أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - داود السلمان - دلالات الطباطبائي الفلسفية ،الحلقة(14)















المزيد.....

دلالات الطباطبائي الفلسفية ،الحلقة(14)


داود السلمان

الحوار المتمدن-العدد: 5063 - 2016 / 2 / 2 - 23:34
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


دلالات الطباطبائي الفلسفية في تفسيره(الميزان)الحلقة(14)
المبحث الثالث عشر:
كلام في عبادة الأصنام في فصول
1 - الإنسان واطمئنانه إلى الحسّ: الإنسان يجرى في حياته الاجتماعيّة على اعتبار قانون العلّيّة والمعلوليّة الكلّىّ وسائر القوانين الكلّيّة الّتى أخذها من هذا النظام العامّ المشهود، وهو على خلاف ما نشاهده من أعمال سائر الحيوان وأفعاله يجرى في التفكّر والاستدلال أعنى القياس والاستنتاج إلى غايات بعيدة.
وهو مع ذلك لا يستقرّ في فحصه وبحثه على قرار دون أن يحكم في علّة هذا العالم المشهود الّذى هو أحد أجزائه بشئ من الإثبات والنفى لما يرى أنّ سعادة حياته الّتى لا بغية عنده أحبّ منها تختلف على تقديري إثبات هذه العلّة الفاعلة المسمّاة بالإله عزّ اسمه ونفيه اختلافاً جوهريّاً فمن البيّن أن لا مضاهاة بين حياة الإنسان المتألّه الّذى يثبت للعالم إلهاً حيّاً عليماً قديراً لا مناص عن الخضوع لعظمته وكبريائه والجرى على ما يحبّه ويرضاه، وبين حياة الإنسان الّذى يرى العالم سدى لا مبدء له ولا غاية، وليس فيه للإنسان إلّا الحياة المحدودة الّتى تفنى بالموت وتبطل بالفوت، ولا موقف للإنسانيّة فيه إلّا ما للحيوان العجم من موقف الشهوة والغضب وبغية البطن والفرج.
فهذه نزعة فكريّة اُولى للإنسان إلى الحكم بأنّه: هل للوجود من إله؟ وتتلوه نزعة ثانية وهى القضاء الفطريّ بالإثبات، والحكم بأنّ للعالم إلها خلق كلّ شئ بقدرته وأجرى النظام العامّ بربوبيّته فهدى كلّ شئ إلى غايته وكمال وجوده بمشيّته وسيعود كلّ إلى ربّه كما بدأ. هذا.
ثم إنّ مزاولة الإنسان للحسّ والمحسوس مدى حياته وانكبابه على المادّة وإخلاده إلى الأرض عوّده أن يمثّل كلّ ما يعقله ويتصوّره تمثيلاً حسّيّاً وإن كان ممّا لا طريق للحسّ والخيال إليه البتّة كالكلّيّات والحقائق المنزّهة عن المادّة على أنّ الإنسان إنّما ينتقل الى المعقولات من طريق الإحساس والتخيّل فهو أنيس الحسّ وأليف الخيال.
وقد قضت هذه العادة اللازمة على الإنسان أن يصوّر لربّه صورة خياليّة على حسب ما يألفه من الاُمور المادّيّة المحسوسة حتّى أنّ أكثر الموحّدين ممّن يرى تنزّه ساحة ربّ العالمين تعالى وتقدّس عن الجسميّة وعوارضها يثبت في ذهنه له تعالى صورة مبهمة خياليّة معتزلة للعالم تبادر ذهنه إذا توجّه إليه في مسألة أو حدّث عنه بحديث غير أنّ التعليم الدينىّ أصلح ذلك بما قرّر من الجمع بين النفى والاثبات والمقارنة بين التشبيه والتنزيه يقول الموحّد المسلم: إنّه تعالى شئ ليس كمثله شئ له قدرة لا كقدرة خلقه، وعلم لا كالعلوم وعلى هذا القياس.
وقلّ أن يتّفق لإنسان أن يتوجّه إلى ساحة العزّة والكبرياء ونفسه خالية عن هذه المحاكاة، وما أشذّ أن يسمح الوجود برجل قد أخلص نفسه لله سبحانه غير متعلّق القلب بمن دونه، ولا ممسوس بالتسويلات الشيطانيّة، قال تعالى: ( سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: 160، وقال حكاية عن إبليس: ( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) ص: 83.
وبالجملة الإنسان شديد الولع بتخيّل الاُمور غير المحسوسة في صورة الاُمور المحسوسة فإذا سمع أنّ وراء الطبيعة الجسميّة ما هو أقوى وأقدر وأعظم وأرفع من الطبيعة وأنّه فعّال فيها محيط بها أقدم منها مدبّر لها حاكم فيها لا يوجد شئ إلّا بأمره ولا يتحوّل عن حال إلى حال إلّا بإرادته ومشيّته لم يتلقّ من جميع ذلك إلّا ما يضاهى أوصاف الجسمانيّات وما يتحصّل من قياس بعضها إلى بعض.
