أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الطيب طهوري - النهر يعشق أيضا















المزيد.....



النهر يعشق أيضا


الطيب طهوري

الحوار المتمدن-العدد: 5103 - 2016 / 3 / 14 - 18:39
المحور: الادب والفن
    


مجموعة قصصية


ما وقع لي في مطعم العصر
إلى فضيلة الفاروق، جروة علاوة وهبي وكمال قرور

حدث هذا منذ اكثر من خمسين نهارا رماديا وأكثر من ستين ليلة حالكة السواد..
استقبلت أنا الطيب شعيب العرباوي رفقة التراس كمال غرور في محطة الحافلات الأديب القاص علاوة وهبي والأديبة الروائية فضيلة الفاروق ..ولأن الساعة كانت تشير إلى الثانية عشر تقريبا كان لا بد أن ناخذهما إلى مطعم ما..اختار علاوة المطعم..كان مطعم العصر..
قال ضاحكا: لا بد أن ندخل العصر..ضحكنا معه ودخلنا ..وكان أولنا..إلى الطابق السفلي نزلنا..وجدنا انفسنا في الهواء العاري..بعض طاولات الأكل موضوعة على العشب..وبعضها الآخر على الأرضية المبلطة.. اختار علاوة واحدة من طاولات العشب وجلسنا..فتحت جريدة النصر التي كانت معي..على الصفحة امامي راقني منظر عرجون دقلة النور..أثارت شهيتي حبة من حباته ..وضعت يدي عليها فإذا هي بين إصبعي حبة حقيقية.. اندهشت.. وضعت يدي على العرجون كله..ووزعت حباته علينا نحن الأربعة.. اندهش الجميع لكنهم اكلوا..
ما ألذ هذه الدقلة قال علاوة..
لم اتذوق مثل هذه الحلاوة في كل حياتي قالت فضيلة مبتسمة..راقت لي ابتسامتها كثيرا..كنت آكل بشهية وانظر إليها بإعجاب مفرط..
في العشاء كنا في نفس المطعم..فتح علاوة كتاب الطبخ الذي اقتناه عشية ذلك اليوم..وضع يده على الصورة..بقيت الصورة صورة..مد الكتاب إلي..وضعت يدي على الصورة نفسها..لا شيء تغير.. وضعتها على الصورة التي على الصفحة المقابلة كان الأكل..تنفس علاوة الصعداء..وضعتُ اطباق الطعام على الطاولة..سلمت لكل واحد منا نحن الأربعة ملعقته..مدت فضيلة منشرحة الأسارير ملعقتها واكلت..كانت تجلس على المقعد المقابل لي..اكلتُ أيضا..وضع علاوة الملعقة في فمه فإذا هي فارغة.. مثل ذلك حدث لملعقة كمال..
بصحتكما ،قال علاوة حزينا..
بصحتك فضيلة ،قال كمال..
في غداء اليوم الموالي جلس قبالتي علاوة..اكل واكلت ولم تاكل فضيلة..لم يأكل كمال..في العشاء كان كمال الآكل.. ***
قبل أسبوعين هاتفني علاوة..مائدة اكل باذخ تنتظرنا..صاحب المجلة قبل انتظار قدومك ثلاث ساعات فقط ..إن لم تحضر باعها..لن اخيب أملك فيما راق لك من الأكل يا علاوة..قبل الثلاث ساعات كنت عنده.. جلسنا على الطاولة..مقعده مقابل مقعدي..فتحت المجلة..وضعت يدي..لا شيء..دفع علاوة ثمن الأكل متذمرا من جيبه وخرجنا..
في المدينة حيث أقيم أكلت ما اشتهاه علاوة من نفس المجلة..
***
حين يقترب أوان الغداء او العشاء أدخل المطعم..أختار صورة لطعام شهي في صفحة ما وآكل..ياكل الذي يجلس مقابلا لي معي..أكلات لم أتذوقها من قبل آكل..أسماكا غالية الأسعار آكل..دواجن لا أعرفها آكل .. أضع يدي اليسرى على صور زجاجات المشروبات الروحية وأشرب..يأكل ويشرب الذي يجلس قبالتي..وقد لا يشرب.. صاحب المطعم الملتحي الذي كان لا يقدم لزبائنه أيام إشرافه على تسيير المطعم إلا الأطعمة التقليدية ذات السعرات الحرارية المرتفعة ولا يطبخ الأسماك بدعوى أن الرسول لم يكن يحبها ،يرفض الخمر في مطعمه..لا يطيق رائحته..أكثر من مرة صاح في وجهي: لا أريد خمرا في مطعمي..حمل الزجاجة في المرة الأولى غاضبا..لكنه ما إن مشى خطوتين حتى كانت يده فارغة منها ..نظر خلفه.. كانت الزجاجة تقف متبخترة على الطاولة..كرر المحاولة وفشل..كرر ثالثة لكن الزجاجة كانت على الطاولة تقف ضاحكة منه مستهزئة به.. بدا لي وانا انظر إليه في محاولته الثالثة يائسا تعيسا..
في اليوم الموالي حمل الزجاجة أيضا..رمى الحائط بها..لكنها في فمه كانت..حاول إبعادها دون جدوى..أغلق فمه دون جدوى ايضا.. مضطرا شرب أخيرا..واستغفر الله كثيرا كثيرا..شريكه غير الملتحي يضيف أطباقا عصرية وبعض أطباق الأسماك إلى تلك التقليدية ويشرب الخمر ضاحكا معي حين يأتي دوره الإشرافي على التسيير..
***
عرف الآكلون في المطعم قصتي..صاروا يتسابقون للجلوس على الكرسي المقابل للكرسي الذي أجلس عليه..بعضهم حاول الجلوس على مقعدي، لكن المقعد ابتعد عن مكانه فسقط المحاول..حاول آخر..أمسك الكرسي بيديه الإثنتين..بشدة أمسكه..لكنه سقط أيضا..شج رأسه وتألم كثيرا..
من أجل الكرسي المقابل لي حدثت معركة حامية الوطيس..تكسرت من جرائها كراسٍ كثيرة..حملني نادل المطعم بيديه..رماني خارج المطعم ثم دخل وأغلق الباب خلفه..لكنه رآني على الكرسي نفسه أجلس سعيدا مبتسما..فعل معي نفس الشيء مرة أخرى..أغلق الباب هذه المرة بالمفتاح..وفوجئ أكثر حين رآني على الكرسي واطباق الأكل الشهي أمامي..
ماذا أفعل ؟ سأل نفسه ..وأجاب بعد لحظات..جلس على الكرسي المقابل لكرسيي..فتحت الصفحة كانت صورة الأكل أكثر جمالا وإغراء..مددت يدي..كان الأكل شديد السخونة..وضعت مجموعة مناديل ورقية على يدي ووضعت أطباق الطعام على الطاولة بيننا..أعطيته ملعقة وسكينا وشوكة، وأعطيت نفسي مثلها ..ملأ الملعقة وقربها من فمه..كانت الملعقة فارغة..ما حملتْه كان في نفس مكانه في الإناء..حمل بيده بعض حبات الملوك ..وضعها في فمه، لكنها في مكانها الذي أُخذت منه كانت..طأطا رأسه وتسلل مشوشا خجلا..
اكترى أحد زبائن المطعم الكرسي المقابل لكرسيي..وحدث له نفس ما حدث لنادل المطعم..واختفى التنافس بعد أن أدرك الجميع أن الأكل معي لا يكون إلا مرة واحدة..
ببالي خطرت الفكرة..آتي معي عشاء بمتسول وآخر في الغداء..بعد يومين وجدت عشرات المتسولين يقفون امام باب المطعم في انتظاري ..دخلت غداء ودخلوا متدافعين..جلس الأول وسقط..الثاني سقط أيضا..الثالث أكل معي..حدث الأمر نفسه في العشاء..أكل الخامس..عرف المتسولون السر..لم يعد أحد منهم ينتظرني..
جيراني حدث لهم نفس الشيء...و..
أخير ا صرت وحدي..نادرا ما يأكل شخص معي..يحسده الجميع وهو ياكل..تنشد العيون إليه وإلي.. أتعمد اختيار أفضل وأغلى وأشهى الأكلات صرت.. ***
صار شعري أكثر لمعانا وبشرتي أكثر رقة وحيوية وتيها، ومشيتي أكثر حجلا..الجميلات اللواتي كن لا يطقن النظر إلي صرن يحدقن فيَ كثيرا كثيرا..تجرأت الكثيرات منهن فاقتربن مني وغمزنني ..إحداهن شدت على يمناي بقوة .."أنا هيفاء ..أحبك بجنون ايها الفتى الأسمر"..وبلهفة حارقة خارقة أضافت: "وأشتهيك".. لكنني سحبت يدي بعنف ..وفي اتجاه مطعم العصر مشيت..
كلي في الأكل كان ....أتصفح كتب الطبخ ومجلاته وأشتري ما أجد صور أكله ألذ وأغلى..أكل الصورة لا يتكرر..كل أسبوع أشتري كتابا ،تقريبا ، وأرميه حين أنتهي من أكله..روائح الخمر لا تفارق فمي..كل خمور العالم شربتها..وكل فواكهه ولحومه وأجبانه أكلت منها..
***
غافلتني زوجتي..اخذت كتاب الطبخ الذي اشتريته صباح اليوم وأشعلت النار فيه ..وبصعوبة شديدة خطفت الكتاب منها واطفأت ناره..
وغاضبا كنت أسرع الخطى في اتجاه مطعمي الأثير..وضعت يدي على الصورة شبه المحترقة..عادت يدي فارغة..على زجاجة روحي..فارغة عادت..اخترت صورة سليمة..لا أكل لي.. ثالثة.. رابعة.. سابعة..لا أكل لي..
كنت جائعا جدا..لا اكل لي..
مزقت الكتاب اللعين ..لا أكل لي..
ضربتْ يدي بقوة سطح الطاولة الشاردَ..لا اكل لي..
نظرت حولي..كانت العيون تتهامس غامزة مشدودة إلي..لا أكل لي..
هات ثمن جلوسك طوال الشهرين في مطعمي ،وثمن إصلاح لكراسي التي انكسرت بسببك، قال الملتحي وغير الملتحي معا..أعطيتهما كل ما في جيبي..
لا يكفي ، صاحا ..أعطيتهما ساعة يدي..
زد، قالا مستهزئين بي....سلمتهما هاتفي المحمول ..
انزع معطفك.. قميصك ..الحذاء أيضا..
دفعني نادل المطعم بكلتا يديه..رماني في الشارع..أغلق الباب خلفه..
مكاني فارغا كان..أوووووووووووه ،تنفسا بعمق..عانقت أصابعُ يد كل واحد منهما اليمنى أصابعَ يده اليسرى..قفزا عاليا ..وأخيرااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا..... قالا سعيدين.. وتعانقا. ***
وحيدا ،حافيا سرت..
في اتجاه الشرق سرت..كانت السيوف مسلولة والحجارة ترجمني..
في اتجاه الشمال..كان الإسمنت المسلح ثعابين تزحف نحوي..
في اتجاه الغرب..كان الثلج المتراكم صقيعا يسد طريقي..
ملت حيث الجنوب..حاصرت جسدي الريح سافية، والنفط هيأ لي غربانه الناعقة..
كورْتُني وجلست..كان الناس حولي يتضاحكون..وكنت ابكي..بعيدا بعيدا..
وكان الثلج كثيفا يتساقط على جسدي.

سطيف:15/01/2014
هكذا حكم الجن اليهود بلاد العرب

حين استعصى أمر إخراج الألف جني يهودي من القرية، قال بلحمر لأهل القرية : اذهبوا..سأتدبر الأمر..دخل الغرفة..أغلق الباب خلفه وجلس..
ماذا أنت فاعل يا بلحمر؟..سأل الأحمرُ بلحمرَ.. أطال التفكير..ضرب أسداسه بأخماسه ولم يجد الحل..
في المنتصف..منتصف الليل تماما.. وجدها..صاح نيوتن فيه: وجدتها..وجدتها..
قال للجن اليهود في الصباح ، وهو يمشِّط بيمناه لحيته المحناة : ماذا أعجبكم في هذه القرية المنعزلة؟..الصيف قريب..وحرارة شمس المكان شديدة..لا تطاق..ولا نور في الليل يضيء الصدى.. نظر الجن إلى بعضهم البعض..
قال بوتفائيل: أعجبتنا وجوه الشاويات القمحية..: وغناؤهن الشجي ..أضاف توفائيل.. وحنين ناي رجالهم قال قيدائيل مبتسما..
قال بلحمر: الوجوه القمحية تلفحها شمس هجير الصيف فتحترق.. والغناء يقتله النعاس..أما حنين الناي فهو الحزن الذي سيعم المكان..هل جئتم يا أيها الجن إلى هنا لتمرحوا وتفرحوا؟..أم جئتم لتغتموا؟..
أجاب الجن اليهود دفعة واحدة: جئنا لنمرح ونفرح..جئنا لنغني ونشطح..
ابتسم بلحمر..قال في سره: ارم دلوك يا بلحمر..ارمه عميقا..
نظر إليهم جميعا: هذا المكان لا يليق بكم يا سادتي..
وأين تريدنا أن نذهب يا بلحمر؟..سأل خدمائيل..
الأماكن الجميلة كثيرة يا أصدقائي..قال أصدقائي برقة منقطعة النظير..
أضاف: سترون وجوها نسائية لم تروها قط طوال حياتكم يا أحبتي..سترون النساء عاريات..سترونهن والمياه الموجية تحضن أثداءهن.. سترون..سترون.. قال كل ذلك بهمس جميل يغري الآذان ويفتح الصدور..سترقصون في الحفلات الليليات الصاخبات..ستسمعون الكثير الكثير من الغناء الشجي .. ومن موسيقى الحياة..
قال أويا ئيل: شوقتنا يا بلحمر..
نهض بلحمر مزهوا سعيدا.. نادى على الأهل..أهل القرية: هنيئا لكم..سيخرج الجن اليهود من قريتكم..سبع جديان سود اذبحوا..بخروا المكان ..ارموا بعض قطع اللحم في الجهات الأربع..ونصف أربع الجهات..وكلوا ما يتبقى..واردموا العظام هاهناك.. وأشار إلى شجر السدر ..
أكل بلحمر الكثير من شواء أفخاذ الجديان..من القلب أكل..من الكبد..أكل الخصيتين الكبيرتين..للراقي هاتان الخصيتان ،قال مبتسما..وراح يأكل بنهمه الشديد اللسان..
أكل الجن اليهود أيضا..و..
بعد أن شبعت بطن بلحمر..قالت للرأس: أيتها الرأس، غني لي..
وغنت الرأس: قالت الجن: عليكم بوضع قطعة لحم كبيرة على قمة الجبل..وأشار إلى القمة..سأختار قطعة اللحم بنفسي..و..وقف..إلى يمينه التفت..ابتسم وحرك رأسه ..نعم، نعم سيدي..أمرك سيدي.. لكبير الجن شرط لا بد من تنفيذه يا أهل القرية..هكذا أخبرني الكبير..
كل شروط الكبير مستجابة ..قال رجال القرية..
يقول كبير الجن: اختاروا أجمل فتاة في القرية..تصعد الفتاة الجبل حاملة قطعة اللحم..لن يرافقها أحد..فقط ..بلحمر يرافقها..وبعض الجن معه..
نظر رجال القرية إلى بلحمر مندهشين..وإلى بعضهم البعض نظروا حائرين..لم تتكلم الألسنة فيهم..لم تتحرك الأيادي رافضة..ولا الأقدام..تسمروا في أمكنتهم ..تماما كما الأرض التي يقفون عليها.. و.. لم يطل الصمت..تذكروا حقولهم المشتعلة ، وأشجارهم المنكسرة..تذكروا العواء الغريب الذي كانوا يسمعونه كل ليلة..تذكروا ألوان الضوء التي كانت تلمع في سمائهم ، ثم تختفي تاركة في المكان الدخان..تذكروا خوفهم وأرقهم..تذكروا الريح..تذكروا الحجارة..تذكروا..تذكروا..
ابنتك يا عمي الصالح..صاح أحدهم..ابنتك وردة يا عمي الصالح ..قالوا جميعا..
إلا هذه ..قال عمي الصالح غاضبا.. لن تكون ابنتي.. أبدا ، لن تكون ابنتي..
تقدم بلحمر منه.. على رأسه بسط الكف.. رجال القرية اتفقوا يا عمي الصالح.. والجن أيضا..وليس في مقدورك أن ترفض..
قابل عمي الصالح بلحمر بنظرة حانقة خانقة..مليئة بالكثير من الرفض والخوف معا..
رفضك يسكن الجنَّ ابنتَك..قال بلحمر بصوت خاشع مهيب..يسكنُها الجن ُّويتزوجها، أكمل..ستتعب ابنتك يا عمي الصالح..ستتعب معها..
وجه الصالح نظرته إلى الأرض..تحركت الأرض، ولم تتحرك..ارتعدت جمجمته إذ لا مست كفيه.. فكر..فكر..و..حرك رأسه موافقا..وباكيا..
في الجبل، والقمة بعيدة..قال بلحمر للفتاة: هذه العشبة مباركة..كليها..سعيدة ستعيشين طوال حياتك..و أكل بعضها..و..
حين استعادت وعيها، كان كل شيء قد انتهى..
إياك أن تخبري أحدا بما حدث..قال محذرا..سيسكنك الجن..يسكنك ويتزوجك..ستعيشين مشردة في الجبال..حافية وعارية..و..ذابلة يا وردتي ..
أجهشت الفتاة بالبكاء.. سار..وسارت خلفه تائهة حزينة..
في المساء كان والجن في المكان..
كان البحر يرسل تنهيداته.. إنه الشوق إليهن قال غامزا ، بلحمرُ..
تمدد الموج..إنه الحنين إلى صدورهن ، قال ضاحكا ..
رأى الجن الناس يمرقون..النساء والرجال والبنات والبنون..
ما ألذه المكان ..قال سيدائيل سعيدا..
ما أجمل النساء ، ما أبهجهن، قال بلعائيل فرحا..
يا للروعة، صاح بن صائيل مغتبطا..
رقص الجن طوال الصيف ..غنوا أكثر مما غنوا في كل حياتهم..لا مست أياديهم نهود النساء.. مؤخراتهن..مُأَمماتهن.. عانقوهن في المياه البحرية ..في مياه الاستحمام..في الأفرشة..في المراحيض..في يقظاتهن..في المنام..
انتقل الجن من مكان إلى مكان.. بلحمر الدليل..والمياه الصولجان..و..
حين انتهى البحر ..لا نساء..لا رجال..لا غناء ..لا جمال..سأل الجن بلحمر: والآن يا ابن الأحمر.. يا فتان ، يالسَّان..
عض بلحمر على أسنانه..مسح لحيته بأصابع يسراه ..ماذا أنت فاعل ؟ سأل نفسه..
لنسِرْ، قال للجن..أضاف: المكان الذي يروق لكم يكون المكان..
مدنا كثيرة زاروا..ولم ترقْ لهم..قرى كثيرة دخلوها ..ولم تعجبهم..جبالا صعدوا..سهولا شقوا..هضابا عانقوا..ولا مكان.. و ..دخلوا العاصمة..
قال كبير الجن وقائدهم بوتائيل: ما أجمله هذا المكان..
ارتعد بلحمر..عاصمة البلاد هذه ..قال لهم ويداه ترجفان..
دلنا على القصر.. صاح سيدائيل.. وكفاه على رأس بلحمر تضربان ..
سار بلحمر..سار الجن خلفه وحوله ..
هاهو القصر.. الحراس ..الحراس..الح ح ح ح ..رررراااااااا..سسسس.. كان ذابلا حزين..
دخل الجن القصر.. كان أهل القصر في اجتماع..بينهم تجالسوا..تلامسوا..تهامسوا..تغامزوا ..
الدور حان يا رفاقْ.. يا شآمُ..يا عراقْ..سنحكم البلادَ.. نركب العبادْ..
توفائيل.. ذاك لك.. قيدائيل ..تلك لك..سيسائيل .. حافائيل.. مرسائيل.. عبدائيل.. سدائيل.. بشائيل.. ائيل..ائيل..ائيل..ذاك..تلك..تلك..ذاك.. لك..ولك..ولك..ولك.. وزع بوتائيل ما أمامه..
سكنوا الأجساد والعقول هانئين ..
سافروا ..وسوَّحوا..ودوّخوا..
أكلوا الشموس والأقمار والأنهار والجبال ..
جففوا الحقول من بترولها..وأحرقوا الحقول والسهولَ.. صحَّروا البحار..
وفي القريب ..في البعيد.. كانت الرقية تمد نفسها أفاعي تملأ الشوارع التي ترج أرضها النعالْ..
كانت جدران المنازل ذئابا تعوي وضباعا..
كانت مياه الحنفيات بغالا عرجاء..
وكانت الأرصفة هراوات حديدية تخبِط في الزحامْ..
كانت السماء غبارا لاهثا..والمدى كان الظلامْ.

