والقلب يعشق سراً .. ( الجزء الثاني عشر )

فاتن واصل

الحوار المتمدن-العدد: 4914 - 2015 / 9 / 3 - 22:07
المحور: الادب والفن
    

وصل محمود إلى الغردقة بواسطة السوبرجيت، وذهب مباشرة لمقهى في حي شعبي. كان القرش جالساً يدخن الشيشة وهو يحتسي الشاي، ويضع نظارات شمسية ذات أطر ذهبية، ويرتدي تيشيرت أبيض، يضيق عند منطقة الكرش، وعلى صدره صور ونقوش للأسماك ملوّنة، وبنطلون جينز، وبين طيات رقبته السمينة، سلسلة ذهبية سميكة على شكل جنزير، وساعة ذهبية ضخمة، وخاتم ذهبي بفص أسود يضعه في خنصره. جلس محمود على الكرسي المقابل فسأله الرجل:

- فطرت؟ أجيبلك حاجة تاكلها أصلك لازم تكون في الشغل بعد ساعة.

رد محمود وهو ممسك بمعدته وقال:

- لا شبعان، وبعدين معدتي مقلوبة وحاسس إني عاوز أستنطق من ساعة ما ركبت الأتوبيس.

فقال القرش ضاحكاً:

- لازم حامل.. وقهقه عالياً، فجامله محمود بابتسامة تخفي ألمه، ثم أردف:

- بفكر آخد حاجة تهديني علشان أعرف أشتغل.

أجاب القرش باستنكار:

- تهدِّيك ده ايه؟ إحنا عاوزينك والع نار مش تاخد حاجة تهديك.. الشغل اللى مستنيك كثير، إعمل حسابك، يعني مش تدلق تدلق تدلق وبعد كده تخيب، ما ينفعش.

فرد محمود باستعطاف :

- طب مافيش حاجة عدلة شوية؟ كله فوق السبعين !

ضحك القرش ضحكة لها معنى خبيث، وقال:

- في .. بس رجالة.. إنت حتنقي؟ انت تشتغل وخلاص، وعندي لك حاجة حتصحيك من النوم اللى انت فيه ده.. عملت إيه فى الموضوع اللى قلت لك عليه؟

تردد محمود قليلاً ثم أجاب:

- لسة شوية.. ومش لازم هي ممكن أشوفلك حد تاني.. أصل أمي واقفة زي الصقر ومش حينفع أجيبها معايا هنا.

ثم أكمل محاولاً الهروب من الاسترسال في الكلام عن هذا الموضوع:

- أقوم انا عشان ألحق قلت لي فين؟

فرد القرش متجاهلاً السؤال:

- إنت باين عليك خايب، وهي أمك إيه اللى حيعرفها بس!! ده أنت لخمة أوي.

ثم أدار لمحمود كتفه وأخذ نفساً عميقاً من الشيشة، وعندما انقشع نظر إليه وقال :

- فندق النورس نمرة 65 والميعاد الساعة سبعة تمام.. عاوزهم يستجيروا.

ثم قهقه عالياً. انصرف محمود، فزعق القرش منادياً صبي القهوة:

- حجر ياوله.

ذهب محمود إلى شقة في عمارة سكنية بحي شعبي، صعد إلى الدور الثالث وطرق الباب، ففتح له شخص نحيف بصورة ملفتة للانتباه، بشرته سمراء، يبدو كما لو كان خادماً.. حيّاه محمود وقال له:

- عندي شغل الساعة سبعة ياربيع وعاوز أستحمى قبل ما أنزل وعاوز أي دوا، معدتي بتتقطّع.

فرد ربيع بصوت مخنث:

- حلمك علينا شوية ياسي حودة، هاحضر لك الحمام الأول .. آجي أليف لك ظهرك.

