والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الأول )

فاتن واصل

الحوار المتمدن-العدد: 4896 - 2015 / 8 / 14 - 16:00
المحور: الادب والفن
    

حلّ فصل الخريف متزامناً مع عودتي من الولايات المتحدة الأمريكية . ودّعني ابني" كريم " في المطار متأثراً حزيناً، أفهمه، العودة إلى الوطن تعني الوحدة والصمت بعد وفاة زوجي ورفيق عمري " أشرف " بمرض قصير ومفاجئ.

الناس يسيرون حولنا كل واحد في شأنه .. هكذا هي طبيعة الأميركان، تراهم وتجد لديهم الكثير لتراقبه وتتمعن فيه ولكنك تشعر في نفس الوقت أنهم لا يرونك ولا أحد ينظر نحوك أو يهتم بما تفعل وكأنهم لا يدرون بوجودك، يمضون وحسب، فتشعر تلقائياً بوحدةٍ لا تتبين مصدرها ولكنها تتغلغل حتى الشرايين.
المطر الغزير والجو الضبابي زادا من شعوري بالوحشة، سرت رعشة في أوصالي وهاجمني إحساس بالانقباض لازمني إلى أن اتخذت مقعدي في الطائرة.. واستسلمْتُ لنوم متقطع بسبب الكوابيس أو مرور المضيفات بالمأكولات والمشروبات.

مكثت شهرين كاملين في بيت كريم، حاول فيهما رغم انشغاله أن يتواجد معي قدر المستطاع، حيث يدرس الهندسة، ويعمل لبضع ساعات يومياً في مخزن ليوفر جزءاً من نفقات دراسته. هكذا علمه أبوه، وحينما كان بعد طفلاً صغيراً، كان أشرف يمدّ له يده بالمساعدة فقط إذا لاحظ أنه يبذل الجهد ليصل لمبتغاه، حتى لو كان الإمساك بإبريق شاي ساخن موضوع على مائدة، فكان يراقبه من بعيد وهو يزحف نحوه ليجذب المفرش من تحته، أو ليلمسه مباشرة، وحين لا يستطيع الوقوف كان يساعده ليقف، فيبدأ كريم بالاقتراب من الإبريق مستنداً على المائدة بيديه الصغيرتين، وهنا يبدأ أشرف بإصدار أصوات تحذيرية، كأن يقول له:

- تؤ تؤ تؤ .. سخن.. ها يلسعك.
حين لا يستجيب يتركه حتى يلمس الإبريق بيده، فإذا صرخ ألماً أو بكى، كان يحمله ثم يبدأ في تهدئة بكائه والتحدث إليه بهدوء، كيف أنه منذ البداية حذّره ولكنه لم يفطن للخطر الذي هو مقدمٌ عليه. وعندما كنت أصرخ فزعة:
- إزاي يا أشرف تسيبه لحد ما يحرق نفسه!! إنت متخيل إن طفل ما كملش سنة يفهم الكلام اللى انت بتقوله ده ويتصرف بعقل ؟
فكان يرد بمنتهى الهدوء وبوجه باسم:
- لازم نسيبه يخوض تجربته، خاصة وأنه جاد ومحدد هدفه، حتى لو كان بيجري ورا الخطر، لو منعناه ها يعنِد، وكمان مش ها يتعلم من غلطاته وقراراته، دي حياته مش ها نعيشها بداله.
كريم تربّى بحيث يصبح رجلاً حقيقياً حراً يتحمل المسؤولية، وقد تعلمت من أشرف أن أعامله بهذه الطريقة وأن طفل اليوم هو رجل الغدّ.. فلم أكن أسمح لنفسي - مُنذ أن وُلِدَ - أن أهينـَه أو أضربه، بل كنت أردّ على أسئلته بصبر، وأشرح له لماذا أرفُض شراء لعبة أو أعترض على صداقة مع أحد الأولاد، ولم يكن يهدأ إلا إذا اقتنع بما أقول، وأحياناً كان يحدث العكس، أن يقوم هو بإقناعي، نشأ على أن يكون منطقياً متفهماً يستخدم عقله.
حين ذهبت لزيارته بعد الوفاة، تقبل الصدمة بمنتهى الاتزان والثبات، محاولاً أن يكون سنداً حقيقياً لي، فاهتم لأمري ورعاني كأنيّ ابنته وليس هو ابني، وحين أطريته بقولي:
- ورثت الحنان والعطاء والعقل من أبوك.. ربنا يحميك.
ضحك مشيرا بإصبعه نحو رأسي وقال:
- طب تفتكري ورثت الجِـنان من مين !!
هتفت وأنا أخبطه على ظهره بمداعبة:
- آه يا مجرم،لولاي كان زمانك ساقط إعدادية وبتبيع مناديل في إشارات المرور.
فاتسعت ضحكته واحتضنني بحنان.
حرص على أن أذهب إلى الأماكن السياحية المبهجة، حتى أقضي وقتاً لطيفاً أثناء انشغاله لينسيني أحزاني ولا يتركني للأفكار والذكريات تلتهمني، كما عرّفــني على جاراته لإمضاء الوقت معهن في الصباح حين يكون بالجامعة، فما كان منهن إلا أن أحطْنني بالرعاية والمحبة لمجرد أني والدته، فعلى ما يبدو أنه محبوبٌ وأردْنَ الترحيب بي من أجله.
رغم كل شيء ومحاولاته أن يبدو مرحاً وأن يضفي جواً من البهجة حولي قدر المستطاع، فقد كنت في الأيام الأولى لي بأمريكا، أسمع نحيبه ليلاً في غرفته حزناً على أبيه.

