|
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 14
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 5074 - 2016 / 2 / 14 - 12:11
المحور:
الادب والفن
(ج2) القبعة والنبي كتبت هذه المسرحية في مطلع عام 1967، وهي تمثل الحلقة السردية الفاصلة بين كتابات كنفاني السابقة وبين كتاباته اللاحقة في عملية بحثه عن تحديد فكري، مثلما مثلت رواية "ما تبقى لكم" الحلقة السردية الفاصلة بين نفس كتاباته السابقة واللاحقة في عالمه الإبداعي، وفي كلتا الحالتين تنتظم وقائعهما بالنسبة للمشروع الإنساني الذي تعبر عنهما انتظامًا زمنيًا بنيويًا، كما نرى رؤية عالم اللسانيات كلود بريمون. وإذا استثنينا ما تشير المسرحية إليه من دلالات سياسية عميقة، نجدها تطرح على الخصوص مسألة الإيديولوجيا كأداة دافعها العمل والكفاح، أو العكس، دافعها القمع والخداع، وهذا ما ترمز إليه القبعة كصورة فنية لها. سنعتمد علم الأعراض في تلخيصنا "للقبعة والنبي"، ليس في تحليل تقنياتها عند هذا المستوى من المقاربة النقدية، ولكن في البحث عن قوانينها العاكسة للحركة القسرية التي هي حركتها، نقول قسرية صفةً للأحداث التي أنتجتها عوامل إناسية (الإناسة هي علم الإنسان، علم يبحث في أصل الجنس البشري وتطوره وأعرافه وعاداته ومعتقداته)، والتي كابدتها جوامد إناسية كذلك، ونعني بالجامد في علم الأعراض الجَلود من المرضى، المرضى الخاضعين للمعالجة الطبية، أو المخضَعين لحالة اجتماعية غير طبيعية تعبر عن آفة من آفات المجتمع، "فالقبعة والنبي" حكاية رجل ألقي القبض عليه، واقتيد للمحاكمة، وهو يعتقد طوال الوقت إنما جيء به من أجل التعارف، فإذا به متهم بقتل "شيء" يشبه القبعة. تلتزم كل وقائع المسرحية بهذه الحركة القسرية قانونًا، فللأعراض هنا دلالات مرضية إجبارية واضحة (طريقة القبض، المحاكمة، قتل الشيء...)، وعن هذا القانون الإكراهي يصدر قانون آخر إرضائي تبدو بإملاءٍ منه قيمةُ الشيء للمتهم خلال المحاكمة، فيصبح الأول حافزًا على العمل، ويساعد الثاني على فتحِ بابِ عالمٍ يولد لأول مرة مليء بالدهشة، عندما "يكتشفه (يكتشف المتهم هذا العالم) حبة حبة مثلما يكتشف الطفل أصابعه إصبعًا إصبعًا، دونه (أي دون الشيء) سيرتد هذا العالم إلى الغبار والصدأ..." (64) تضفي هذه القوانين على ما تُكْرِه –كما يرى كلود بريمون- أعراف عالمها الخاص، المتميز بثقافة، بعصر، بنوع أدبي، بأسلوب الكاتب، أو، على الأقل، بأسلوب هذه المسرحية التي لعالمها خصوصية خاصة بها: إنه اكتشاف العالَم الجديد كدافع للبحث عن تنظيم هذا العالم، وعلى الخصوص عن تجدده، وتحضره، ما يرمز إليه خلوه من الغبار والصدأ، ولا طريقة هناك إلا في البحث عن تصور إيديولوجي واضح للعمل، ما يدل عليه الحوار التالي: "- صرتَ نبيًا يبحث عن قبعة. - بالضبط..." (65) النبي هنا هو المقاتل الذي سيبشر بإيديولوجيا جديدة (الشيء/القبعة)، ولهذا الانشطار الثنائي بين القبعة والشيء، اللذين هما في جوهرهما واحد، قانون التسامح الذي طبع فكر غسان، وفي نفس الوقت قانون التجميل الأدبي لديه، هذا التجميل المتراوح بين تطور وتقهقر، بين كتاباته السابقة وكتاباته اللاحقة، كما جاء في مقدمة هذا الفصل. لكن للشيء ذاته قيم تجارية وإنسانية في وقت واحد يتبارى القضاة بالدفاع عنها بحجة دفاعهم عنه، وتتنافس الشركات والوزارات وشتى المؤسسات التجارية حتى العملاء مقابل مبالغ طائلة لاقتنائه. إذن الشيء مصدر إثراء لطرفين نقيضين في عالم تتصارع فيه الأفكار، تُكَرَّس فيه الأفكار لصالح هذه الجهة أو تلك، ولكي يظفر المتهم به في النهاية، عليه أن ينزع عن الشيء تَشَيُّأَهُ، بمعنى أن يواجه كل من هم خارج القفص، كل المتهمين بالنسبة له، عبر عن ذلك جماليًا التعاقب في أطواره (أطوار المرض) ألسنا بصدد عرض حالة مرضية؟ وهذه مهمة صعبة في مجتمع مريض، سيصفه المتهم بالضال، لكنها عملية عندما نسمع: "إنني أوظف نفسي عندكَ كالعبد (يقول المتهم مخاطبًا الشيء)، وأبني لكَ عالمًا كاملاً من أشياء مثلك، ومقابل هذا أنتظر أنا حتى يتكوّن عالمك، وبه أغزو عالمي الضال هذا، أخلق رجالاً مثلي عبر أشيائك." (66) عن هذا الطريق العملي، وبكلمات عالم اللسانيات الروسي بروب، عن طريق "الإمكانيات المنطقية" للمسرحية، يمكن الوصول بالتشيؤ إلى أقصاه، لتأنيس العالم بخلق الرجال الواعين وعي من هو في قفص الاتهام، فيتحقق دافع التبشير بالإيديولوجيا الجديدة، ولا بد إذن من تعجيل عجلة التاريخ من أجل "عالم أفضل." (67) يجب استبدال القبعة الأمريكية-الإسرائيلية-العربية، هذه القبعة الضخمة التي تسحل على الجبين لتغطي العينين، فتغشي على البصر، إلا أن صورة الاستبدال، مقابل دافع التبشير، تبرز هنا بشكل ملح: إنها مهمة "النبي"، فبعد أن اكتشف الفدائي عالم البندقية عام 1965، يكتشف الآن عالم الفكر.
المراجع (64) غسان كنفاني: القبعة والنبي، مجلة شئون فلسطينية عدد 20، بيروت نيسان 1973، ص 60. (65) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 66. (66)غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 66. (67) غسان كنفاني: المرجع نفسه، ص 67.
يتبع (ج3) عن الرجال والبنادق
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 13
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 12
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 10
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 9
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 8
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 7
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 6
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 5
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 4
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 3
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 2
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 1
-
رعب - المشاهد الكاملة
-
رعب - المشهد العاشر
-
رعب - المشهد التاسع
-
رعب - المشهد الثامن
-
رعب - المشهد السابع
-
رعب - المشهد السادس
-
رعب - المشهد الخامس
-
رعب - المشهد الرابع
المزيد.....
-
ترامب يعلن تفاصيل خطة -حكم غزة- ونتنياهو يوافق..ما مصير المق
...
-
دُمُوعٌ لَمْ يُجَفِّفْهَا اَلزَّمَنْ
-
جون طلب من جاره خفض صوت الموسيقى – فتعرّض لتهديد بالقتل بسكي
...
-
أخطاء ترجمة غيّرت العالم: من النووي إلى -أعضاء بولندا الحساس
...
-
-جيهان-.. رواية جديدة للكاتب عزام توفيق أبو السعود
-
ترامب ونتنياهو.. مسرحية السلام أم هندسة الانتصار في غزة؟
-
روبرت ريدفورد وهوليوود.. بَين سِحر الأداء وصِدق الرِسالة
-
تجربة الشاعر الراحل عقيل علي على طاولة إتحاد أدباء ذي قار
-
عزف الموسيقى في سن متأخرة يعزز صحة الدماغ
-
درويش والشعر العربي ما بعد الرحيل
المزيد.....
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
المزيد.....
|