أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن واصل - مفكرة صغيرة















المزيد.....


مفكرة صغيرة


فاتن واصل

الحوار المتمدن-العدد: 4743 - 2015 / 3 / 9 - 18:00
المحور: الادب والفن
    


كنت واحدة من ضمن سبعة وعشرين متدرباً من كل بلاد العالم النامي وخاصة أفريقيا وآسيا. دُعِينا عن طريق منظمة عالمية تعنى بتطوير الموارد البشرية بالهيئات التابعة للحكومة بدول العالم الثالث، وذلك لحضور برنامج تدريبي بدولة الدنمارك.
ظلت هذه المنظمة الدولية تعقد البرامج التدريبية سنوياً. وبعد مرور عدة أعوام على هذه البرامج التنموية، دعت كل المتدربين من السنوات السابقة في كل دولة، لحضور حفل في سفارة الدولة المضيفة، أي في سفارة دولة الدنمارك التابعة لها هذه المنظمة، وبحضور السفير وزوجته شخصياً ليرحبا بالضيوف.
بعد أن ألقى السفير كلمات الترحيب تقدم رئيس المنظمة ليلقي كلمته أيضاً، وبعد أن انتهى، دعى السفير الحضور للتوجه إلى البوفيه لتناول الأطعمة والمشروبات الخفيفة، ولقاء بعضهم البعض والتعارف على بعض أفراد الجالية الدنماركية بالقاهرة.
لم أعرف سبب الزحام في هذه الليلة أو لما كان كل هذا العدد موجوداً رغم أن عدد المتدربين سنويا لا يزيد عن ستة أفراد فلو افترضنا أنهم دعوا المتدربين على مدى خمس سنوات سابقة مثلا، كان من المفروض ألا يزيد العدد عن ثلاثين شخصا، لكن من الجائز أن السفارة دعت باقي موظفيها وزوجاتهم أيضا.

لم أكن أحب الحفلات، وحضرت فقط لشعوري أني مثلت بلدي في واحد من تلك البرامج، لذا لا يجب أن أتخلف.

وقفت بضجر شديد، ورغم عدم شعوري بالجوع أحمل صحنا فارغاً في طابور طويل ، لم أكن أعرف أحداً من المدعوين ولا أرغب في التعرّف بأحد، إنما كعادتي في مثل هذه المواقف، أجامل وأبتسم وأضغط على نفسي، لدرجة أني حين أعود لمنزلي بعد واحدة من هذه المناسبات، أشعر بألم في فكيّ وعضلات جسدي كما لو كنت قد ضُرِبت ضرباً مبرحاً.
استدارت الواقفة أمامي ونظرت إلي بوجه مرسوم عليه ابتسامة عريضة غير مبررة، قالت وهي تمد يدها للمصافحة بشكل غير متوقع، أربكني لدرجة أن الصحن الذي أحمله كاد يسقط من يدي:
دكتورة فادية المنياوي، وزارة الصحة.
فرددت على الابتسامة العريضة بأعرض منها، ومددت يدي أصافحها وقلت:
مهندسة علا ابراهيم.. وزارة الاسكان، تشرفنا.
وددت من كل قلبي ألا يتطور التعارف أكثر، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه إذ أنها مدت يدها للسيدة التي كانت تقف خلفي بنفس الابتسامة العريضة وكررت المصافحة بنفس الحماس، فاضطررت أن أفعل الشيء نفسه من باب اللياقة وقدمت نفسي لها أيضا.
وكأن هذا التعارف بمثابة ارتباط زواج لا فكاك منه، فما أن انتهينا من وضع الطعام في صحوننا، حتى دعتنا دكتورة وزارة الصحة للجلوس على نفس المائدة، فاستسلمنا أنا والسيدة الأخرى دون مقاومة وحملنا الأطباق وتبعناها إلى حيث المائدة التي اختارتها لنا.
السيدة الأخرى كانت قليلة الكلام بشكل ملحوظ، تعمل بوزارة التموين، هادئة لدرجة أنها تبدو ساهمة، على عكس الدكتورة فادية المنياوي، فقد كانت ثرثارة لدرجة عدم التوقف إلا لازدراد الطعام، أو للضحك بصوت عالٍ جداً يلفت انتباه الجالسين حولنا.
بعد قليل فاجئتنا السيدة فادية بأن أخرجت مفكرة صغيرة الحجم، وقلبت في صفحاتها كي تجد صفحة خالية، لمحت خربشات هنا وهناك، وملاحظات مكتوبة بخط صغير وأخرى بخط كبير والبعض بميل على أطراف الصفحات. في النهاية دونتْ بعض الكلمات بطريقة تعمّدت فيها أن تخفي ما تكتب
طلبتْ من كل منا أن نتواصل عن طريق البريد الأليكتروني، فوافقنا، همست لنفسي أن هذا سوف يكون اللقاء الأول والأخير، وعلي أن أتحملها الدقائق الباقية حتى لا أترك انطباعاً سخيفاً دون داعٍ.

تبادلنا العناوين الأليكترونية وأرقام التليفونات والسلامات،وودّعتهما بنفس الابتسامة العريضة، وأسرعت الخطى هاربة نحو سيارتي.


عدت لمنزلي في تلك الليلة ونبرات صوت الدكتورة فادية المنياوي الحادة والتعبير الثابت على وجهها عالقان بذهني لا يفارقاني، عيون غريبة زائغة غير مستقرة، وابتسامة واسعة بلهاء دون معنى، وضحكات عالية هيستيرية كموسيقى تصويرية تصاحب سردها لحكايات مأساوية، تصف فيها أبشع مظاهر الإهمال والفوضى في عملها، غير حكايات الفساد الإداري الفج.
كابوس تمنيت أن ينتهي.

مرّ حوالي أسبوع. وكنت قد نسيت أمر حفلة السفارة والدكتورة فادية وحتى رحلتي للدنمارك، أو هكذا ظننت، وفي المساء رن جرس التليفون فإذا بي أجدها تهتف على الجانب الآخر بنبراتها الحادة :

إيه ؟ لو ما سألتش طبعا ما كنتيش هتتكلمي، أكيد نسيتيني.

انزعجت، لكن جاملتها وارتديت وجه اللطافة والود بسرعة وقلت مستنكرة وبمبالغة ساخرة :

لا .. إنتِ ما تتنسيش أبداً، إزيك... إنشاء الله تكوني بخير.

وكانت هذه آخر كلمات نطقت بها خلال تلك المكالمة التليفونية إذ ظلت تتحدث بلا انقطاع لمدة ساعة ونصف الساعة، حتى كدت أن أصاب بالإغماء.
في نهاية المكالمة التليفونية وافقت مستسلمة وحتى أنهي الحديث، أو هكذا ظننت، لأن تلك كانت أكبر غلطة ارتكبتها في حياتي - أن نتقابل في اليوم التالي بنادٍ أنيق على ضفاف النيل هي أحد أعضائه، فقد كانت من عائلة عريقة الثراء وتتفاخر بذلك طوال الوقت.
ذهبت وأنا أحدث نفسي طوال الطريق وأتساءل لماذا لم أعتذر عن الموعد!! ما الذي جعلني أتورط في مثل هذا اللقاء؟ فأنا لم أستلطفها، بل على العكس أرى أنها مزعجة .. وهي على العكس منّي في كثير من الأشياء، فهي ترتدي الحجاب وتحب الثرثرة ولا تتوقف عن الحملقة بي بحيث تسبب لي الحرج، وصوتها مرتفع لدرجة تخجلني إذ أشعر ان الناس تسمعنا.. وحتى طريقتها في الحياة وطريقة تعاملها مع بيتها وأولادها وزوجها تختلف جذرياً عن أسلوبي في الحياة، أحياناً أتعجب من نفسي، لماذا لا أرفض وأقول لأ.

