرسلت حقدي أيضا إليهما .. إلتقى الحقدان في منتصف المسافة بيننا .. كان حقدهما يضغط أكثر ..وكان النعاس قد بدأ يلف جسدي من كل الجهات ..من فوق ومن تحت أيضا .. سطيف: 24/06/2010
أمطار لصهيل الأوراسية
على مشارف المدينة اوقفوا الحافلة.. صعدت البندقية..صوبت فوهتيها إلينا واحدا واحدا..وواحدة واحدة.. وقفت بين الكراسي الأربعة الاولى..ومبتسمة وجهت بصرها إلى الكراسي الخلفية .. انزل انت ..أنت انزلي..أنتما لا.. مشت نحو الكراسي الأربعة الأخرى..وما إن نظرتْ إلى الكراسي الخلفية حتى نظرتُ.. كان يحرك رأسه بـ (نعم) تارة وبـ (لا) تارة أخرى.. هكذا إذن يا بو...معنا ومعهم في نفس الوقت..؟.. انزل..انزلا..انزلي.. ونزلنا.. قفوا في الجهة الأخرى..قالت إحدى البندقيات التي كانت تحاصر الحافلة.. سنعيدكم في اول حافلة تأتي..قالت اخرى.. قلنا معا: لا داعي ..سنعود سيرا على اقدامنا.. قالت ثالثة بحنق: تحركوا..ماذا تنتظرون..؟.. حين غابت الحافلة عن أبصارنا توقفنا..كان السهو مناسبا للحركة..مثنى وثلاث وفرادى تحركنا..أحنينا ظهورنا وتحركنا في اتجاه المدينة..أرجلنا تغوص في الطين ونحن نسير مسرعين في اتجاه المدينة..و.. ..كانت النكت تأتي من مختلف الشوارع والأرصفة.. قالت إحداهن لصديقاتها في المقهى المقابل:زاره أصدقاؤه في منزله فصب لهم قهوة بلا سكر.. قال:بين فناجين القهوة فنجان لا سكر فيه..من كان من نصيبه عليه ان يدعونا جميعا لشرب القهوة في منزله.. رشف الاول القهوة..حلوة كثيرا قال.. قال الثاني:لم اذق في كل حياتي قهوة احلى من هذه.. ابتسم الثالث:عسلا ما شربت لا قهوة.. قالت اخرى في دكان المواد الغذائية:بعد أشهر من شرائه صفيحة الزيت طلبت زوجته الإتيان بأخرى.. اغتاظ وخرج هائجا.. اشتكى لبعض أصدقائه شدة تبذير زوجته.. قال احدهم :يبدو ان زوجتك تغسل بلاط المنزل بالزيت.. قرأ الآية:(إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين..)..أضاف:والمبذرات أيضا.. الثالثة التي كانت في دكان الجزارة قالت ضاحكة:بعد الإلحاح المتواصل من زوجته دس مائة دينار في جيبه .. قال للجزار:اعطني لحما بالمئة دينارهذه..قالها متلعثما ووضعها ببطء في كف الجزار وهو يعض على شفته السفلى.. أشار الذي كان بجواره إلى أكبر وأسمن جزرة في المحل..أعطني هذه..قالها والابتسامة تعلو وجهه.. حين بقي وحده سأل الجزار:ماذا يشتغل هذا الفرطاس الذي اخذ جزرة كاملة.. مات مربٍّ فتزوج امرأته.. نسي المائة دينار التي صارت قطعة لحم وخرج .. بعد لحظات عاد مهرولا..أعطني جزرتين ..قال للجزار صائحا وحركة جسده لا تتوقف.. حملهما على كتفيه وسار مسرعا.. وكان الناس يتعجبون منه وهو يقول صارخا:ياكلوها اولادي ولا ياكلها الفرطاس..ياكلوها اولادي ولا ياكلها الفرطاس.. كانت الهراوات مهددة تتقدم..والأحذية الخشنة السوداء تتقدم أيضا.. صاحت الهراوات:تفرقوا وإلا كسرنا عظامكم..تفرقن وإلا فتحنا رؤوسكن.. قالت الأحذية والأرض تدوي من تحتها:تفرقوا وإلا دسنا على أجسادكم..تفرقن وإلا مزقنا أجسادكن الطرية..وضحكت باستهزاء.. وكانت ابتسامة الوجوه المكشرة الساخرة تطل علينا من النوافذ الفوقية .. وقف البعض منا..مشوا خطوات إلى الخلف..وعادوا خجلين بعد أن رأوا إصرارنا على البقاء.. رفعنا الأقلام إلى الأعلى.. صحنا جميعا وبصوت راعد:يا للعار يا للعار..بن بو يرفض الحوار.. الحوار الحوار..إنه لغة الأحرار.. اخذت الهراوات تدق على رؤوسنا وأكتافنا وأذرعتنا.. شرعت الأحذية الخشنة تضرب أرجلنا وبطوننا..وكانت أيادينا تصر أكثر على رفع الأقلام إلى الأعلى.. كانت أياديهم الضخمة تجر أجسادنا بعنف وأفواههم المطاطية ترمينا ببذيئ الكلام..و.. أغلق المسؤولون النوافذ وعادوا إلى كراسيهم الوثيرة مطمئنين.. فجأة سمعنا صراخها حزينا متالما : بطني ..بطني..لم اعد اقوى على الحركة.. أسرعنا جهة الصوت..رايناها تتلوى وتضغط على بطنها.. إنها الأوراسية.. قال احدنا.. حملناها مسرعين إلى الطريق..أوقفنا سيارة اجرة ..وتفرقنا..و.. كانت الساعة تشير إلى الصفر حين خرجت الممرضة من غرفة العمليات.. أنجبت طفلة..ماذا تسمونها..؟ بصوت واحد قلنا:نضال..نسميها نضالا.. رجعتْ إلى الغرفة من جديد.. عانقنا بعضنا البعض..كان الفرح يغمرنا ونحن نجلس على الكراسي البلاستيكية البيضاء..و.. تفاجانا بالممرضة وهي تقف أمامنا حزينة متألمة شبه شاردة.. قلنا معا: خيرا إن شاء الله.. نضال بين الحياة والموت..قالت بصوت شبه هامس.. صحنا جميعا:ستحيا نضال..ستحيا.. كان المطر غزيرا وكنا نسمع وقع سقوط حبات البرَد على إسفلت الشوارع المحيطة بالمستشفى ..وعلى سطح سقف المستشفى أيضا..
سطيف :17/12/2010
أحلام لزقزقة العصفور السحري
الندى يتساقط قطرات مضيئة على فردتي حذائي.. والسماء صفاء يغري بالسير وسط الحقول.. أسير والرأس ملأى بالكثير من خطى الذكريات التي كانت تنتقل بطيئة بين الهنا والهناك والهنالك..و.. كنت شبه غائب عن المكان حين هبطت السيارة الطائرة وتوقفت بجانبي.. إصعد..قال..وفُتح الباب .. وكالمنوم مغناطيسيا صعدت.. في الداخل شاب اسود البشرة وفتاة بيضاء..بدا لي انهما لم يفهما كلماتي وأنا أسأل: - من أنتما؟..مادا تريدان مني؟.. كانت الأسئلة تدق بحيرتها الشديدة على الصدر حين أضيء زجاج النافذة بكتابة تقول: من كل قارة اخترنا عشرة ذكور وعشر إناث .. انطفأت الكتابة للحظات قصيرة ثم أضيء الزجاج مرة أخرى بكتابة تكمل: اخترنا في كل قارة من القارات الخمس مكانا محميا لاستقبال العشرين ذكرا وأنثى ..و.. انطفأت الكتابة مرة أخرى حين فاجأني الصوت النسائي منطلقا من أمامي بموسيقاه الشجية المؤثرة : مؤكد انك لا تفهم أية لغة غير لغتك الأصلية .. أضاف الصوت: ولست متزوجا وغير مرتبط بالمرة وصحتك العقلية والجسدية والنفسية جيدة.. قلت – مترددا - : نعم ..وأكدت : نعم..كل ما قلته صحيح.. قال: ذاك ما نبحث عنه.. نزلت السيارة بنا في المطار ..أدخلت الفتاة أولا وأدخلنا بعدها واحدا واحدا آلة ،قيل لنا إنها آلة التأكد من صحة المعلومات التي أدلينا بها.. أُركبنا بعد ذلك فرادى في سيارات صغيرة انطلقت بنا في الفضاء كل واحد في اتجاه غير اتجاه الآخر.. كانت السماء ملأى بعدد لا يحصى من السيارات والحافلات والشاحنات ذات الأحجام والأشكال والألوان المختلفة .. لم تكن إشارات المرور تختلف عن مثيلاتها التي تعودنا عليها في الأرض إلا في كونها تفتقد أعمدتها.. بعد دقائق قليلة نزلت السيارة بي أمام مبنى واسع ترفرف على سطحه رايات الكثير من دول العالم التي أعرفها والتي لا أعرفها.. فُتح الباب آليا..دفعتني اليد الآلية خارج السيارة ..تأملت المبنى مندهشا ..و..دخلت.. قابلتني وجوه متباينة الملامح والألوان لشابات وشبان في مثل سني .. جلست في اول كرسي صادفني.. فتح الجميع الزجاجات التي كانت امامهم على الطاولات وملأوا الكؤوس الفضية الذهبية .. وفعلت مثلهم.. شربوا وشربت..ولم ينبس أحد ببنت شفة.. لم يجلس أحد على كرسي الطاولة المجاورة لطاولتي..وحده الكتاب ذو الغلاف الأحمر الذي أغراني بمد اليد إليه كان هناك.. تاملته جيدا..أشرق العنوان: العصفور السحري.. جذبتني العبارة أكثر..مددت يدي اليسرى وحملته.. فتحت على أول الصفحات..قرأت : لم يحضر كونفوشيوس ولم يحضر أدونيس..لكن الحكمة والشعر حضرا.. لم تأت إيزوريس ولم تأت فينيس ..لكن الأسطورة والجمال أتيا .. لم يجئ العربي بن مهيدي.. لكن الشجاعة والصدق جاءا.. لم...ولم...لكن... جاء بكل ذلك العصفور السحري.. ماهذا؟..حاصرني السؤال بدهشته.. انتقلت مباشرة إلى الفهرس..عناوين ضاربة في الغرابة واجهتني وغيبتني في الدهشة أكثر: وقت لغزال الماء – نار تتدفأ بي – آهٍ الوعلُ – عشب حجري لكف الغريب..وغيرها.. رميت الكتاب على الطاولة أمامي ..