وكثيراً مّا حاكاه في نفسه بصورة إنسان فوق السماوات جالس على عرش الملك يدبّر أمر العالم بالتفكّر ويتمّمه بالإرادة والمشيّة والأمر والنهى، وقد صرّحت التوراة الموجودة بأنّ الله سبحانه كذلك، وأنّه تعالى خلق الإنسان على صورته، وظاهر الأناجيل أيضاً ذلك.
فقد تحصّل أنّ الأقرب إلى طبع الإنسان وخاصّة الإنسان الأوّلىّ الساذج أن يصنع لربّه المنزّه عن الشبه والمثل صورة يضاهى بها الذوات الجسمانيّة وتناسب الأوصاف والنعوت الّتى يصفها بها كما يمثّل الثالوث بإنسان ذو وجوه ثلاثة كأنّ كلّا من النعوت العامّة وجه للربّ يواجه به خلقه.
2 - الاقبال إلى الله بالعبادة: إذا قضى الإنسان أنّ للعالم إلهاً خلقه بعلمه وقدرته لم يكن له بدّ من أن يخضع له خضوع عبادة اتّباعاً للناموس العالمّ الكونىّ وهو خضوع الضعيف للقوىّ ومطاوعة العاجز للقادر، وتسليم الصغير الحقير للعظيم الكبير فإنّه ناموس عامّ جار في الكون حاكم في جميع أجزاء الوجود، وبه يؤثّر الأسباب في مسبّباتها وتتأثّر المسبّبات عن أسبابها.
وإذا ظهر الناموس المذكور لذوات الشعور والإرادة من الحيوان كان مبدءً للخضوع والمطاوعة من الضعيف للقوىّ كما نشاهده من حال الحيوانات العجم إذا شعر الضعيف منها بقوّة القوىّ آئساً من الظهور عليه والقدرة على مقاومته.
وظهوره في العالم الإنسانيّ أوسع وأبين من سائر الحيوان لما في هذا النوع من عمق الإدراك وخصيصة الفكر فهو متفنّن في إجرائه في غالب مقاصده وأعماله جلباً للنفع أو دفعاً للضرر كخضوع الرعيّة للسلطان والفقير للغنىّ والمرؤس للرئيس والمأمور للآمر والخادم للمخدوم والمتعلّم للعالم والمحبّ للمحبوب والمحتاج للمستغنى والعبد للسيّد والمربوب للربّ.
وجميع هذه الخضوعات من نوع واحد وهو تذلّل وهوان نفسانيّ قبال عزّة وقهر مشهود، والعمل البدنيّ الّذى يظهر هذا التذلّل والهوان هي العبادة أيّاً ما كانت؟ وممّن ولمن تحقّقت؟ ولا فرق في ذلك بين الخضوع للربّ تعالى وبينه إذا تحقّق من العبد بالنسبة إلى مولاه أو من الرعيّة بالنسبة إلى السلطان أو من المحتاج بالنسبة إلى المستغنى أو غير ذلك فالجميع عبادة.
وعلى أيّ حال لا سبيل إلى ردع الإنسان عن هذا الخضوع لاستناده إلى قضاء فطرىّ ليس للإنسان أن يتجافى عنه إلّا أن يتبيّن له أنّ الّذى كان يظنّه قويّاً ويستضعف نفسه دونه ليس على ما كان يظنّه بل هما سواء مثلاً.
ومن هنا ما نرى أنّ الإسلام لم ينه عن اتّخاذ آلهة دون الله وعبادتهم إلّا بعد ما بيّن للناس أنّهم مخلوقون مربوبون أمثالهم، وأنّ العزّة والقوّة لله جميعاً قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ) الأعراف: 194 وقال: ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ) الأعراف: 198 وقال تعالى: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران: 64 ختم الآية بحديث التسليم لله تعالى بعد ما دعاهم إلى ترك عبادة غير الله تعالى من الآلهة ورفض الخضوع لسائر المخلوقين المماثلين لهم وقال تعالى: ( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) البقرة: 165، وقال: ( فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ) النساء: 139 وقال: ( مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ) ألم السجدة: 4 إلى غير ذلك من الآيات.
فليس عند غيره تعالى ما يدعو إلى الخضوع له فلا يسوغ الخضوع لأحد ممّن دونه إلّا أن يؤول إلى الخضوع لله ويرجع تعزيره أو تعظيمه وولايته إلى ناحيته قال تعالى: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ - إلى أن قال - فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الأعراف: 157، وقال: ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا - إلى قوله - وَهُمْ رَاكِعُونَ ) المائدة: 55، وقال: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) التوبة: 71، وقال: ( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحجّ: 32. فلا خضوع في الإسلام لأحد دون الله إلّا ما يرجع إليه تعالى ويقصد به.
3 - كيف نشأت الوثنية؟ وبما ذا بدأت؟ اتّضح في الفصل المتقدّم أنّ الإنسان في مزلّة من تجسيم الاُمور المعنويّة وسبك غير المحسوس في قالب المحسوس بالتمثيل والتصوير وهو مع ذلك مفطور للخضوع أمام أيّ قوّة فائقة قاهرة والاعتناء بشأنها.
ولذا كانت روح الشرك والوثنيّة سارية في المجتمع الإنسانيّ سراية تكاد لا تقبل التحرّز والاجتناب حتّى في المجتمعات الراقية الحاضرة وحتّى في المجتمعات المبنيّة على أساس رفض الدين فترى فيها من النصب وتماثيل الرجال وتعظيمها واحترامها والبلوغ في الخضوع لها ما يمثّل لك وثنيّة العهود الاُولى والإنسان الأوّلىّ. على أنّ اليوم من الوثنيّة على ظهر الأرض ما يبلغ مآت الملايين قاطنين في شرقها وغربها.
ومن هنا يتأيّد بحسب الاعتبار أن تكون الوثنيّة مبتدئة بين الناس باتّخاذ تماثيل الرجال العظماء ونصب أصنامهم وخاصّة بعد الموت ليكون في ذلك ذكرى لهم، وقد ورد في روايات أئمّة أهل البيت ما يؤيّد ذلك ففى تفسير القمّىّ مضمر أو في علل الشرائع مسنداً عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى: ( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ) الآية، قال: كانوا يعبدون الله عزّوجلّ فماتوا فضجّ قومهم وشقّ ذلك عليهم فجاءهم إبليس لعنه الله وقال لهم: أتّخذ لكم أصناماً على صورهم فتنظرون إليهم وتأنسون بهم وتعبدون الله، فأعد لهم أصناماً على مثالهم فكانوا يعبدون الله عزّوجلّ وينظرون إلى تلك الأصنام، فلمّا جاءهم الشتاء والأمطار أدخلوا الأصنام البيوت.
فلم يزالوا يعبدون الله عزّوجلّ حتّى هلك ذلك القرن ونشأ أولادهم فقالوا: إنّ آباءنا كانوا يعبدون هؤلاء فعبدوهم من دون الله عزّوجلّ فذلك قول الله تبارك وتعالى: ( وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا ) الآية.
وكان ربّ البيت في الروم واليونان القديمين - على ما يذكره التاريخ - يعبد في بيته فإذا مات اتّخذ له صنم يعبده أهل بيته، وكان كثير من الملوك والعظماء معبودين في قومهم، وقد ذكر القرآن الكريم منهم نمرود الملك المعاصر لإبراهيم عليه‌السلام الّذى حاجّه في ربّه، وفرعون موسى.
وهوذا يوجد في بيوت الأصنام الموجودة اليوم وكذا بين الآثار العتيقة المحفوظة عنهم أصنام كثير من عظماء رجال الدين كصنم بوذا وأصنام كثير من البراهمة وغيرهم.
واتّخاذهم أصنام الموتى وعبادتهم لها من الشواهد على أنّهم كانوا يرون أنّهم لا يبطلون بالموت وأنّ أرواحهم باقية بعده، لها من العناية والأثر ما كان في حال حياتهم بل هي بعد الموت أقوى وجوداً وأنفذ إرادة وأشدّ تأثيراً لما أنّها خلصت من شوب المادّة ونجت من التأثّرات الجسمانيّة والانفعالات الجرمانيّة، وكان فرعون موسى يعبد أصناماً له وهو إله ومعبود في قومه، قال تعالى: ( وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) الأعراف: 127.
4 - اتّخاذ الأصنام لأرباب الأنواع وغيرهم: كأنّ اتّخاذ تماثيل الرجال هو الّذى نبّه الناس على اتّخاذ صنم الإله إلّا أنّه لم يعهد منهم أن يتّخذوا تمثالاً لله سبحانه المتعالى أن يحيط به حدّ أو يناله وهم، وكأنّ هذا هو الّذى صرفهم عن اتّخاذ صنمه بل تفرّقوا في ذلك فأخذ كلّ ما يهمّه من جهات التدبير المشهود في العالم فتوسّلوا إلى عبادة الله بعبادة من وكلّه إلى الله على تدبير تلك الجهة المعنىّ بها بزعمهم.
فالقاطنون في سواحل البحار عبدوا ربّ البحر لينعم عليهم بفوائدها ويسلموا من الطوفان والطغيان، وسكّان الأودية ربّ الوادي، وأهل الحرب ربّ الحرب، وهكذا.
ولم يلبثوا دون أن اتّخذ كلّ منهم ما يهواه من إله فيما يتوهّمه من الصورة والشكل، وممّا يختاره من فلزّ أو خشب أو حجارة أو غير ذلك حتّى روى أنّ بنى حنيفة من اليمامة اتّخذوا لهم صنما من أقط ثمّ أصابهم جدب وشملهم الجوع فهجموا عليه فأكلوه.
وكان الرجل إذا وجد شجرة حسنة أو حجراً حسناً وهواه عبده، وكانوا يذبحون غنما أو ينحرون إبلا فيلطّخونه بدمه فإذا أصاب مواشيهم داء جاؤا بها إليه فمسحوها به، وكانوا يتّخذون كثيراً من الأشجار أرباباً فيتبرّكون بها من غير أن يمسّوها بقطع أو كسر ويتقرّبون إليها بالقرابين ويأتون إليها بالنذورات والهدايا.
وساقهم هذا الهرج إلى أن ذهبوا في أمر الأصنام مذاهب شتّى لا يكاد يضبطها ضابط، ولا يحيط بها إحصاء غير أنّ الغالب في معتقداتهم أنّهم يتّخذونها شفعاء يستشفعون بها إلى الله سبحانه ليجلب إليهم الخير ويدفع عنهم الشرّ، وربّما أخذها بعض عامّتهم معبودة لنفسها مستقلّة بالاُلوهيّة من غير أن تكون شفعاء، وربّما كانوا يتّخذونها شفعاء ويقدّمونها أو يفضّلونها على الله سبحانه كما يحكيه القرآن في قوله تعالى: ( فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ ) الآية، الأنعام: 136.
وكان بعضهم يعبد الملائكة، وآخرون يعبدون الجنّ، وقوم يعبدون الكواكب الثابتة كشعري، وطائفة تتّخذ بعض السيّارات إلها - وقد اُشير إلى جميع ذلك في الكتاب الإلهىّ - كلّ ذلك طمعاً في خيرها أو خوفاً من شرّها.
وقلّ أن يتّخذ إله من دون الله ولا يتّخذ له صنم يتوجّه إليه في العبادات به بل كانوا إذا اتّخذوا شيئاً من الأشياء إلهاً شفيعاً عملوا له صنماً من خشب أو حجر أو فلزّ، ومثلوا به ما يتوهّمونه عليه من صورة الحياة فيسوّونه في صورة إنسان أو حيوان وإن كان صاحب الصنم على غير إلهيأة الّتى حكوه بها كالكواكب الثابتة والسيّارة وإله العلم والحبّ والرزق والحرب ونحوها.
وكان الوجه في اتّخاذ أصنام الشركاء قولهم: إنّ الإله لتعاليه عن الصورة المحسوسة كأرباب الأنواع وسائر الآلهة غير المادّيّة أو لعدم ثباته على حالة الظهور كالكوكب الّذى يتحوّل من طلوع الغروب يصعب التوجّه إليه كلّما اُريد بالتوجّه فمن الواجب أن يتّخذ له صنم يمثّله في صفاته ونعوته فيصمد إليه بوسيلته كلّما اُريد.
5 - الوثنيّة الصابئة. الوثنيّة وإن رجعت - بالتقريب - إلى أصل واحد هو اتّخاذ الشفعاء إلى الله وعبادة أصنامها وتماثيلها، ولعلّها استولت على الأرض وشملت العالم البشرىّ مراراً كما يحكيه القرآن الكريم عن الاُمم المعاصرة لنوح وإبراهيم وموسى عليه‌السلام إلّا أنّ اختلاف المنتحلين بها بلغ من التشتّت واتّباع الأهواء والخرافات مبلغاً كان حصر المذاهب الناشئة فيها كالمحال وأكثرها لا تبتنى على اُصول متقرّرة وقواعد منتظمة متلائمة.
وممّا يمكن أن يعدّ منها مذهباً قريباً من الانتظام والتحصّل مذهب الصابئة والوثنيّة البرهميّة والبوذيّة:
أمّا الوثنيّة الصابئة فهى تبتنى على ربط الكون والفساد وحوادث العالم الأرضىّ إلى الأجرام العلويّة كالشمس والقمر وعطارد والزهرة ومرّيخ والمشترى وزحل وأنّها بما لها من الروحانيّات المتعلّقة بها هي المدبّرة للنظام المشهود يدبّر كلّ منها ما يتعلّق به من الحوادث على ما يصفه فنّ أحكام النجوم، ويتكرّر بتكرّر دوراتها الأدوار والأكوار من غير أن تقف أو تنتهى إلى أمد.
فهى وسائط بين الله سبحانه وبين هذا العالم المشهود تقرّب عبادتها الإنسان منه تعالى ثمّ من الواجب أن يتّخذ لها أصنام وتماثيل فيتقرّب إليها بعبادة تلك الأصنام والتماثيل.
وذكر المورّخون أنّ الّذى أسّس بنيانها وهذّب اُصولها وفروعها هو (يوذاسف) المنجّم ظهر بأرض الهند في زمن طهمورث ملك إيران، ودعا إلى مذهب الصابئة فاتّبعه خلق كثير، وشاع مذهبه في أقطار الأرض كالروم واليونان وبابل وغيرها، وبنيت لها هياكل ومعابد مشتملة على أصنام الكواكب، ولهم أحكام وشرائع وذبائح وقرابين يتولّاها كهنتهم. وربّما ينسب إليهم ذبح الناس.
وهؤلاء يوحّدون الله في اُلوهيّته لا في عبادته، وينزّهونه عن النقائص والقبائح، ويصفونه بالنفى لا بالإثبات كقولهم: لا يعجز ولا يجهل ولا يموت ولا يظلم ولا يجور، ويسمّون ذلك بالأسماء الحسنى مجازاً وليسوا بقائلين باسم حقيقة وقد قدّمنا شيئاً من تاريخهم في تفسير قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ) الآية، البقرة: 62 في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.



#داود_السلمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دلالات الطباطبائي الفلسفية، الحلقة(13)
- دلالات الطباطبائي الفلسفية، الحلقة(12)
- استدلالات الطباطبائي الفلسفية، الحلقة(11)
- استدلالات الطباطبائي الفلسفية، الحلقة(10)
- استدلالات الطباطبائي الفلسفية ،الحلقة(9)
- استدلالات الطباطبائي الفلسفية ،الحلقة(8)
- استدلالات الطباطبائي الفلسفية؛ الحلقة(7)
- الجلبي ما قتلوا وما صلبوه ولكن شبه لهم
- استدلالات الطباطبائي الفلسفية الحلقة(6)
- استدلالات الطباطبائي الفلسفية ،الحلقة(5)
- استدلالات الطباطبائي الفلسفية، الحلقة(4)
- صخم وجهك وكول آني حداد
- استدلالات الطباطبائي الفلسفية في تفسيره (الميزان)الحلقة(3)
- حسقيل قوجمان صوت يهودي عراقي مدوي
- استدلالات الطباطبائي الفلسفية في تفسيره (الميزان) الحلقة(1)
- استدلالات الطباطبائي الفلسفية في تفسيره (الميزان) الحلقة(2)
- ميزانية مصابة بالشلل
- حششوا حتى يأتيكم اليقين
- الا يتدبرون العراق ام على...؟
- حكومة مظرطة


المزيد.....




- عاصفة رملية شديدة تحول سماء مدينة ليبية إلى اللون الأصفر
- واشنطن: سعي إسرائيل لشرعنة مستوطنات في الضفة الغربية -خطير و ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من استهدافه دبابة إسرائيلية في موقع ال ...
- هل أفشلت صواريخ ومسيرات الحوثيين التحالف البحري الأمريكي؟
- اليمن.. انفجار عبوة ناسفة جرفتها السيول يوقع إصابات (فيديو) ...
- أعراض غير اعتيادية للحساسية
- دراجات نارية رباعية الدفع في خدمة المظليين الروس (فيديو)
- مصر.. التحقيقات تكشف تفاصيل اتهام الـ-بلوغر- نادين طارق بنشر ...
- ابتكار -ذكاء اصطناعي سام- لوقف خطر روبوتات الدردشة
- الغارات الجوية الإسرائيلية المكثفة على جنوب لبنان


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - داود السلمان - دلالات الطباطبائي الفلسفية ،الحلقة(14)