هل انجذابي للنوع المخالف لي هو سبب عدم ممانعتي وذهابي للقائها !! أسئلة أخذت تلحّ علي ثم أصبحت بلا داعي إذ أني كنت قد قطعت نصف المسافة في طريقي اليها.


قضيت الساعة الأولي أبتسم ببلاهة - حتى عاودتني آلام الفكْ - تسألني عن عملي وبيتي وأولادي وتذكر حواديت عن طنط فلانة وأونكل علاّن وأسماء لصديقات كثيرات وأصدقاء لها رجال رغم تنافي هذا مع مظهرها المتدين .. والدها متوفٍ ولها أخ وأخت يصغرانها، شخصيتان ضعيفتان مهزوزتان، يعتمدان عليها كما أني علمت من خلال حكاياتها أن أمها أيضا تعتمد عليها في تخليص أمور العائلة وتعتبر أنها أنجبت ولدين وبنتا وليس بنتان وولد.
لكن كنت أشتم رائحة تسلط الأم في كل الأمور، ومراعاة الأبناء لأوامرها إلى درجة الطاعة العمياء، وكنت أعترضها في الحديث بأن أسأل سؤالاً بسيطاً :
طب ليه مش بترفضي؟
فأجابت وعيناها مفتوحتان بدهشة واستنكار، مع ثبات الابتسامة العريضة التي كادت تسبب لي الجنون:
ما أقدرش دي ماما.

كنت أريد أنا أن يمر الوقت وخاصة بعد ما تأكدت أنه لا يوجد بيننا شيئا مشتركا على الاطلاق، حتى نوعية الكتب التي تقرأها كانت من تلك النوعية التي أمقتها مثل الأبراج، كيف تصبح انسانا محبوبا، ناجحا سعيدا .. إلخ من تلك التي تباع عند بائعي الصحف والمجلات بجوار محطات القطارات. لا لا ليست الطراز الذي أستطيع مصادقته، ثم يجب علي أن اخلع قناع المجاملة الذي سيكلفني حياتي في يوم من الأيام وأكون صريحة وأرفض كل هذا.
بينما تدور الأفكار برأسي كالطاحونة وجدتها تخرج المفكرة الصغيرة التي كانت معها ليلة الحفل من حقيبة يدها، وتريني كلمات ما كتبتها في تلك الليلة، نظرت وأنا أدّعي الاهتمام فوجدت (( المهندسة شخصية لطيفة أتمنى أن أصادقها.. وزارة التموين صامتة تماما .. صعب الحكم )).

خجلت من مشاعري السلبية تجاهها وبقيت صامتة حتى آخر اللقاء.


(2)

أحاطتني فاديا كالأخطبوط.. حتى حديثي مع زوجي اختنق وتراجع تحت وطأة مطارداتها التليفونية في كل دقيقة فراغ تملكها، فكنا كلما بدأنا حواراً انقطع في منتصفه بسبب إتصالها.
استماتت في إرضائي ومحاصرتي بالزيارات التي تمتد لساعات، وإغراقي بالهدايا بمناسبة أو بدون، فعلت كل ما بوسعها لكي لا أبتعد عنها ولوّ لساعة واحدة، نجحت كثيرا وفشلت أنا.
إذا لم تتصل بي هاتفيا أجدها أجدها تراسلني على التليفون أو على بريدي الإلكتروني الذي ملأته بصور الورود والقطط والأطفال والفاكهة والمناظر الطبيعية، إلى جانب النكات والحكايات التي نستخلص منها العبر. ازدحمت حياتي بأشيائها.. حديثها، مفاجآتها،هداياها، جنونها ضحكاتها صوتها المرتفع..فهذا شال من الهند وهذه علبة للإكسسوارات من تركيا وهذا عقد من العقيق أحضرته لي خصيصاً ليخلصني من الاكتئاب ومشاعر الضيق، وتلك مروحة من الصين، بالإضافة لحكايات ومشاكل تختلقها من تحت الأرض تحاول بها جذب انتباهي وتشتيتي عن أي شيء عداها.

أصبح محرّماً علي أن أصادق غيرها، تحزن وتصرخ وتعاتب وتبكي ويجن جنونها، لدرجة أن أبنائي كانوا يسخرون مني بقولهم:

انتي أكيد متجوزاها على بابا

وكنت أضحك باستسلام وأنا متصورة أن كل هذا يمكن أن ينتهي بوقفة معها وبقولي: كفّي ! لكني كنت واهمة.

لاحظتُ أنها لا تتعامل مع زوجها إلا في أضيق الحدود، تحب إبنتها وإبنها بشدة. إبنتها كانت أكثر جنونا منها وتعاملها بلا احترام، أما الولد فكانت سلوكياته تجاهها تتسم بالشفقة والحنان. كل ذلك كنت أستشفه ولا أجرؤ أن أبديه حتى كملاحظة، لأنها كانت تنبري في الدفاع عنهما دون منطق.

بعد مرور سنة اكتشفت أني تورطت تماماً في هذه الصداقة وكأني وقعت في شبكة صياد، كما كنت غير قادرة أن أواجهها بعدم رغبتي في الاستمرار بمصادقتها، ولم أقو على البوح لها بأنها أرهقتني إلى درجة المرض، وانتهكت وقتي وعقلي ودمرت هدوئي النفسي. حتى أحلامي اقتحمتها كوحش مخيف، يظهر لي ويضحك ضحكتها الشهيرة العالية التي كانت تصيبني بالرعب.

تعرفت في أحد لقاءاتنا على صديقة لها تدعى " رباب " كانت تذكرها كثيراً في حديثها، تزاملتا في مدارس الراهبات من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الثانوية ثم افترقتا لالتحاقهما بكليتين مختلفتين، لكن ظلتا تلتقيان بشكل منتظم بالنادي الرياضي الأنيق.

شخصية لطيفة متزنة تقاربنا من أول لحظة في اللقاء، واستمر الحديث بيننا هادئاً، يقطعه صوت ضحكات فادية التي كانت تتدخل بشكل غير مناسب في الحوار، وأظهرتْ غيرة دون مبرر، فتعاملتْ بخشونة مع صديقتها لدرجة أنها في ذاك اليوم استأذنت بالرحيل!

حين تواصلت للمرة الأولى مع " رباب " قالت لي ساخرة وكان ذلك من خلال التليفون:
ربنا نجاكي والا لسة ؟
فلم أفهم علام تتحدث فسألتها:
من إيه؟
فبادرتني سريعا:-
من الحب القاتل.
فانفجرت ضاحكة وقلت لها في محاولة منى ألا أعيب على فادية في غيابها:-
هو مش قاتل أوي يعني.
فردت:-
لما كانت بتكلمك في التليفون وهي قاعدة معايا أنا كنت بفتكرها بتكلم راجل، وشها كان بيحمرّ ويظهر عليه علامات غريبة، لدرجة إني قلت لنفسي هي مصاحبة واحد على جوزها دي والا ايه؟
ولما كنت أسألها كانت تقول ببراءة : دي علا.. علا ابراهيم ، مش عارفاها ؟

إندهشت من انطباعات رباب ولم أطل الحديث حول الموضوع كثيرا ، وأبديت لها أن الأمر عادي تماما كل الحكاية انها متحمسة بشكل زائد.

لكني لم أرتح لهذا الانطباع، وبدأت أعيد التفكير في كل سلوكيات فادية معي، السلوكيات التي كانت تلفت انتباه أفراد أسرتي وأنا أحاول أن أؤكد لهم أنها سلوكيات عادية. بدأت أستشعر شيئاً جديداً غامضاً يحدث في العلاقة وهو غيرتها من أبنائي وزوجي، وتجنبها حتى إلقاء التحية عليهم.

دأت أتهرب منها وأتذرع بالحجج والأسباب حتى لا أقابلها، ولكن.. منه لله مخترع التليفون المحمول الذي سمح بانتهاك الخصوصية إلى أبعد حد، فقد كانت لا تكفّ عن ملاحقتي، خاصة وأن عدد مرات الاتصال كان يُشعِرني بمدى أهمية ردّ الاتصال وكنت فعلاً أفعل، لأن إلحاحها كان يوحي بأن هناك مصيبة ولا بد من تدخلي ، فكنت احياناً أترك اجتماعاً في العمل لأتصل بها:

ألو !! أيوة يا فادية إيه مالك؟ في حاجة ؟
فردت والضحكة إياها جلجلت في أذني :
لا مافيش بسأل عليكي، بطمن إنك بخير.
افترسني الغيظ فقلت:
افتكرت في مصيبة والا حاجة.
فعلت الضحكة أكثر وأكثرثم رددت بهمس :
وحشتيني.

كنت أجدها أمامي في العمل، فأندهش لجرأتها، أوضحت لها أن هذا ليس مكانا مناسبا للزيارات، فرحلت بعد أن وعدتها بالاتصال فور انتهائي من العمل.
حتى زيارات المنزل أصبحت بلا مواعيد، وكانت تتصرف بخبث إذ أنها حين ترن جرس الباب تقف بعيداً بحيث لا أستطيع أن أراها من خلال النظارة السحرية ومجرد أن أفتح، أفاجأ بها أمامي تضحك كالمجانين.

ضقت بها وبتصرفاتها وبفرضها نفسها علي طوال الوقت، حصارها لي فاق الحدود ومطاردتها زادت لدرجة أن جعلت أفكارا شريرة لم تراودني من قبل تحتل عقلي وتشتت تفكيري، مثل أن أضربها، أو أشكوها في قسم الشرطة.. لكني في النهاية لم أملك سوى أن أضحك من نفسي ومما دفعتني إلى التفكير به، وأتخيل ماذا يمكن أن يقول الناس حين يعرفون أني ضربتها أو أبلغت عنها الشرطة لمعاناتي من شدة حبها وحصارها لي.

كانت هداياها عبئاً علي، فلم أعتد هذا الأسلوب في التقرب إلي ولم أحبه أبداً، وكنت أشعر أن قبولي تلك الهدايا كأنه سلسلة حديد إضافية كبّلت أقدامي، وجعلتني أفقد المزيد من حريتي في اتخاذ قرار قطع علاقتي بها.

بدأ يحدث تقارب بيني وبين " رباب " وإزداد الحوار فيما بيننا عمقاً، وكنا نلتقي ولكن بدون أن تعرف فادية، ووجدت نفسي أضطر أن أخفي عنها أمر لقاءاتنا أو أهرب من الرد على اتصالاتها حين أكون مع رباب، إذ أنها لو علمت فسوف تقيم الدنيا ولن تقعدها.
في أحد الأيام وكنت قد استطعت أن أبتعد قليلا بعد أن واتتني الشجاعة وطلبت منها ولو مساحة بسيطة لأني أمر بفترة أحتاج فيها ان أرتب أوراقي وأن أكون وحدي. سمحت بهذا لعدة أيام لم تتوقف فيها رسائل الأشواق على المحمول أو البريد الأليكتروني، وفي نفس هذه الفترة قررت أن أسافر في صحبة رباب إلى منطقة رأس سدر حيث بعض الهدوء والاستجمام، وكنا نندمج بالساعات في نقاشات حلوة حول موضوعات شيقة.
في طريق عودتنا وبعد أن قضينا يومين غاية في الجمال رن جرس تليفوني فوجدتها فادية، وفي لحظة شجاعة رددت على الهاتف وإذا بها تسألني بطريقة حادة وتصرخ وكأنها قبضت علي متلبسة بالخيانة:
انتي فين بقالك يومين ؟
فرددت وأنا أحاول المراوغة :
أبدا هنا وهناك .. ليه كان في حاجة ؟
فقالت:
أنا عارفة انك معاها .. إسمعي بقى يا أنا يا هي.. اختاري لك حد فينا.
فحاولت الاحتفاظ بهدوئي قدر الامكان:
ليه كده يا فادية.. بلاش سخافة، إحنا كلنا أصدقاء.
فردت و جاءني صوتها صارخا من الناحية الأخرى:
لأ .. يا أنا يا هي.
كنت قد وصلت إلى نقطة اللا عودة فقلت لها ببرود رغم أن أعصابي كانت مشدودة إلى أقصى درجة:
خلاص .. هي .
ثم أغلقت الهاتف، وظللنا رباب وأنا واجمتين إلى نهاية الطريق، وحين وصلت إلى بيتي وخلوت إلى نفسي، استعدت ما قالته مرة أخرى، فاكتشفت من خلال كلماتها أنها سرقت بريدي الأليكتروني واطلعت على رسائلي، وكانت تعلم بسفري أنا ورباب .. وأنها طوال فترة علاقتها بي كانت تتجسس على كل مراسلاتي.

جنّ جنوني ورحت أزرع الغرفة جيئة وإياباً، وشعرت أني سأصاب بالهوس، فقررت أن أقوم باستشارة أخصائي نفسي، ليدلني على طريقة تساعدني في التخلص من أسرها، وتفسر لي حالتها الغريبة، وفي نفس الوقت أنقذ نفسي من الانجراف في سلسلة من الأكاذيب لا تلجأ لها إلا امرأة تخون زوجها، لمجرد إرضائها أو تجنب الدخول معها في مشاجرات.


وفي زيارتي الأولى للطبيب قال لي بالحرف الواحد:

حضرتك عندك مشكلة برضه مش هي بس.
فنظرت إليه مستفهمة وعلى زاوية فمي ابتسامة مترددة وقلت:
إزاي يعني حضرتك ؟
فالتف بكرسيه موجها لي صورته الجانبية ثم عاد لمواجهتي ثانية كما لو كان سينقض علي بالحقيقة قائلا:
وجدت عندك أرض خصبة تستوعب جنون التملك جواها وهوس الاستحواذ وتعلقها المرضي بك، وجدت سيدة مهذبة لا ترد الشخص المقابل ولديها استعداد للايثار والتنازل وتقديم وقتها واهتمامها بمنتهى السلاسة ، سيدة استسلمت ولم تقاوم، وحتى تذمرها ابتلعته وتحملت.
صديقتك عندها مشكلة حقيقية والحل ليس بيديك ولكن حل مشكلتك أنتِ بيدك ويمكنك التحكم، بس عاوز اسألك شوية أسئلة في الأول.
رددت بالايجاب رغم شعوري بالتوجس والخوف من أني قد لا أستطيع أن أكون صريحة تماما.
قال :
عادة الأشخاص من هذا النوع يكون في حياتهم الشخصية أزمة مع المحيطين بهم، الأم أو الأب من ناحية طريقة التربية في الصغر، أوالزوج كعلاقة حميمة غير مشبعة مثلا، فتكون النتيجة عند البعض بأن يتركوا مركز متاعبهم ويوجهوا اهتمامهم نحو شخص يضمنون ولاءه ويفعلون كل ما بوسعهم لبقائه تحت سيطرتهم.. هل كان بينكما أي فعل جنسي؟
كان السؤال مفاجئا رغم توقعي أن يتطرق له الطبيب قبل أن أتحدث معه، وكان من أكثر الأمور التي يخيفني الحديث عنها.. أطرقت برأسي وهززتها بالايجاب وقلت: نعم
فسأل الطبيب: وهل هذا حدث منذ بدء العلاقة؟
فرددت فورا وكأني أدفع الاتهام بعيداً عني:

لا ده حصل ثلاث مرات بس ومؤخرا.