وضحك ضحكة رقيعة وانصرف. دخل محمود الغرفة المفروشة بأثاث فقير ولكنه نظيف.. ألقى بالحقيبة على السرير ووقف أمام النافذة ينظر إلى الشارع، ثم أخرج علبة سجائر من جيب قميصه وأشعل سيجارة وأخذ ينفث دخانها من خلف الشيش، استدارمواجهاً للدولاب ونظر في المرآة المثبتة في الضلفة الخشبية من الخارج، خلع قميصه وسرواله وأخذ يشد ملابسه الداخلية لتضيق فتبرز أعضاؤه الجنسية في صورة أضخم من حقيقتها، وأخذ يتأمل نفسه وعضلات صدره وذراعيه.

سحب منشفة وذهب ليستحم، وفي طريقه للحمام قابل ربيع الذي كان يجلس على الأرض ينظف بعض الخضراوات، فبادره قائلاً:

- إسم الله ماشاء الله.. إلهي يحرسك مالعين.. شديد أوي هي هي هئ.

- نبيل جه؟ ماسابليش حاجة معاك؟

- نبيل عقبال أملتك عنده شغل في الموفينبيك.. شغل هيطوِّل .. أصلهم تلات ستات طلاينة جايين مع بعض.. وشوف إنت بقى !! يا هناهم.. بس ربنا يقدره هي هي هئ.

انصرف محمود بدون أي تعليق متجهاً إلى الحمام.

في تمام السابعة كان يقف أمام الغرفة رقم 65. طرق الباب عدة مرات، ثم سمع صوت خطوات مسرعة. طلت عجوز بوجه مبتسم ودود، عيناها زرقاوان واسعتان، تضع المساحيق الثقيلة مع أحمر شفاه قاني اللون، ترتدي فستاناً قطنياً مزركشاً بحمالات يـُظهـِر أكتافها الضامرة الممتلئة بالنمش والبقع البنية المتلاصقة.

في كل مرة يذهب محمود فيها لمهمة جنسية من هذا النوع، يبدأ اللقاء وهو مرتبك، إلى أن تذوب الحواجز باحتساء بعض الخمر تقدمه الزبونة أو الحشيش.

حياها بكلمات قصيرة، فرحبت به وأدخلته إلى الغرفة، وهي تسأله عما يحب أن يتناوله، ثم فتحت الميني بار وأخرجت ثلاث تفاحات حمراء داخل صحن، ووضعتها أمامه على منضدة صغيرة.

نظر محمود للتفاح وشعر بألم يعتصر معدته يكاد يقتله، حاول أن يتناسى شعوره مع حضور النبيذ وكأسين زجاجيتين.

بدآ يتحادثان بلغة إنجليزية متعثرة أو بالإشارة.. انتقلت السيدة لتجلس بجواره على الأريكة في بادرة لتحفيزه، فأدرك أن هذا إعلان ببدء المهمة.

أغمض عينيه وكأنه يستعد لتقمص الدور، ثم فتحهما واقترب منها واحتضنها، وبدأ يمارس معها بعض الألعاب الجنسية، ولكن جسده لم يستطع التجاوب معه في هذه الأكذوبة، بل خذله لدرجة مخجلة.. حاولت السيدة أن تفعل كل ما في وسعها لتساعده، فلم تنجح.

لكنها لم تستسلم، وطلبت منه للتعويض عن عجزه أن يقوم بإمتاعها بطرق أخرى، وافق محمود مضطرا،ً فكل ما فيها يثير اشمئزازه، لون صبغة شعرها، وأظافرها المخلبية المطلية باللون الأحمر الفاقع، والتجاعيد تملأ وجهها وجلدها المترهل المنمش، وجفونها التي تهدلت للخارج لدرجة أصبح يرى سُمْك جفنها السفلي، حتى شكل الماسكرا على رموشها المقلوبة أعطت للعيون مظهراً صناعياً وكأنها عيون دمية لا حياة فيها.

أنهى محمود المهمة، ونفحته السيدة الإيطالية مبلغ ثلاث ورقات من فئة المائة دولار، يبدو أن الأداء رغم رداءته كان مرضياً لها، ثم مدّ يده فأخذ تفاحة من الطبق، وخرج من الغرفة متعجلاً، فقد داهمته آلام المعدة بشراسة.

في الممر الذى تطل عليه غرف الفندق، قابل الفتاة عزة عاملة النظافة، التي لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها، كانت قد تزوجت من ابن عمها، ثم بعد طلاقها، أنجبت طفلاً صغيراً .. يرفض أبوه أن ينفق عليه.. ابتسم لها محمود ومد يده وأعطاها التفاحة وقال:

- إزيك يا عزة!! وإزي إبنك!

ثم أخرج من جيبه ورقة من فئة العشرين جنيه وأعطاها لها، فمدت يدها وأخذتها ممتنة شاكرة داعية له بالخير .

ولكن حين وصل لنهاية الممر، شعر بألم قاتل في بطنه وكأن سكيناً يمزقه، فأسند رأسه على الحائط وأخرج ما بجوفه.. جرت عزة نحوه، فأشار لها بيده ألا تقترب وهو مازال مسنداً رأسه على الحائط.. بعد أن انتهى من التقيؤ اعتدل في وقفته بوهن، ثم تحرك متجهاً للخارج.

لما وصل إلى الشقة فتح له ربيع وحين نظر في وجهه ضرب صدره بكفه وقال:

- يا لهوي.. وشك أصفر زي الليمونة، أدخل إرتاح المعلم هنا ونايم في الأوضة ونبيل لسة قدامه كثير هي هي هئ.

فقال محمود لربيع:

- حاسيب لك الفلوس تديها للمعلم لما يصحى، وانا أخذت نصيبي خلاص وراجع القاهرة لأني تعبان ولازم أروح المستشفى.. بس إدخل هات لي شنطتى من الأوضة.

ركب محمود السوبرجيت عائداً إلى القاهرة، وهو يفكر .. هذا العمل يكاد يقتله، ويجب أن يكفّ عنه، ولكن كيف ؟ وهو يحصل على دخل خرافي منه يكفيه شر طلب نقود من أمه، وحسابه بين يديها كحساب الملكين.



***



بكت شيرين بكاءً حاراً داخل سيارتها في طريق عودتها للمنزل. كان الشعور بالوحدة يمزقها، والحيرة تدمرها وأسئلة كثيرة تتزاحم داخل عقلها، هل هي تحب الدكتور مختار؟ وهل منْ قابلته هذا الصباح هو الصورة التي تمنتها ؟! لا تشعر بارتياح، إلا أنها منجذبة له.. لهذا الوحش الشهواني.. الذي لم ير فيها سوى مجرد أنثى يروي بها شبقه، كانت تحتاج للتحدث إلى شخص ما.. نديم ما زال خارج البلاد، وحتى لو كان موجوداً فلن تجرؤ على مصارحته .. وهو لن يقبل أبداً أن يكون لها علاقة برجل في عمر والدها، وأنا أيضاً لن أوافقها على ما حدث.. دادا نبوية أصبحت مسنّة ومريضة ولن تفهم أي شيء مما تعانيه.. شعرت برغبتها في الارتماء بين أحضان حنونة تمنحها الحب النقي.

حضنكِ يا أمي .. أين أنتِ يا أمي؟.

كنا في هذا اليوم أشرف وأنا، نحزم حقائبنا لنذهب إلى رأس سدر لنقضي به بضعة أيام لوحدنا، بعد أن انتقل كريم للحياة في أمريكا للدراسة، فأصبحنا كالأيتام بدونه، وهدأ الحوار نسبياً بيننا، فقد كانت أمور ولدنا الوحيد تحتل معظم نقاشاتنا، والباقي ينقسم بين الحكي عن الأوضاع السياسية المتردية التي تمر بها مصر، أو متاعب العمل والفساد الإداري، الذي استشرى بضراوة في كل الدواوين الحكومية.