وفي اللحظة التي هممت بالوقوف رأيته..كان يرفرف بجناحيه أعلى الكرسي المقابل لي.. زقزق فسمعت الصوت مخمليا : أنا العصفور السحري.. زقزق مرة أخرى..وسمع الحاضرون كل بلغته أو بلغتها : انظروا إلى السقف..تأملوا الجدران..و.. نظرنا.. أشرت إلى مجموعة الصور الني عانقتني بدف ء حنينها: هنا عشت أحلى ذكرياتي وأمتعها.. أشار الآخرون كل واحد إلى مجموعة صور..بدا لي أنهم قالوا جميعا ما قلت.. الشابات هن أيضا فعلن مثلنا .. زقزق العصفور من جديد وسمعنا كل بلغته أو بلغتها مرة أخرى: من أجل الحفاظ على النوع البشري تم اختياركم أيها الشبان.. كرر: من اجل الحفاظ على الإنسان تم اختياركن ايتها الفتيات.. واصل: خصصت دول العالم مئات الملايير لحمايتكم وحماية المكان الذي أنتم فيه .. توقف لحظة ثم أردف: بينكم مهندس الزراعة ومهندس البناء.. أشار إليهن: بينكن الطبيبة والمدرسة.. خاطبنا كلنا: بينكمنَّ الموسيقي والروائية، الشاعر والمغنية.. أضاف: كل المهن موجودة هنا.. ملأنا الكؤوس مرة اخرى وشربنا.. قال العصفور مزقزقا: أنتم وأنتن مطالبون جميعا بإيجاد لغة جديدة ليست فيها أية مفردة من لغاتكمن .. سكت قليلا..ثم واصل: من أجل التعامل بها والتفاهم فيما بينكمن.. أشرت إلى الكرسي أمامي وصحت: شوهان..شوهان.. ترجم العصفور بزقزقته الكلمة: (شو) هي أداة التعريف ال ،(هان) تعني كرسي .. قال آخر وترجم العصفور(تيم شوهان)..معناها أين الكرسي؟.. ترجم لشابة شقراء: (تيم هان سو): أين كرسيي؟.. أسرعت الفتاة ذات الوجه الأبيض والشعر الأسود إلي..أشارت إلى ركبتي: راهان سو..وجلست.. ترجم العصفور: ( را) معناها هذا.. اختارت كل فتاة فتاها.. صحن جميعا وبصوت غبطي: راهان سو..راهان سو.. ضغطت بكفيّ على كفيها..سعيد بك كثيرا يا بيضائي..قلت شبه هامس.. احتضنتني..قربت شفتيها من شفتيَّ..سسسعيدة بك أكككثر يا أسمري ..قالت هامسة وشبه متلعثمة.. وكان العصفور يقفز بين كتفينا فرحا مستبشرا.. *** ولأننا كنا قد نسينا أنفسنا في شفاه بعضنا البعض أطلق العصفور زقزقته العالية: اتبعوني .. وخرجنا جميعا.. قال مزقزقا ورفرفة جناحيه تنتقل بيننا: سأبقى معكمن شهرا كاملا..أنتمن مثقفين ومثقفات ملزمون جميعا بإيجاد لغة تواصل جديدة بينكمن ..هذه الأراضي الواسعة كلها لكمن ..إنها محمية من كل المخاطر..ما سيحل بالكرة الأرضية لن يصيبكمن ..لن تتأذى منه أرضكمن هده.. ورغم إحساسنا وكأننا نسمع خطبة وداع فقد راقنا منظر الخيول والأبقار والنعاج والماعز وهي ترعى في المرج أمامنا.. أبهجتنا أيضا أشجار الفواكه بكل أنواعها في سفوح الهضاب المحيطة بنا.. أفرحتنا أيضا فدادين الخضر بأوراقها ونوارها.. رأينا النهر الصغير وأسماكه الملونة التي كانت تتراقص مزهوة بحياتها.. حط العصفور على أحد اغصان أقرب شجرة إلينا..أشار إلى مجموعة المنازل الصغيرة الجميلة : لكل زوج منكمن منزل..و.. فوجئنا بسيارة تنزل وتتوقف أمامنا.. كيف فُتح بابها ؟..لا ندري.. كيف مدت إلينا أواني الأطعمة؟..لا ندري أيضا.. سمعنا الصوت لذيذا: أمامكمن سنة كاملة..بعدها عليكمن بالاعتماد على أنفسكمن.. أكلنا حتى شبعنا..وشربنا حتى ارتوينا.. زقزق العصفور: ..والآن أروني ماذا أنتم فاعلون..أرينني ماذا أنتن فاعلات.. تناولت أحد الأكياس المعلقة على الجدار وشرعت في جمع النفايات التي كانت في الساحة.. فعل الآخرون مثلي..ومثلنا فعلت الفتيات.. رفرف العصفور سعيدا:لقد اطمأنت نفسي..لقد اطمأنت نفسي.. *** حين استيقظت وجدتني أصيح: را هان سو..را هان سو.. ورايت العصفور خلف زجاج النافذة يتأملني ويزقزق.. ثم..حرك جناحيه..وطار.. سطيف: 31/12/2010
أشجار تتقدم من بعيد
لم ينم طوال ليله.. صرير الكوابيس يأتيه من كل الجهات..كلما عانقته إغفاءة أيقظه كابوس.. رأى حبة الحلوى في يده تسودُّ ، تسودُّ وتكبر لتصير وحشا ضخما..كان هاربا يجري والوحش خلفه يجري..امتدت المخالب إليه ..لم يكن امامه سوى الارتماء في الخندق العميق..وكان العرق يتصبب من كل جسده حين استيقظ مذعورا.. و رأى نقسه طائرا يحوم فوق قمم الجبال مزهوا بجناحيه العريضين ..لكنه وعلى حين غرة رأى الطائر العملاق ينقض عليه ويهوي به سريعا في عمق الماء البحري..ومرة أخرى يستيقظ فزعا مفجوعا مرتعدا يكاد يختنق من شدة ضيق حالته.. لم ينم الليل كله.. كانت الشمس قد بزغت منذ وقت طويل..العصافير تزقزق ،تحط هنا وهناك ،والصغار غائبون في لعبهم الصبيانية البريئة..حمل جسده المتعب على الساقين الضعيفتين..فتح النافذة..احتضنه البعيد هناك ..رأى اخضرار الأرض التي كانت تمتد أمامه..وفتح صدره لنسائم الصباح البليلة.. عندما خرج كانت الشمس على بعد خطوات من نهاية الأفق..تحسس قنينة النبيذ في جيبه..مد خطاه بين حقول القمح وأعشاب الصدى..عانق الندى حذاءه الأسود قليل اللمعان.. الفضاء صحوا كان..والتربة الحجلية امتداد روحه في البعيد.. مشى اكثر من وقته..قال للكلمات انطفئي فانطفأت..وللجهات قال انكمشي فانكمشت.. أحس بالكثير من أشعة الشمس تسقط على جسده..ورأى الأشياء تقترب من ظله فاغترب أكثر.. جلس على الصخرة التي كانت بجانبه..تأمل الأعشاب الطرية..مسح بكفيه على الحجارة التي كانت تقاسمه المكان..أخرج ما في الذاكرة دفعة واحدة..رتل عمره سنة سنة ويوما يوما.. ولم يكن الوقت قد مر حين سمع الصوت الشجي الغريب..نظر حوله ، لم يجد الجهات..إلى الأعلى ،لا أعلى هناك.. تتبع الصوت..فوجئ وهو يرى النمل والصراصير والعصافير..كانت السلحفاة المصطبةَ..وكان الشعر نملا غجريا والموسيقى صراصير عاشقة والعصافير أمواج صفاء.. قرأت النملات الشعر..أطلقت الصراصير العنان لموسيقاها الشجية..وغنت العصافير بما لم يخطر بالبال.. نهضت الأحجار من أماكنها وتقدمت..أيقظت كفه أختَها وصفقتا معا..حامت العصافير والطيور فوق المكان ثم حطت رحالها ..الغيوم ايضا مدت بهاها وتجمعت..انفتحت الجهات ..رأى الذئاب تسرع الخطى..الخراف، الأفاعي ، الثعالب ، الديكة، الأحصنة ، الفراشات ، الأبقار، العنزات، الأرانب ، الفئران ، المدى.. عانق الذئب الخروف ورقصا..الديك أيضا عانق الثعلب.. قالت البقرة وهي تتأهب للرقص:ما أجملك يا ثوري.. رد الثور وهو يعانقها: ما أروعك يا ثورتي.. ارتعش الجسدان وشفتا الثور تلامس شفتي الثورة..ارتعش جسده هو أيضا.. رقصت الديدان التي كانت تعبر ..رفع الذئب قامته أعلى وعوى..والسنابل التي كانت في القريب احتضنت بعضها..بطات النهر أيضا وزعن رشاقتهن ..النحلات قطرن عسلهن في الأفواه ..فتح القنينة ،أخذ رشفة منها وأعطى باقي الرشفات للجميع..قفزت الأرانب ابتهاجا شجريا..النسائم أيضا .. تقدمت الحلازين ببطء سريع..قفز القط أبو ذيل على أغصان شجرة المكان وهو يضم إلى الصدر فأر الرماد الشقي.. قفزت الضفادع على خضرتها ضاحكة..أكمل النسر دورته فوق الكل وهوى مرفرفا بجناحيه في الوسط.. التصقت الدجاجة بالديك أكثر حين ألقى بجناحه عليها..ققققققققققققق صاحت سعيدة..أكمل الديك دوره عليها ثم صاح هو أيضا:عوعو عوعو.. كانوا حولي ماء يتدفق..صفصافا يتمايل من غبطته..والأرض سماء.. وكان الفرح قد بلغ مداه حين قدموا.. ليلا كانوا..فتحوا صمت بنادقهم.. لم يكن الوقت لنا..فر الكل إلى الكل..اختلط الحابل بالنابل.. داست أحذيتهم الثخينة على الوتر النملي..الانينَ سمعت..والأجسادَ المثخنة بالجراح رأيت.. صفرت الريح بقوة لم يعهدها طوال عمره..أطلقت الغيوم العنان لبرَدها كما لم يحدث من قبل أبدا.. انكمش الجسد فيه ..مشى اماما ،تراجع..خلفا،عجز عن الحركة.. وضع المعطف الزيتي على رأسه ، وبكى.. نظر بأحادية العين إلى السماء، كان السواد الحالك.. ...إلى المدى، كانت الأشجار تجتر حشرجاتها.. ...إليه، كانت الحجارة تعصفه.. ...إلى التقاء السماء بالأرض،كانت الأشجار بعيدا تتقدم نحوه ببطء شديد..