ومن منكما التي بادرت؟

ترددت طويلاً أن أجاوب وساد صمت ثقيل ثم أجبت وكأني أسعل رغما عني:

أنا

فقال وهدوؤه لم يتزعزع:

وماذا كان رد فعلها ؟

قلت بخجل:

استسلمت ثم أصبحت هي التي تقوم بالفعل وكأنها رجل.

قال: وهل كان جنساً كاملاً؟

قلت: لا، فقط قبلات وبعض الاحتكاكات.

فقال: وهل كنتما تصلان للنشوة ؟

فصمت لبرهة ثم أجبت هامسة:
نعم أو على الأقل أنا .

ثم سألته : طبعا حضرتك قرفت مني وأكيد بتعتبرني شاذة ؟

قال الطبيب دون أن يبدو على وجهه أي تعبير:

مافيش حاجة اسمها شذوذ، في طبيعة كل انسان واللي يحب يعمله، وكمان في حاجة مهمة جدا وهي أن كل منا يحمل الميلين يعني من الممكن تشعري بالرغبة في ممارسة الجنس مع من هم من نفس نوعك، وفي نفس الوقت تنجحي مع النوع الآخر بدليل ان كل منكما متجوزة وعندها أبناء وحياتها مستمرة.

هل شعرتي أنها تحبك وان الجنس ده وراءه عاطفة ؟

رددت وقد بدأت أحس بالقرف وبقبضة تعتصر معدتي وندمت على ما اعترفت به لتوي:

المحبة موجودة من الأول ودون أن تنتظر ان أبادلها المحبة بمثلها، هي تصرفت كما لو كانت تملكني وخاصة بعد أن سألتني في أحد المرات إذا كنت احبها أو لا، فرددت بالإيجاب من واقع شعوري بالخجل، فلم أكن أشعر في الحقيقة تجاهها بأي شيء، ولم أستطع أبدا أن احدد طبيعة شعوري نحوها، أما الآن فأنا أحس أني أمقتها وأكره نفسي ، بل وربما أتمنى لو أنني لم أذهب لحفلة السفارة على الإطلاق.

أكمل:

سألتي نفسك النهاردة أنتِ جاية ليه ؟ يعني هل تبحثي عن طريقة للتخلص منها والا عاوزة طرف آخر يعطيكي المبرر علشان تكرهيها وبكده تتحرري منها وتجدي الشجاعة لمواجهتها؟

فقلت والحزن يملؤني:

جئت لأني شاعرة أني أسيرة.. محصورة داخل سجن ومش عارفة أخرج منه.. أنا مش بنام وأحلامي دايما كوابيس وعايشة في معاناة مستمرة.. وبدأت أحس مؤخرا أنها ماشية ورايا وكل ما أروح مكان أفضل أوّل ربع ساعة قلقة ومتوترة وأتلفت حولي زي اللي عاملين عملة وحاسة أنها هتدخل في أي لحظة.

انتهت الجلسة بعد أن حدد لي الطبيب موعداً جديداً ، مشيت وبداخلي أسئلة أكثر من التي كانت بداخلي قبل زيارته.. قدت سيارتي كالمنومة.. ورنين الهاتف لا يتوقف.. أنظر فأجد الاسم فادية المنياوي.. 87 مكالمة جاءتني منها أثناء جلوسي مع الطبيب !



#فاتن_واصل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أوضة ضلمة
- عمِّي الشيخ عماد
- فيل أبيض
- طريق إلى العالم الجديد
- المفرش
- زغاريد فى طابور الصباح
- صناديق فارغة بجوار الحائط
- فنجان قهوة
- تأملات في بناء عش
- إختفاء إبنة النور
- الخروج إلى النهار
- عزيزتى العزيزة
- للخلف تقدم.
- الطين ليس كالرمال
- سقوط النجمة الذهبية
- جليسة الوهم
- الرقص على الاحزان
- كائن فيسبوكى... LOL
- منافسة بدون منافس
- تعليمنا جهل وأمية


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاتن واصل - مفكرة صغيرة