كنت أمر بجوار باب المطبخ حين سمعته يدندن مع صوت أم كلثوم الذي يصدح من راديو قريب " كان لك معايا .. أجمل حكاية في العمر كله " فصحت من خارج المطبخ:

- يامزاجه .. طب مادام مزاجك رايق كده، إيه رأيك تعمل لي قهوة وتيجي تساعدني في لمّ الحاجات..!!

رد أشرف والضحكة تملأ صوته:

- جبته لنفسي.. ياريتني ما غنيت، حاضر يا سيتي ماشي كلامك.

سمعنا طرقات على الباب ففتحت، ووجدت ناهد تقف ببابي، ومعها ابنتها دعاء التي فوجئت بأنها أصبحت شابة، فرحت برؤيتها، إذ مرت عدة سنوات لم أكن قد رأيتها فيها، ولا أعرف عنها سوى ما تقصه ناهد عن مشاكلها ومشاكل إخوتها.

كانت فتاة نحيفة مظهرها بسيط، ترتدي حجاباً خفيفاً، وبنطلون أسود متربة أطرافه، وبلوزة مزركشة من قماش صناعي تبدو أكثر اتساعاً من قياسها، رحبتُ بها وسألت بابتسامة صادقة :

- العروسة الحلوة دي بقى تبقى دعاء؟ انتِ فاكراني يا دودو؟ إنتِ كنت بتيجي مع ماما لما كنتِ لسة أد كده.

وأشرت بيدي أقيس طولها القصير في ذاك الوقت، فابتسمت الفتاة بخجل وهدوء وردت ناهد بسرعة:

- وهي تقدر تنسى حضرتك؟ ده انتِ ياما جبتي لها هدوم ولبس المدرسة وكل الحاجات الحلوة اللى عندها...

قاطعت ناهد حتى توقف عملية الحصر السخيفة، حتى لا تسبب حرجاً للفتاة هي في غنى عنه ، لا سيّما أنها قد أصبحت شابة، وتعي جيداً ما يــُـقال، ولم تعد طفلة الأمس.

- إزيك يا دعاء؟ مبسوطة في كلية التجارة، ماما بتقول انك شاطرة؟

فردت الفتاة بصوت منخفض يشوبه الحزن:

- الحمد لله ، بس أنا انتساب.

فبادرتها قائلة:

- أحسن ده يديكي حرية أكثر واسألي عمك الدكتور أشرف يقولك، حيبقى عندك وقت فراغ تعملي فيه اللى انتِ عاوزاه..

ثم تابعتُ وأنا أضحك:

ياريت في الكليات العملية كان في انتساب، وحياتك ما كناش اتأخرنا.

ابتسمت الفتاة وكأنها تجاملني، أما ناهد فقد كان وجهها متجهماً وعيناها شاردتين، وكأن هناك ما يشغل بالها.. سألتها:

- مالك يا ناهد؟ وإيه اللى جابك تاني دلوقتي هو حصل حاجة !! انتي مش كنتي هنا الصبح؟

زفرت ناهد زفرة عميقة وقالت:

- لي طلب عند حضرتك يا دكتورة سلوى ، لو ممكن يعني تخلي دعاء عندك يومين لحد الامتحانات ما تخلص، وبعد كده أسفرها لأهل أبوها، أنا خلاص عملت اللى عليَّ ومش قادرة اكثر من كده.

قلت بتردد:

- بس انتي عارفة إني مسافرة الصبح يا ناهد!!

فدمعت عينا أم محمود ونظرت في الأرض ، ثم قامت تستأذن بالرحيل :

فاعترضتها طالبة أن تفهمني ما حدث.. فتلعثمت وكأنها لا تريد أن تتكلم أمام ابنتها، إلا أن الفتاة نظرت لها بلوم وقالت:

- ما تتكلمي .. ما تقولي للدكتورة عاللي حصل.

نظرت إلي ناهد وقالت بغضب:

- الراجل الخسيس الندل واللى مستأمناه على نفسي وعلى بنتي، عاوز يغتصب البت.. مش كفاية عواطلي بقى له سنين ومستحملة قرفه وباصرف عليه أكل وشرب وسجاير وعلاج هو وولاده وأمه، لأ كمان أروح ألاقيه بيجري ورا البت ومقطع لها هدومها ومبهدلها وهي بتصوَّت وهو ما عندوش دم البعيد.. اللى مجنني انه هو اللى مربيها، وكأنه أبوها، إيه اللى حصل بقى!! فجاة إنضرب في نافوخه، وانا بصراحة ما أقدرش أآمن على البت معاه.

كنت أنظر لدعاء، وهي تنظر في الأرض بغضب وانكسار، وأحاول ان أتخيل ما تعرضت له براءتها والصدمة التي لاقتها، ممنْ تعتبره مثل والدها كما أعلم، وشعورها بمقدار ظلم الحياة لها ولأمثالها.

دق الجرس أثناء وجود ناهد وابنتها، فنهضت ناهد لتفتح الباب، وسمعتُها ترحب بالزائر، ثم سمعت صوت شيرين في مدخل الشقة يقترب وهي تقول:

- إزيك يا أم محمود.. وإزي أولادك ؟ وإيه أخبار دعاا.....

كانت عيناها متورمتين حمراوين، وماكياجها ممسوحاً من أثر بكاء، تفاجأتْ بدعاء جالسة على الأريكة، فحيّتْها بترحاب صادق، فقد قابلتها عندي عدة مرات، وكانت تحب وهي صغيرة أن تلعب وتحكي معها لتقاربهما في العمر.. ثم ارتمت في حضني وهمست في أذني:

- عاوزاكي لوحدك.

وبصوت مرتفع:

- فين أونكل أشرف هو موجود ؟ نفسي أشوفه وحشني موت.

أجبتها:

- بيشرب القهوة جوة وعامل نفسه بيساعدني في ترتيب الشنط.

جاء أشرف من الداخل ضاحكاً فاستقبلته شيرين بحب:

- أهلا أهلا أُونكل أشرف وحشتني أوي.

وبدا أنه سمع كلماتي، فقال بود وهو فاتح ذراعيه واحتضن شيرين:

- أهلا حبيبة أونكل.. انتي كمان واحشاني أوي .. شايفة الظلم يا شيري!! أهي دايما ظالماني كده.

نظر نحو دعاء وقال مرحباً:

- إزيك يا دعاء.. إنتي كبرتي أهه وبقيتي عروسة، مبسوطة من دراستك في كلية التجارة؟

فرددتُ بدلاً منها:

- زعلانة يا سيدي إنها إنتساب.

فرد أشرف مقدراً جديتها:

- مش عاوزة تلعب وتضيع وقت، بس أكيد تقدري تستغلي وقتك بحيث تستفيدي منه، ممكن تقري وتكتبي او ترسمي أو تمارسي أي هواية بتحبيها وماكانش عندك وقت لها قبل كده.. وممكن كمان تشتغلي أي عمل محاسبي بسيط لأي شركة وأهو منه شغل ومنه تدريب.

كانت دعاء تنظر لأشرف وهو يتحدث، وعلى وجهها تشرق ابتسامة أمل، قالت له بعد أن أنهى كلامه :

- هل ممكن حضرتك تساعدني ألاقي شغل عند حد من معارفك؟

فرد أشرف بسرعة:

- بس كده !! حاضر في أقرب فرصة يا دعاء.

دخلت شيرين تنتظرني في غرفتي حتى أنهي كلامي مع أم محمود، وأنا حائرة بأمرها، فتشبثت بفكرة أن يجد أشرف عملاً لدعاء، لتقليل فرصِ انفراد زوج أمها بها، فقلت لناهد:

- فكرة الدكتور أشرف دي كويسة وعليكي تخليها أطول وقت ممكن بعيدة عنه وممكن أستقبلها في الأيام الأخرى هنا تذاكر عندي وأهي تملا علينا البيت اللى فضي بعد سفر كريم.

نهضت ناهد واتجهت نحوي تقبّل يدي فمنعتها بلطف، فقبلت أكتافي ممتنة وقالت:

- مش عارفة أرد جميلك إزاي يا دكتورة سلوى.

أنهيت الموضوع حتى أستطيع أن أتفرغ لشيرين التي أقلقني حالها، ودخلت عليها بعد أن انصرفت أم محمود.

جلستُ مع شيرين أحاول أن أفهم منها سبب حزنها الشديد البادي عليها، وعندما حكت لي تفاصيل ما حدث لها اليوم، لم أتمالك نفسي، وظللت أدور في الغرفة وأنا أوجه لها اللوم، وأسألها ماذا لو عرف أبوها بأمر هذا الأستاذ؟ وكيف تتوقع رد فعل نديم حين يعود من سفرته؟ كانت تبكي، لكني توقفتُ فجأة، إذ أحسست أني سأفقد ثقتها بهذا الشكل، فتعزف عن مصارحتي بما في عقلها، وتعتبر أني أمثل نوعاً من السلطة عليها، وهو ما تهرب منه شيرين دوماً.. فخفّفت من لهجتي تدريجياً، وطلبت منها أن نذهب لنعدّ بعض الشاي ثم نعاود الحديث. في هذه الليلة تحدثنا لساعات، أثناء انهماكي في تجهيز حقائب السفر، لكني فشلت تماماً في إقناعها بأن تبتعد عن هذا الرجل، ففكرت بأن أعرض عليها أن تصحبنا في السفر، لتقضي عدة أيام راحة، تعود بعدها وقد فكرت فيما تفعل. وحين أبدت بعض القبول للفكرة ، اتصلت فوراً بتوفيق بك لأستأذنه في اصطحابها معنا، فوافق الرجل وأظهر امتناناً، لأنه لا يثق سوى بنا أنا وزوجي الدكتور أشرف، ويعتبرنا كأم وأب لها.



عاد محمود إلى القاهرة. وحين دخل إلى البيت رمى عنه الحقيبة، كانت جدَّته قد خرجت لتوها من المستشفى وترقد في غرفتها، فدخل عليها شاحب الوجه بشكل واضح، فتحت عينيها بوهن وقالت له :

- كده برضه يا محمود تقلقنا عليك ؟

خلع ملابسه دون أن ينظر إليها، ولبس ملابس النوم ونام بجوارها على السرير، فنظرت لوجهه بتمعن وقالت :

- مالك يا واد ؟ إنت عيان ؟ وشك أصفر كده ليه ؟

فرد محمود وهو بين النوم واليقظة:

- سيبيني أنام دلوقتي يا سيتي.

- طب قوم كل لك لقمة بدل ما أنت بقيت شبح ورقبتك بقت على عرق.

كان محمود مؤخراً قد بدأ يظهر عليه الشحوب بصورة مرَضيّة، ولم يكن هو نفسه يفهم ما الذي يحدث له.

احتضنته وقبلت جبينه بحنان بالغ، ثم أحكمت الغطاء على ظهره وتركته لينام، وهي تمسد شعره كما كانت تفعل وهو بعد طفل صغير، سقطت دمعة من عينيه المغمضتين.. ثم راح في نوم ثقيل.

عادت ناهد وابنتها للبيت صامتتين، وكأنهما تقبضان على طرفي حبل واحد، تتبادلان حواراً سرياً عبر النظرات.

دخلت ناهد لتطل على حماتها المريضة الراقدة في غرفتها، فلمحت محمود ينام بجوارها، وكانت على وشك البدء في توجيه اللوم فقالت:

- إنت جيت يا فالح ؟؟

نظرت لها حماتها ورفعت إصبعها حتى تمنعها من أن تكمل، وأشارت لها أن تخرج وتتركه نائماً، وأدارت لها ظهرها واحتضنته وناما.

- كُليه.. أهو عندك إشبعي بيه ما هو خلاص مش نافع.