سطيف:21/03/2011
أحلام سعيدة
مد كفه إلي بمجموعة الأكياس الصغيرة..هيئ لنا قهوة بيديك الناريتين ، قال رابح بن عمار.. سأحضر أمي الحاجة بنت سي النوي..تعرفها طبعا قال ضاحكا..سأحضر معها عمتي رحمة بنت علي وجدتك رقية بنت الحسين.. أين السكر؟ سألت.. لا تشغل بالك..سآتي بالسكر معي.. سار إلى الخلف..وسرت إلى الأمام..تحركت بسرعة لم اعهدها من قبل في قدمي..وفي سرعتي تلك كنت اضع أكياس القهوة في جيبي سروالي.. كان (فيض المهر) يمتد أمامي بعيدا بعيدا..يستطيل في البدء عريضا ثم يشكل دائرة كبيرة في الوسط ، ويواصل استطالته العريضة ليكون دائرة المنتتهى المشابهة لأختها الوسطى.. في جانبي الفيض تفرش أشجار السدر القليلة أغصانها الشوكية المورقة على الأرض مبتهجة باخضرارها الزيتي بين الأشجار الباسقة التي كانت ميتة أو شبه ميتة ..كانت الأغصان الجرداء تعانق بعضها البعض فيما يشبه عناق المآتم وهي تغطي مجموعة الهضبات المحيطة بالفيض .. احلام سعيدة، ناديت.. استدارت الفتاتان بجسديهما إلي..أحلام وسعيدة يا الطيب..أين رميت بالواو؟..سألتْ أحلام مبتسمة.. بُهِتُّ..تسمر الجسد بي في المكان..يسراي إلى الأمام ويمناي إلى الخلف..العيون غابات بعيدة كثيفة..الشفاه مكتنزة مثيرة..والنهود نافرة متمردة.. كانتا متشابهتين إلى حد الشك..لا فرق بينهما سوى أن أحلام أميل إلى البياض الدافئ فيما سعيدة أميل إلى السمرة الفاتحة.. كبرتما..لم أركما منذ زمن طويل ..قلت..و.. متلعثما أضفت: رأيتكما ملتصقتين ولم أر الواو بينكما.. تخرج منها دائما يا الطيب..قالت سعيدة.. كالشعرة من العجين ..أتمت أحلام.. استدارتا إلى الأمام وسارتا ضاحكتين تتأبط الواحدة منهما الاخرى.. ألحقت يمناي بيسراي وسرت خلفهما ببطء شديد..و.. كنت غائبا تماما عن المكان في سحر الأحلام السعيدة حين سمعت الضجيج يأتيني من حولي.. التفت شبه مذعور..كان الراهم والعمري وعبد الحميد وبيبش وأخي عبد الله يقطفون ثمار النبق الناضجة من شجرة السدر التي كانت في يميني.. سمعت أبي يقول: كان فيض المهر جنة فيما مضى.. تنهد بعمق وأكمل: كان الإوز والبط يسبحان في بركه..الأشجار التي ترى بقاياها كانت تمد خضرتها في كل العيون..الكثير من سكان القرى البعيدة كانوا يخيمون صيفا هنا.. التحقت بالضجيج ومددت يدي بين أشواك السدرة أقطف ثمارها.. حين امتلأت أكفنا جلسنا على اخضرار الأرض الممتد من حولنا..كنا نأكل حبات النبق وننظر إلى الأطفال وهم يتنافسون على تسلق أغصان الأشجار الباسقة الميتة وشبه الميتة..وكان الفرح يغمر وجوهنا.. تلمست أكياس القهوة في جيبي ..التفت إلى مدخل الفيض ..لم أر احدا..تذكرت أن رابح ميت ..رأيت جدتي والحاجة ورحمة وهن يُحملن إلى قبورهن..رأيت الأشجار تخضر والنسائم تحرك ظل اغصانها .. حمل العمري الخشبة المستقيمة المتشققة التي كانت أمامه ..هذه واحدة من خشب الكراسي التي كانت هناك....قال.. أشار الراهم : هناك كانت الورود الملونة تغرس ..هكذا حكى لي عمي سليمان.. اغمضت عيني متأملا..كانت الفراشات البهية تطير جماعات وفرادى من مكان إلى آخر..سمعت زقزقة العصافير وهي تقفز بين الأغصان..كان خرير ماء الساقية يعانق أذني..ورأيتني أسبح في البركة سعيدا.. حين استيقظت من دهشتي كنت وحيدا..رأيتهم يقتلعون الأشجار الميتة من جذورها ويغرسون مكانها العيدان الحية الخضراء..رايت طريق الأرجل وسط الفيض معبدا والورود تحف به من يمينه وشماله.. رأيت أحلاما وسعيدة تسيران متباهيتين بجمالهما.. كانت الأسماك الذهبية والفضية تملأ البركة أمامي..نُصبت الكراسي الملونة هناك وهنا..رأيت رابح بن عمار يرمي جسده على أحد الكراسي وبجانبه أمه الحاجة وعمته رحمة وجدتي رقية ..رأيتني أجلس بينهن ..كانت جدتي تحكي عن نجمة خضَّار والأغوال الأشرار ..عن شهرزاد وشهريار.. شاهدت السيارات وهي تتوقف في مدخل الفيض..كان العرسان ينزلون منها مسرورين متألقين ببذلاتهم الجميلة يعانق كل عريس عروسه ثم يتأبطها وعيناه إلى الفيض..سمعت غناء النسوة وزغاريدهن.. كان النادل يوزع الحلوى والمشروبات على جموع الجالسين والجالسات..وكانت صور العرسان الملونة تتراقص أمام ناظري.. وكانت الأحلام سعيدة سعيدة..سعيدة...
غيمات لطفلها القزحي
حب في ملتقى ما.. في مؤتمر ما.. كانوا متحلقين حول طاولة كبيرة.. قالت إحداهن: وسعوا المجلس حتى نجلس.. كانت قبالته.. حمل كرسيه وجلس إلى يسراها..كانت تلبس خمارا ابيض وثوبا أسود فيه الكثير من الأزهار البرتقالية والبيضاء وضع ذراعه على كتفها وضمها إليه.. نظرت إليه بعينين حالمتين دافئتين.. و وضعت رأسها على كتفه.. قبل شفتيها أكثر من مرة..حارة وعميقة كانت القبلات.. هامسا قال: أحبك يا فتاتي.. وقالت متلعثمة: وأحبببببك..يا فتاي.. رفع يمناه عاليا: أيها الحضور اشهدوا: أنا الشاعر الإنسان أعلن أنني أحب كثيرا هذه الشاعرة الإنسانة.. صاح أحدهم: كلنا نحبها..ثم التفت إلى الحضور: هل يوجد بينكم من لايحبها؟ قال الجميع: كلنا نحبها .. كلنا نحبها. وصفقوا جميعا. أغنية من حصار في شارع ما ، من مدينة ما..كانا هي وهو يسيران..بينهما طفل صغير لا حد لجماله.. بيدها اليسرى كانت تمسكه..أما اليمنى فكانت تقبض بها على آلة تحكم تسيّر بها طائرة لُعَبية .. حين تجد طفلا ما تجعلها تحلق فوق رأسه ، وعندما ينتبه ويقف مشدوها تعود فتسيِّرها إلى الأمام من جديد.. وصلا إلى بناية جميلة.. وقف هو في صف الرجال.. لم تقف هي في صف النساء.. فُتح لها الباب على مصراعيه.. سارت خطوات في اتجاه الباب ..ثم وقفت ملتفتة.. أحبك يا.. أحبك كثيرا..كثيرا.. قالت.. أحبك يا.. أحبك كثيرا..كثيرا..قال.. وسارت الريح بينهما أغنية من حصار قديم
زغاريد عالية وقفا هي وهو في ساحة الثورة والطفل الذي لا حد لجماله بينهما.. كانت في اليمين وكان في اليسار.. رفعا اللافتة معا.. كان مكتوبا على اللافتة ذات البياض الناصع: أنا ا لشاعر المتيم بالأرض والجمال ..أنا الشاعرة المتيمة بالبحر والجبال نعلن أننا نذوب في حب بعضنا ..... اجتمع الناس حولهما وبدأوا يصفقون.. ضمها إلى الصدر وقال: أحبك .. ضمته إليها وقالت: أحبك أكثر.... رأيا الجميع يضم بعضهم البعض: أحبك أحمد ، أحبك مريم..أحبك آمنه ، احبك عيسى..أحبك موسى ، أحبك راشا ..أحبك رانا ، أحبك بوذا ..أحبك سلمى.. أحبك أسعد.. أحبك رحمة ، أحبك أمجد.. تحركا وتحرك الجميع، كانت الزغاريد ترتفع عالية..وكانت هي تبتسم بملائكية مفرطة.. كانت السماء بلون قوس قزح..وكان هو المفرطَ النشوة ما زال يضع ذراعه اليمنى على كتفيها.. وكانت هي المفرطةَ النشوة أيضا ما تزال تضع ذراعها اليسرى على خصره ..و.. كان الطفل بعيدا يجري.. بعيدا.. يكاد يتوارى عن الأنظار.. وكانا.. هي وهو يسرعان الخطى في اتجاهه.
أفق لم يمسسني إنس ولا جان..إنني كمريم العذراء ،قالت ، ودون ان يكون قد سألها.. ولمن يكون هذا الطفل الجميل يا ترى؟ ضاحكة أجابت : ابني..إنه ابني.. مد يسراه إلى يمنى الطفل وابتسما.. مدت يمناها إلى يسرى الطفل وابتسما أيضا.. كانا سائرين والطفل يرتفع وينزل بين يديهما.. حين أطلقناه جرى إلى الأمام..كان يرفع الرجل عاليا وينزل الأخرى في شكل لعبة دراجة صبيانية..و..هكذا غاب عن أنظارهما.. نظر إليها مبتسما..نظرت إليه مبتسمة..مدت يمناها ومد يسراه..ضغط بكل قوته على أصابعها الطرية..وضغطت بكل قواها على أصابعه.. فجأة سمعا دوي الرصاص يأتي من كل الجهات أصلية وفرعية.. أين الطفل ؟..سألتِ.. أين هو؟ ..سأل.. كانا يحضنان بعضهما وعيونهما مصوبة إلى الأمام تبحث في الأفق عن الطفل الذي كان قد غاب عن أنظارهما.. كانا ينظران ..و جسداهما مسمرين بالمكان.. كانا ينظران وعيونهما تتأملان المكان.. وكان الطفل نقطة قزحية بعيدة تتقدم نحوهما ببطء شديد.. كانت يده اليمنى على الخليج ويسراها على المحيط.. وكان التراب بوصلة البدء العنيد.. والأرض نبع النشيد: (يعبرون الجسر في الصبح خفافا.. أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد.. من كهوف الشرقِ ، من مستنقع الشرقِ.. إلى الشرق الجديد.. أضلعي امتد لهم جسرا وطيد..)* ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *من نشيد الجسر لخليل حاو
سطيف: 2010/2011
أمطار لزاهية
وقفت مندهشا وأنا أرى الحشود تمر أمامي مسرعة الخطى .. سألت البعض بانفعال ظاهر: لماذا كل هذه الحشود؟.. أجابني البعض مستغربا : كيف لا تعرف؟..إنه عرس زاهية.. قال آخر: يبدو أنك لست من هنا أو أنك كنت غائبا..و.. ارتجف الجسد مني ..كدت أسقط وأنا أسمع: إنه عرس زاهية..إنه عرس أجمل فتيات مدن وقرى الناحية.... و..دون وعي مني وجدتني وأنا المنكسر الخاطر أسير محتشدا أيضا.. كررت الإسم اكثر من مرات في السؤال المتألم : زاهية؟..زاهية؟..زاهية.........؟ إنها حبيبتي...صحت... نظر البعض إلي مستغربا...ونظر البعض الآخر مستهزئا...أعدت الصيحة إلى قفص الصدر خجلا..وواصلت سيري .. كانت يداي تدفعان بالحشود إلى اليمين ..وإلى اليسار.. كنت أغذ السير بسرعة عجيبة..يشتمني البعض أحيانا ..ويدفعني البعض أحيانا اخرى.. حين وصلت عربتها التي كان الحصانان الأشهبان يجرانها التفت إلي مرتبكة .. جئت يالطيب؟..قرون طويلة ونحن ننتظر..ظنناك مت فيها وها أنت ذا تعود متاخرا.. • لا ..لست متأخرا يا زاهية.. أقسم بأنني لم أر في كل حياتي جمالا مثل هذا الذي أراه الآن.. نزعت الغطاء الشفاف من على رأسها..عانقتني بابتسامة سحرية فاتنة.. فتحت ذراعي لاحتضانها..وفتحت ذراعيها لاحتضاني..لكن أيدينا تراجعت خجلا قبل أن تلامس أصابعها بعضها البعض ، وهي ترى أعين الجميع مصوبة نحونا وأفواههم فاغرة مندهشة من لحظتنا.. - من هو هذا المحظوظ الذي سيكون له كل هذا الجمال زاهية؟..سألتها بصوت جاف وبانكسار واضح .. • عثمان..قالت.. كررت: عثمان بن عيسى.. امتدت يداي إلى العربة..أمسكت وبكل قوتي بها.. عثمان بن عيسى؟..هل جننت..؟.. عثمان بن عيسى..؟..هل خلت الدنيا إلا منه..؟ غابت الابتسامة السحرية في غبار الرجفة.. - ماذا تقصد؟..سألت حائرة.. أرجوك أجبني..أضافت وبخوف وألم كبيرين.. • إنه أكبر من أبيك..ومن أبي حتى.. • إنها أمك..هي من اختارته لي.. - أمي؟..قلت شبه مستنكر.. • نعم..إنها أمك..لقد وضعت كل ثقتي فيها... أمسك أخي الذي كان قد التحق بي مسرعا هو أيضا بالطرف الآخر من العربة.. • وجه كلامه إليها: كيف قبلت بعثمان بن عيسى..؟..سأل مرتبكا مستغربا.. أضاف: إنه شيخ طاعن في السن..لقد تجاوز الثمانين يا زاهية..و.. بإصرار ثابت وعجيب أمرت زاهية قائد الحصانين الأشهبين بالتوقف.. عد من حيث جئت..أمرت..و.. قفل الحصانان عائدين وسط صياح الحشود: لماذا تراجعت زاهية..؟..ما به عثمان بن عيسى؟..إنه الأغنى والأكثر حكمة ودراية بالحياة..كيف ترفضه وهو سيد مدينته وصاحب الأمر والنهي فيها..؟.. • قال أحدهم شبه ضاحك وشبه محتج: لقد حرمتنا عشاء فاخرا..أكمل آخر: لم أذق طعم اللحم منذ وقت طويل..لماذا تفعلين بنا كل هذا يا زاهية؟..لن نسامحك أبدا أبدا.. ماذا فعل لها هذا الذي سمته الطيب حتى أثناها عن مواصلة التوجه إلى بيت عثمان..؟..ترى هل أغراها بجماله وأوقعها من ثمة في شباكه؟..سأل ثالث.. أجابه القريب منه: كل شيء ممكن..كل شيء ممكن.. *** حلقت ذقني وسويت شعر رأسي ولبست أحلى ما عندي من ثياب .. ضمخت جسدي بكل العطور التي كانت في خزانتي وخرجت أغذ السير في اتجاه بيتها.. كنت جميلا حد التوهج ..وسعيدا حد الرجفة.. كنت وانا أمر في الأزقة والشوارع أرى السائرين يتوقفون ويصوبون عيونهم المنبهرة نحوي..وأرى الجالسين أمام بيوتهم أو في المقاهي والمحلات يقفون ويفعلون مثلهم.. النساء أيضا كن يخرجن رؤوسهن من النوافذ والأبواب ويحادثن بعضهن البعض متأوهات ومشيرات إلي بأصابعهن : هاهو يوسف..ها هو يوسف..و.. كنت مزهوا بي وأنا أسرع الخطى في اتجاه بيتها.. كانت التساؤلات والتعليقات التي سمعتها وانا وسط الحشود تملأ بياض الجدران: لماذا تراجعت عن التوجه إلى بيت عثمان بن عيسى..؟..ألا يعتبر سلوكها المفاجئ ذاك خيانة لنا نحن الذين كنا نرافقها فرحين بها وسعداء بعرسها؟..ماذا فعل لها ذاك الذي كان يبدو شبه غريب حتى أقنعها بالتراجع عن قبول عثمان عريسا لها؟..ماذا قال لها..؟..كيف أثر عليها..؟..إلخ.. الغريب في الأمر أنه وسط تلك التعليقات والتساؤلات التي كانت تراني حيث وجهت بصري كان الصمت يسود كل الأشياء وكل الناس ..وحدها العصافير كانت تملآ الفضاء بزقزقاتها الشجية ..ووحدها قطرات المطر الذي كان قد بدأ بالهطول مداعبا جسدي تفتح الآذان على وقع أنغامها السعيدة..و.. وحيدا كنت أطوي الشوارع مسرعا في اتجاه بيتها مزهوا بي وبابتسامتها التي كانت تعانقني من كل الجهات.. سطيف: 10/09/2011 ثلج ونسور وذئاب
عندما انتهيت من تعليق قلبي على أغصان الأشجار الشوكية كان الثلج قد بدأ يتهاطل بكثافة لم أعهدها منه أبدا طوال حياتي التي لا أعرف متى انطلقت ومتى تنتهي. عدوت هاربا.. كنت أعدو وأعدو واعدو.. حين تعبت توقفتُ.. تنفست بعمقٍ .. مسحت العرق الذي كان يغزو جبهتي..ونظرت إلى الخلفِ.. كانت النسور تتعارك في السماء وتنقض على شرايين وأوردة قلبي وكأنها لم تتذوق لحم الآدميين قبلا أبدا.. رفعت يديَّ إلى السماء: شكرا لك يا إله القلوبِ.. شكرا لك يا إله الهاربين من القلوبِ.. ثم..واصلت عدوي.. وفي اللحظة التي نظرت أمامي واجهتني الذئاب وهي تتقدم نحوي من بعيد.. رفعت رأسي إلى السماء أيضا: أغثني ،يا إله الحضور والغياب.. اغثني، يا أنت ، يا إله النسور والذئاب.. و..أغاثني.. قسمت جسدي إلى نصفين: كان نصفي يقفز عائدا إلى النسور.. وكان نصفي الآخر يقفز نحو الذئاب.. كانت الذئاب تجري مسرعة إلي من جهة اليمين.. وكانت النسور تضرب أجنحتها بقوة وهي تسدد مناقيرها نحوي من جهة اليسار.. وكنت ، أنا المنقسم ، أجر دمي في البياض/ الغبار.
سطيف:13/02/2012
الأبواب
بعد أن نزلنا من مقصورة الشاحنة التي كانت تحمل أثاث مجموعة من أسر حارة الحفرة التي انهارت عن آخرها.. قال العربي لي: السائق يعرف المكان..سيضع العمالُ كل إثاث في الشقة المخصصة له ..الأثاث مرقم كما ترى..لن يضيع منه شيء.. كنا في شارع الألف سكن وسكن..كان الضباب شبه الكثيف يغطي المكان.. أكملت الشاحنة سيرها البطيء ..وسرت والعربي.. في منتصف الشارع توقفنا..أشار إلى بناء عال : لك في هذا البناء مبلغ شهري..كل شهر تأتي إلى هنا لتأخذه..لست وحدك من تم اقتراحه لذلك..هناك الكثير من امثالك.. أضاف: أعرف ما يدور في خلدك..لا تسألني سبب ذلك..إنها أوامر عليا..والأوامر العليا لا تناقش أبدا.. ما المناسبة؟ سألت متحايلا.. قال العربي ضاحكا: أغلقت الباب فإذا بك تفتح النافذة.. أضاف : الداخل واحد..فتحت الباب أم فتحت النافذة لا فرق.. توقفنا أمام باب البناء العالي..وضع على قطعة الزجاج في منتصفه إبهام يده اليسرى..أتبعه بعد ثوان بإبهام يده اليمنى..هذا ليس زجاجا كما يبدو لك..قال..إنه من نفس حديد الباب..وُضعتْ عليه مادة سرية فصار يبدو وكانه زجاج حقيقي.. أضاف: هذا الحديد الزجاجي لا ينكسر أبدا..أبدا..ولا يمكن نزعه أيضا.. فتح الباب ودخلنا..العربي أولا ثم.. أنا.. في الداخل رأيت ثلاثة رجال يقفون فيما يشبه الصف..كتب أولهم اسمه ..وظهر الإسم على الشاشة..وضع سبابة يسراه ثم سبابة يمناه..وضع رقمه السري..العربي هو من نبهني لذلك..من آلة جانبية خرجت حزمة النقود الورقية..وضعها الرجل في جيبه..و..خرج.. مثله فعل الثاني والثالث..أخذ كل واحد منهما حزمة نقوده الورقية ..و..خرج.. تقدم..قال.. عليك أن تسجل اسمك هنا ..أكمل : وعليك أن تختار رقما سريا تحفظه وتحافظ عليه.. وفعلت ذلك.. مد يده إلى يدي..وضع سبابة بسراي على جهاز صغير أخرجه من درج مكتب كان قريبا من الشاشة وموصول بالحاسوب .. بعد ثوان وضع سبابة يمناي.. الآن انتهت العملية صاح ضاحكا.. أغلق الجهاز ثم فتحه..انتظرنا لحظات..أضاءت الشاشة..ممنوع.. قرأت..وسمعت الصوت: ممنوع.. متأسف يا صديقي..رفضك الجهاز..اقترحتك..لكن الجهاز رفضك.. لماذا؟..قلت.. لا إجابة يا أخي..إنها أسرار الجهاز..يعطي من يشاء ويحرم من يشاء.. خرجنا..من نفس الباب خرجنا..آليا أغلق الباب خلفنا.. لنلتحق بالشاحنة قال..لنلتحق قلت..أوقفنا سيارة أجرة ..ركبنا ووجهنا السائق إلى هناك..وكان الضباب ما يزال شيه كثيف.. قال العربي: هذه شقتك.. الباب مفتوح على مصراعيه كما ترى..تفضل بالدخول.. أسرعت الخطى يجرني فرح غامر.. لكنه أغلق حين أردت الدخول..ما هذا ؟..لقد أغلق الباب يا العربي..التفت العربي إلي وكان قد ابتعد عني ببضع خطوات..لم تقبل بك الشقة أجاب..حظك سيء.. وأسرتي؟ سألت.. انتظر حتى تأتي قال.. ولم يطل انتظاري..بعد حوالي نصف ساعة رأيت أفراد أسرتي يصعدون السلم.. كان الباب مفتوحا أيضا..لكنه أغلق بمجرد اقترابهم منه.. ما هذا الحظ ؟..لماذا أيها الباب؟..ماذا فعلنا لك؟..هل تعرفنا؟..و.. سمعت الصوت قادما من الداخل.. كان الصوتَ نفسه: أغلقت الأبواب في وجوه الأخرين..ولم يسألوا..ففتحت لهم..أما أنت.فـ .. صمت برهة..ثم واصل : نعم، أعرفك..وأعرفهم أيضا..وأشم رائحة دمك فيهم.. مستغربا سألت: رائحة دمي؟..كيف هي رائحة دمي أيها الباب؟ أجاب بصوت هادئ بطيء: تختلف.. عن.. رائحة دمنا - كيف أجعلها مثل رائحة دمكم؟ قلت - أن لا تسأل كثيرا..قال - أن لا أسأل كثيرا؟..كيف؟..لماذا؟.. - أسئلتك كثيرة ياهذا..قالها وسكت.. -أسئلتي كثيرة؟.. ردد الصدى من جهة اليسار: أسئلتي كثيرة؟..أسئلتي كثيرة؟ وكان لا بس الأزرق يومئ لي بسرعة التحرك من جهة اليمين ..و.. سرت..بلا أثاث سرت..وسار خلفي أفراد أسرتي حزانى تائهين... ناديت العربي..لكن العربي كان قد اختفى في الداخل .. ناديتني..لم أسمعني ..كنت بعيدا بعيدا.. وكانت كثافة الضباب قد ازدادت أكثر أكثر.. سطيف: 28/11/2012
أحلام لأشعة الشمس
استلذ الرمل دفء أشعة الشمس التي كانت تعانق سمرته بفرح شديد..ونام.. وفيما هو نائم رأى أطفالا جميلين يبنون من حبيباته منازل صغيرة ويصنعون أحصنة وعربات وورودا وأشياء أخرى كثيرة بهية.. كان الرمل ينام بعمق..وكان الأطفال الجميلون يمرحون ويقفزون في الموج تارة وعلى الرمل تارة أخرى..و.. فجأة هاج الموج..صار جبلا مائيا يطاول جبل الصخور القريبة من البحر..وانقض على الرمل.. استيقظ الرمل فزعا مذعورا وقد سرى البرد في جسده.. لماذا أيها الموج؟ سأل الرمل.. ماذا فعلت لك وأنت جاري الأبدي..؟.. -أبعدت الأطفال عني أيها الرمل..جعلتهم يستلقون على ظهرك بدل صدري ..أجاب الموج.. -وما ذنبي ؟..سأل الرمل مرة أخرى.. -ذاك هو ذنبك أيها الرمل.. فكر الرمل: سأدعو الصخور والأحجار..وأملأ الشقوق بينها..سأحاصرك أيها الموج..سأبقيك تدور على نفسك حتى تتعب..وتقدم الاعتذار لي.. ونادى الصخور والأحجار..وبسرعة عجيبة اجتمعت الصخور والأحجار وتراصت وامتلأت الشقوق بينها بالرمل.. والآن أيها الموج المحاصر، ماذا أنت فاعل؟..سأل الرمل متحديا.. انطلق الموج غاضبا واثقا من نفسه ..لكنه تكسر على الصخور..وتفتت.. نادى موجا ثانيا وثالثا و..وتكسر على الصخور مرة أخرى.. بعد موجات وموجات هدأ البحر.وامتدت في العمق أمواجه.. صار أكثر زرقة..وعانقته أشعة الشمس سعيدة بزرقته..و.. أحس بالدفء يتغلغل داخله..ونام.. وفيما هو نائم رأى أطفالا جميلين يملأون أكفهم بمائه ويتقافزون.. واستيقظ أخيرا..ما أجملني..قال..ما أجمل الشمس وما أبهى الرمال والصخور والأحجار.أضاف.. وتقدم هادئا فرحا إلى الرمل..أعتذر لك أيها الجار الحبيب ..قال.. رفع صوته أكثر: أعتذر لك أيتها الصخور والأحجار والمدى..و.. عادت الصخور والأحجار إلى أماكنها.. نام الرمل..وحلم من جديد.. نام البحر .وواصل حلمه .. نامت الأحجار..وحلمت بالأطفال يرمونها بزهو في الماء.. نامت الصخور ورأتهم يتسلقونها .. وكانت الشمس ترمي بأشعتها الذهبية الوهاجة على الجميع ضاحكة سعيدة.. وكانت العصافير تزقزق فرحة مرفرفة بألوانها البيضاء والخضراء والحمراء والزرقاء والصفراء... وكانت الغيوم تلوح من بعيد..من بعيد..
سطيف:03/12/2012
سجادة الراقي
أوقفت سيارتي خلف الثالثة.. قال الشيخ أبي: الناس قليلون..لقد جئنا باكرا..وحمد الله على ذلك.. كانت الساعة تشير إلى الخامسة صباحا..لن يَفتح إلا بعد السابعة ..قال مرة أخرى..وأغمض عينيه.. حديث النساء في السيارتين الأولى والثانية يأتينا خافتا..في الثالثة رجلان في مثل سني.. أغمضت عينيَّ أيضا..دقت العصى على الباب..أسرع..لقد تأخرنا.. نزعت النوم عني ولبست ثياب الخروج.. على جانبي الطريق كانت حقول القمح والشعير تبدو وهي تتماوج فرحة ندية يانعة تغري بالسير البطيء..الشيخ أبي كان يحثني على الإسراع أكثر حتى لا نتأخر عن الوصول.. فتحت عيني وأنا أسمع أحاديث النساء تتكاثر وتأتي من خلف سيارتي ..نظرت..السيارات كثيرة ..قلت لأبي الشيخ.. إنه راق مبارك ..ردد ..يأتيه الناس من كل حدب وصوب..أكمل.. أحصيت السيارات التي من خلفي..كان عددها خمس عشرة سيارة.. مبارك قعلا قلت للشيخ أبي..ونزلت.. كان رجلا السيارة الثانية يقفان قريبا مني..حييتهما..ردا التحية بأحسن منها.. تبادلنا أطراف الحديث..نصف ساعة ويأتي الشيخ ..قال الأول..النساء كثيرات.. قال الثاني..سيكون دورنا متأخرا أضاف.. لكننا باكرا جئنا وليس أمامنا سوى نساء السيارتين الأولى والثانية ..قلت.. يبدأ الشيخ بالنساء عادة..وحين يفرغ من الكثير منهن يأتي دور الرجال.. قال الأول.. سائق السيارة الثانية كان يقف بعيدا عنا.. كنت أتصور الراقي شيخا كبيرا..لكنني فوجئت بالثاني يقول: هل تعلمان بأن الشيخ ما يزال شابا يافعا؟.. لم أره من قبل ..قلت.. ستراه ..ستراه..قال الثاني.. قال الأول شبه حانق : ستراه قادما بسيارته الفخمة بعد قليل..لقد ا شتراها مما تعطيه هاته النسوة..هل تعرفان بأنه يمتلك هذا المنزل ومنزلا آخر ويبني قصرا على هكتارين اشتراهما منذ شهور قليلة..قال ذلك وأشار إلى بناء في طور الإنجاز على أحد أطراف البلدة تحفه الأشجار من كل الجهات تقريبا..ذاك هو القصر الذي يَبني.. قال الثاني: الله يعطيه..أضفت: ويعطينا مما أعطاه.. ضجت النسوة: جاء الشيخ..جاء الشيخ..تقدمن نحو الباب مسرعات.. فوجئت بالسيارة رباعية الدفع تتقدم نحونا.. وقفت السيارة رباعية الدفع أمام باب المستودع..نزلت اللحية السوداء اللامعة ..نزلت القندورة البيضاء بكميها القصيرين اللذين يظهر من تحتهما إبطا الشيخ ..السلام عليكم..قال..وعليكم السلام والرحمة.. قلنا جميعا.. فتح الباب..أدخل السيارة..واندفعت النسوة إلى الداخل .. أيقضت الشيخ أبي..ودخلنا نحن الرجال..وجلسنا في الانتظار.. دخلت نساء اخريات بعدنا..دخلت أخريات..دخلت تاليات.. إنها العاشرة ..قلت للشيخ أبي..أتعبتنا فقط ياأبي بنهوضك الباكر.. أضفت مبتسما.. فتحت الشيخ الشاب مكتب الرجال..الأولَ.. قال .. دخل الأول..سمعنا آيات تتلى..سمعنا صمتا قليلا..وعادت الآيات تتلى.. لم يطل الوقت..حان دور الشيخ أبي..دخلنا..خلف الطاولة كان الشيخ الشاب على كرسيه الدوار..السلام عليكم سيدي الشيخ.. قال الشيخ أبي.. وعليكم السلام والرحمة رد الشيخ الشاب.. أجلست الشيخ أبي على الكرسي الذي أشار إليه الشيخ الشاب.. مابك ؟ ..سأل الشيخ الشاب.. أسمع في بطني أصوات أناس ..أراهم حولي يأكلون ويشربون ويتحركون... هوما..هوما..علق الشيخ الشاب.. سألت: من هم؟.. اللِّي ما يتسماوش ..رد..وأشار إلي بالسكوت... فسكت.. أغمض عينيك..قال للشيخ أبي.. أغمض الشيخ أبي عينيه.. ناولني زجاجة الماء ..قال لي..ناولته الزجاجة..فتحها وبدأ يقرأ.. عيناه مكحَّلتان ..ذراعاه غليظتان..صوته أغلظ..أغلظ.. على الطاولة فرشت سجادة خضراء..على السجادة ثلاثة شموع: خضراء وبيضاء وحمراء..في الجهة اليمنى مصحف..في اليسرى أوراق وقلم مما يُكتب به على سبورات الأقسام التعليمية عادة.. أنهى القراءة..افتح عينيك ..قال.. فتح الشيخ أبي عينيه.. هل أحسست ببعض الدوخة؟..تردد الشيخ أبي في الإجابة بدءا..ثم قال: نعم..شعرت.. حسنا قال الشيخ الشاب..أضاف: أغمض عينيك مرة أخرى.. قرب الزجاجة من فمه ونفخ سبع مرات.. افتح قال..وفتح الشيخ أبي عينيه.. ناولني الزجاجة..أخذتها ووضعتها في الكيس البلاستيكي جنب أختها.. انتبه الشيخ الشاب: وتلك الزجاجة؟..ليشرب الشيخ أبي في الطريق..أجبت.. هاتها ..قال..لا يشرب إلا الماء القرآني..أكمل.. ناولته إياها..قرأ آيات قليلة..نفخ ثلاث مرات وأعادها إلي.. اخرج الشيخ أبي من جيبه ال خمس مائة دينار..هاك ..قال للشيخ الشاب.. فتح الشيخ الشاب عينيه عن آخرهما..امتدت يمناه بسرعة إليها..وبسرعة أكثر وضعها تحت السجادة على الطاولة وهو يبتسم.. دخلت المرأة وابنتها الشابة..ما بها؟ سألتُ.. مكتوب لها ..أجابت.. الفتاة جميلة حد الذهول..عيناها سوداوتنان..وابتسامتها الخجولة تفتح الأفق أخضر نديا.. انتظري في قاعة النساء قلت للمرأة..أضفت: ذاك من مصلحتها..و.. خرجت المرأة.. مددت يسراي إلى بياض لحيتي..عيناي صوبتهما نحو الفتاة التي راح الخجل يلفها.. سيكون نصيبك على يدي..قلت مبشرا لها.. ابتسمت الفتاة.. غطيت بالأبيض الشفاف رأسي.. أنزعي الخمار..قلت.. ترددت الفتاة.. كررت بصوت هامس مطمْئن: أنزعي الخمار يا ابنتي.. نزعت الفتاة الخمار.. وضعت يمناي على شعرها الأسود الأملس اللامع..وقرأت..وأطلت القراءة.. أخرجت من تحت الطاولة صفيحة الماء.. نادي على أمك .. لا تغسلي شعرك طوال الأسبوع..في اليوم الأخير منه اغسليه بهذا الماء.. نعم سيدي الشيخ ..قالت الفتاة..أضافت الأم : نفعنا الله ببركاتك.. وضعت المرأة ورقة الـ ألف دينار على الطاولة فوق اخضرار السجادة.. إذا تحققت أمنية ابنتي يكون حقك أكثر سيدي الشيخ..قالت.. تلقفت الألف دينار..بسرعة البرق وضعتها تحت السجادة.. لا تنسي..أنتظرك الأسبوع المقبل.. مشت المرأة نحو الباب..مشت الفتاة.. كررت: نلتقي في الأسبوع المقبل..في مثل هذا اليوم.. اللِّي بعدْها.. صحتُ ديكا ينفخ ريش بهائه.. سطيف:24/06/2013
الهارب
اجر..اجر..كنت تأمر جسدك العاري يتصبب عرقك ساخنا..بغمر شعاب جسدك وسهوله..يزداد ثقلك..تجر الصخرة متعبا حزينا..السلاسل التي في الرجلين تحيط جهاتك..فقط..جهة الأمام تجذبك.. الطريق أمامك ماء يتثاءب من بعيد..يتلوى ..يفتح فاه سرابا يغري..واليمين واليسار جداران سميكان ..وأنت تجري.. اجر ..اجر..كنت تقول لجسدك المتعب العاري السور الدائري العالي خلفك يبتعد..بطيئا يبتعد.. في الداخل كنتَ..كما الآخرين كنت..كما الأخريات..النساء كأنهن الرجال..والرجال كأنهم النساء..لباس أصفر البياض لايتغير أبدا..هو لباس الأمس..ولباس اليوم أيضا..تنزعونه ليلا وترتدونه نهارا.. البيوت أيضا تتشابه..كلها طين ..والناس أيضا طين.. الأكل.. لا شيء يختلف.. كنتَ..كالآخرين والأخريات..تتسكعك الأزقة الملتوية..ترتدي قدميك الرمال الحصبية.. حين تنظر إلى السماء يحملك الحنين إلى هناك..وإلى الأرض تنظر يضغط على كتفيك التعب المباح.. لم تكن وحدك..علي ، حميد، عيسى..و..يعانقكم شقاء الأمل ..كيف تخرجون من هذه الدائرية السورية العالية؟..كيف تنفضون عنكم غبار الأعمار التي تذهب سدى في هذا التيه الحجري؟.. كانت الأفكار الوردية تزوركم من حين إلى آخر..تحضنكم السهول الممتدة بهاء خضرة..تعانقكم الجبال العالية..والريح الشهية تزرع في أرواحكم عشب النهار.. لكنه السور الدائري العالي.. في الداخل أيضا ألبسة داكنة الخضرة تحاصر السور..تنتشر الوجوه المتجهمة القاسية في كل مكان..ليلا ونهارا..البنادق السوداء تنتظر الضغط على الزناد في أية لحظة.. يأتيكم السؤال الأبدي: كيف نخرج من هنا..؟..يأتي أحدكم ومضة ليل ..أو ومضة نهار..في الصبح..او في المساء..تنتقل الومضة إلى الآخر دافئة سخية..تتغلغل عميقا في الداخل..تحرك الساكن..يصير الساكن حركة ذهاب وإياب لا تتوقف..لكنه السور الدائري العالي..من يتم الإمساك به وهو يحاول يخصى..يرمى بعيرا أجرب في زنزانة الحديد الملتهب..من يتم الإمساك بها يقص شعرها، أملسا ، براقا وعاريا يصير..وفي الساحة تُعرض ضحكا هستيريا يضج به المكان.. حين نضجت الخبزة تلقفتموها ساخنة شهية..راقبتم ولأيام طويلة حركة الأخضر الداكن ..أفعاله..نومه ويقظته.. فشل زملاؤك في الصعود..أصعدوك..الثالث على الثاني والثاني على الأول..تسلقت السلم البشري وقفزت..و.. خارج السور العالي كنت تسمع ضرب العصي على الأكتاف والأرجل..كنت ترى الصفعات والركلات.. وكان ألم زملائك عاصفة رمل حمراء تغطيك.. اجر ..اجر..كنت تقول لك في الحقول تتسارع خطاك..في الغابات تمتد أنفاسك اللاهثة.. عاريا كنت..فقط، ما يغطي عورتك كان لباس الطريق.. أشعة شمس الصباح تمسح على كتفيك بحنينها..والأعشاب البرية بأشواكها تدمي قدميك .. سأستريح قلت..صعدت الشجرة..بين الأغصان الوارفة رميت جسدك المتعب الحزين.. حين غفوت كانت السيارة الخضراء الداكنة أمامك..انتفضت..كدت تسقط من أعلى الشجرة..أمسكت جسدك ..تلويت على الغصن الندي خوفا..فتحت عينيك على الفراغ..لا سيارة..لا خضرة داكنة.. حملت قدميك المتعبتين وجريت.. في الجري كنت تلتفت ..من حين إلى آخر تدير رأسك إلى الخلف.. السيارة الخضراء الداكنة تثير الغبار من بعيد.. أمامك المنزل الوحيد قريبا..خلفك من بعيد رماد الغبار.. دخلت المنزل ..رجفة الرجلين انكسار الداخل والعينان تحملقان في المكان... أهلا بك قال البياض أمامك..شرَّعت عينيك عن آخرهما.. لا تخف قال الشيخ..ألقى بالبرنوس الصوفي شديد البياض على جسدك.. لا تخف..كرر.. مسح بكفه على الرأس..رأسك التائهة ارتاحت لكفه..في حجم النملة صرت..مد أصبعه السبابة..صعدت.. تغلغلت في اللحية البيضاء..أمسكت بالشعيرات بينها.. وحدك؟..سألت السيارة الخضراء الداكنة.. وحدي..قال الشيخ.. لا أحد مر من هنا؟ لا أحد.. فتش الذين كانوا في السيارة المنزل.. فتشت السيارة محيط المنزل.. لا وجود له..قالوا حانقين.. غادرت السيارة الخضراء الداكنة المكان.. على السبابة عدت إلى الأرض..واقفا كما أنت كنتَ.. حملقت عيناك في الشيخ تقديرا..عجز اللسان فيك عن الكلام..ما زال الخوف يسكنك بعمق شديد.. استرح..قال الشيخ..واسترحتَ.. خذ هذه الثياب..استر جسدك.. خرج الشيخ وبقيت وحيدا.. كانت الريح تهب شديدة من جهة الجنوبِ..وكانت السماء التي تتعالى تتوهج بشمس الأصيل.. كنتَ وحدك..لا ..لم تكن وحدك..حاصرتك اللحى السوداء المجعدة.. كانوا يتغامزون.. لامست مؤخرتك اليد الكبيرة الخشنة..ابتعدتَ..لمستها اليد الأخرى.. من أين؟..إلى أين؟..ما زلتَ شابا بهيا.. الابتسامات الصفراء تتعانق في نظراتهم الشهوانية إليك.. الأصابع تفرك بعضها البعض..والنظرات تزداد حدة.. تنحنح الشيخ قادما..نظروا إلى بعضهم البعض..وجهوا أنظارهم دفعة واحدة إلى جسدك ..مسحَت اللحى السوداء المجعدة على أياديهم اليمنى..تغامزوا وهم يخرجون الواحد تلو الآخر.. الليل قريب..قال آخرهم.. خرجوا.. دخل الشيخ ..كسرة الشعير في يمناه..وفي يسراه كأس الشاي.. اجر.اجر..كنت تقول لجسدك المتعب .. كانت اللحى خلفك تلهث.. وكانت الحدود على بعد خطوتين منك.. وكانت الأشعة الشمسية الذهبية قد بدأت تحضن فيك مداك..
سطيف:28/06/2013
العصافير
كانت العصافير تتوالى أسرابا أسرابا..ووحدانا وحدانا أحيانا..وعلى القمة كانت تحط.. ما هذا الذي يحدث؟..لماذا؟..تساءل الجبل حائرا .. قالت شجرة لأختها: لم أر إطلاقا مثل هذا القدوم..ترى ما السر؟.. نظرت الصخور لبعضها متعجبة.. النهر الذي كانت تعبر سماءه العصافير الجماعية تعجب أيضا.. صارت العصافير آلافا وآلافا.. امتلأت الأغصان كلها.. تأملت العصافير بعضها .. غيوما داكنة كان الحزن على وجوهها..وكان الصمت لباسا رهيفا لها.. قال عصفور شارد البال: ما إن مد أبي منقاره إلى قطعة الخبز حتى تلقفه الفخ..انتفض الجناحان فيه..لكن اليد اللعينة كانت أسرع منه..وُضع في القفص..ومنذ تلك اللحظة الرهيبة لم أره.. كل يوم أقف على الشرفة..أسمع زقزقة أمي..صباحا أسمعها.. ومساء..أبكي مزقزقة..وتبكي مزقزقة..وأفارق المكان متألمة حزينة.. قالت عصفورة نحيلة الجسد تحكي.. عصفور كان يقف على الغصن المتطرف قال باكيا: لم أر أختي ذات اللون السماوي منذ زمن بعيد..بعيد.. تململت الصخور..قالت صخرة لأختها: أكل هذا يحدث للعصافير؟ أجابت أختها: كنت وانا أرى العصافير تزقزق فرحة سعيدة وتقفز على الأغصان هنا وهناك أتحسر على الحال التي أنا عليها..ما كنت أتصور أبدا أن كل هذا يحدث لها.. هكذا هي الدنيا.. قالت حصاة لجارتها.. حول العصافير كانت تقف الحيوانات البرية..والمدجنة أيضا.. الأفعى التي كانت تتربص بالعصافير بين الأغصان لاقتطاف غذاء يومها زحفت باكية بعيدا .. النسور التي كانت تحوم في الأعالي طأطأت رؤوسها خجلا وغادرت.. تكلم العصفور الذي كان يقف في أعلى القمة: نرمي قاذوراتنا على النوافذ والأبواب.. بعد يومين من اجتماعهم الأول كان الثاني... وقعت أختي في الفخ ..قال عصفور ما يزال الزغب يغطي بعض أجزاء جناحيه.. أمي ماتت في الفخ ..قالت عصفورة ودموع الحزن تنهمر من مقلتيها.. ثالث: صديقتي.. صديقي..قال الرابع.. أرسلت السماء حزنها سحبا رمادية اللون.. بكت السماء أمطارا غزيرة.. أسمعت الرياح الأرضَ والسماء شهيق نواحها وزفيره .. تأوهت الأشجار وتساقطت دموعها أوراقا باهتة الاصفرار ... ارتمت الصخور على بعضها البعض ناحبة.. رفست الخيول الأرض بعنف وحمحمت كثيرا كثيرا.. شح حليب الأبقار والنعاج والماعز.. ماءت القطط ، ولم تتوقف أبدا عن موائها.. تواصل نباح الكلاب الذي كان يشبه العواء .. سأل البحر مياه النهر الطينية..وأرسل أمواجه غضبا ملتهبا حين عرف الحكاية.. *** أشارت البومة التي دعتها العصافير لأخذ رأيها على الجميع بالسكوت..وسكت الجميع.. تأملت البومة الوجوه العصفورية الحزينة بعمق شديد.. نظرت إلى الجهات الأربع.. تهامست الأشجار والأحجار والأطيار والصخور والعشب والحصى حين طال صمت البومة.. نظرت العصافير إلى بعضها البعض حائرة..و.. تكلمت البومة: سلاحكِ زقزقتك أيتها العصافير.. سأل العصفور الذي كان يقف قريبا منها: كيف يا سيدة الحكمة؟..أوضحي.. سلاحك زقزقتك أيتها العصافير..كررت.. وسمع الناس حيث الأقفاص زقزقة العصافير.. قبل الفجر..وقبل هبوب نسائم الصباحات تزقزق العصافير الكثيرة موسيقاها الشجية الحارة.. انتظر الناس يوما..يومين.. حالة.. قالوا ..تمر بها العصافير وستتوقف.. لكن الزقزقة االشجية الحارة لم تتوقف.. تساءلوا: ما السر ياترى؟..لماذا تفعل العصافير هكذا؟.. وأدركوا الأمر حين سمعوا عصافير أقفاصهم تزقزق موسيقى شجية حارة في نفس الوقت هي أيضا.. وحين كانوا يخرجون حاملين بنادقهم في الصباح الباكر كانت الزقزقة الحارة تتوقف والعصافير تختفي..وعرفوا السر حين سمعوا قبل خروجهم عصافير الأقفاص تصدر زقزقة غريبة لم تسمعها آذانهم من قبل أبدا.. *** ورأت الجبال والأشجار والحصى والأحجار والطيور والأنهار والصخور والبحار والحيوانات والأزهار العصافيرَ مزهوة بجمالها زقزقة راقصة.. كان العصفور الذي كان الشارد يعانق فرحا أباه.. احتضنت الأم صغيرتها النحيلة بعمق لا مثيل له.. قبل العصفورالصغير أخته العصفورة ذات الريش السماوي بحرارة شديدة الدفء.. كانت السماء شديدة الزرقة..كما لم تكن بهذه الزرقة من قبل أبدا.. كان البحر هادئا عميقا ..كما لم يكن عميقا هادئا هكذا من قبل أبدا .. وكانت الغيوم البيضاء تراقص ماءها ..من بعيد.. و الجبال الشاهقة كانت أكثر شموخا.. عانقت الابتسامات وجوه الصغار والعجائز والشيوخ والأرانب والقطط والكلاب والأبقار والماعز والنعاج والدجاج.. وامتلأت وجوه الرجال والنساء بالفرح العميق.. رأى الناس الكثير من الورود البيضاء والحمراء والزرقاء والصفراء تملأ شرقات المنازل والعمارات..والكثير الكثير من الأشجار الصغيرة على سفوح الجبال الشاهقة الشامخة. وكانت الأعشاب خضراء ندية تعانق الجبال والسهول والحقول والمدى.. سطيف: 02/07/2013
حين صلت الأحذية
فتح الإمام كفيه وباعد بينهما.. فتح المصلون جميعا أكفهم مثله..والمصليات.. اللهم أغثنا..اللهم أغثنا..اللهم أغثنا.. تحركت الأحذية التي كانت في المداخل وعلى الرفوف قافزة مثل الضفادع..قفزت الحذاءات.. سمع الجميع أصوات وقعها على الأرض وهي تتحرك قافزة.. ذهلوا..ارتجفت أجسادهم.. استغفروا الله العظيم..قال الإمام..اذكروا الله ذكرا كثيرا..أكمل.. استغفر الله العظيم..استغفر الله العظيم..ردد المصلون..ورددت المصليات.. حائرين واصلوا صلاتهم .. حائرات خائفات مضطربات واصلن صلاتهن.. وواصلت الأحذية والحذاءات قفزاتها الضفدعية.. الذين كانوا في الشوارع سائرين امتنعت أحذيتهم عن السير..سقط الكثير منهم على وجوههم ..وسالت دماء أنوف البعض منهم..وهربت الأحذية.. حدث للسائرات مثل الذي حدث للسائرين تماما.. الذين كانوا على الكراسي في المقاهي جالسين نزعت الأحذية أرجلهم منها..وراحت تقفز كالضفادع.. من كان يمد يده للحذاء وهو يقفز منه تضرب الأحذية أصابع يده الممدودة.. على رأسه تضرب ..على مؤخرته..ومقدمته.. الأحذية التي في المنازل قفزت..الحذاءات.. ورأى الناس في القرى والمدائن الأحذية والحذاءات تسير قافزة صفوفا صفوفا.. ووقف الجميع حائرين مندهشين خائفين مستغفرين الله طالبين عونه ومغفرته.. ذهبت الظنون هنا ..وهناك.. أمر الله ..قال البعض.. غضبه.. ردد البعض الآخر.. كائنات لا نراها لبست الأحذية..ملائكة أو شياطين..أو من عالم آخر لا نعرفه..رأى آخرون.. *** لم اعد أتحمل جثته الضخمة ..قال حذاء للحذاء القريب منه.. كل صباح يطليني بالسواد..قال حذاء لآخر.. تضعني في الخزانة طوال أيام الأسبوع..لا أرى وجه النهار..ولا نجوم الليل ..يوم واحد تخرجني فيه..قالت حذاءة للقافزة جنبها.. لا يتوقف عن التسكع في الشوارع صباحا ومساء..قال حذاء مستاء جدا جدا.. تمزقت كما ترون ولم يتركني..قال حذاء يعلوه الغبار.. رماني في المزبلة كأي شيء تافه بعد أن مزقني ..قال آخر غاضبا.. *** نظرت الأحذية إلى الحذاءات..نظرت الحذاءات إلى الأحذية.. تبتسم الحذاءة للحذاء فيلتصق بها..ويسيران قافزين.. يبتسم الحذاء للحذاءة فتلتصق به ويقفزان.. حذاء ممزق لم تبتسم له أية حذاءة..توقف عن السير وطأطأ رأسه.. حذاءة جميلة جدا جدا..كل حذاء ينظر إليها يخجل من نفسه فيحول نظره إلى أخرى..توقفت عن السير مثله.. رفع الحذاء الممزق رأسه بعد أن ابتعد الجميع..رفعت الحذاءة الجميلة جدا جدا رأسها بعد أن ابتعدت الحذاءات عنها.. ابتسمت الحذاءة وابتسم الحذاء..التصقا ببعضهما وراح الفرح يقفز بهما.. ذهلت الأرصفة وهي ترى.. الحقول ذهلت.. الحجارة والصخور والحصى.. الطيور والعصافير ذهلت هي أيضا..والماء والأعشاب والسماء.. تهامست أشجار سفح الجبل حائرة مندهشة.. وواصلت الأحذية والحذاءات قفزها الضفدعي العجيب.. *** على الأرصفة الساخنة سار الرجال والأطفال والشيوخ حافين..مشت النساء والبنات حافيات.. جرحت الحجارة والأشواك رجال ونساء القرى.. ألبس الكثير منهم أرجلهم قفازات الشتاء الأرجلية ..ألبست الكثيرات منهن.. كان الهرج عجبا غريبا يحرك الناس في الاتجاهات كلها.. كانت الحيرة ذهولا عجيبا يرفع الرؤوس نحو السماء المديدة الزرقاء.. كان الخوف غبار بكاء يفتح الأفواه استغفارا متواصلا.. واصلت الأحذية سيرها..في القمة كانت تتوقف مشكلة تجمعا ميدانيا مكتظا وكبيرا .. وجه الحذاء ناصع البياض مقدمته إلى الشرق..رفعها قليلا.. وجهت الأحذية مقدماتها إلى الشرق مثله..رفعتها قليلا.. مثلها فعلت الحذاءات.. اللهم اغثنا..اللهم أغثنا..اللهم اغثنا ..رفع الحذاء صوته.. اللهم اغثنا..اللهم اغثنا..اللهم اغثنا..صاحت الأحذية .. معها صاحت الحذاءات.. في السفوح من جهات الجبل الأربع وقف الناس ذاهلين مستغفرين.. وجهت الأشجار أغصانها جهة الأحذية..حامت الكثير من العصافير والطيور فوق القمة مندهشة صامتة.. السحب البيضاء والسوداء كانت تتجمع في الأعلى.. نزلت قطرات منعشات على القمة..قفزت الأحذية فرحا شجريا أخضر الصدى.. غزيرة جدا جدا نزلت على السفوح.. تدحرجت الحجارة والصخور بشدة كثيفة.. فر الناس مذعورين في كل الاتجاهات التي لم يعودوا يعرفونها.. جرفت المياه الطوفانية البساتين والحقول والبيوت والدماء.. *** حين بزغت شمس الصباح كان البياض الناصع لباس الأرض الحزينة.. كان السواد الشديد ما يزال يغطي غرب السماء.. وكان الناس غيابا مرعبا يعم المكان والمدى..
سطيف: 05/07/2013
لا عيد هذه السنة..لا أضحية امتلأ السوق عن آخره بالكباش والنعاج والخراف وأشباه الكباش والخراف من البشر.. قال المشتري: كم ثمن هذا الكبش؟.. 06ملايين..أجاب البائع. وهذا الخروف؟.. 03ونصف.. صاح الصغير : أريد هذا الكبش يا أبي..وأشار إلى الـ 06 ملايين.. تقدم الرجل ذو السحنة السمراء والأنف المعقوف من أحد الكباش..جسه..مسح على رأسه وقرنيه.. استدار الكبش إلى جاره الكبش: يريد التضحية بي هذا الرجل إذن.. مأمأ الجار..مأمات الكباش الأخرى ..مأمأت الخراف والنعاج ايضا.. ضرب الكبش بقرنيه الرجل ذا السحنة السمراء والأنف المعقوف.. ضربت الكباش الأخرى والخراف والنعاج الواقفين امامها من الباعة والمشترين.. هرج السوق وماج.. مزقت الكباش والنعاج والخراف الحبال والخيوط التي كانت تُربط بها فرادى وحلقات.. داست على الكثير من الباعة والمشترين.. طالبت الكباش البشرية المشترية استرجاع أثمان الكباش والنعاج والخراف التي اشترتها ولم تأخذها بعد من باعتها..ورفض الباعة.. صاح كبش بشري اشترى في وجه كبش بشري باع: سأضحي بك إذن ..ونطحه بسيفه فمزق بطنه.. قال آخر مشترٍ: أنت أضحيتي..ونطحه بعصاه فشج رأسه.. ثالث نطح ثالثا برأسه فحطم أسنانه.. تناطحت العصي وكأنها السيوف.. سالت الدماء بغزارة لم تعرفها سوق الكباش والنعاج والخراف من قبل أبدا.. وقفت الكباش والنعاج والخراف مبتسمة مندهشة وهي ترى الكباش البشرية يناطح بعضها البعض بعنف وحقد شديدين.. قال كبش حيواني لأخيه الكبشَ الحيوانيَ: ما أبشع إخوتنا البشر.. انتبهت بعض الكباش البشرية للكباش والنعاج والخراف الحيوانية وهي تخرج من السوق مستغلة تناطح الكباش البشرية ، فأسرعت إلى الأبواب تحاول غلقها.. غضبت الكباش والنعاج والخراف الحيوانية فضربت بأضلافها الأرض غاضبة ..ثم توجهت نحوالكباش البشرية ..دحرجتها على الأرض..داستها ومرت إلى الخارج.. سارت الكباش والنعاج والخراف جماعات جماعات.. امتلأت الشوارع بها..دخلت الدكاكين وأكلت مافيها ..أسواقَ الخضر والفواكه أيضا..مزقت قارورات الماء البلاستيكية وشربت ماءها.. عبر الهواتف علمت الكباش البشرية أن الشيء نفسه حدث في الأسواق الأخرى من جمهوريتهم والجمهوريات المجاورة لها..وفي المملكات أيضا.. احتارت الكباش والنعاج والخراف البشرية.. قال بعضها: جنت الكباش والنعاج والخراف.. قالت كباش بشرية أخرى: إنه الله يعاقبنا على أفعالنا.. ثالثة قالت: إنهم اليهود..صنعوا أدوية ما ونثروها في هواء الأسواق..استنشقتها الكباش والنعاج والخراف..فكان ما كان.. نادى المؤذنون في المساجد إلى الصلاة..خطب الأئمة ودعوا الله بكل خشوع إلى رفع هذه الحالة عن الكباش والنعاج والخراف.. بكت الكثير من الكباش البشرية البائعة بحرقة كبيرة وقد رأت أموالها تتبخر هكذا فجأة... بكت الخراف البشرية الصغيرة أكثر أكثر.. حزنت الكثير من الكباش البشرية المشترية وقد أدركت استحالة أن تضحي في هذا العيد أو تسترجع أموالها من االكباش البائعة .. وشاهدت الكباش والنعاج والخراف البشرية الكباش والنعاج والخراف الحيوانية ترعى جماعات جماعات في الحدائق والحقول والمروج والمزابل ..وكانت تتحرك مجتمعة غاضبة مهددة حين يحاول كبش أوخروف بشري ما التحرش بأي منها.... تمردت الأغنام التي كانت في المراعي على رعاتها ورفضت العودة إلى الزرائب.. رأت الأبقار والثيرا ن والعجول ما فعلته الأغنام فحطمت السلاسل التي كانت تقيدها ومزقت الحبال التي كانت تُربط بها وخرجت تملأ الشوارع والأزقة والطرقات ب قالت الكباش والنعاج والخراف البشرية بعد أن زالت دهشتها: لقد وعت الكباش والنعاج والخراف والأبقار والثيران والعجول.. أكملت أخرى: وجن البشر.. ولم تعد تقول: قد جنت الكباش والخراف والنعاج والأبقار والثيران والعجول.. سطعت شمس ذلك اليوم كما لم تسطع من قبل أبدا.. ضحكت المروج والسهول والحقول والبحار والأنهار والأشجار والجبال والتلال كما لم تضحك في كل حياتها أبدا أبدا.. زقزقت العصافير وغردت الطيور كثيرا كثيرا.. سطيف:12/10/2013
في اتجاه المتاه حاصرته الزوبعة الرملية العاتية من كل الجهات.. تحرك جهة الشرق ..أعادته بقوة إلى الداخل.. جهة الغرب..أعادته بقوة أكبر أكبر.. الشمال..الجنوب..لا جدوى.. فتح عينيه بصعوبة..رأى زملاءه تحاصرهم الزوابع الرملية العاتية.. زميلاته أيضا.. هاجت الزوبعة وماجت..رفعته عاليا عاليا..ثم رمت به وبعنف شديد وكاي شيء داخل الشاحنة الزرقاء الطويلة.. وجد زملاءه هناك..وجد زميلاته.. ورأى الهراوات تتساقط على الظهور نارا ملتهبة.. رأى البنادق الآلية تصوب عيونها الحمراء إلى الجباه.. أغلقت الأبواب المحصنة.. وسارعت الشاحنة الزرقاء الطويلة ترافقها الزوابع الرملية العاتية نحو الماتاه.. سطيف:12/10/2013
عض في سوق الكباش العيدية عندما دخلت سوق الكباش والنعاج والخراف كنت قد تركت الساحات العمومية التي زرتها مليئة بقطعان الأغنام والشوارع التي جبتها يتراكم على أرصفتها التبن والحشيش المجفف .. أصابتني الدهشة التي تشبه الفجيعة وأنا أصطدم بالكباش والنعاج والخراف وأشباه الخراف والنعاج والكباش من البشر.. اختلطت الأمور علي..لم أعد أميز بين هذا وذاك..الكل أمامي كباش ونعاج وخراف.. وضعت يدي على كتف احدهم - كنت اعتقد أنه الكبش - كان البياض يلفه..خاطبت الكبش الذي كان بجواره - كنت أعتقد انه البائع - : ماثمن هذا الكبش؟ نظر الكبش إلي طويلا..مأمأ محركا رأسه.. أعدت: ما ثمن هذا الكبش..؟ ونقلت كفي إلى رأسه.. غضب الرجل/ الكبش..احمرت عيناه..ها هو الكبش يا حمار..قال..وأشار إلى الكبش الذي خاطبته.. نظرت إليه..إلى الكبش..ما زلت لا أفرق بينهما... أمسك الرجل / الكبش بيدي التي كانت على رأسه قبل قليل..عض أصبعي الوسطى بقوة..أسال دمها.. صحت: مابك؟..هل جننت؟... جننت..قال..وأمسك بخناقي .. التف حولنا عدد كبير من الرجال/ الكباش.. لماذا تتعاركان؟..سأل أحدهم يعتبرني هذا الحمار كبشا ويسأل الكبش ما ثمني؟ ضحك الرجال / الكباش حتى انتفخت اوداجهم.. فقد عقله المسكين..لا تلمه..ربنا يشفيه..قال أحدهم.. أنتم المجانين..كدت أقول..لكنني أمسكت عن القول...كنت خائفا من عضة أخرى.. سطيف: 17/10/2013
الحرية
كانت الكلمات تتقدم فرحة تباعا ..كل كلمة تقف في المكان الذي اختاره لها الكاتب لتشكل جمل النص وفقراته.. كان الكاتب يدعو الكلمة صمتا فتاتيه طيعة سعيدة.. واصل الكاتب ملء الورقة بالكلمات سطرا فسطرا.. كتب: هكذا تكون...وقال في صمته : الحرية..وتوقف..طارئ ما جعله يتوقف.. احتارت الحرية..تساءلت :ماذا أفعل يا ترى؟..قالت التاء: نتقدم جهة المكان الذي بعد هكذا تكون..وتقدمت..ولم تتقدم الحروف الأخرى... حين وجدت نفسها وحيدة توقفت..لامعنى لي وحدي قالت..مربوطة ووحدي..لامعنى لي.. عادت إلى الحروف الأخرى..مدت يدها للياء وسارتا معا..بعد هنيهة..نظرتا إليهما..ية..سألت الياء التاء: ما معنى ية؟..لا معنى لها أجابت التاء..وعادتا إلى الخلف.. جذبت الياء الراء ومشتا ملتصقتين بالتاء..رية نحن صاحت الراء..لا همزة لنا..لا معنى لنا.. رجعت الحروف الثلاثة إلى الوراء..جذبت الحاءَ بقوة وسارت..حرية صرنا قالت الراء بحبور ظاهر..لكننا نكرة قالت الحاء..ليس معنا من يحمينا..وفي اللحظة نفسها سمعت حرية شهيق الألف واللام.. نحن أداة تعريف قالت اللام..لكن..أكملت الألف : تعريف ماذا؟..أضافت: نحن مجهولان يا صديقتي..ضائعتان..وتعالى شهيقهما.. تحركت حرية عائدة..الألف واللام تعريفنا صاحت الحاء..أضافت الراء: وقوتنا.. عانقت حرية الألف واللام..نظرت الحروف إلى بعضها البعض بكثير من العتاب.. عاد الكاتب ونطق صمتا: الحرية.. وكانت الحرية في مكانها ..آخر السطر..زغردت الراء كثيرا كثيرا..وصفقت الحروف الأخرى راقصة: ألفا، لاما، حاء، ياء ، تاء.. وكان الكاتب يصفق راقصا ،سعيدا ..سعيدا
سطيف:22/12/2013
عراء
عانقت الطريق أختها بشكل صليبي حار..كونتا مايشبه أربعة من الأهلة المتنافرة .. بكت الأولى على كتف الثانية..وشهقت الثانية على كتف الأولى.. قالت إحداهما: اختنقت..لم أعد أطيق العيش..قطعوا الأشجار التي كانت تظللنا وتشعرنا بجمال الحياة .. أكملت الأخرى بحزن عميق: أزالوا الأعشاب التي كانت تنعشنا وملأو أماكنها بالإسمنت المسلح ..وبكتا معا بحرقة لا مثيل لها.. لم أعد أستطيع النوم ..كلما أرخيت أجفاني فتحتهما سيارة أو شاحنة ما..قالت الأولى.. شهقت الثانية:ضجيجها يؤرقني وأدخنتها تغطي سمائي ..صار السعال رفيقا دائما لي..يلازمني ليل نهار..حافتاي تشققتا سهرا وتعبا.. ماذا نفعل يا أختاه؟ سعلت الأولى.. سنفعل الكثير الكثير..أجابت الثانية *** وقبل مساء يوم العناق رأى الناس مالم يخطر ببالهم أبدا..تحركت الطريق الأولى بعنف شديد..اهتزت أكثر من مرة..وامتلأت بالحفر الكبيرة العميقة.. مثلها فعلت الثانية.. وكانت السيارات والشاحنات تتساقط تباعا في تلك الحفر العجيبة.. رأوا أيضا إسمنتهم يلفه الغبار الكثيف، الكثيف.. وباتوا جميعا في العراء.. نزلت الأمطار في تلك الليلة كما لم تنزل من قبل أبدا ، أبدا.. وسمعوا مشدوهين دويا رعديا يقول: خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد *** بزغت شمس الصباح..فرأى الناس لحىً ليلية تصيح: لو لم تكن الطرق متصالبة ما وقع الذي وقع
سطيف: 23/12/2013
طوبى للبياض ..طوبى للسواد
تأفف البياض من السواد حين رآه يقف أمامه..قال: أعوذ منك أيها المخيف..ما حل الموت ببيت إلا والتحفك أهله وراحوا ينتحبون .. تألم السواد كثيرا، أنَّ وبكى بحرقة شديدة .. ولأن الليل كان قريبا فقد سمع أنين السواد ورأى دموعه الغزيزة التي كانت تلمع في المكان وتتلوى يائسة حزينة.. تقدم الليل ببطء ثقيل..ألقى بردائه الخشن على الوجود .. أحس البياض بالكثير من الاختناق والخوف..ارتعش وكاد يفقد أنفاسه.. رآه الثلج الذي كان يعبر عاليا سماء المكان ،فتساقط بغزارة غطت الجبال والأعشاب والأشجار.. والسهول والحقول والأنهار .. ارتعش الأخضر من شدة البرد ..اصطكت أسنانه ..كاد يجمد..وبتعب شديد رفع رأسه إلى السماء ونادى متلعثما الشمس : أين أنت يا أماه؟.. استجابت الشمس لنداء الأخضر ابنها...أرسلت شعرها الوهاج فذاب الثلج..صار ماء متدفقا..ملأ الآبار والأنهار والوديان والبحيرات ،وتوجه مسرعا نحو البحر أبيه..لكن البحر امتلأ ..امتلأ عن آخره..لم يترك له الأبناء الكبار والصغار مكانا يستريح فيه..من كل الجهات كانوا يأتون.. أحست الريح اللطيفة زوجته بما كان يعانيه.. قالت للأبناء : يا أبنائي الأعزاء، اتركوا أباكم يستريح..طوال اليوم يشقى..طواله وهو ينزع السحب منه ويرسلني محمَّلة بها إلى البعيد والقريب..وكان الأبناء يتدفقون..بكثرة يتدفقون.. ولولت الريح بشدة..دفعت بكل قوتها الأبناء..صار الأبناء أمواجا عاتية ترتمي على الأشجار ، تقتلعها.. وعلى الأعشاب ، تجرفها..وعلى المباني ، فتسقطها..ولأنها كانت تبكي فقد ملأ ملح دموعها الجبال والحقول والسهول التي كانت قريبة.. اشتكت الأشجار والأعشاب حالها لأمها الأرض .. انتفضت الأرض غاضبة..حركت أعماق البحر..زلزلت بشدة..اختلط الحابل بالنابل.. الصخوربالأشجار ..وأشياء البيوت بالأنهار.. خرج الناس من بيوتهم التي كانت تتساقط تباعا..بكوا كثيرا على عرائهم وضياع أشيائهم..واحتضنوا بعضهم بعضا بعمق حنيني كبير.. رأى البياض ذلك فخجل من نفسه..قال: أنا السبب..لولاي ماكان الذي كان.. السواد خجل من نفسه أيضا..وقال نفس ما قال البياض.. مد البياض ذراعيه..مد السواد ذراعيه في نفس اللحظة..احتضنا بعضهما بشدة.. قال البياض للسواد: سامحني..سامحتك ، قال السواد..أنت أخي ..أنت أخي أيضا ، رد البياض.. رأى الليل ذلك فأرسل ظلمة خفيفة مزينة بعدد لا يحصى من النجوم.. رأت الشمس ما فعله الليل..وما فعله البياض والسواد قبله ،فأرسلت أشعتها مرفقة بنسيم منعش عليل.. توقفت المياه عن تدفقها على البحر...هدأ البحر ..الريح أيضا توقفت.. وعاد الناس إلى بيوتهم يصلحون ما خُرب منها ويبنون ما هُدم.. قالت الأرض: طوبى لكم جميعا..أبنائي أنتم كلكم..الليل غطائي الجميل..والأعشاب والأشجار ردائي والشمس نهاري ونهر حياتي.. هتف الجميع بصوت مموسق، عذب وجميل: طوبى لأمنا..طوبى لأمنا..طوبى.. ومبتهجة غردت الطيور وزقزقت العصافير فوق البحر وفي الجبال والسهول والحدائق والحقول .. سطيف:30/12/2013
#الطيب_طهوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النهر يعشق أيضا
-
أطلال أخرى..
-
مر من جسدي
-
تلك الرسائل ما أروعها
-
الفتى..كل هذا الجسد
-
مريم
-
أبجدية لخماسيات جزائرية
-
إفريقيا بين السواد وزوارق أزرق الأحلام / الأوهام
-
رواية حنين بالنعناع لربيعة جلطي...... الخطر داهم..يا مثقفي ا
...
-
هذا ما وجدنا عليه آباءنا
-
اللاجئون، الغرب والمسلمون ( خواطر)
-
انطباعات عائد من تونس
-
من طرائف جدتي
-
قصائد قصيرة
-
(كلنا قطعان، أنتم ونحن) قالت الحيوانات
-
خواطر عن الفتح..وعن الغزو أيضا..
-
عن الحداثة، العلمانية وواقع العرب المسلمين اليوم..ج 4
-
عن الحداثة، العلمانية وواقع العرب المسلمين اليوم..ج 3
-
مجتمع القطيع
-
عن الحداثة، العلمانية وواقع العرب المسلمين اليوم..تكملة
المزيد.....
-
الحكم بسجن المخرج المصري عمر زهران عامين بتهمة سرقة مجوهرات
...
-
بعد سحب جنسيتها .. أنباء عن اعتزال الفنانة نوال الكويتية بعد
...
-
الجامعة العربية تستضيف فعاليات إطلاق الرواية الفلسطينية مليو
...
-
بدء تصوير أول فيلم سينمائي روسي هندي
-
-طفولة بلا مطر-.. سيرة أكاديمي مغربي بين شفافية الوصف ورومان
...
-
فنانة مصرية تعلق على اتهامات بقتل زوجها
-
هل العنف في الأفلام يجعلنا نعتاد المشاهد الواقعية؟ ريتا تجيب
...
-
فيلم -إميليا بيريز- يتصدر ترشيحات -غولدن غلوب- بـ10 جوائز مت
...
-
فنانة سورية تثير الجدل بعد إعلان شفائها من مرض السرطان
-
فنانة مصرية مشهورة تعلن إصابتها بشلل المعدة
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|