سطيف: 01 ماي 2014





حين بكت شجرات السفح

تصبب عرق الشجرات التي على السفح ..كانت الشمس تعانق كبد السماء مغتبطة بحرارتها الشديدة التي تلفح تلك الشجرات..
نظرت الشجرات متعبات إلى الأعلى..بدت قمة الجبل بعيدة ..بعيدة..نظرت إلى الأسفل.. أبهرتها خضرة أوراق شجر حافتي النهر وعلوها الباسق ..أبهرها أيضا زهوها ..
نظرت إلى بعضها البعض ..كانت أقل خضرة وأَضعف ارتفاعا..
تساءلت: ما السر في كل ذلك ياترى؟..ما السر؟ ..وعرفت بعد تأمل قليل أنه الماء..
قالت للجبل: لم لا تنبسط يا أبانا الجبل؟..تعبنا من تسلقك المستمر ليلا ونهارا..قربنا إلى النهر حتى نستحم برذاذ مائه، ونبعد عنا لفح هذه الشمس المحرقة التي لا تحس بآلامنا، ولا ترأف بنا..
رد الجبل: ستضيع جَبليتي إن أنا انبسطت يا بناتي الشجرات.. صخوري العملاقة التي ترين ستتدحرج فتُسقط الأشجار أمامها..ستكن أول الساقطات ،يا بناتي الجميلات..سيمتلئ النهر بالأشجار والصخور والأحجار..سيفيض ويرمي كل شيء في قعره بعيدا بعيدا..لن أكون حينها..لن تكنَّ..لن تكون تلك الأشجار التي تحضن ظلَّها فيه..سأكون حينها سهلا أو هضبة..أو..لا جبلا.. و.. سكت الجبل..
قالت القمة التي كانت تسمع حديث الجبل والشجرات: أيتها الشجرات ..سأفقدكن حينها..سأفقد هذا الجمال الذي يمتد أمامي خلابا سعيدا..سأفقد رؤية الأفق وأخواتي قمات الجبال الأخرى..سأفقد عناق الغيوم ..سأفقد رؤية ماء النهر الجاري..والحقول والسهول..والأبقار والأغنام..سأفقد..سأفقد..قالت كل ذلك بما يشبه الهمس الحزين..
أعاد الجبل النظر إليهن أكثر..ثم قال شبه ضاحك: لم لا تنزلن أنتن أيتها الشجرات؟..لم لا تنزلن يا بناتي الجميلات؟..
كيف ننزل؟..ردت الشجرات..
فكِّرن..فكرن..قال الجبل..و ..
فكرت الشجرات..فكرت وفكرت..دون جدوى.. و..
حين يئسن تماما، صاحت شجرة البلوط التي كانت أسفلهن جميعا..وأقربهن إلى النهر البعيد: وجدتها..وجدتها..
ماذا وجدت يا أختنا؟..سألت الشجرات؟..
– سأنزل..
–تنزلين؟..كيف؟..
ادفعنني ..قالت..
نظرت الشجرات إليها..ثم إليهن حائرات..
أعادت: ادفعنني..
مالت الشجرات إليها..دفعنها..لكنها لم تتحرك..
ادفعنني بقوة أكثر..أكثر..
دفعة..دفعتان..ثلاث..سمعت الأشجار دوي سقوطها..سمع الجبل..سمعت القمة أيضا..
طارت العصافير والطيور خائفة..جفلت الحيوانات التي كانت تستظل بالأشجار..فزعت الزواحف والحشرات وتفرقت تائهة شريدة..و..
تدحرجت الشجرة إلى الأسفل..وبقرب النهر كانت ..
انهضي أيتها الشجرة..انهضي يا أختنا..نادت الأشجار..
قفي..قال الجبل..
ولم تنهض الشجرة..لم تقف..حاولت..وحاولت..ولم تقف..
سمعت الأشجار نحيبها..سمعه النهر والجبل والقمة..سمعته العصافير والطيور.. الحيوانات والزواحف والحشرات..
تحركت الشجرة..لعل..لعل..يمينا تحركت..شمالا تحركت..عن الأرض قليلا ارتفعت..و..سقطت..
في المساء رأت الشجرات أوراق أختهن الشجرة..رأينها ملتوية ذابلة.. في الغد رأينها تجف..رأين الغبار كثيفا على جذعها..نادينها..و.. هامسا حزينا سمعن صوت ردها.. نظرن في الوجوه..رأينها.. في الجذوع..رأينها.. في الغصون..في الأوراق..لم يرينها.. بكين بُعدها..بكين موتها الذي يكون..
في الغد الموالي..سمعن صوتها الأنين..نهضن مسرعات..نظرن ..رأين حَطابها..سمعن صرصرة المنشار ..سمعن تساقط الغصون على الغصون..حزنت جذوعهن..بكت الأغصان فيهن ..بعد برهة رأين فأسه..رأينه وقد هوى على الجذع ..رأينه وقد قطع الجذع إربا إربا..صرخن باكيات.. ندبن.. الأغصان شدت الأغصان..تناثرت الأوراق في المكان.. بكين..بكين..بكت الحجارة التي رأت..سالت الدموع غزيرة على السفح..سريعة .. كاد الجبل أن ينفجر غضبا وحزنا..لكنه خاف على شجراته..خاف على قمته..خاف على صخوره..خاف عليه.. فضمه..ضم صخوره ..و..
رأت القمةُ الدموع تجرف الأغصان والجذع والفأس والمنشار..رأت الحطاب في الدموع ..رأته في الصخور..في المياه..في البعيد..رأى الجبل ما رأت ..رأت الشجرات..رأت العصافير والطيور..رأت الزواحف والحشرات ..
امتلأ النهر دموعا..فاض..ما حوله جرَفَ..الأحجارَ والأغصان والحشائشَ التي ترى جرفَ..
حزن الجبل كما لم يحزن من قبل أبدا..
مثله حزنت القمة وبكت غيوما ممطرة كثيفة كفيفة..
فاض النهر أكثر أكثر..فاض كما لم يفض من قبل أبدا..أبدا..عانق السهول والحقول والحصون.. و..سار مزمجرا راعدا..بعيدا..بعيدا.
سطيف: 07/05/2014








الكلمات

تثاءبت الكلمات بعد أن أيقظها الشاعر من سبات نومها ..كان الوقت منتصف الليل أو بعده بقليل..
فتح الشاعر الورقة البيضاء وكتب: بكى النهر وهو يرى الأشجار تحترق وتصرخ طالبة نجدته..
تألمت الكلمات وراحت تحتج على الشاعر غاضبة: أأيقظتنا في هذا الوقت لتحرقنا؟..
غير الشاعر الوضعية وكتب: كان الفصل ربيعا..وكانت الأشجار في كامل أناقتها..كانت تزهو بالأخضر وهو يعانقها..
قالت الكلمات: وأين هذا الأخضر الذي تتحدث عنه..لا نرى أمامنا وخلفنا ومن جانبينا اليمين والشمال إلا البياض..
سحب الشاعر من رزمة الأوراق التي كانت تحبلق فيه ورقة خضراء وكتب نفس الكلمات ..
علقت الكلمات: يا له من اخضرار صامت لا حياة فيه..أضافت: أين هذا الاخضرار من اخضرار السهول والغابات والحقول..وطارت متجهة نحو السهول والغابات والحقول..
جاء الشاعر بكلمات أخرى..كتب هذه المرة فوق الورقة الزرقاء..
نظرت الكلمات إليه: أين هذه الزرقة الصماء الميتة من زرقة البحر والسماء..وطارت مسرعة في اتجاه البحر والسماء..
فكر الشاعر..سأكتبها على السواد..لن تعرف طريق الهروب أبدا أبدا..أخرج ورقة سوداء وكتب الكلمات..
ضحكت الكلمات: ياله من سواد محدود محصور..أينه من سواد الليل وسواد أعماق المحيطات..وطارت متلهفة إلى الليالي وأعماق المحيطات..
غضب الشاعر..وضع الكلمات في الصندوق وأغلقه عليها..
نام المؤلف ..ونام..ونام..
بعد أيام تذكرها..لا شك انها تأدبت قال..سأكتبها حيث أشاء..لن ترفض هذه المرة..لن تهرب...
فتح الصندوق..مد يده..و..فوجئ..
كانت الكلمات تعانق بعضها بحميمية مفرطة..وكان الموت يحضنها بحميمة مفرطة أكثر أكثر..
بكى الشاعر حينها بغزارة لا مثيل لها..
بكت الأوراق التي كانت أمامه..
بكت الأقلام أيضا..
وبكى الليل الطويل..
***
في الصباح الباكر رأت الشمس ورأى الناس والطيور والحيوانات الشاعر وهو يسير حزينا نحو الغابات والسهول والحقول..
كان الشاعر يسير وفوق رأسه كانت تحوم الكلمات..

سطيف:05/06/2014


حين قتل الصبي العصفورة

استيقظ الصبي مبتسما..فرك عينيه بأصابع يديه الصغيرتين..دفع برجليه أجرد الغطاء الصوفي باهت اللون ..ووقف..
نظر حوله..ما يزال الصغير نائما، قال..مد كفه ومسح على وجهه..دغدغه..تحرك الصغير قليلا..نظر إليه ناعسا..ثم أغمض عينيه وواصل نومه..
خرج الصبي من الخيمة..فتح ذراعيه للفضاء الشاسع..تنفس بعمق رائحة الحشائش التي كانت تنظر إليه مغتبطة باشة..رأى أمه تنصب حمَّارة القربة..ولم ير القربة..ولم ير أباه..ولم ير الحمار الرمادي أيضا..
قالت الأم :ذهب أبوك ليحضر الماء..
على بعد أمتار رأى يربوعا يمر..توقف اليربوع قليلا..نظر إليه بعين الخوف..صفق الصبي فأسرع اليربوع الركض وغاب..مجموعة خنافس مرت..فراشات زاهية الألوان مرت أيضا في الهواء ..غراب وأنثاه لاحا من بعيد يتناغيان..
نظر إلى الجهة الأخرى ..رأى حمارته الشهباء تحرك ذيلها فرحة..تأكل بعض الحشائش رآها..رآها خلف الحمار تسير..تحمل والحمار أمتعة الأسرة ودجاجات أمه..كان الأب بخيزرانه يهش على الحمار ليغذ السير أكثر..وكانت الأم تُركب الصغير على ظهرها، فيما كان هو يلصق يده اليسرى بيمناها ..كانت الحمارة خلف الحمار ، وكان الكلب يسير خلفهما..العنزة كانت في الجانب الأيمن تسير والجدي الصغير كان ينط حينا ويمسح رأسه بمقدمة العنزة تارة وبمؤخرتها تارة أخرى..
أعاد النظر إلى أمه..كانت تنزع الحشائش الشوكية من حول الخيمة..رأى الحشائش تطيل النظر في وجه الأم..تشكر يديها على صنيعهما..سمع حشيشة تقول لأختها: أنقذتنا المرأة من لعنة الشوك التي كانت تطاردنا..وسمع الحشيشة أختها تقول: انظري إلى جرحي العميق هذا..تبا له من شوك لا يرتاح له بال إلا إذا نزف دمنا ..
عاد إلى الداخل..ببعض الماء رش وجه أخيه..استيقظ الصغير غاضبا..وهدأ غضبه حين رأى الصبي أخاه يحضنه..
خرج الإثنان من الخيمة..غسلا أطرافهما بماء الصباح البارد..شربا حليب العنزة الساخن.. وأكلا قطعا من كسرة الصيف وبعض حبات تمْر الحياة..
نظرا في البعيد القريب من خيمتهما..رأيا اخضرار المرج يمتد أمامهما ..ضحكا..
إلى المرج قال الصبي..إلى المرج كرر الصغير..
حمل الصبي الجدي..سارت خلفهما العنزة وعيناها على الجدي..والكلب السعيد يتبعهما..
كان عشب المرج الأخضر ما يزال نديا..أحسا ببرودته وهي تلامس أرجلهما..أسرعت العنزة إلى الشجرات الصفصافية وغير الصفصافية التي كانت تعانق السماء قريبا منهما..إلى الأشجار أيضا سارا..
تسلق الصغير الغصن الصفصافي..وبسرعة نزل..بارد جدا ،قال..
ابتعدا قليلا عن الشجرات ..واجها أشعة الشمس التي كانت قد أشرقت منذ وقت قصير..
فوق الشجرات كانت العصافير تحوم وتزقزق ..بين العصافير رأيا عصفورة تحمل الطُّعْم..
قال الصبي للصغير..بين أغصان الشجرات عش..
أينه؟ ،سأل الصغير متلهفا..
انتظر، قال الصبي..ستدلنا تلك العصفورة عليه ،أضاف.. وأشار إليها..
ابتعدا أكثرعن الشجرات، فيما كانت عيونهما تتابع العصفورة حاملة الطعم..
قفز الصبي عاليا بعد لحظات..وسعيدا قال: عرفت مكان العش..عرفته..وطارا إلى الشجرة..
تسلق الصبي الأغصان..تغلغل بينها..طارت العصفورة مذعورة..فوق الرأس زاعقة حامت..
قرَّب الصبي يده من العش..فتحت الفراخ أفواهها..مد أصابعه إلى الفراخ..ارتعدت فرائس الفراخ..وضع الفراخ في الحِجر..وبالأسنان أمسك مؤخة القندورة..و..نزل..
نزلت العصفورة خلفه..زعقت أكثر أكثر..كادت تلامس رأسه بجناحيها المذعورين..مد الفراخ إلى الصغير وطارد العصفورة..طاردها.. وعاد إلى الصغير خائفا مشدوها..رأى العصافير فوق العصفورة غاضبة تطير..رآها تهاجم العصفورة بحدة وتغرس مناقيرها فيها..في الرأس كانت تنغرس المناقير..في الصدر كانت تنغرس..في المؤخرة..في الجسد كله..وقف والصغير يحضنان بعضهما خائفين ذاهلين.. كانت العصفورة تزعق متألمة بشدة وتفر مذعورة..وكانت العصافير الغاضبة تلاحقها وتواصل نقرها بجنون لم يره الصبي والصغير أخوه أبدا أبدا.. و..
بعد لحظات تعبت العصفورة..ارتخى الجناحان فيها..نزلت رأسيا على الأرض..وواصلت العصافير نقرها..وتفرقت تلك العصافير حين تيقنت من موت العصفورة..
حمل الصبي الجدي وسار حزينا مكتئبا..حمل الصغير الفراخ وسار خلفه..سارت العنزة خلفهما..ركض الكلب امامهما محركا ذيله ذات اليمين وذات الشمال..
كان جناحا العصفورة المذعورة يرفرفان في القلب..كان ريشها المتطاير أحزانا تغطي الفضاء..
دخل الصبي الخيمة..دخل الصغير خلفه..نظرت الخيمة إلى عيني الصبي رأت دموعا تتغلغل في العمق..نظرت إلى قدميه.. رأت تعبا شديدا..إلى كفيه..رأت أصابع تائهة ..إليه..رأت ألما مالحا يحاصره.. أنزلت أطنابها وبكت..
لعب الصغير بالفراخ ولم يلعب الصبي..
أدركت الأم تعب الصبي فلم تسأله واحتضنته إلى صدرها..مسحت على الرأس فيه..فبكى..
ساعد أباك في إنزال القربة من على ظهر الحمار، قالت..
خرجت.. وخرج الصبي يتبعها..
مد يده إلى القربة..بكت القربة ماء على كفيه..
انتبه ، قال الأب..الحر شديد ومنبع الماء بعيد ،أضاف..
علقا القربة في الحمَّارة ودخلا الخيمة..
***
كبر الصبي..ابيض اسوداد الشعر في الرأس فيه..لكنه لم ينس العصفورة..
كلما رأى العصافير تذكرها..كلما سمع زقزقتها تذكرها..
ما أردأني ، أصدر الحكم عليه ، وتساءل:..كيف قتلتها تلك العصفورة ؟..كيف قتلتها؟..
ما أرداني كرر ..
ويكرر: ما أردأني.. قتلتها تلك العصفورة..قتلتها..
ويسير حزينا..حزينا..

سطيف: 12/06/2014





النهر يعشق أيضا

كان النهر سعيدا يتأمل ما حوله..نظراته كانت تعانق الأشجار والجبال والحقول..والشمس والناس والمدى..
ما أجملها الحياة ، قال ..
فجأة، رآها تقف على ضفته..تسمر في المكان مندهشا مبهورا..تنفس بعمق شديد وهي تمد كفيها لاحتضان بعض قطرات مائه..
اندهشت المياه أيضا ..تطايرت رذاذا منعشا..
قال النهر لمياهه: لم أر طوال حياتي جمالا كهذا الجمال..
قالت المياه لنهرها: ولا نحن رأينا جمالا هكذا.. أبدا أبدا ،ما رأينا..
توقفت مياه المكان عن سيرها..واصلت التي خلفها السير إليها..التي تصل كانت تتوقف..التي سارت كانت تعود إلى الخلف وتتوقف أيضا..
تجمعت المياه وشكلت بحيرتها..كان الهدوء العميق يعم المياه كلها..كانت الأنظار كلها في اتجاه الفتاة..
ذهلت الفتاة وهي ترى ما كان يحدث أمامها..وحين استفاقت من ذهولها جرت مهرولة هاربة..
زحفت المياه سواقي خلفها..بدت للفتاة ثعابين تزحف نحوها..
انجدوني..أنجدوني..صاحت الفتاة..مرتعشا كان صوتها..
سمعت شجرات سفح الجبل صوت الفتاة المستغيث الباكي فأنزلت أغصانها..
مرتجفة تعلقت الفتاة بالأغصان..وفي الوسط أعلاها كانت..
تسلقت المياه شجرة الفتاة..وانزلقت..
أعادت الكرة..وانزلقت..
كررت وكررت..وفي كل مرة كانت تنزلق المسكينة..
حين تعبت المياه من تسلقها عادت إلى النهر..
شاردة وصامتة عادت ..
وواصلت سيرها حزينة، حزينة..
في الأعلى حزنت الشمس التي كانت ترى المشهد كثيرا كثيرا..أنزلت أشعتها على الماء النهري بكاء حارا متدفقا..
عانقت مياه النهر الأشعة وصعدت إلى الأعلى..شكلت سحابتها الكثيفة وتوجهت نحو الشجرات السفحية..
صبت أمطارا غزيرة على الفتاة..قبلت وجنتيها ،شفتيها وعتقها..ضمت إليها كلها، كلها..بعضها غافلت الفتاة وسرقت حذاءها وجرفته في طريقها...
عادت مياه النهر إلى النهر..وسار النهر سعيدا..
على ضفته الشمال رأى فتيات رشيقات حاسرات الرؤوس تداعب النسائم شعورهن البهية وثغورهن الندية فصب مطره الدافئ الجميل غزيرا..
على ضفته الجنوب لمح فتيات ملتحفات بالسواد فلم يلتفت إليهن..وواصل سيره بعيدا بعيدا..
كان النهر يسير سعيدا سعيدا..
كانت مياه النهر مزهوة تخض بعضها بعضا وسعيدة أكثر أكثر كانت تسير بعيدا..
سطيف: 13/06/2014


ونامت اليقظة أيضا

استيقظ الليل العربي الثقيل من نومه..
كان ذلك منتصفه أو يزيد قليلا..
مد يده لليقظة التي كانت تغط في الشخير..حركها..
استيقظي، قال..
فتحت اليقظة عينيها..فركتهما..
تعال، مبتسمة قالت ..
تقدم الليل..
بيديها المفتوحتين جذبته إليها..
بذراعيها احتضنته..
وغطته بلحافها الساخن..
وناما..
ناما طويلا طويلا..
ولم يستيقظا ....
حتى اللحظة لم يستيقظا.
الديكة تصيح قبيل إفطار رمضان

بعد ليلات معدودات من رمضان اجتمعت الديكة صباحا..
قال ديك حنائي منقط بالسواد: كنا نصيح فجرا فيستيقظ الناس مبتهجين..يغسلون وجوههم وأطرافهم..يفطرون، وإلى أعمالهم يتوجهون..لكننا صرنا حين نصيح نشاهدهم أفرادى أفرادى، وجماعات جماعات إلى أفرشتهم ذاهبين..ما الذي حدث يا ترى؟..ما الذي حدث؟..
صفق ديك ناصع البياض بجناحيه الصغيرين: هذه إحدى علامات الساعة التي حدثنا عنها آباؤنا وأجدادنا..
ديكٌ شيخ قال: الأمر ليس جديدا يا أبنائي..في العام الماضي حدث نفس الشيء..في العام الذي قبله كان الأمر نفسه، هكذا أخبرني أبي..والحال نفسها كانت في العام الذي قبل العام الذي قبل العام الماضي، كما حكى جدي لأبي..
قاقت دجاجة كانت تعبر: أيتها الديكة الجميلة، صيحي قبيل الإفطار..قبيل الإفطار يستيقظ الناس من نومهم متثائبين..صيحي قبيل الإفطار..
واستيقظنا مندهشين ونحن نسمع صياح الديكة قبيل الإفطار بقليل...
قال شيخ طاعن في السن: إنها إحدي علامات الساعة يا أبنا...ولم يكمل الكلمة...مات..
سطيف: 05/ 07/2014










حين خرج الخروف عن القطيع

أخذ الفقيه قطيعه إلى سهول الماضي القاحلة ليرعى..كان الحشيش القليل جافا أو أصفر ذابلا..
خروف رأى في البعيد الأمامي عشبا بهيا اخضر..ترك القطيع وسار نحو الحشيش..
بعبعت النعاج: الذئاب يا خروف، الذئاب في الطريق كثيرة ، عد يا خروف..لكنه اخضر الحشيش..لم يلتفت الخروف.. واصل سيره..
صاح الفقيه: إلى هنا، إلى القطيع عد يا خروف..والخروف لم يلتفت للفقيه، واصل سيره..
وكانت العصا، عصا الراعي تلهب ظهره..كان النباح خلفه، امامه، شماله ، جنوبه..الخروف عاد باكيا..
إلى القطيع ضم نفسه وصوفه ورأسه..الخروف كان / صار يأكل الحشيش أصفرا وذابلا وجافْ..
الخروف خاف ، خاف، خافْ

الليل والنهار يتعاركان في رمضان أيضا
بعد أن غطى الليل المحيطات والبحار والأنهار ، والجبال والحقول والسهول ، والأشجار والطيور والحيوانات ،ألقى بجسده على الأرض لينام..لكنه لم ينم..بات ساهرا أرقا..
في الليلة الموالية لم ياته النوم أيضا..الثالثة..الرابعة..
ولأن السيل كان قد بلغ الزبى، فقد انطلق في الليلة الخامسة باحثا عن نومه..
فتش في الأماكن كلها..صعد أعلى الجبال،غاص في عمق المحيطات، عانق النجوم، ولم يجد نومه..
سأل الأرض والسماء، الحيوانات والطيور، الحشرات والعصافير عن نومه..ولا جواب..
وكان يائسا حين التقى النهار الذي كان شبه غائب عن الوعي..
مابك أيها النهار؟ سأل الليل..
النوم يا ليل، أجاب النهار..ما إن سمع الليل كلمة النوم حتى اندفع هائجا نحو النهار: أنت من سرق نومي أيها النهار..أنت من حرمني النوم وجعلني يقظا إذن..
اندفع النهار أيضا ماسكا بخناق الليل ما إن سمع كلمة يقظا:انت من سرق يقظتي أيها الليل..
كان اندفاع الإثنين نحو بعضهما عنيفا..سطعت شمس النهار ملتهبة من جهة النهار..من جهة الليل تكومت غيوم سوداء لم ير الناس مثلها أبدا..من جهة الليل سقطت أمطار غزيرة جارفة ودوت الرعود مصحوبة بسياط البرق الدامي .. من جهة النهار كانت الرياح جنوبية سافية مليئة بالكثير الكثير من الغبار..
اختلط الماء بالغبار..اختلط الغبار بالماء..نزلا معا ماء ترابيا أحمرا..مرة كان الليل يسقط النهار فيصب الماء وحده..مرة كان النهار يسقط الليل فينزل الغبار وحده.. المحيطات والبحار والأنهار تألمت ..
الجبال والحقول والسهول تألمت..
الأشجار والأزهار والطيور والعصافير والحيوانات والحشرات تألمت..
تألم الكون كله وبكى..و..
ناشد الجميع الليل والنهار بأن يتوقفا عن العراك الدامي..لكن الليل والنهار واصلا معركتهما..واصلا وواصلا..ولم يتوقفا إلا بعد ان تعبا.. جلس الليل..وقابله النهار..
سأل النهار: ما الذي حدث؟..كيف صرت أيها الليل يقظا ؟..كيف صرت أنا النهار نائما؟..
كلانا تغير حاله، قال الليل..ماالذي حدث؟..
قالت البومة التي كانت تقف على الغصن قريبا منهما: إنه رمضان..
قالت الأفعى التي كانت تتكور تحت الشجرة: إنهم العرب المسلمون..
كم يستمر هذا الوضع؟ سأل الليل والنهار معا..
شهرا كاملا يا ليلنا ونهارنا ،أجابت البومة والأفعى معا..شهرا كاملا.. آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه ، تحسر الليل والنهار معا..وتعانقا.
سطيف:08/07/ 2014












حذاء الصبية لا يأتي

كان المبروك شابا ساذجا طيبا وعازف ناي حنين وحزين..
كانت للمبروك صبية يحبها كثيرا..ويحب الرحيل بها في ساحات القرية وبراريها..
طلبت الصبية من مبروكها في إحدى المرات شراء حذاء..أرض القرية حصباء ولا بد من حذاء..
أحضرت إلى المنزل صبية من صبايا القرية..
- أريد حذاء مثل حذائها ، قالت له..
- عاد المبروك من السوق الأسبوعية..رأته من بعيد فأسرعت إليه برجليها الحافيتين، وطيف الحذاء يخاتل عينيها ..
فتشت كيسه، جيوبه، ولم تجد الحذاء..
- نسيت ،قال..السوق القادمة آتيك بالحذاء..
جاءت السوق القادمة..عاد..نسيت، قال..
السوق القادمة آتيك بالحذاء..وعدا عليّ..
ليس في جيب المبروك دنانير..لم يأت الحذاء..كالعادة..نسيت..
صارت الصبية كلما عاد من السوق ،ولا حذاء،تقول له: بربوك نسيت؟..السوق الجاي ( القادم) تأتيني بالحذاء..
سطيف: 15/07/2014






ميتة شبعة

بعد أن أنهى المبروك مضغ وبلع آخر حبة عنب وآخر ملعقة بريوشة، تمطط متثائبا ثم مسح بكفيه على بطنه المنتفخة سعيدا..
- قال لمن كان معه على المائدة ضاحكا:الآن شبعت..ومن مات على شبعة الله لا يرحمه ..
قال الجميع ضاحكين وهم يمسحون بأكفهم على بطونهم: الله لا يرحمه..الله لا يرحمه.. و..خرجوا..
تجاوز المبروك السيارة التي كانت متوقفة على حافة الطريق..لم ينظر يمينا وشمالا..
صدمته الشاحنة التي لم يرها..بقوة دفعته..سقط المسكين على الأرض..
أسرع الناس إليه مكبرين محولقين.
- يا لطيف، يا لطيف ، قال..وعانق موته.



حوريات الجنة في المستشفى

سقط الشيخ الطاعن في السن من على ظهر حماره فأغمي عليه..
حين استعاد وعيه في المستشفى ، بوهت وهو يرى الممرضات الفاتنات بلباسهن الأبيض يحطن به..
من فرط اللهفة صاح: حوريات..حوريات..حوريات..فتح ذراعيه على مصراعيهما وتحرك..سال ريقه وتحرك..
ما أحلاكن قال..شكرا لك يارب..
أسرع الطبيب إليه..ضرب على رأسه..ما زلت حيا يا الشيخ.. ما زلت حيا..
عاد المسكين إلى سريره متألما وطأطا رأسه حزينا..
ضحك الطبيب..يا الشيخ ، يا الشيخ ..
تغامزت الممرضات وضحكن..يا الشيخ ، يا الشيخ..



موت

قالت الأرض للقمر: نورك ضعيف أيها القمر..الكثير من وهادي وودياني وشعابي لا يصلها ضوؤك ..الشمس أفضل منك يا صديقي..و..
حزن القمر ، واختفى..
وإذ أشرقت شمس الصباح ملتهبة حارة، صاحت الأرض: أحرقتني أيتها الشمس..القمر أرحم منك بكثير صديقتي..و..
غضبت الشمس، واختفت هي كذلك..
ولأن الظلام الدامس عم الأرض وطال أمده، بكت الأرض بحرقة شديدة حتى جفت ينابيعها وبركها وبحيراتها وأنهارها وبحارها ومحيطاتها..و..ماتت..
ماتت الأرض المسكينة ،قال الإنسان الذي كان قد مات هو أيضا....



بعيدا سار

حين عاد حاملا علبة الحلوى فرحا ،لم يجدهم..كانوا قد غادروا المكان..
سأل الصغيرة التي كانت تلعب: أين هم؟..
هناك، أشارت بسبابتها..
سلمها الحلوى وسار إلى الـ هناك..
دخل..كان المستودع كبيرا جدا جدا..بمختلف الآلات الكهربائية كان مليئا..كانت والشباب يرتبون الآلات : تلفزيزنات، ثلاجات، غسالات..إلخ..
جئت بهم لتستغليهم، قال لها ضاحكا..
لدقائق فقط، قالت مبتسمة..
سار حتى آخر المستودع..وعاد..لم يجدهم..
خرجو ا إذن، قال في سره..
خرج هو أيضا..نظر في الجهات كلها..لا احد ، تمتم..
التفت إلى حيث مسكنها..كان الباب مفتوحا..وكانت تتهيأ للخروج..
أغلقت الباب بسرعة حين لمحته يطيل النظر باتجاهها..
وقف حزينا..لا شك أنك تنظرين إلي من ثقب الباب ، قال متحسرا..
وسار بعيدا بعيدا..


02/09/2014







الحافي

لم تجلس بجانبه..تجاوزته وجلست في المقعد المحاذي لشاب يصغرها ..
قال حزينا: لعلهما..
حين توقفت الحافلة نزلوا جميعا..
سار الشاب جنوبا..إلى الشمال سارت..وسار خلفها..
قال وقد صار بجانبها: صباح الخير.
.صباح الخير، ردت ..وإلى الخلف استدارت ، وسارت..
وقف قليلا ..تنهد..ثم سار..
غاصت رجلاه عميقا في الطين الذي حاصر المكان..بصعوبة أخرج قدميه، ولم ينج الحذاء..
إلى اليمين توجه..كانت كل أحذية السوق أقل من مقاس رجليه..ألبس رجليه جوربا صوفيا ثخينا..
خارج السوق كانت الثلوج تتراكم بشكل لم يعهده من قبل أبدا..
***
شدة البرودة أبقظته من غفوته..
تلمس جسده الصاخب بالحمَّى..
كان جرذا بلون المجاري..

02/09/2014





الموت
إلى ملوك ورؤساء أنظمة الاستبداد العربية

حين راجع ملك الموت قائمة موتى ذلك اليوم مقارنا بين دفتر من أرسل إليهم الميتات والموتات لقبض أرواحهمن ذلك اليوم ودفتر من التحقوا والتحقن بعالم الآخرة فعلا ،وجد أن هناك اسما لم يكن مسجلا في الدفتر الثاني..
أعاد المراجعة اكثر من مرة ليتاكد..
أول مرة يحدث هذا ،قال في سره..
وفي سره تساءل أيضا: كيف حدث هذا؟..لم حدث؟..
ولما لم يجد إجابة لسؤاليه نهض واقفا..تأمل جدران مكتبه الفخم..ذرعه طولا وعرضا..ثم.. صاح:
يا حاجب، ادع كل المساعدين إلى هنا..
وفتح الحاجب الباب ليصطف المساعدون واقفين..
أمرك سيدي قال كبيرهم..
نطق الملك الإسم..من منكم كان مكلفا بإرسال الموت إليه؟..
فتح الجميع وبسرعة عجيبة دفاترهم..
وقال الذي وجد الإسم في دفتره مرتجفا متلعثما: انا سيدي..
لماذا لم يلتحق صاحب هذا الإسم بالآخرة؟ سأل الملكُ غاضبا..
أضاف: اجبني أيها المساعد المهمل..
ولأن المساعد المهمل لم يجد ما يجيب به فقد التزم الصمت..
أنت مقال، قال الملك..
وأشار إلى كبير مساعديه:اقبض روحه وتول امر معرفة الموت المرسل أو المرسلة إلى صاحب هذا الإسم..
أمرك سيدي، قال كبير المساعدين..
***
جئني بها بسرعة أيها الموت..
بحث الموت عن زميلته الموت ولم يجدها..
لم اجد لها أثرا ، قال الموت لكبير مساعدي ملك الموت..
هذا عنوان صاحب الإسم، خذه..وجئني بها بسرعة..
ووقفت الموت خائفة مرتجفة أمام المساعد..
لماذا لم تقبضي روحه أيتها الموت؟..
اجابت الموت متلعثمة:لم أستطع يا سيدي..
لم تستطيعي؟ قال المساعد متعجبا..كيف؟ أضاف سائلا..
ألا تعرفين بأن كل من يبلغ سن السبعين من البشر تقبض روحه؟..ألا تعرفين بأن كل مريض ميؤوس من شفائه تقبض روحه أيضا؟..كيف تخالفين الأوامر ياموت؟
صمتت الموت، لم تجد ما تجيب به..
أجيبيني ، قال المساعد حانقا..
طأطأت الموت رأسها وقالت بخجل شديد بدا واضحا على وجهها:
لايبدو أن من أُرسلت لقبض روحه قد بلغ سن السبعين..لقد كان جميلا فوق كل ما أتصور، لم أر طوال قبضي أرواح الناس جمالا مثل جماله.. لقد كان يجلس بجوار زوجته المريضة ويحضن أطفاله الصغار باكيا ..لم أتحمل رميه في القبر وتقديمه إلى الدود ليأكل جسده..لم أتحمل إبعاده عن أطفاله..قالت ذلك وبكت بحرقة شديدة..
هكذا إذن، علق المساعد..
يا موت خذ روح هذه الموت..واذهب لتقبض روح صاحب الإسم، قال المساعد آمرا ، متجهم الوجه.. ***
يا نائب كبير المساعدين اقبض روح كبير المساعدين وتول أنت أمر المرسل او المرسلة إلى صاحب هذا الإسم، قال آمرا..
وأكمل : انت الآن كبير مساعدي..
***
أرسل كبير المساعدين الجديد موتا..وأرسل الذي بعده موتا أخرى ..وارسل الذي بعد بعده موتا ثالثا دون جدوى..
وضع ملك الموت رأسه بين كفيه وراح يفكر..و..
في لحظة تفكيره تلك التي طالت بزغت الفكرة في رأس كبير مساعدي ملك الموت الذي كان في انتظار موته : اقبضوا أرواح ملك الموت السبعةَ..
اصطدمت الفكرة بحيطان المكتب وارتدت إليهم جميعا..
رآها ملك الموت تلمع في عيونهم فحاول الفرار،لكنهم كانوا قد طوقوه من كل الجهات واستلوها من جسده بصعوبة بالغة ،واحدة تلو الأخرى، ثم اطلقوها في الفضاء فراشات ناصعة السواد..
حين انتهوا من غسل أيديهم ، ابتسم كبيرالمساعدين ..نظر إليهم واحدا واحدا ..
قال ويده تربت على كتف أحدهم:
أنا ملك الموت الآن..
وأشار إلى أحدهم: أنت كبير مساعديَّ..
صاحوا جميعا شبه غاضبين: ومن نصبك ملكا للموت علينا يا أنت؟..
قال: ملك الموت الميت هو من جعلني كبير مساعديه ، لهذا أراني الأحق بينكم بخلافته.. ههههههههههه ملك الموت؟..ملك الموت ذاك مات يا أنت..
ولأنه أصر على ان يكون ملكا للموت عليهم فقد انقضوا عليه هو أيضا واستلوا أرواحه الثلاثة..وأطلقوها في الفضاء فراشات ناصعة الرماد.. و..
حدث نفس الشيء مع من عينه كبير مساعديه حين أصر هو أيضا على أن يكون ملكا للموت عليهم..
ولم يجدوا بدا في الأخير من الاقتناع بالبقاء على ما هم عليه ، لا ملكا للموت عليهم..
واستراح الجميع ، مساعدون وموتات وميتات..
ولم يمت أحد أو أحدة من البشر طوال أيام..
تساءل الناس: هل توقف الموت عن فعله؟..
تساءل آخرون وتساءلت أخريات: هل توقفت الموت عن فعلها؟..
***
اجتمع المساعدون.. تناقشوا الأمر..
اجتمع الميتات والموتات وتناقشوا وتناقشن الأمر أيضا..
قال الميتات وقالت الموتات معا وبصوت واحد: لا يمكننا البقاء هكذا دون عمل نملأ به فراغنا، ودون فرح نزرعه في قلوبنا ونحن نقبض أرواح الناس ونطلقها فراشات ملونة في الفضاء..علينا أن نميت ونميت..
نطر المساعدون إلى بعضهم البعض ..
قال أحدهم: إذا لم يميتوا البشر سيميتوننا نحن..
أكد آخر ذلك بقوله: صدقت..و..
عادوا إلى مشاوراتهم..
لندعهم يميتون من شاؤوا، ماذا سنخسر؟ قال أحدهم سائلا..
لا شيء سنخسره ، رد آخر..
***
وخرج المِيتات يقبضون أرواح البشر..
وخرجت الموتات يقبضن أرواح الناس..
ومن يومها لم يعد هناك عمر محدد للموت..
سطيف: 15/11/2014


هذا شعبي الذي أحب

بعد أن أكمل دورته السابعة حول القصر جريا توقف ملك العرش..تنفس بعمق..حرك يديه أعلى وأسفل كذا من مرة، وتنفس بعمق أمتع مرة أخرى..
تأمل السماء، كانت زرقاء..تأمل ما حوله، كان الاخضرار الندي يمتد بعيدا بعيدا..
سار إلى الحائط الشرقي للسور الواطئ..نظر،كانت الشمس ترتفع عن الأرض بمقدار الشبرين..لم يكن هناك أحد..
قال: ما زال شعبي نائما..
إلى الخلف دار..إلى الحائط الغربي للسور توجه، كانت الشمس قد بدأت تلوح في الأفق خجلة تغالب النعاس..كان الناس جماعات جماعات ،إناثا وذكورا يجرون مبتهجين..
قال: هذا شعبي الذي أريد.. هذا شعبي الذي أحب..
إلى الخلف الآخر عاد..دخل القصر..أفطر..قرأ فصلا من رواية كثيرة الفصول..فتح يوميته وسجل بعض ملاحظاته..وخرج..
إلى السور الشرقي سارت به رجلاه..كان الناس قد بدأوا يخرجون من منازلهم متثائبين..فرادى وجماعات كانوا يمشون..الذكور وحدهم والإناث وحدهن..البعض يواصل سيره..البعض الآخر يختار مكانا ما جنب جدار ما ويجلس مثرثرا..البعض الثالث يعود القهقرى إلى المنازل..النساء متلحفات بالسواد أو بالبياض كن..والريح كانت حارة خانقة كما أناس ذلك المكان تماما..
في اللحظة التي استدار ليتوجه إلى الحائط الغربي للسور سمع الصيحات المتوهجة الصاخبة: نفذ خبزنا سيدنا الملك..قل ماؤنا..جعنا وعطشنا.. بركاتك ايها الملك..
آمرا خدمه ، قال الملك: اعطوهم ما يحتاجون..اعطوا أيضا شعبي في الجهة المقابلة ما يحتاج..
أخرج الخدم الكثير من أكياس القمح والشعير ووزعوها على الناس الذين كانوا قد بدأوا يشكلون صفوفا متراصة مضطربة هائجة..وملأوا قربهم ماء..
وصل الملك الحائطَ الغربي..نظر..كان الناس ينتشرون في الحقول فلاحين يعملون بجد ونشاط..وفي المصانع الصغرى والكبرى عمالا لا وقت لهم للتهاون..لا أحد كان ينظر جهة القصر..لا احد كان يصيح طالبا بركات الملك..
رأى الورود البهية تعانق شرفات المنازل..رأى الشوارع واسعة نظيفة.. شاهد بالقرب من السور فتيات يسرن فرحات..تأملهن..
يا لجمالهن ،قال متعجبا سعيدا..
رأى النسائم تعانق شعورهن فتشكل منها موجات موجات ..رأى أطفالا قليلين وطفلات قليلات جدا ..بصعوبة بالغة كان يميز بينهمن..رأى حقول القمح موجات موجات ..رأى مياه البحيرات موجات موجات..رأى الأشجار موجات موجات..احتضنته الموجات بعمق..صفق ..
يا للروعة ، علق مندهشا..
لا حت منه التفاتة إلى اليسار قليلا ،رأى فتاة تحضن فتاها..رآهما في قبلة عميقة وصلت انفاسها الثرية إلى أذنيه وقلبه..
كرر: هذا شعبي الذي أريد..هذا شعبي الذي أحب..و..
كالعادة نهض باكرا..ريَّض ..أفطر..قرأ فصولا أخرى من رواية أيامه تلك..
وراء الحائط الشرقي للسور أرسل عينيه..نفس ما رآه أمس..ابتأس كثيرا ..وراء الحائط الغربي أرسل عينيه ..رأى الجديد المتألق أقواسا قزحية.. فرح كثيرا كثيرا ..
حدث الأمر نفسه في اليوم الثالث..في اليوم الرابع..في السابع.. كانت الأصوات النائحة تزداد حدة وكثرة كل يوم، وفي كل وقت..لم يعد في استطاعة الملك النوم..ما إن يغمض جفنيه حتى يسمع الأصوات الجماعية النائحة: يا ملكنا المعظم،يا مولانا المبجل ،نفد طعامنا ونضب ماء قربنا، أغثنا بخيراتك يا سيدنا..
أيتها الحجارة انطحني وكوني إسمنتا..أيها الرمل جئني..انطحنت الحجارة وأسْمنَت وجاءت..وجاء الرمل سريعا..
أخلطي الرمل والإسمنت أيتها المياه..كوني طوبا..وكان الطوب فوق بعضه يصطف كثيفا..
كن أيها الحائط الشرقي أعلى أعلى..وكان الحائط أعلى أعلى..
وراحت الأصوات تبح وتضعف تدريجيا، حتى اختفى نواحها ولم تعد آذان الملك وأعوانه تسمعها..
مد الملك ذراعيه يمينا وشمالا..آآآآآآآآآآآآآآآآآآه..تنفس بعمق أشد أشد..
ضعوا عرشي مقابلا للحائط الغربي، قال آمرا خدمه..وكان العرش كما أراد..
***
في إحدى دوراته الصباحية حول القصر خطر شعب الحائط الشرقي بباله..من فوق السور أطل على أناسه..كانوا شبه نائمين..كانوا متعبين، متعبين..
أيقظ الذي رآه من كانوا حولَه..أيقظ الذين كانوا من حوله من حولهم..وهكذا..
ناح الجميع باكين مشتكين هامسين بصوت واحد: سيدنا الملك المفدى، قل طعام عيالنا..نضبت مياه قربنا..عطشنا وجعنا..عطش أطفالنا وجاعوا..كرروا وكرروا وكرروا..لكنهم لم يفعلوا شيئا..
رق قلب الملك لحالهم..قال آمرا خدمه : أعطوهم بعض ما يعيدهم للحياة..آخر مرة..كرر: آخر مرة..
في اليوم الموالي وقفوا جميعا جنب الحائط..
وكان الملك مارا حين سمع أصواتهم النائحة من جديد: يا ملكنا المبجل، يا مولانا المعظم ، أغثنا بخيراتك ، أغثنا يا سيدنا.. نفد الدقيق في مزاودنا..نضب الماء من قربنا..
ولم تسمعهم آذان الملك وأعوانه..لم ترهم عيناه وعيون الأعوان..
منشغلا بما كان يرى عليه شعب الحائط الغربي كان..
هذا شعبي الذي أريد..هذا شعبي الذي أحب..كرر، كرر، وكرر..
وما زال حتى اللحظة يقول فرحا: هذا شعبي الذي أريد..هذا شعبي الذي أحب..

سطيف:21/11/2014




وسارت الشاحنات القزحية أيضا...

حين وصلت مسيرات (كلنا مع محمد) القادمة من كل الجهات إلى الساحة توقفت..حمدل حمداش وبسمل وفي الجهة المقابلة له بسمل بلحاج وحمدل أيضا و..
تفاجأ الناس برجل طويل القامة يحفه البياض من كل الجهات يقف وسط الساحة..كيف جاء؟ من أين جاء؟..لا احد يعرف..كل ما يذكرونه أنهم رأوه يقف وسط الساحة ويمد ذراعيه أمامه بشكل مائل ويرفع عاليا عصاه الحمراء..
قال بعضهم: إنه الواحد..وأيد آخرون: فعلا ، إنه رقم الواحد..
مسح الرجل الأبيض الجميع بعينيه الوقادتين..تبسم ثم قال: أيها الرجال، أيها الشباب ، أيها الأطفال، أيتها الـ..و..
توقف..كان يريد أن يقول:أيتها النساء، أيتها الفتيات، أيتها الصبيات..لكنه لم ير ولا أنثى..
تبسم مرة اخرى ، وأعاد: أيها الرجال، أيها الشباب، أيها الصبيان، لقد أنهيتم مسيراتكم ، شكرا لكم..عودو الآن إلى أحيائكم فنظفوها، وإلى قراكم فأزيلوا ما تراكم في أزقتها وساحاتها من أوساخ..و..
كان هنا وطار..أين ذهب؟..كيف ذهب؟..لا احد يدري..فقط، كلماته بقيت ترن في آذانهم....
حين تحركوا فوجئوا بما لم يكن في الحسبان أبدا..كانت الشاحنات بألوانها القزحية تتقدم نحو الساحة..في الوسط توقفت..كانت عارية العربات..أصيب الناس بالدهشة وهم يرونها مليئة بالجثت المغطاة بأبيضها الناصع..
صعد حمداش واحدة..قرأ الجثث..صاح: كمال داود..وفرحا أكمل: أحمدك يارب، لقد انتقمت لي منه..نظر حول الجثة، رأى رواية كمال داود (مارسو، تحقيق مضاد).. اعوذ بالله من الشيطان الرجيم..حملها ورماها في الفضاء..واحتار الناس وهم يرونه في الفضاء معها..سقط حمداش على وجهه، وعادت الرواية إلى مكانها..
صعد سلطاني الثانية، قرأ الجثث أيضا..أدونيس؟..متَّ يا ادونيس؟..رمى كلماته في الفضاء: ها قد انتقم الله من أدونيس..أدونيس مات أيها الناس..نظر حول الجثة كانت مؤلفات ادونيس..حمل الثابت والمتحول ورماه..
وكحمداش سقط على وجهه فيما عاد الثابت والمتحول إلى مكانه..
حدث نفس الأمر لبلحاج في الشاحنة الثالثة حين رمى محنتي مع القرآن لعباس عبد النور..
وفي الوقت الذي كان الناس ينظرون إلى بعضهم البعض حائرين متسائلين وقفت الجثث بأكفانها وفي يد كل جثة مكنستها..هاج الناس وماجوا ومرجوا..تزاحموا خوفا وهلعا..
لا تخافوا، قال ابن رشد..
إلزموا أمكنتكم يا إخواني وأبنائي ،أضاف الخليفة عمر بن عبد العزيز..
قرأ الناس: أبو ذر الغفاري، غيلان الدمشقي، المعري، الحلاج، مهدي عامل ، فرج فودة،محمود طه، هادي العلوي، عبد الله القصيمي ،محمد أركون، عبد القادر علولة ،بختي بن عودة ، الطاهر جاووت، يوسف سبتي، نصر حامد ابوزيد..و..و..
قرأوا ايضا: هدى شعراوي ،وفاء سلطان، نوال السعداوي، فاطمة ناعوت..و..و..
وفوجئوا أكثر حين رأوا المعري ينزل ويتوجه إلى قمرة قيادة الشاحنة الأولى..رأوا أيضا بشار بن برد وطه حسين يتوجهان إلى قمرتي قيادة الشاحنتين الثانية والثالثة.. وتحركت جثث السائقين إلى الشاحنات الأخرى
هؤلاء عميان، كيف يسوقون ؟.. قال الناس لبعضهم البعض هامسين حائرين..
اصعدوا يا إخواني وأبنائي ، قال حسين مروة بصوته الجهوري الأبوي..
كرر: اركبوا ، ستتحرك الشاحنات بعد قليل، اركبوا..
تقدم بعض الشباب..
لا تركبوا ،صاحت لحى سوداء وبيضاء..
هؤلاء زنادقة وملاحدة ، قالت أخرى..
اللعنة عليهم، أضافت ثالثة..
تعوذ الشباب ساخطين..تراجعوا .. لم يركب ولا أحد منهم ..
رفعت الجثث الحية أياديها مودعة الأجساد الميتة الثابتة في أماكنها ..زغردت جثث النساء بينها.. وصدحت ( موسيقى الحوت الأزرق )..
ومشت الشاحنات مشكِّلة مسيرتها القزحية الرائعة..
***
وكان الظلام قد عم المكان وناس المكان حين لاحت ( نجمة) في الأفق البعيد..

سطيف: 19/01/2015







ونام الليل سعيدا

فرح الليل عميقا وهو يرى السحب الكثيفة تغزو سماء المدينة..
قال: سأنام الليلة على وقع زخات الأمطار وأصوات الرعد..سأنام سعيدا..
تمدد على الأسطح المنزلية والمؤسسات ..على الشوارع الطويلة الفسيحة والأزقة الضيقة..وأغمض عينيه الحالمتين..
كانت الابتسامة تعلو شفتيه..وكان السكون البهي يعانق الروح فيه..
كرر: سأنام الليل هانئا، حالما، سعيدا..سأحضن ليلتي وأنام..لكن الأضواء اللعينة اشتعلت شمسا أخرى تأتي من كل الجهات..في المنازل أضاءت..في الشوارع..في الحدائق..في..في..و..
فر النوم من عيون الليل الكثيرة..
صار الليل ساهرا حزينا..
مرت الريح ، فاجأها حزنه الشديد..
لماذا كل هذا الحزن أيها الليل الرفيق؟..سألته حائرة..
مر الرعد وٍرأى حالة الحزن التي كان عليها..ما هذا الحزن يا ليلنا؟ سأله أيضا.. سحابات كانت تعبر السماء وجدران كانت هائمة سألته: ما بك ايها الليل الطيب؟ هي الأضواء كما ترون يا أصدقائي..إنها من يحرمني النوم..أجاب تائها..
***
قالت الغيوم الكثيفة للبرد : اشتد أيها البرد..اشتد أيها الصديق الوفي..واشتد البرد..
قالت الريح للغيوم: أيتها الحبيبة انهمري ثلوجا غزيرة..وانهمرت الثلوج، وتراكمت كما لم تتراكم من قبل أبدا أبدا..
ورأت الرياح والغيوم والثلوج والرعد والليل الأضواء وهي تنطفئ تباعا..
شكرا لكم أصدقائي الحقيقيين، شكرا لكم ..حيَّ الليل الجميع..ونام سعيدا سعيدا..
نام الناس والحراس..
وأيضا نامت المآذن والأجراس..

سطيف:26/02/2015










هكذا شهقت الأرض

استيقظ البحر فجرا ..فتح ببطء شديد عينيه، كان النعاس ما يزال ملتصقا بهما..تمطط، مد أمواجه إلى آخرها..لم تصل الأمواج إلى الصخور التي ألفت عناقها كل صباح..عادت إليه بسرعة عجيبة..
فتح عينيه عن آخرهما..لم ير الصخور..لم ير الأعشاب..فقط، ،وحدها الأشجار كانت في مرمى بصره..
تأمل الأشجار جيدا،بدت له ذابلة مرتخية..تأمل الأنهار أيضا، كان ماؤها شحيحا..
مندهشا وقف..رأى الصخور حزينة..النوارس التي عودته على الانتشاء بزقزقاتها ورفيف أجنحتها لا تحوم في سمائه..ما الذي حدث؟..ما الذي يحدث؟ تساءل..
استيقظت الأنهار أيضا..حدث لها نفس ما حدث لبحرها..لم تر الطيور تحوِّم في سمائها..لم تسمع أصواتها..تساءلت أيضا: ما الذي حدث؟..ما الذي يحدث؟..
الجبال تساءلت أيضا حائرة..
استيقظت الرياح فجأة..مدت بأجنحتها إلى الجهات..رأت ما لم تألف رؤيته..كل ما حولها كان حزينا..البحر حزين..الأنهار حزينة..الأشجار..الحقول..الجبال..
تأوه البحر فكون غيمات قليلة ضعيفة..حملت الرياح الغيمات الضعيفة..فوق الأشجار والحقول والأنهار بكت الرياح..دمعات ساخنة قليلة نزلت..تساءلت بدورها: ما الذي حدث؟..ما الذي يحدث؟..
بزغت الشمس ذابلة الاصفرار..رأت خلاف ما تعودت على رؤيته كل إشراق جديد..تساءلت هي الأخرى: ما الذي حدث؟..ما الذي يحدث؟..
بكت الأرض..مدت أنينها آهات حزينة لم تألف الكائنات سماع مثلها أبدا، أبدا..شهقت أغنية حالكة الرجاء ..مزقت الأغنية الفضاء:
لم يبق لفاهي غير النار..
قتل الإنسان الأعشاب الخضراء ..
سمم هذا الماء
سمم ريحي، أيضا سمم هذي الكلماتْ..
مص الغاز الصخريُ دماء ..
صار عماء ..
استيقظ الإنسان أيضا..كان ثقيلا ثقيلا..مد بصعوبة بالغة أذرعه في الجهات،عادت إليه مرتخية متعبة..تنفس، ضعيفا كان تنفسه..
ما الذي حدث؟..ما الذي يحدث؟..تساءل أيضا..و..راح في ثقل نعاسه متعبا حزينا..

سطيف:15/03/2015


الحوت
ق ق ج
لم تنتبه المرأة التي كانت تغسل أسماكها البيضاء بماء البحر على الشط إلى الحوت وهو يزحف نحوها ويلتهم تلك الأسماك تباعا ويصدر صوته المخيف ..
مذعورة فرت المرأة ناسية على الشط صغيرها الذي كان يبني بالرمل ما جادت به قريحة أحلامه..
زحف الحوت الأبيض ذو الوجه البشري نحو الطفل وابتلعه أيضا..
أخذت الأم المفجوعة في ابنها تبكي بحرقة وهي تتقدم نحو الحوت صارخة لاطمة وجهها ..
حملنا نحن الذين كنا قد حطمنا أبواب السجن الحديدية وخرجنا ورأينا المشهد بالصدفة الحجارة وهجمنا على الحوت..
في عمق البحر كان الحوت يغوص..
والمرأة كانت تموت..
ولم تترك لنا الحيتان الزرقاء والبيضاء والسوداء والخضراء والوردية و..و.. التي حاصرتنا من كل الجهات وزحفت علينا سوى جهة السجنِ..
وكنا في السجن من جديد..
أغلقنا الأبواب الحديدية خائفين ،ألصقنا أجسادنا المرتعشة ببعضها..
وحين هدأت الحال رحنا نستجدي النوم الطويل الطويل..
ونمنا عميقا..




...أنا...
... تعثرت ساقطا وتدحرجت على السفح..
صاح الناس وقد وصلهم جسدي إلى الأسفل الجبلي، بعضهم: تستاهل، رأسك غليظة ..بعضهم الآخر: نصحناك ألف مرة لكنك لم تستجب لنصائحنا..بعضهم الثالث: صعد قبلك كثيرون، وتدحرجوا جميعا ، ولم ير أحد منهم ما خلف الجبل.. فمن تظن نفسك أنت يا ترى؟..
كانت قطرات الدم تتساقط مني، من أنفي ورأسي وأعضاء أخرى من جسدي..
بصعوبة وقفت..نظرت إلى القمة الجبلية ..وبدأت الصعود من جديد..
مجنون والله، قال الجميع وتفرقوا ضاحكين مستهزئين..
***
كان المؤذن يصيح: حي على الفلاح ، حي على الفلاح..
وكنت أصيح: حي على الصباح، حي على الصباح ..
دموع الدينار الغزيرة
قالت قطعة المئتي دينار للدينار الذي كان يجلس وحده : لماذا تجلس وحدك أيها الدينار حزينا تائها هكذا..انضم إلينا ..تعال..
سعيدا تحرك الدينار نحو قطعة المئتي دينار..حاول الدخول ولم يدخل..كرر المحاولة أكثر من مرة وفشل في الدخول..الدائرة اللعينة وقفت له بالمرصاد..و..عاد إلى وحدته يائسا تعيسا..
قهقهت قطعة المئة دينار: ما أغباك أيها الدينار،كيف تصورت أنه يمكنك الانضمام إلى المئتي دينار؟....
صاحت قطعة الخمسين دينارا:غباؤك لا حد له أيها الدينار..
مثلها علقت قطعة العشرين دينارا وبقية القطع الأخرى..
نزلت دموع الدينار غزيرة فأحرقت أسفل جيب معطفي..
تدافعت القطع محاولة الإمساك بالدينار حين رأته يسقط..و..
سقطت كلها..
***
حين وضعت يدي في الجيب لأدفع للخضار ثمن البطاطا التي كان قد وضعها في الكيس الأسود لم أجد شيئا..ورأيت أصابعي تطل من أسفل الجيب وعرق الخجل يغسلها..
نظر الخضار إليَّ باحتقار ومد يده إلى الكيس الذي كان معلقا بأصابع يدي الأخرى..
(هات البطاطا هْنا)..قال..
سطيف: 23 جوان 2015



نعمة
ق ق ج
لم تعد نعمة تحبنا يا أمنا ..شعرها الذي كنا نلاعبه كل صباح وكل مساء غطته ..صار التيه موعدنا كلما توجهنا إلى حيث هي هناك..قالت النسائم لأمها الريح..
الأشعة قالت لأمها الشمس: غطت نعمة وجهها..لم نعد نقبِّل وجنتيها الخوخيتين وعينيها العسليتين وشفتيها الكرزيتين، كما تعودنا في كل الأوقات..
غضبت الريح وانطلقت مدمدمة وهي ترى حزن نسائمها..
أشتعلت الشمس أكثر وأرسلت أشعة حارقة لا حصر لها..
ومعا حركتا البحر والرمل ..
انطلقت الزوابع الرملية ..كانت نعمة في الشارع فطار غطاء رأسها عاليا وتاه في الفضاء..نقابها أيضا حملته الزوابع بعيدا..
الغيوم التي غطت السماء أرسلت أمطارها الغزيرة حيث كانت نعمة تقف ضائعة واضعة كفيها على شعرها ووجهها من شدة الخجل..صار جسد نعمة شبه عار وقد تبللت ثيابها بالكامل..
هدأت بعدها الريح وتوقفت زوابعها..
الأمطار أيضا توقفت تماما..
تلمست نعمةُ شعرها..كان نظيفا تداعبه النسمات..
نظرت إلى الثوب الذي على جسدها..كان نظيفا أيضا تعانقه أشعة الشمس الدافئة.. أحست بالكثير من الغبطة..ابتسمت بعمق ورفعت ذراعيها عاليا..راحت تدور على نفسها شبه راقصة..
اجتمع الناس حول جسد نعمة..سافرة ،فاسقة، قالوا..
رفعت رأسها نعمة..رأت عيون الشهوة تحاصرها بشدة، ومن كل الجهات..
خجلت من نفسها..ومن تلك العيون أيضا..
بكت بحرقة ..وسارت في الطريق..



الماء
نظر الماء عميقا إلى نفسه..سأنظفني ،قال..
قاذورات البشر وحيواناتهم ونفايات منازلهم ومصانعهم حاصرتني من كل الجهات..من فوق ومن تحت أيضا..
وجهي الذي كان صافيا يتلألأ بالزرقة السماوية صار داكنا وغريبا..حيتاني نفقت..أعشاب ضفافي اصفرت وماتت..
ألقى الماء بحزنه على الأشجار: أيتها الجارات ساعدنني..أكاد أختنق..قلن لي ماذا أفعل؟..
نظرت الأشجار في استغراب إلى بعضها البعض.. ودفعة واحدة قالت كلها: أيها الجار الحبيب أفضالك علينا لا حد لها.. منك ارتوينا..وبرذاذك زهت أوراقنا وتمايلت أغصاننا ذات اليمين وذات الشمال بهية سعيدة..
أضافت: كان ذلك فيما مضى ، أما الآن فأنت ترى تشقق جذورنا وذبول أوراقنا ووهن أغصاننا..
أكملت خجلة: ليس في مقدورنا فعل أي شيء لك أيها الحبيب.. قالت ذلك ونزفت كثيرا كثيرا من الدموع الحارقة..
استغل الماء مرور الريح: صباح الخير أيتها الريح الصديقة..
صباح الأمل أيها الماء الصديق..
حزني لا حد له أيتها الريح.. لا امل..لا أمل..
أدرك ذلك ، قالت الريح.. أعرف ما أنت عليه منذ زمن بعيد..
ماذا ترين أيتها الريح.. تحملت كثيرا، لكن الكيل طفح؟..
فكرت الريح طويلا.. لا شيء أرى..شهقت نائحة..وسارت بعيدا..
سأل الجبال..لم تتكلم الجبال..لم تتحرك..
سأل الأرض والسماء.. لا شيء، قالتا معا..
سأل الإنسان.. قهقه الإنسان ورمى المزيد المزيد من أوساخه..
رفع رأسه إلى السماء مرة أخرى: أيها الإله العادل، ماذا أنت فاعل؟..
قالت الشمس: أرى..
***
أرسلت الشمس الأشعة تتبع الأخرى والأخرى تتبع الأخرى..
فرح الماء كثيرا وهو يرى تفسه يطير بخارا في السماء..
وفي علوه ذاك رأى الأرض..
كانت الأرض جفافا وهباء.. ***
تنهدت الأ رض عصافير عطشى وحيوانات تائهة وأشجارا لا خضرة فيها ..
كانت الأرض طوفانا ودماء..







بشرا صارت الحيوانات

استيقظ الناس على ما لم يكن في حسبانهم أبدا، أبدا..رؤوس بشرية وأجساد حيوانية..الأبقار والخيول والأحمرة والذئاب..الأغنام والماعز والإبل والذئاب..
امتنع الجزارون عن الذبح..تساءلوا: هل يجوز الذبح أم لا؟..
سُر الفقراء كثيرا وهم يرون الأغنياء مثلهم، لا لحم لهم..
لم تعد المطاعم تقدم إلا الماكولات النباتية والبحرية غالية الأثمان..
وقفت المجامع الدينية ودور الإفتاء والبرلمانات والمجالس الحكومية على رؤوس أصابعها.. دخل الفقهاء على الخط مباشرة..بعضهم أفتى بتحليل الذبح :لو كان الله يريد لا ذبح الحيوانات لجعلها بشرا كاملين..البعض الآخر أفتى بتحريم الذبح : لو كان الله يريد ذبح الحيوانات ما جعل رؤوسها بشرية أبدا..أرشى الأغنياء فقهاء التحريم فانضموا إلى المحللين..و..
حدث ما لم يخطر على البال أبدا أبدا..الحيوانات ترفض ذبحها..لا فرق بيننا وبينكم أيها البشر المعتدون..تذهبون إلى الأسواق جماعات جماعات ونذهب مثلكم..تعملون لتأكلوا وتعيشوا ونعمل مثلكم لنأكل ونعيش..تذهبون إلى المساجد زرافات ووحدانا ونذهب نحن إلى المراعي زرافات ووحدانا.. تولدون وتلدون ونولد ونلد..تموتون ونموت..ما الفرق بيننا وبينكم أيها البشر الظالمون؟.. نحن لا نظلم وأنتم تظلمون ، لا نغش بعضنا، وبعضَكم تغشون ، لا نرتشي وترتشون ،قالت الأبقار والأغنام والماعز والكلاب..وتقتلون حتى بعضكم البعض، أضافت..
نحن نسمِّد الأرض وأنتم تلوثونها وتخربونها وتقلصون من خضرتها وبهائها،قالت الأحمرة والجمال والخيول والذئاب ..
امتنع الجزارون مرة أخرى وهم يرون الحيوانات تتكلم ..تألموا كثيرا وندموا على ما اقترفوه سابقا في حقها وهم يسمعون حججها الدامغة..
ومرة أخرى تدخل الفقهاء وانقسموا..وتوحدوا أخيرا، وحللوا الذبح : لم يبق لعيد الأضحى إلا شهران، الأضحية سنة مؤكدة، هل نتخلى عنها؟..البشر من أكلة اللحوم، واللحوم ضرورية لهم، كيف يمكننا التخلي عنها إذن؟..
اجتمعت الإبل والأبقار والأغنام والماعز ، حضرت اجتماعها الخيول والأحمرة والذئاب والكلاب، وقرر الجميع أن لا ذبح..وليكن ما يكون..
اجتمعت المجالس الحكومية والبرلمانية وقررت أن لا مراعي للحيوانات..أحرقت الحصائد والأراضي البور..
زحفت الحيوانات على البساتين وحقول الخضروات..
هاج الناس ومرجوا..ماذا نفعل ؟ تساءلوا..
الرصاص الرصاص أشار البعض..وكان الرصاص..
لم تقف مكتوفة الأيدي الحيوانات..عززت من حراستها..من يطلق رصاصة مصيره الموت بهذه الكيفية أو تلك..يطلق الناس الرصاص نهارا..صباح اليوم الموالي يكونون ميتين..
التخدير، أشار الأطباء والصيادلة .. من يُخدِّر نهارا صباح اليوم الموالي يكون ميتا..
الجيش والأمن إذن، اقترح الناس..
جماعات جماعات كان الجيش والأمن يتحركان في السهول والحقول والغابات..
بوغت الكثير من أفراد الجيش والأمن وماتوا بأرجل وقرون الحيوانات..
استغلت داعش الفرصة وضربت ضربتها..وعادت الجيوش إلى قواعدها لمواجهة داعش والأخريات..
استغل اللصوص الفرصة وأفرغوا الكثير الكثير من المحلات والمؤسسات ..و..عاد رجال الأمن إلى مؤسساتهم لمواجهة اللصوص وحماية المحلات والمؤسسات والمستشفيات..
فرحت الحيوانات كثيرا وهي ترى نضالها وقد أثمر المعجزات..
أطلقت إناث الخيول شعورها السوداء والشقراء..العنزات مشطت شعورها..كحلت عيونها البقرات.. وأكثر أكثر تبرجن كلهن..سارت الإناث جنب الذكور ورأى الناس منها قبلات الحياة..
احتج الناس..هرجوا ومرجوا أكثر..انتصبت قضبان الشباب ونهود البنات..انتشر التحرش الجنسي بشكل لم يعرف له مثيل من قبل أبدا، أبدا..
صاحت المساجد مستنكرة بحدة تلك التصرفات..
الإذاعات، التلفزات ، الصحف، الإنترنات ،كلها استنكرت أيضا..
إناث الحيوانات ملزمة بالتوقف عن تبرجها..ملزمة بارتداء الخِمارات ..ملزمة باحترام الرأي العام والتقاليد والعادات..
لابأس ، قالت الحيوانات..نحن إذن بشر مثلكم..نريد الوضوء والصلاة..
جنت الحيوانات ،قال الناس..
رفض الفقهاء الفكرة..لكنهم عادوا وخضعوا أخيرا لإرادة الحيوانات.. تصلي الإناث مع الإناث البشرية، والذكور مع الذكور..
كيف تتوضأ الحيوانات؟ تساءل الفقهاء..وجاء الرد: نستورد لوضوئها الآلات..
بعد شهور من ذاك اجتمعت الحيوانات..تعلمنا الكثير الكثير..حفظنا الكثير الكثير من الأحاديث والآيات..وكلنا قطيع..تنامون أثناء أعمالكم وننام أثناء أعمالنا، تجترون ماضيكم ونجتر ماأكلنا، ترمون أو ساخكم في كل مكان ونرمي أوساخنا في كل مكان ، لم لا يكون منا أئمة إذن مثلما هو حال أئمتكم أيها البشر؟..
ومرة أخرى وبحدة أكثر احتج الناس ورفض الأئمة والفقهاء..
اقبَلوا أن يكون منا أئمة مثلكم، أو لن نعطيكم حليبنا وجلود موتانا وصوفهم وشعرهم ووبرهم، قالت الحيوانات..
ورأى الناس على المنابر أئمة حيوانات..
سطيف: 14/07/2015





من طرائف جدتي

1-الضب
لويت دَرَّة الضب ( ذيله) وأخرجته من غاره..
استغل الضب فرح انتصاري على إرادته فالتفت إلى أصابع يدي وعض بقوة على أحدها..
عملت المستحيل من أجل فتح فمه وإنقاذ أصبعي ، دون جدوى..
- ماذا أقعل لإنقاذ أصبعي ؟ قلت لجدتي التي كانت تقف قريبة مني..
- لن يفتح الضب فمه حتى ينهق الحمار في المسيلة، أجابت..
قلت ضاحكا – رغم ألم أصبعي - : داخل المدينة ام خارجها؟..
يا داخل..يا خارج، ردت ضاحكة
2- بولكَّاز
قالت أمي وكانت حينها تكنس أرضية البيت الطيني الترابية: من أين جاء هذا البولكاز الأسود اللعين؟
فتحت فاها جدتي: سمعت قبل قليل ارتظام شيء ما بالأرض..
- تقصدين بولكاز ؟ سألت أمي..
- ومن يكون غيره يا ابنتي. أجابت جدتي..
ضحكتُ وضحكت أمي..
ومعا قلنا:نعم، بولكاز..هو بولكاز بالتاكيد
3-النمِّيَه بنت النميه
وسط حقول الشعير كنا..جدتي فوق ظهر الأتان ، وخلفها كنت أسير..
فاجانا عبد القادر بن سي محمد، وكان شابا مستهترا بعض الشيء، ولا يعرف الخجل من النساء طريقا إليه..
مشى الشاب عبد القادر جنب الأتان..
- بمن تزوجت يا جدتي رقية؟..سألها
- برجلين لا ثالث لهما: الحاج العلمي بن خالي كان زوجي الأول، وقد طلقني بعد ولادتي ابننا محمد مباشرة..زوجته الأولى وأم اولاده مسعودة بنت سي محمد حتمت عليه تطليقي..يا أنا ، يا هي..خيرته مهددة ..
استدركت: سي محمد أبوها لا سي محمد أبوك..هي ليست أختك ، أضافت ضاحكة..
الثاني كان الخوني سليمان بن عمر، وقد مات وتركني وأبنائي الصغار نتمرمد في هذه الحياة..
- غمزني وسألها ضاحكا: قولي الصح،ألم يمسك احد غيرهما؟
- احشم على روحك، يا النمِّية بنت النمية..ما هذا السؤال؟
- وحياة راسك يا جدتي رقية، قولي..لا حياء في الدين..
- لم يمسني أحد غيرهما، والله..و..
نقزت الأتان فانطلقت مسرعة تشق طريقها وسط الحقول.
ـــــــــــــــــ
- الضب: نوع من الزواحف الصغيرة، يتواجد بكثرة في منطقة الحضنة الجزائرية.
- بولكاز:نوع من العناكب.






حين ضاعت لام الحافلة
الفتى الذي جاء متأخرا قال: نسيت الطريق، وأشار إلى هناك..
الفتاة التي جاءت بعده قالت: نسيت قدميَّ هناك..
كانت الحافلة ما تزال متوقفة..محركها يشتغل، وباباها مفتوحان على مصراعيهما..
قال القابض : اصعدوا.. واحدا خلف الآخر،من الباب الأمامي..
وصعدنا واحدا خلف الآخر نحن الرجال والنساء..
الفتى لم يصعد..الفتاة لم تصعد ..
ماذا تنتظران؟ سأل القابض..اصعدا، بسرعة اصعدا، أضاف..ولم يصعدا..
الفتى كرر: نسيت الطريق هناك..الفتاة كررت بعده مباشرة: نسيت قدميَّ هناك..
سارت الحافلة في البدء بطيئة..وشيئا فشيئا زادت سرعتها..
كان الفتى ظلا يتقلص طوله تدريجيا..
الفتاة كانت شجرة تصغر قليلا قليلا أيضا..
مالت الحافلة يمينا ودخلت شارعا آخر..اختفى الفتى واختفت الفتاة..ولم نعد نرى إلا الجدران وزرقة الطريق..
الحافلة التي كانت تسرع السير أضاعت لا مها.. وتوقفت ..
وكنا ، حين حل الظلام،هناك على حافتي الطريق.. ولا ضوء لحافلة أخرى في الأفق البعيد..





شكرا لعيسى ابن عمي

عيسى ابن عمي مات ودفناه..منذ سنوات مات..
عيسى ابن عمي لم يمت..صرته..صرت عيسى..
قال السعيد بن الشيخ سي لمبارك، وكان يحَفِّظنا القرآن في الجامع: أقول لكم ماذا يدْرس تلامذة المدرسة؟..
قلنا جميعا: قل،سيدي.. قل،سيدي..
قال ياستهزاء بين: راهم يقراو (الزجار ذبحْ شةً) الجزار ذبح شاة..
أضاف: يقراو الْجاجة والفلوس ..ضحكنا..كثيرا ضحكنا ..
في العشية كنا نردد راقصين ونحن في الطريق إلى منازلنا الطينية : الزجار ذبحْ شةً، الزجار ذبح شة..الْجاجة والفلوس، الجاجة والفلوس..
نجلس على أشياء تسمى كراسي وأمامنا طاولات..رسموا لنا على الأرض كراسي وطاولات..أرونا ماسموه كتبا..في الكتب راينا صورا وكلمات وألوانا..رأينا زينة ومالك..رأينا الدراجة..رأينا المنزل القرميدي..رأينا أطفالا بألبسة زاهية..رأيناهم يبتسمون بحبور للحياة..
فجرا خرجنا ..في الحمَادة كنا..وسط حُفر المينة اختبأنا..
في المساء تلقينا الكثير الكثير من الركلات والصفعات..
فجرالغد عدنا إلى أحضان حُفر المينة..لم تنجح الركلات والصفعات في ثنينا ..نريد الالتحاق بالمدرسة قلنا..العمري والذوادي وبيبش وسعيدة وزغيدة يجلسون على الكراسي ..لهم كتب فيها صور جميلة وكلمات ملونة وأطفال يبتسمون..مثلهم نريد أن نكون..و..
فجرا آخر كنا في حفر المينة..
خاط أبي محافظ ثلاثا حمراء..علقت واحدة في عنقي..علق أخي وابن عمي محفظتيهما..
صباحا كنا في المدرسة..
قال مستقبلنا : سن هذين يسمح لهما ..هذا، وأشار إلي ، سنه لا يسمح له بالالتحاق بالمدرسة..
انكمشت على بعضي حزينا..
دخل أخي وابن عمي المدرسة مبتسمين..وعدت وأبي تائها سجينا..
لكنني في الغد كنت في المدرسة..عيسى ابن عمي صرت..عيسى ابن عمي لم يمت..مات جسده..اسمه ما يزال على قيد الحياة في الذفتر العائلي..
جلست على الكرسي..بلطف شديد أمسكت بالكرسي وجلست..الطاولة أمامي والكتاب البهي يفتح عيني على مصراعيهما ..بجانبي طفل لا اعرفه..أمامي أخي وابن عمي..
حاضر، قلت للمعلم وأنا أسمع اسم عيسى..
سطيف: 19/09/2015



كبش العيد
الكبش الذي رأى يد البائع تقبض على حزمة الأوراق النقدية ويد المشتري تمسح على رأسه، قال لأخيه الكبش باكيا: وداعا، لن نلتقي أبدا..أبدا لن نلتقي..
الكبش الذي لم يُشتر بعد بكى وتظاهر بالمرض..قال: لعل وعسى..
السكينة التي رأت ثمنها في يد بائعها ويد المشتري تمتد إليها فرحت ،قالت لأخواتها السكينات: سأشرب الدم وأتذوق طعم اللحم وأبرقت بلمعانها..
السكينة التي كانت أسفل السكينات عملت المستحيل من أجل ان تكون في الفوق..
قدر الغني تأففت وهي ترى جثة الكبش المسلوخ أمامها..كرهت اللحم قالت، سأتعب كثيرا..
فتحت فاها مبتهجة قدر الفقير وهي ترى زوجته مبتسمة تضع قطع اللحم النيء في بطنها وتضع التوابل فوقها..
الفقير بكى بغزارة حارقة وهو يرى الأوراق النقدية التي كان قد استلفها لشراء أضحية العيد تلتف على عنقه وتضغط ، تضغط بشدة عمياء..
سطيف: 21/09/2015






الموتى ينقذوننا

داهم النوم القمر، وارتعدت أسنانه من شدة البرد..
صاح مستنجدا: أيتها الريح الحبيبة غطيني..
جرَّت الريح الغيوم وغطته بها..
داهم النوم الشاطئ أيضا..وغطته الريح بأمواج بحرها..
الوادي غطته بسيولها..
داهم النوم الريح.. دوت الريح متثائبة: أيها القمر..وكان القمر نائما..
أيها الشاطئ..لم يستيقظ الشاطئ..
أيها الوادي..لم يسمع الوادي دوي ندائها..
أيتها الأرض..ولم تتحرك الأرض لها..
مضطرة صرخت: أيتها الشمس، قالتها بصوت خافت يتدفق خجلا.. ورأت الريح شمس الصباح تبزغ أشعة ذهبية ساخنة الخطى..
بكت الريح غيظا وأنزلت دموعها أمطارا طوفانية حارقة غطت الشاطئ والوادي والأرض، وصعدت بخارا كثيفا حاصر القمر فبدا تائها حزينا..
لم تكن الريح تنوي إيقاف دموعها، لكنها اندهشت وهي ترى الأموات يخرجون من قبورهم مستغيثين :امسحي دموعك أيتها الريح ، ليس لنا من مكان غير القبور.. سطيف:23/09/2015









أكياس القمامة تحكي

الديدان التي ولدت في كيس بقايا الطعام الموضوع أمام المنزل خرجت تباعا..لامست الأرض لأول مرة ، وتنشقت هواء الصباح المنعش..
الذباب حط بغزارة على الكيس..يا لها من وليمة، قال..وواصل غزارته..
الناموس حام فوق الكيس مزهوا ثم اندفع نازلا وتذوق لذيذ الطعام..
فتحت القطة السوداء في الكيس ثقبا ،أخرجت عظام الدجاج ومصمصتها..
بكى الكيس وهو يرى بطنه تتمزق..
قال الكيس الجديد للقديم: ما أنتنك..
قال القديم: انتظر، ستصير مثلي..
تأفف الثالث ..قال لهما معا: ما انتنكما..
تغامز الكيسان وضحكا..
الأكياس التي كانت تتراكم باستمرار شكلت هضبة..الهضبة أنجبت جرذانا وجرذانا..من هضبة إلى أخرى كانت الجرذان تتنقل سعيدة منتفخة البطون..
كان الناس يمرون تباعا، تباعا..رجالا يعبرون..نساء يعبرن..شبابا..شيوخا وأطفالا.. يعبرون مسرعين والمآذن ترفع صوتها ..
سعيدة جدا، قالت الروائح الكريهة..
شكرا لك أيها لإنسان، أضافت..
وكانت الأكياس ما تزال في أماكنها تحكي حين حل ظلام اليوم العاشر..والكباش كانت تبعبع في البيوت..

سطيف:23/09/2015




من ذكريات الجدار
ذاهلا وقف ..مد بصره بعيدا بعيدا.. الأفق الذي كان يعانقه انفتح على اللانهاية.. الريح التي رأته هبت سماوية الخطى.. والجدار الذي كان طللا نائما استيقظ خفيفا رهيفا ..
بسرعة البرق امتطى جداره..على الجانبين مد ساقيه..وحركهما..
رأى المبروكَ يحضن وجهها بكفيه..رآه يمسح بالكفين على خديها الورديين ..رآه يعيد الكفين إليه ويقبلهما..
لم تبتسم للمبروك..رحلت بعينيها السوداوتين إليه..بكفيها الناعمتين أبعدت المبروك عنها وبسرعة غاضبة دخلت الحوش..
الخطاطيف التي كانت تلون السماء بزقزقتها اقتربت كثيرا منه، ثم..رحلت بعيدا..الأفق الذي كان مفتوحا انغلق عليه..أغمض عينيه..مد كفه اليمنى على خدها الأيسر..كانت نائمة وسط الصغار..صغيرة هي أيضا..نزل برأسه..قبَّل شفتيها.. و..خرج مسرعا..
النايات كانت ما تزال تئن حنينا..الطبول ترقص والنساء أيضا..والرجال..
فتح عينيه..انفتح الأفق من جديد على اللانهاية..الريح صارت سوادا..والشمس التي كانت تحط على كتفيه نزلت إلى الأسفل..بحر الغروب كان يجذبها بشدة إليه..
من جديد أغمض عينيه..في الحوش جلست ..استمعت للزُّهرة وهي تحكي..طوال الليل تبكي ..يتسامر الآخرون..يضحكون وتموت..الشمعة ، قال..مبتسمة نظرت إليه..ببطء حركت ثوبها..يا لساقيها، قال في سره متلهفا..انسحب الثوب إلى ما فوق الركبتين ونام..
حرك ساقيه من جديد ..بيسراه لوَّح لها..بين ذراعيه كانت..تحت شجر الصبار الكثيف قشر لها بعض حباته..قشر جسدها..أكلت الحبات وأكل نهديها..و..
من بعيد كانت البندقية تصرخ : لن يتزوجها أحد آخر..ابن عمها أولى بها ..
بكى الجدار بحرقة غزيرة..تفتتت طوباته..
أظلم الحوش ومات الصبار

سطيف:10/10/2015









البعوض

ماذا أفعل مع هذه البعوضة اللعينة؟سألت البقرة نفسها حائرة..وكانت البعوضة حينها قد غرست إبرتها الحادة في جلد ظهر البقرة..
قالت البقرة: أيتها البعوضة المسكينة ، هناك مكان أحسن لك بكثير من ظهري ..
ما هو؟ سألت البعوضة..
فخذاي من جهة الداخل، ردت البقرة..أضافت: جلد فخذيَّ أقل خشونة بكثير من جلد ظهري..غيرت العبارة: أكثر رقة وغرس الإبرة فيهما سهل كثيرا كثيرا..
حركت البعوضة جناحيها وبشهية مفتوحة راحت تغرس إبرتها في فخذ البقرة الأيسر..
ببطء حذر قربت البقرة أيمنها من أيسرها..ثم..رمت بزبلها الكثيف الخاثر على فخذيها..
صاحت البعوضة: فعلتها بي أيتها البقرة، وراحت تغوص عميقا عميقا..
حدث للبعوضة الثانية نفس ما حدث للأولى..
الثالثة قالت: رأيت كل شيء أيتها البقرة..حيلك لن تنطلي علي، أبدا لن تنطلي..وراح البعوض ينتشر بغزارة على ظهر البقرة وبطنها..وعلى مؤخرتها أيضا..
ابتسم العربي الذي شده المشهد..ثم..سار في نفس طريق هزائمه إلى عدوه..
سطيف: 21/10/2015



أطفالنا لا يكبرون

الجنين الذي خرج من بطن أمه منذ ساعات قليلة رأى نفسه يقمَّط بعناية فائقة وينقل بين الأيدي بحذر شديد..واحمر خداه من كثرة القبلات..
الجنين الذي صار طفلا صغيرا جاع ووجد نفسه يبكي بحرقة شديدة ..
الأم التي سمعت بكاء الطفل أسرعت إليه ودست في فمه ثديها وهي تقول: لا تبك صغيري ، لاتبك..
ولم يكبر الطفل..سنوات طويلة مرت ولم يكبر الطفل..أطفال الجيران لم يكبروا أيضا..طفلات الجيران كذلك..ولم يتوقف البكاء أبدا..
اجتمع الجيران..اجتمعت الجارات..واجتمع الجيران والجارات معا..تكلموا وتكلمن كثيرا..استمعوا واستمعن كثيرا..
استشار الجميع الأئمة والفقهاء والدعاة. .
قال الأئمة : إرادة لله، ولا مفر من إرادته..
قال الفقهاء: قضاء الله وقدره، ولا راد لقضاء الله وقدره..
قال الدعاة: ادعو الله بقلوب خاشعة وسيستجيب..
دعا الجيران والجارات الله حتى ابتلت لحى الرجال منهم بالدموع ..وبقي الأطفال أطفالا..
بكت النساء كثيرا وهن يرفعن أيديهن إلى الله مستغيثات ..وبقي الأطفال يبكون ..
و.. بهت الجميع وهم يرون الأطفال الذين لم يتكلموا أبدا يصرخون: لن نكبر..أبدا لن نكبر..ماذ نفعل بالكبر ونحن نراكم تصغرون وتصغرون؟..ماذا نفعل بالكبر ونحن نراكم تتخاصمون وتتقاتلون؟.. لن نكبر حتى نراكم تنتهون..
وكانت السماء حينها ملبدة بالغبار، والأرض يحاصرها الصدى..
سطيف:22/10/2015


الخيمة

الصغير الذي حمل القادوم شرع يحفر ساقية دائرية حول الخيمة ويراكم التراب على أطراف ستائرها..
الأم التي رأته يفعل ذلك ابتسمت..صغيري كبر، قالت ومررت كفها اليمنى على رأسه بحنان عميق..
الأفق غيوم سوداء، قال الصغير..
يبدو أن مطرا غزيرا سيهطل ، عقبت الأم ودخلت الخيمة ،وبسرعة عادت حاملة الفأس وراحت تحفر هي أيضا..
الأشجار التي كانت تصفق للعصافير وهي ترقص على أغصانها صار تصفيقها نواحا..
العصافير الني كانت تزقزق مبتهجة بدأت تغادر الأغصان زاعقة..
عادت النعاج القليلة إلى زريبتها..الأتان عادت إلى مربطها..
حمحمت الفرس الوحيدة ورفعت رأسها إلى السماء..رغت الناقة ورفعت رأسها كذلك.. الدجاجات قاقت ، نفضت أجنحتها ودخلت خمها خائفة متدافعة..
ذهلت الأم وهي ترى الغيوم وقد صارت أشد سوادا ، وتشاهد السواد وقد أبرق وأطلق العنان لرعوده.. واستعادت نفْسها حين بدأت قطرات المطر الأولى تنزل على جسدها شبه العاري ..
أمسكت يد الصغير وأدخلته الخيمة..وضعته وأخاه الأصغر بين أكياس القمح والشعير و بكل قواها أمسكت عمود الخيمة الرئيسي..
الناقة التي رغت ثنت أرجلها وزحفت على ركبها ودخلت خالفة النساء في الخيمة..مثلها فعلت الفرس ودخلت خالفة الرجال..
الناقة والفرس عضتا على الحبال الداخلية حتى لا تطير الخيمة بفعل الرياح القوية..
الخيمة التي قاومت كثيرا ولساعات سقطت أعمدتها تباعا وجثت بكل ثقلها المائي على الأم والأب الذي كان طريح فراش المرض،وعلى الناقة والفرس.. ***
بزغت شمس الصباح..
الذين كانوا يسيرون في الطريق المجاور رأوا امرأة تبكي وتخيط خيمتها الممزقة وتنصبها، ورأو صغيرين يساعدانها،ورأوا مندهشين ناقة وفرسا تشدان حبال الخارج حتى تنتصب الخيمة واقفة من جديد..
وشاهدوا متألمين جثة عيناها مفتوحتان في اتجاه الغيوم التي كانت تغادر نحو الشمال..
وطأطأوا رؤوسهم خجلا تحت سماء لا لون لها.
سطيف: 31/10/2013




في المتحف العمومي

المدينة ساحلية جبلية..
أوقفت السيارة ونزلت..على اليمين مني سارت زوجتي ..على اليسار مشى ولدي البكر..
كان المتحف العمومي مشرع الأبواب..فوجئت وأنا أدخل بصديقي علي الذي لم ألتقه منذ زمن بعيد..فتح علي ذراعيه وعانقني ومثله فعلت..هذه روجتي ،قال..وقلت: هذه زوجتي، وهذا ولدي..
كان المتحف يعج بالناس..على الأرض صفت مختلف الأواني والأدوات النحاسية والطينية .. التماثيل كانت محاطة بالزجاج..مجموعة من القوالب الإسمنتية المسلحة الضخمة والمستطيلة كانت تنتشر هنا وهناك..
فوجئنا برجلين ضحمين يتقدمان من أحد تلك القوالب ويشرعان في تكسيره..كانا ينزعان قضبان الحديد ويضعانها بشكل منتظم فوق بعضها قريبا من القالب..
استنكرت وصديقي ذلك الفعل..لكن استنكارنا ذاك لم يتجاوز حدود نظرنا إلى بعضنا متسائلين: لماذا يفعل الرجلان ذلك؟..لماذا لا يوقفهما مسيرو المتحف عن فعلهما ذاك؟..واتفقنا دون أن نتكلم على أنهما مأموران من إدارة المتحف أو من جهة أعلى منها بفعل ذلك..و..
لم نكد نبتعد عن الرجلين إلا بخطوات قليلة حتى سمعنا خلفنا الضجة..مسرعين استدرنا..صاحت الضجة: ماذا تفعلان أيها المجنونان؟.. ودفعت بعنف الرجلين بعيدا عن القالب..طار القالب وحوم في المتحف..فوقه وقف شابان ..قفز أحد الرجلين ولحق بالشابين..بشدة دفعهما هو أيضا وأسقطهما على الأرض المتْحفية..
اندفع القالب..حطم نوافذ الزجاج الجدارية وخرج..خلفه طارت القوالب الأخرى..
وقفنا مبهورين تائهين ونحن نرى ما كان يحدث..كيف طارت القوالب؟..لماذا هربت من المتحف؟..
رأينا الرجل الضخم يوجه القالب ويطير فوق البحر عاليا..رأينا القوالب مصطفة بإحكام خلفه..ضرب الرجل بقبضة يده القالب ..سقط النصف وبقي النصف الآخر..مثل ذلك حدث لكل القوالب الأخرى..كانت الأنصاف تسقط تباعا على القوارب الممتلئة باللاجئين على بعد مئات الأمتار من الشاطئ..كنا نسمع صراخ استغاثة اللاجئين..وكنا نرى القوارب تغوص في عمق البحر بعيدا.. نصف القالب كان يطير بعيدا في اتجاه الشمال..أنصاف القوالب الأخرى كانت تطير خلفه بانتظام عجيب..
وكان الظلام الليلي قد بدأ يحاصر المكان..
***
قال مدير المتحف:لجنة التحقيق قادمة، ماذا يمكنني أن أقول لأعضائها؟..وجه السؤال إلي وصديقي علي..أضاف: لقد شاهدتما كل ما حدث..ستكونان شاهدين رئيسيين..
قلنا: سنقول الحقيقة، لكنها الحقيقة غير المنطقية بالمرة..
وانتظرنا اللجنة.. وما زلنا..
سطيف:02/11/2015


المعطف


اشتاق المعطف الذي كان معلقا في الخزانة مع بقية ملابسها للأشجار وعصافيرها وللأرُصفة ونسائم صباحاتها، وللمحلات وواجهاتها..واشتاق أكثر لآخر كرسي لازمته في سنتها الأخيرة في المدرسة ..وأكثر أكثر لصديقاتها..
كانت خزانة الملابس مفتوحة..النوافذ أيضا..الوقت كان منتصف الليل تقريبا..
خرج المعطف من خزانته..مسرعا قفز..فوق إطار النافذة الأسفل كان..
نظر إلى الخارج ، كان الشارع خاليا من مارته ،والأضواء كانت شبه خافتة..
على الرصيف المحاذي للبيت وقف..نظر يمينه ثم يساره وسار..مر بشوارع عديدة..وقف متأملا واجهات المحلات المضاءة..عانق أغصان شجرات كثيرات..أيقظ الكثير من عصافيرها..
حين سمع بدء نداء الآذان عاد.. قال للريح: أيتها الصديقة ارفعيني إلى أعلى..خذيني إلى هناك، وأشار إلى النافذة..دخل الغرفة وعاد إلى مشجبه..
حذاؤها الذي كان قد استيقظ قبل دخوله سأله حائرا: أين كنت؟..قميصها أيضا سأله..جواربها..
حكى المعطف كل ما فعل..وصف كل ما رأى..
غضب الحذاء..القميص والجوارب وبقية ملابسها الأخرى غضبت..وابتسمت حين وعدها بأنه سيأخذها معه في جولة طويلة الليلة المقبلة..
بزغت شمس الصباح..احتضنت أمها الملابس وبكت..وكما تعودت رشها بالعطور كل يوم رشت ملابسها ..
انتظر المعطف والحذاء والقميص وبقية الملابس حلول الليل متلهفين..
في المنتصف الليلي تماما خرجوا..سارت الملابس خلف المعطف..شوارع كثيرة مرت بها..أشجار عديدة عانقت أغصانها وأيقظت عصافيرها..واجهات عدة وقفت أمامها وتأملت مافيها..وقْع الحذاء على الأرصفة كان خفيفا ..
قال المعطف: لنتوجه إلى مدرستها..قال الحذاء والقميص وبقية ملابسها: إلى مدرستها..
بشكل منتظم توجهوا إلى المدرسة..قسمها كان في الطابق الأول..أيتها الريح الصديقة خذينا إلى هناك، وأشاروا إلى النافذة التي كانت مفتوحة..
احتضنوا بشدة كرسيها..سمع الكرسي ما يشبه الشهقات..عانقت رائحة عطرها أنفه..شهق هو الاخر..
على وقع نداء آذان الفجر كانوا جميعا عائدين إلى المنزل..حملتهم الريح كما تعودت..ورشتهم أمها بالعطور كما كانت تفعل دائما..
منتصف اليلة الثالثة خرجوا..مروا بأماكن اخرى كانت تمر بها..جلسوا حيث كانت تجلس في الحديقة وشهقوا وهم يسترجعون جلوسها وضحكاتها مع صويحباتها..وواصلوا سيرهم بعد ان بكوا كثيرا..
قبل الخروج من الحديقة رأوها..تشبهها تماما ،قال المعطف..كرر الحذاء والقميص وبقية ملابسها: تشبهها تماما..
كانت الصبية نائمة فوق الكرسي القريب من باب الخروج..تقدم المعطف نحوها..لا مس جسدها..كان الجسد باردا..ألقى بنفسه على جسدها..أدخل ذراعيها في كميه ونام..مثله فعلت الجوارب، أدخلت رجليها فيها ونامت..مثلهما فعل الحذاء، أدخل قدميها ونام..اختار القميص حجرها ونام ..بقية الملابس الأخرى نامت فوقه..
شعرت التي تشبهها بالكثير الكثير من الدفء الذي لم تعرفه من قبل وراحت تغوص عميقا في نومها..
حين استيقظ المعطف والحذاء والقميص والجوارب وبقية الملابس الأخرى كانت الشمس تلقي بأشعتها الذهبية على الكون ..وكانت الصبية تفرك عينيها..
نظرت الصبية إلى جسدها..كان المعطف..إلى ساقيها ، كانت الجوارب..إلى قدميها ، كان الحذاء..وقفت ، كان القميص وبقية الملابس الأخرى أمامها..
رفعت يديها مبتهجة..بدت الحديقة أمامها أجمل أجمل..سمعت غناء عصفوريا عذبا ..ورأت أوراقا شجرية تعانق معطفها..
سطيف:03/11/2015




أزهار حمراء

فوق الشجرة حوَّم العصفور..على الغصن الجانبيِ حط.. كان الجو صباحيا منعشا والندى قطرات تشربها الأوراق..
قالت معدة العصفور: أشتهي طعاما دسما..منقاره قال: أشتهي جسدا طريا..
وجه العصفور عينيه إلى اليمين، لا شيء..إلى اليسار، لا شيء..إلى الأعلى، لا شيء..إلى الأسفل، كانت الدودة ..
فرحا زقزق العصفور: أوووووه، يا لها من دودة..
حرك ببطء رجليه ..جائعة كانت الدودة تلتهم الورقة.. كانت في الجانب الأيسر من الغصن..
غرس العصفور منقاره في ظهر الدودة..آآآآآآآآح ، صرخت الدودة..رفع المنقار ليغرسه مرة أخرى..خارت قوى الدودة..في الأرض كانت تتلوى..
مسرعا كان العصفور في الأرض أيضا..
هههههه زقزق العصفور: لن تقلتي مني أيتها الدودة..
من جديد غاص المنقار في جسد الدودة..
القطة كانت تتأهب..سارت ببطء حذر..وعلى الجسد العصفوري رمت مخلبها..صرخ العصفور: آآآآآآآآآآآآآح..حرك جناحيه بقوة..المخلب كان أقوى..في بطن القطة كان العصفور وكانت الدودة..
رمى الطفل حجارته..شَجَّ رأس القطة..ماتت القطة..
بكى دم القطة ، وتجمد..بكى قبله دم العصفور، وتجمد ..قبلهما بكى دم الدودة..
في الغصن الآخر كانت دوده..
في الأعلى الشجريِ حوَّم العصفور..
في الأسفل كانت قطة..وقريبا منها كان الطفل يلم حجارته..
كان الدم أعشابا ،أزهارا حمراء تضم نداها..
سطيف: 04/11/2015

وطن بعيد

1
راقصا لوح بيديه الإثنتين في وجهه: هذه بطاقة إعفائي..عشرون مليونا فقط..ثم..
أقفل باب سيارته الفارهة وغادر مسرعا..
2
مسح بكفيه على التراب..قبَّل الشاهدة..قرأ الفاتحة بصمت عميق..وقال باكيا: وداعا أمي..
للبيت الطيني قال وداعا..
لشجرة فناء البيت والبئر المهجورة والكلب والقطة والحصى قال وداعا أيضا، ومشى..
مشى القبر معه..البيت الطيني والشجرة والبئر المهجورة والقطة والكلب والحصى كلهم مشوا معه..
3
كانت المدينة جبلا..ومتعبا صعد الجبل..الشوارع كانت شعابا..وسار كثيرا كثيرا في الشعاب حتى حفيت قدماه ،ولا عمل..الأزقة كانت كهوفا..وتسرب بينها حتى كل كاهله، ولا عمل.. 4
تحت الجدار العالي جلس ..كان منهك القوى ، يتضور جوعا..رأى كلابا وقططا..ورأى أكياسا ..نحو الكيس مشى..مد يده..كشر الكيس عن أنياب حادة مخيفة..تراجع..
إلى الكيس الثاني توجه..مزق الكيس، قطعة خبز يابسة كانت في يده..
من ثالثها أكل مالم بتعفن من حبة البرتقال..
إلى الجدارالعالي عاد ..كورالجسد الضامر في معطفه الأجرد ونام.. 5
بعد المنتصف الليلي أيقظته الركلة..مذعورا وقف.. بطاقة تعربفك الوطنية، قالت الدورية.. لا وطن لي، قال متلعثما.. ركلة أخرى: هات بطاقة تعريفك الوطنية..لا بطاقة لي ، قال مرتجفا..
فُتح الباب..اصعد، قالت الدورية..يد غليظة دفعته بعنف شديد إلى الداخل المكتظ به.. 6
في صحراء الخدمة الوطنية كان
سطيف: 05/11/2015





عاهرة

صعد مع الكثيرات إلى غرفهن..يقف كالآخرين خجلا..يتردد كثيرا..وأخيرا يصعد..
أعجب بالكثيرات وأعاد الصعود أكثر من مرة مع الكثيرات منهن..لكنها وحدها..
مثله كانت تقف خجلة..لا ترفع رأسها كالأخريات..تشغل نفسهل بالنظر إلى الجدار تارة وبأشياء صغيرة تحملها في يدها تارة اخرى..وبزميلاتها وهن يمارسن الغمز ويحركن أجسادهن بما يثير غرائز الواقفين المشدوهين تارة ثالثة..
ابتسم لها وصعد..وصعدت بعده..وقف ..نظرت إليه ودخلت..ودخل خلفها..كانت بيضاء البشرة ..سواد شعرها ليل طويل..و..
كرر الدخول خلفها..مرات كان يسبقها ويدخل..كل خميس يدخل..مرات يقضي حاجته ويخرج..مرات يبيت.. تقول له: صرت أنتظرك كل خميس..يقول لها: وصرت أنتظر كل خميس.. تضحك ويضحك ويغيبان..يضحك السرير ويغيب معهما..
تجرأ مرة وقال: أحبك..وابتسمت له..تجرأت مرة وقالت: أحبك.. وابتسم لها..لحظات البوح تلك كانت ترحل بهما بعيدا بعيدا..
كانت تنتظره ويأتي..وكان ينتظرها وتأتي..و..تتألم كثيرا عندما يتأخر أو لا يأتي..تعود إلى المنزل حزينة ..ترتمي على الفراش وتغيب..كان يقول لها: سنتزوج ونبني عش حياتنا..تبتسم وتقول: أنت عصفوري..ويقول : أنت عصفورتي .. يطوقها بذراعيه ويبتسم ..
عندما قضى حاجنه غاب..وعندما انتفخت بطنها لم تجد غير الطبيب الذي تفهم وضعيتها..
تجرأ : هل تقبلين الزواج بي؟..نظرت إليه طويلا..دمعتان حارتان سقطتا على يده التي كان يحضن بها ذقنها..لا ثقة لي في الرجال، قالت.. احتضنها بشدة..مسح على شعرها الليلي الطويل..ليس كل الرجال من طينة واحدة، قال..تنهدت بعمق ، ستقول لي في أول خلاف بيننا يا عاهرة..
نظر إليها طويلا..ضمها بشدة إلى صدره.. وضمته بعمق إلى صدرها ..
ارتدى ثيابه بسرعة..وخرج..
وكان يسمع نحيبها وهو يسير..
سطيف: 08/11/2015





عرق غزير

اختار الكرسي القريب من مفترق الطرق وجلس..البريد المركزي خلفه والطريق أمامه..
نظر حواليه ، لاشيء تغير، الناس يسرعون السير كعادتهم وكأنهم مطاردون.. السيارات تسرع أيضا..
فتح جريدته..قرأ العناوين: 25 شخصا راحوا ضحايا حوادث المرور في ظرف أسبوع..أمطار رعدية غزيرة تغرق مدينة كذا في الظلام..اختلاسات في بنك كذا ..و..و..رمى الجريدة على الكرسي بجانبه وقال : آه يا بلد..تساءل: إلى أين ؟ إلى أين؟..
صباح الخير، حياه وجه لا يعرف لمن يكون..رد : صباح الخيرات..
نظر إلى الطريق أمامه، كانت إشارة المرور الحمراء مشتعلة..صفين من السيارات رأى ..رأى امرأتين متحجبتين منقبتين..رآهما تتقاسمان صفي السيارات..إحداهما تتوجه إلى سيارات صف الوسط ..الأخرى إلى صف اليسار ..في الصف اليميني لم تتوقف السيارات..رآهما تمدان كفيهما إلى راكبي السيارات..واستمر يرى..تشتعل إشارة مرور المشاة تجلسان مع بعضهما وتتحدثان..تشتعل إشارة المرور الحمراء تتحركان..رأى الركاب حديدا يركب حديدا..أكثر من نصف ساعة وهو يرى كفي المرأتين المفتوحتين تعودان بخفي حنين..
نهض..سار نحو امرأة الوسط.. أخرج من جيبه قطعة المئة دينار..تقاسميها مع زميلتك، قال ذلك وأشار إلى امرأة اليسار..
عاد إلى كرسيه ..فتح الجريدة من جديد..قرأ عناوين أخرى..لا خبر يفرح ، قال..و.. نظر من جديد إلى الطريق.. كانت الفتاة الزنجية تضع طفلها على الظهر وتمد كفها المفتوحة..كان الشاب الزنجي خلفها يمد كفه أيضا..وكان الركاب حديدا على الحديد..
في الطريق المقابلة رأى فتاتين تتقدمان بعلب المناديل الورقية إلى الركاب.. والركاب حديد على الحديد..
في الطريق هنا او هناك كان يسمع: الله ينوب..سمع مرات: عودوا إلى بلادكم..
وقف..حرك رجليه الواهنتين وسار..ببطء سار..
***
أدخل يديه وأخرجهما..لا شيء ،قال صامتا ..
روْحْ تطلبْ خيرْ لكْ، قال القابض..
طأطأ رأسه خجلا ..وراح العرق يتصبب غزيرا من جبينه.. غزيرا غزيرا..
سطيف: 09/11/2015




إيه يا تلك السنابل

في المكان نفسه كنت.. قلت للهضبات: صباح الخير أيتها الهضبات.. وقالت الهضبات لي: صباح الخير أيها الطيب..
كانت الهضبات قد استيقظت وراحت تفرك عيونها بعد نوم طويل على صدر السهل..
سرت في المكان حزينا..في بقعة لم يطأها الإسمنت المسلح بعد وقفت..حفنة من ترابه حملت وضممتها إلى الصدر..تبسمت الحفنة لي..أغمضت عينيَّ ورحت بعيدا..
كانت الطفلة تتأرجح في السهو بين أغصان الشجرة..زقزقة عصافير كنت أسمعها في الأعلى..والضباب كان خفيفا..في البعيد كان هناك منزل يتصاعد دخانه..في القريب كانت الخيمة قد بدأت ترفع أستارها..
خطوات قليلة مشيت..حمَّارة الخيمة وقربتها شدتاني إليهما ..
صاح أبي: أيقظيهما يا امرأة..الشمس صارت أعلى وهم نيام..أيقظيهم..
انهضوا يا كسالى، انهضوا، صاحت الأم ..ولم ننهض..رفعنا الغطاء من على رؤوستا ثم أعدناه ولم ننهض..حملت طست الماء وصبتها على رؤوسنا..وضاحكين نهضنا..
رأيناها تعود بطست الحليب من زريبة العنزات..ورأيناها تتوجه من هنا إلى خم الدجاجات..
أختنا الكبرى التي سبقتنا في النهوض حملت الحليب وكسرة الشعير إلينا..
وضع الأب قربته على ظهر الأتان وراح يشق الطريق..
حملنا أكياس الخيشة ورحنا إلى الحصيدة..كانت الحاصدات في الأمام وخلفها كنا..
مرقت سيارة من أمامي..عاد الإسمنت المسلح يخنقني..مشيت خطوات أخرى وأفلتُّ من قبضته..
سمعنا غناء الحاصدات..أكلنا ما بقي في علب السردين التي رماها الحاصدون.. وكانت الشمس حينها في كبد السماء تلوِّح بحرارتها الشديدة ..
دخلنا الخيمة متعبين..صببنا على وجوهنا بعض قطرات ماءالقربة..كسرة شعير أكلنا وأشربتنا العنزات رواب حليبها.. مد الأب يده وأعطانا بعض حلوى كيس المدينة ..مدت الأم يدها وملأت أكفنا تمرا..
جمعتم سنابل كثيرة قال أبونا فرحا وربت على أكتافنا..
مرقت سيارة أخرى وزعق أطفال كانوا يلعبون بالقرب مني..حاصرتني الحيطان وراحت تلتف على عنقي..أغمضت عيني من جديد وأبعدتها..
عدنا إلى الحصيدة في العشية..كانت السنابل أكثر أكثر..
مساء سعيدا ، قالت السنابل لنا..مساء أسعد ، قلنا للسنابل ، وفتحنا أكياس الخيشة لها.. بعمق فرحي دخلت السنابل أكياسنا وملأتها..
قالت الشمس لنا: نلتقي غدا، نوما سعيدا..
قالت للسنابل والحصيدة والسهل: نلتقي غدا.. ومجتمعين قلنا للشمس: نلتقي غدا..
في الخيمة كنا ..أكلنا بربوشة شعير ولبن الماعز شربنا..
أنزلنا الستائر ونمنا..العنزات أيضا نامت..ونامت الخيمة والأتان والدجاجات..
وراح ناي أبينا يزرع الأرض فينا

سطيف:11/11/2015



النار

بكى السهل ، نزلت دموعه غزيرة وغاصت في عمق التراب..
بكى الجبل وتساقطت دموعه أحجارا وصخورا في الشعاب والوديان..
وكانت النار حينها سعيدة وهي تلتهم السنابل ..كانت ترقص بشكل مذهل غريب وهي تمضغ الأشجار والحشائش وترى الحيوانات البرية مضطربة تائهة تحاول النجاة بنفسها..
فكر السهل كثيرا ولم يهتد إلى الطريقة التي بها يحمي سنابله وحشائشه وأزهاره التي كانت تئن وتستغيث..
قال لجاراته الهضبات: يا أخواتي الهضبات ساعدنني..وقال لجاره الوادي: أنجدني أيها الجار العزيز ..
ردت الهضبات: النار اللعينة تلتهم ما علينا نحن أيضا، ليتنا كنا قادرين على حمايتك وحمايتنا..
شهق الوادي وقال: قتلني الجفاف يا صديقي..لا قطرة ماء في جوفي..سا محني عن عجزي ، سا محني .. وزادت النار من عربدتها وهي تسمع السهل يستغيث..
أرخى الجبل برأسه على السفوح وراح يفكر.. كثيرا كثيرا فكر ولم يهتد إلى السبيل التي بها ينقذ أشجاره التي كانت تصرخ وحشائشه التي كانت تنتحب وحيواناته التي كانت مذعورة تتيه..
قال لشعابه: ساعديني يا شعابي الحبيبة..قال لسفوحه: هلا سا عدتني يا أجنحتي البهية، هلا ساعدتني.. ولم تجد الشعاب والسفوح سوى: النار تلتهمنا نحن أيضا يا عظيمنا.. ريح كانت تعبر في الأعلى رأت النار الملتهبة وسمعت صراخ الأشجار وأنين السنابل ونحيب الحشائش وذعر الحيوانات واستغاثة السهل والجبل ،مسرعة نزلت إلى الأسفل..
فرح السهل واغتبط الجبل..الريح ستنقذنا، قالا معا ..
دفعت الريح النار أمامها فتمددت النار وتفرزعت هنا وهناك..
قال الجبل : النار أقوى من الريح، وراح يشهق عاليا ..
تساءل السهل حائرا: النار أقوى من الريح؟..
مسرعة عادت الريح إلى أعلاها ..اصبرا ، قالت للسهل والجبل معا..سأعود بعد قليل، سأعود..
للبحر حكت الريح ما رأت وسمعت..لأشعة الشمس الوهاجة أيضا حكت..
فتح البحر أحضانه لأشعة الشمس وقال للريح خذي..ووجهت الريح سحابه الكثيف إلى هناك..
رأت الأشجار والحشائش والسنابل والحيوانات البرية والمدجنة النار وهي تموت..
لكنها وقفت مندهشة ذاهلة حائرة وهي ترى نارا أخرى يطلقها البشر بعضهم على بعض ويرمونها هنا وهناك..
سطيف:13/11/2015

السداية

حزنت السداية كثيرا وهي ترى العناكب تتسلقها وتحاصر عيونها بخيوطها اللولبية الرفيعة القاسية ، وتتذكر - وكأن ذلك حدث اللحظة- أنها رميت وأعوانها في الركن الجنوبي من الغرفة الشرقية التي تشكل مع غرفة أخرى ذلك البيت الطيني العتيق..
قال عمود أعلاها لعمود أسفلها: ياله من زمن أغبر، كنا ركن البيت وصرنا كما مهملا لا شأن لنا فيه ..
قال عمود أسفلها لعمود أعلاها: لم نعد نرى الأطفل أبدا..لم نعد نسمع حكايات الأم وهي تدفئنا بخيوط منسجها وتعانق آذاننا بنجماتها الخضراوات وتملأ أفواهنا بحبات حلواها وتقاحها وتينها..وراح الإثنان يبكيان بكاء شهيقيا حارا..
وقالا معا: لقد اشتقنا إليكَ كثيرا يا حنينها..
وكانت الأم حينها قد صارت عكازا يتحرك ببطء شديد في غرف وفناء البيت الإسمنتي المسلح ،ويتنقل ببطء أشد إلى غرفة البيت الطيني الشرقية ،ويبكي وهو يضم إليه العمودين المهملين في ركنها الجنوبي ،ويبكي كثيرا وهو يرى الأطفال وقد اجتمعوا بعيدا عنه وتحلقوا حول ذالك الصندوق الحديدي البارد..وينتحب وهو يرى انقسامات البيت الإسمنتي ويعاني من شدة برودته..
احتج القرداش وقصبتا اليراع والمغزل واليزيلة وقد استيقظوا كلهم على وقع شهيق العمودين متسائلين: ما بكما؟ لماذا أيقظتمانا في هذا الصباح البردي الباكر؟..
وأجاب العمودان معا: عجبا، كيف يطيب لكم النوم وقد صرنا مهملين كما ترون، لا واحدة تتفقدنا.. ولا أحدا يسأل عنا..ولا كفا تمسح عن هذا الغبار الكثيف؟..أضافا: وقد نصير كلنا نارا يتدفأ بها الرعاة في هذا الشتاء القاسي..
قال القرداش وقصبتا اليراع والمغزل واليزيلة : لا شيء سوى النوم يريحنا..لا شيء سوى النوم.. إلى النوم أنتما أيضا..هيا..
علق العمودان مستهزئين: النوم موت، ونحن ما زلنا أحياء..
وماذا تفيدكما الحياة في وضعكما هذا؟ سأل القرداش ورفاقه ورفيقاته..
كثيرا كثيرا، أجاب العمودان..
***
وتحدث الناس بعضهم لبعض مساء ذاهلين غير مصدقين : لقد شاهدنا بأمهات أعيننا هذه التي يأكلها الدود والتراب سدَّايات كثيرات تتقافز أعمدتهن سائرة في اتجاه الغابات والمغازل تتطاير خلفها..
سطيف:14/11/2015






























#الطيب_طهوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أطلال أخرى..
- مر من جسدي
- تلك الرسائل ما أروعها
- الفتى..كل هذا الجسد
- مريم
- أبجدية لخماسيات جزائرية
- إفريقيا بين السواد وزوارق أزرق الأحلام / الأوهام
- رواية حنين بالنعناع لربيعة جلطي...... الخطر داهم..يا مثقفي ا ...
- هذا ما وجدنا عليه آباءنا
- اللاجئون، الغرب والمسلمون ( خواطر)
- انطباعات عائد من تونس
- من طرائف جدتي
- قصائد قصيرة
- (كلنا قطعان، أنتم ونحن) قالت الحيوانات
- خواطر عن الفتح..وعن الغزو أيضا..
- عن الحداثة، العلمانية وواقع العرب المسلمين اليوم..ج 4
- عن الحداثة، العلمانية وواقع العرب المسلمين اليوم..ج 3
- مجتمع القطيع
- عن الحداثة، العلمانية وواقع العرب المسلمين اليوم..تكملة
- نعمة


المزيد.....




- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - الطيب طهوري - النهر يعشق أيضا