الثامنة مساءً كان موعد وصول الطائرة إلى مطار القاهرة بعد ثماني عشرة ساعة من السفر المتواصل. كنت أشعر بالارهاق الشديد، ويملؤني إحساس غامض بالخوف لا أعرف مصدره، وبالندم على قرار عودتي للعيش وحدي وترك ابني الوحيد الباقي لي في هذه الدنيا بعد وفاة والده، وبتّ أسأل نفسي لِمَ ولمنْ أعود، ولماذا لم أبقَ معه ؟ أسئلة كانت تدور في عقلي تثقل قدميّ.. وفي لحظة خروجي من باب الطائرة ودخولي إلى الأنبوب الطويل الذي يؤدي إلى صالات الوصول، كنت كمنْ يصارع أمواجاً عاتية أو يسير بعكس اتجاه الريح.
بعد الانتهاء من إجراءات الجوازات وقفت لأستقبل حقائبي، أنظر في جنبات الصالة وفي وجوه المارة حولي، يجتاحني شعور عميق بالخواء والوحدة. لم يكن أحد في استقبالي، فقد تعمدت ألا يعرف بموعد وصولي المعارف أو الأصدقاء ، فأنا في حاجة ماسة لأن أخلو إلى نفسي.
في طريقي إلى المنزل فتحت شباك التاكسي وتركت النسمات الخريفية اللطيفة تمسح وجهي بنعومة، أتأمل أعمدة الإنارة بأضوائها الصفراء الذابلة في تتابعها كأنها طَرَقات على زجاج السيارة الأمامي. تفزعني من وقت لآخر رعونة سائق التاكسي الذي طالبته بأن يخفض صوت الراديو لأقل درجة ممكنة بمجرد أن صعدت داخل السيارة ففعل بتأفـّف.
إضافة إلى أصوات زعيق آلات التنبيه الصادرة من السيارات حولنا بدون داع، فقد اعتدت خلال هذين الشهرين اللذين قضيتهما في فلوريدا، الولاية التي يعيش فيها " كريم "، وهي واحدة من أجمل الولايات الأمريكية، اعتدْتُ على الأجواء الهادئة والشوارع النظيفة المنتظمة والمخططة كأبدع ما يكون، همست لنفسي قائلة:
- لازم أنسى الفترة دي خالص، كأنها حلم وانتهى.. ودلوقتي .. الواقع، إصحي يا سلوى، إصحي.


اضطر السائق أن يسلك مساراً غير تقليدي لكي يتفادى البطء الناتج عن تكدس الحركة المرورية، فاجتاز ميدان روكسي بحي مصر الجديدة ثم عبر إلى ميدان قصر الطاهرة ثم قصر القبة محاذياً لسور القصر ، ثم .. ؟ ترى هل سيمرّ في شارع مصر والسودان بحي حدائق القبة لأراها ؟ آه إنه يتجه إليه .. لمحتها .. تلك هي .. فيلا عبد الله النجار.

الازدحام أتاح لي الفرصة كي أتأمل الفيلا وما آلت إليه بعد أن تحولتْ إلى مأوى للصمت فمنذ فترة وهي مهجورة خالية من الحركة.. كل النوافذ مغلقة، غارقة في الظلام ما عدا ضوءاً خافتاً يتسرب من حجرة الحارس " عم صالح"، الباب الحديدي الأسود مغلق بجنزير ضخم صدئ، ومصباح وحيد يعلو بابها الداخلي كان مضاءً.
لمحت اللافتة أعلى البوابة الحديدية المغلقة مكتوب عليها بخط رقعة كبير " مركز النجار للثقافة والفنون ".. وتحتها بخط واضح مقولة أينشتاين الشهيرة " الثقافة هي ما يبقى لك بعد أن تنسى كل ما تعلمته في المدرسة" .. أهذا مصيرها ؟ أن تصاب بالتلف والخدوش والقِدَم ؟ همست لنفسي وأنا أختنق بغصة في حلقي:
- إيه ~~ كانت أيام حلوة، يا ما قضينا فيها أوقاتاً جميلة !

تحرك التاكسي إلى الأمام قليلاً ثم توقف ثانية، استدرتُ لأتأمل الفيلا مرة أخرى من خلال الزجاج الخلفي، وكأني أريد أن أتأكد من أنها هي نفسها، تلك التحفة التي كانت تمتلئ بالحياة في يوم من الأيام، سواء أثناء وجود عبد الله بك النجار أو حتى حين ورثها نديم بعد وفاته.

قفز لذهني مشهد بروفات الفرقة الاستعراضية للتمثيل والغناء،التي قمنا بتكوينها أثناء دراستنا في كلية العلوم، من خلال أسرة طلابية أنشأها أحد أساتذتنا، وقد كان مهتماً بتنمية المواهب الفنية من رقص وغناء وتمثيل وشعر وأدب.
أكبر مشاكلنا في ذاك الوقت كانت أن نجد مكاناً مناسباً لأداء البروفات. ففي الكلية كان الطلبة يتحلـَّقون حولنا فيشتتون تركيزنا ونعجز عن التدريب، كما حورِبنا من الطلبة المنتمين إلى الجماعات الإسلامية . إذ انتشر ظهورهم في كل الجامعات المصرية في فترة نهاية السبعينيات وحتى نهاية الثمانينيات، وقد صل بهم الأمر إلى أن كانوا يفصلون بين الطلبة والطالبات داخل المعامل والمدرجات، فأصبح من الصعب علينا أداء البروفات في الكلية، حتى إقامة الحفلات فيما بعد أصبح أمراً مستحيلاً.

تبرع نديم زميلنا ومخرج العروض بالفرقة وعازف الجيتار الرئيسي فيها، بغرفة في هذه الفيلا التي يمتلكها جده لأمه. غرفة واسعة لها باب على الحديقة مباشرة، ولها ممر من ترابيع البلاطات الملونة التي تنمو الأعشاب في الفواصل بينها، تلك الغرفة كانت مخصصة كمخزن للأطعمة والمشروبات، مجاورة لمطبخ الفيلا وعلى الضلع الخلفي لها، كي تقوم فرقتنا بأداء البروفات فيها دون إزعاج، وبترحيب من جده شخصياً السيد عبد الله النجار، وقد قام هذا الرجل الرائع بتجليد حوائط الغرفة التي منحنا إياها بمواد عازلة للصوت حتى لا نزعج جيرانه، مما أتاح لنا تأدية بروفات العروض الفنية التي نقدمها في حفلات الكلية وفي حفلات التخرج بمنتهى الحريّة.
كان السيد عبد الله يجلس في أحد الأركان مستمعاً إلينا مغمضاً عيناه ومندمجاً تماما في الإنصات لنا، ثم كان يفاجئنا بالتصفيق الحماسي عندما ينفعل اعجاباً بالأداء قائلاً :
- برافو يا ولاد.. شاطرة يا سلوى أحسنتِ أحسنتِ.
كنت مغنية الفرقة وأستعين بالكاستانيت لضبط الإيقاع، تلك الآلة الأثيرة إلى نفسي التي تستخدمها الراقصات الإسبانيات الغجريات، وما زلت أحتفظ بواحدة في دولابي بالدُرْج المخصص لمتعلقاتي الشخصية وتذكاراتي.

عبد الله بك كان من أهم الأشخاص في حياتي وكنت أفرح كالأطفال حين يُعجبه أدائي، وأحاول تحسينه حتى أنال المزيد من ثنائه. فقد كان ذوّاقاً للفن شديد الحساسية مثقفاً، يهوى الرسم بالزيت.. بيته يعجّ بلوحاته الرومانسية الحالمة، وكثيراً ما كان يقيم المعارض الفنية، ويدعو أصدقاءه من مشاهير الفنانين التشكيليين والنحّاتين وغيرهم، للسهر بحديقة الفيلا، وأحياناً كان يعطينا فرصة لنغني أمامهم.
مبنى الفيلا كان قطعة نحت جميلة، وقد أحاطت الزخارف بنوافذه العالية وبابه الضخم المصنوع من الزجاج الإنجليزي المخربش، مع خلفية من الحديد المشغول بأشكال لأوراق النباتات والفروع الحلزونية والمطلية باللون الأسود.. يعلو السطح دروة بها صف من البرامق الحجرية المنحوتة التي تتكرر بنفس الشكل في أسوار الشرفات.
أتعجب من نفسي الآن إذ أتذكر كل تلك التفاصيل، وكأن برؤيتي للفيلا هبَّ إعصارٌ من الذكريات بعقلي، فتمثّلتْ أمام عيني تلك التماثيل للملائكة الصغار المجنحة التي تكلل أركان الفيلا الأربعة العلوية، وقد أطلقنا عليها أسماء أعضاء الفرقة : نديم وعصام وريمون، من باب المزح ، وأيضا بهاء رغم أنه لم يكن عضواً بالفرقة إنما زميل لنا في الكلية، وكنا دوماً نراه شخصاً يغرد خارج السرب.. دائم الانتقاد لكل أفعالنا، ربما انتمَىَ لمجموعتنا لأنه شخص طيب وخدوم، وكان يحب أن يتواجد بيننا ولو على غير رغبتنا.

يُتبع غداً

#فاتن_واصل (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات