أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن واصل - عبودة الوحش















المزيد.....

عبودة الوحش


فاتن واصل

الحوار المتمدن-العدد: 5058 - 2016 / 1 / 28 - 22:23
المحور: الادب والفن
    


الجو بارد والمطر يهطل بضراوة لم تشهدها مصر منذ زمن طويل، البخار يتصاعد من كوب الشاي الذي أحضره الساعي لتوه، أتأمله لبرهة ثم أعود للمستند الذي أقرأه.. أسب وألعن اليوم الذي عملت فيه بهذه الهيئة وأتمتم في سري:
الله يخرب بيوتكم يا بعدا .. حرامية ولاد كلب .. هتروحوا فين من ربنا!!
أمد يدي وأتناول كوب الشاي ، أقبض عليه بكلتا يدي لأشعر ببعض الدفء، يتسرب من الشباك خلفي ضوء نهاري مخنوق بالغيام والأمطار مستمرة مما أضفي كآبة شديدة على حالتي النفسية.

فجأة ظهر سكرتير رئيس الادارة ليخبرني أنه يطلب أن احضر لمكتبه كي أسلم على المهندس عبد المقصود !! شردت للحظة ثم انتبهت للسكرتير الواقف أمامي ينتظر ردي، فسألته لأتأكد:
المهندس عبد المقصود مين؟ أوعى يكون عبودة الوحش؟
فابتسم السكرتير بخجل وقال:
أيوة يابشمهندسة المهندس عبد المقصود السيد.
فضحكت لأن الشاب شعر بالحرج فقد كنا نطلق عليه هذا اللقب سراً ونتداوله فيما بيننا نحن صغار المهندسين في ذاك الوقت ، ولم نكن لنجرؤ أن ننطق به أمام أي من الموظفين الآخرين خوفاً من ان يصل إليه فيبطش بنا، وكان باقي الموظفين أيضا يشعرون بهيبة هذا الرجل، لذا لم يتصور هذا السكرتير الطيب أن ينادى " عبد المقصود بك" بهذا اللقب.
صرفت السكرتير بعد أن رددت عليه بأني آتية فوراً، وابتسمت حين استعدت ملامح الوحش الوديعة.. نعم الوديعة فقد كنا نطلق عليه هذا اللقب ليس لغلظة في هيئته أو قبح في وجهه لا سمح الله بالعكس فقد من عليه الله بوجه سمح بل ووسيم أيضاً، وإنما أطلقناه لصرامته وعدم تهاونه في العمل مع أيا من كان، فلم يكن يغفر أي خطأ صغر أو كبر .. شديد التدين يصلي في مكتبه ويصوم يومي الاثنين والخميس وكان دائما ما يردد جملته الشهيرة التي صرت أرددها أنا أيضا:
هتروحوا فين بالأخطاء دي كلها من ربنا يوم القيامة ؟
في أحد المرات فاجأنا بأن قام بحساب القيمة المالية المقابلة لأخطاء واحد من المهندسين على مدى عام كامل، ثم نادانا لنجتمع بمكتبه وبدأ حديثه وكان الغضب بادياً على ملامحه :
أنا جمعتكم النهاردة علشان تسلموا على المهندس حسام لأنه اتنقل لإدارة تانية!!
تعجبنا لأن حسام كان يجلس بيننا ولم يبلغنا بخبر نقله، نظر حسام نحوه مندهشاً ثم دار بعينيه بين وجوهنا، فإذا بالمهندس عبد المقصود يصيح يهدر بصوت كالرعد قائلا:
النهاردة بلغت تكلفة أخطاءك على مدى عام كامل مبلغ اتنين مليون جنيه، لمينا أخطاءك وانت ولا بتحس .. ثم أشار له بسبابته محذراً وأكمل:
إسمع أنا مش فاضي ألم وراك أنا طلبت من رئيس الهيئة نقلك لأي إدارة هايفة لأنك في نظري مش مهندس.. وبصراحة ما عدتش واثق إن كنت بتغلط سهواً والا عمداً.. ولو كانت التانية يبقى تحمد ربنا إني ما حولتكش للنيابة الإدارية لأن ده ممكن يأثر على أكل عيشك وأولادك ما لهومش ذنب وكمان انا مش متأكد.
كلماته كانت كطلقات المدفع ونحن في ذهول وحسام ينتفض خوفا. تذكرت هذا اليوم وأنا أتعجب لمدى إختلاف اليوم عن البارحة والتغيرات التي حدثت بالهيئة والفساد الذي استشرى بها على مدى السنوات من بعد تقاعده وحتى اليوم.
ابتسمت حين تذكرت مدى الرعب الذي كان ينتابنا عندما كان الوحش يسأل عن مستند أو عمل ما تأخر عن موعد انتهاءه، والجزاءات التي كان يوقعها علينا والخصومات من المرتب أو الحوافز، ويهددنا بالنقل والفصل، وكان يستشيط غضباً لو اعتذرنا.. يقول صارخا:
انت مهندس لو حسبتها غلط والمنشأ وقع على دماغ الناس وماتوا وراحت أرواح وضحايا،
هتنفعنا باعتذارك ؟

طالت فرحتنا عنان السماء يوم أن سمعنا خبر ترقيته ليصبح نائبا لرئيس مجلس الإدارة وأنه بترقيته هذه سوف يعمل بعيداً عنا، وكان هو على العكس حزينا لمجرد أنه سوف يترك الأمور الفنية والتصميمات ويتحول عمله للأمور الادارية.
أفقت على جرس التليفون يرن وحين رفعت السماعة وجدت المهندس حسام رئيس الادارة يستعجلني، فبادرته على الفور:

جاية جاية حالا.

تجمعنا في غرفة المهندس حسام الذي كان قد تم عقابه بنقله لإحدى الادارات الهامشية وقتما كان عبودة الوحش رئيسا للادارة، كنت أضحك في سري فقد كان يبالغ في الانحناء والاحترام ولكنه أيضا لم ينس التفاخر بأنه أول من ترقى من بين زملاءه .. كنا جميعا نعلم أنه في الفترة التي تم نقله فيها عمل مرشداً لصالح الجهات الرقابية، وكان هذا مفتاحا له كي يلج إلى أرفع المناصب في الهيئة، وعلمنا أيضا يومذاك أنه وشى لديهم عن المهندس عبد المقصود وشاية أطاحت به قبل بلوغه سن المعاش بأشهر معدودات، فخرج الرجل من الهيئة مكسورا ذليلا بعد أن كانت ترتعد فرائصنا يوم يمر على مكاتبنا وكأننا مازلنا تلاميذاً.

صافحناه بود شديد وبادلنا السلام بود لكن لاحظنا أنه نسى أسماء البعض، همست لنفسي :

معذور .. مضى عشر سنوات على بلوغه سن المعاش، هو الآن في بداية السبعين من عمره.

أصبح شديد النحافه فأرجعنا هذا لأنه كان مريضا بالسكر، عيناه زائغتان قليلا دون أن تفارق وجهه ابتسامة غريبة ثابتة بلا معنى.. بالاضافة لإنحناءة في ظهره فبدى أكبر بكثير من سنه.

تأملته دون أن يلحظني، يرتدي ملابس متواضعة لا تليق بمن كان في وضعه الوظيفي كما أنها كانت خفيفة بالنسبة ليوم شتوي مثل الذي نمر به ولكنها نظيفة على أية حال عدا بعض بقع من الطين والبلل ظهرت في ساق بنطلونه. لفت انتباهي أنه يرتدي حذاءً وكل فردة بشكل يختلف عن الأخرى، فإحداهما بها رباط سوداء متسخة وبالية والثانية بنية بطراز مختلف تماما وبدون أربطة، فردتين كل واحدة من زوج أحذية مختلف.
حين سأله حسام عن إبنه قال :

أنا ماعنديش أولاد !!

كان طبعا هذا مثار دهشتنا فقد كنا نعرف أولاده جيدا، كان لديه بنتاً تعمل في مجال السياحة شخصيتها مثله تماما في الالتزام والجدية، وولدا فشل في دراسة الهندسة متمرداً عاقا يطلب منه النقود باستمرار كسول ولا يعمل، لذا فهمنا أنه على خلاف مع ابنه لدرجة أنه يقول أن ليس لديه أبناء.

سألنا عن أحوالنا وعن من منا صار لديه أبناء فشعرنا للحظات أنه فقد الشعور بالزمن، فكان يسأل من منا أصبح أباً أو أما مع أن معظمنا قد تخرج أبناءه من الجامعات ومنهم من تزوج.

ذكره المهندس حسام بقهوته التي طلبها له وسأله بشكل غير مباشر عن سر زيارته لنا ولماذا اختار هذا اليوم بالذات حيث الطقس سيء والأمطار تهطل، فرد عليه بجدية ولأول مرة منذ دخل تختفي الابتسامة الغريبة من على وجهه وظهر مكانها تكشيرة:
جاي أشتغل، هي الناس بتقعد في بيتها لما الجو يمطر يا بشمهندس؟
ثم بغضب وصوت أعلى :
وفين الشغل اللي إديتهولك ؟ خلصته والا لسة ؟ دي فلوس ناس.. هتروحوا فين من ربنا يوم القيامة؟

ساد صمت لدقائق نظرنا أحدنا للآخر ونظرة تعجب على وجوهنا، ثم نهض وسلم علينا واصطحبه المهندس حسام إلى الباب فصافحه بهدوء بعد أن عادت الابتسامة إلى وجهه وخرج لا نعرف هل سوف يصل لبيته أم لا.



#فاتن_واصل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قمصان شفافة
- وضع متميز
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الأخير)
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثالث عشر )
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثاني عشر )
- والقلب يعشق سراً. ( الجزء الحادي عشر)
- والقلب يعشق سراً. ( الجزء العاشر )
- والقلب يعشق سراً . ( الجزء التاسع )
- والقلب يعشق سراً . ( الجزء الثامن )
- والقلب يعشق سراً. ( الجزء السابع )
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء السادس )
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الخامس )
- والقلب يعشق سراً. ( الجزء الرابع )
- والقلب يعشق سراً ( الجزء الثالث )
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثاني )
- والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الأول )
- مشهد لم يحدث في جنازة عائلية
- الأمنية الأخيرة
- مفكرة صغيرة
- أوضة ضلمة


المزيد.....




- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن واصل - عبودة الوحش