قالت ناهد، ثم انصرفت وأغلقت الباب خلفها.

بعد عدة أيام من عودة محمود من الغردقة، عاد القرش مرة أخرى وطرق باب المنزل، ففتح له شوقي الباب مرتدياً فانلة داخلية وبنطلون بيجاما، يبرز كرشه ويتدلى أعلى أستيك البنطلون.. ونظر للقرش بعيون كسولة وسأله منْ يكون؟

فرد القرش بتعالٍ وقرف ونظر بعيداً ثم أدار وجهه مرة أخرى وقال لشوقي :

- قول لمحمود عمك القرش عاوزك، ومستنيك برة.

فقال شوقي باستنكار:

- برة ؟ عيب يا أستاذ إتفضل، إنما ما قولتيليش مين حضرتك؟

- ما قولتلك

- أيوة يعني عاوزه في إيه؟

- لقمة عيش.

فهرش شوقي في مؤخرة رأسه وانصرف منادياً على محمود، بعد أن أجلس القرش في صالة البيت. مرّت دعاء بين الغرفة والمطبخ فلمحها القرش وابتسم ابتسامة تودد، لكنها لم تنتبه ومشت مسرعة نحو المطبخ.

خرج محمود بملابس النوم، وهمس ولكن بجفاف:

- أهلا يا معلم، خير في حاجة؟

فرد القرش بصوت عالٍ:

- إنت مش عندك شغل؟ إيه اللى نزلك على مصر؟ هو لعب عيال؟

- لقيت نفسي عيان ومش حاعرف أشتغل.

- عيان ؟ عيان عندك إيه؟

- معدتي كانت بتتقطع من الوجع ومافيش حاجة نافعة فيها.

مرت دعاء مرة أخرى من المطبخ للصالة فاختلس القرش نظرة لها، وقال لمحمود وهو يومئ نحوها ويغمز بعينه ويبتسم ابتسامة خبيثة:

- هو إيه النظام ؟ لسة برضه ما عملتلناش حاجة في الموضوع؟

فانتفض محمود من مكانه وحاول إنهاء الحديث، وبحركة من يده رفع ذراع القرش وكأنه ينهضه من مجلسه لينهي اللقاء وقال بهمس:

- إنت عاوز توديني في داهية؟ انت مش لاقي غير أختي؟ ما قلت لك حاشوف لك حد.

- طب والبت بتاعة الفندق اللى شفتك كذا مرة بتكلمها، أهي دي تنفع برضه، هي صحيح مدهولة وضعفانة لكن ممكن ننضفها ونخليها عال.. على فكرة الولية الطليانية سألتني عليك، يظهر إنك كيّفتها.

اصطحبه محمود دفعاً نحو الباب محاولاً إنهاء الحديث والابتعاد به، خشية أن يسمعهم أحد من المنزل، ليتحدثا في الخارج.. مرت نصف ساعة إلى أن عاد محمود مرة أخرى، فوجد أباه جالساً في انتظاره:

- مين ده يا ولة ؟ وأكل عيش إيه اللى بتعمله مع راجل أد أبوك؟

- وانت مالك .. مالكش صالح بي.

- آه يا إبن الكلب ، طب بس لما تيجي أمك وهي تعرف لك صرفة.

كانت دعاء ورضا يقفان على مقربة يأكلان عنباً من صحن واحد، وأحياناً تضع له في فمه بدلاً من أن تأكل هي ثم تدغدغه وتقهقه، وينصتان لما يحدث ولكن بدون اهتمام حقيقي.

نظر نحوهما محمود، ثم أومأ بقرف ودخل إلى غرفة جدته وأغلق الباب.

رقد بجوار جدته، يتأمل وجهها الشاحب ثم قبّل جبينها وهو يحتضنها، فضمته إليها كما كانت تفعل دوماً، وربتت على كتفه ثم دثرته بالغطاء فنام على ذراعها.

يتبع غداً

#فاتن_واصل (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات