والقلب يعشق سراً . ( الجزء التاسع )

فاتن واصل

الحوار المتمدن-العدد: 4909 - 2015 / 8 / 27 - 16:38
المحور: الادب والفن
    

التحقت شيرين بعد أن أنهت مرحلتها الثانوية بقسم التصوير في كلية الفنون الجميلة، فموهبتها فى الرسم كان من الصعب تجاهلها.
كانت شابة يافعة رائعة الحسن، ورثت عن أمها جمال الوجه والقوام الفارع الدقيق، بهية الطلعة وفي عيونها ذكاء متقد، اجتماعية إلى حد ما، وغامضة، ولم يكن أحد أبداً يستطيع توقّع رد فعلها على موقف أو سلوك، لابد أن ينتبه لها محدثها لسرعة بديهتها.
تحب الرقص وتذهب إلى حفلات الديسكو مع أصدقائها، وعازفة بيانو ماهرة، يلاحقها كل شباب العائلة، هذا بخلاف زملائها الذين يختلقون الأسباب كي يتحدثوا إليها.. كانت تقترب منهم لفترة وجيزة ولكن سرعان ما تلفظهم.. صداقاتها قصيرة العمر.
خوف نديم الزائد عليها كان يشعرها ببعض القيد لكنها لم تكن أبداً لتغضبه، فهو بالنسبة لها كل الحياة، لم يكن يفارقها إلا فى فترات قصيرة، حين يسافر لحضور مهرجان سينمائي هنا أو هناك، وأحياناً كان يصطحبها لو أقيم المهرجان الذي يتابعه في فترة إجازاتها الصيفية.
***

كان عامها الثاني بكلية الفنون الجميلة، وكانت من المتفوقات المتميزات، أساتذتها يتحمسون لها ويطالبونها بأن تقيم معارض لأعمالها لشدة تميّزها. إلى أن جاء يوم، سمع الطلاب بوصول أحد الأساتذة الوافدين من فرنسا في النصف الثاني من نفس العام والذي عاد لتوه من التدريس بالبوزار كأستاذ زائر ومحاضر.. الدكتور مختار
رجل فى منتصف الخمسينيات، شعره متموج ناعم طويل وأشيب، يطلقه على طريقة الهيبيز الذين ظهروا في الستينيات، نحيف، لا يتوقف عن التدخين، بوهيمي المظهر، يرتدي الجينز وقميصاً فضفاضاً أبيض اللون بكول قصير مفتوح حتى منتصف صدره، وأنسيالاً فضياً غليظاً مع حزام من الجلد بمعصمه، ونظارات من هذا الطراز الزجاجي بإطار معدني أسود رفيع كامل الاستدارة كتلك التي كان يرتديها الزعيم غاندي، لم يكن سلوكه أو مظهره كسائر الأساتذة، بل هو أقرب للفنان الحر.
يمر بين الطلاب يتفقد لوحاتهم. وعادة لا يتحمس لأي عمل فيخرج ويترك الاستوديو. وأحياناً أخرى يأتي ثم يمسك بفرشاة ويضيف بعض اللمسات..
كان الانقلاب الأكبر في حياة شيرين في ذلك اليوم..

كان يمر بين الصفوف وعلى وجهه تعبير جامد، يدل على أنه لا يوجد عمل يثير حماسه أو يلفت نظره، توقف فجأة .. وكأنه اكتشف شيئاً ما من بعيد! اقترب مُرَكِــَّزا بصره على لوحة شيرين، ثم تقدم متجهاً إليها كالفهد حين يستعد لاقتناص فريسة، وأمسك بكوب شاي كان موضوعاً بجوار إحدى اللوحات في طريق مروره .. تنَحَت شيرين جانباً لتعطيه فرصة لِيتأمل العمل وهو فى طريقه إليه من نهاية الاستوديو، وإذا به يضرب اللوحة بكوب الشاي بكل ما له من قوة، فتتناثر قطع الزجاج على الأرض وسط ذهول الطلبة وصراخ الفتيات صعقتها المفاجأة وأخذت تنظر إلى بقايا الكوب المتناثرة شظاياه على الأرض المختلطة بألوان لوحتها،ثم وقف واضعاً يديه على خصره غير عابئ بما أحدثه هذا التصرف الغريب من ردود فعل، وتأمل اللوحة على بُعد وهو يضع كفه تحت ذقنه مسنداً إياها على مرفق يده الآخرى، كما لو كان يفكر في إضافة شيء آخر لكنه لا يفعل !
انتابت شيرين على الفور حالة هيستيرية من الصراخ والبكاء، إذ لم يكن متبقياً على تسليم اللوحة للمُمتَحِنين سوى عدة ساعات، وقد كانت تضع الرتوشات الأخيرة استعداداً لتسليمها.. ظل الدكتور مختار يضحك ملء فيه إلى أن هدأت تماماً، دون أن تستطيع السيطرة على شهقات متلاحقة كطفل، فقال لها بهدوء:
- كده أصبحت حتة فن، الأول كانت تقليدية لدرجة السذاجة.
ثم أردف قائلاً:
- الغموض هو اللى بيخلق من الجمال سر عظيم، يحسه الانسان لكن ما يقدرش يفك رموزه.. يشم الرائحة وما يعرفش إيه مصدرها.. ، يحس بالضوء، لا يراه ولكن يشعر بالارتياح ولا يفهم كيف تسرب إليه هذا الشعور.. وهو ده عمل الفنان .. يخلق الجمال بأسلوبه ومن روحه فيخرج مفعم بالسحر والغموض.. لأن الخلطة دي خاصة ومتفرده لكل فنان على حدى... فهمتي؟ كوني نفسك، خرجي اللى جواكي مهما كان، لكن المهم ان تطلقي له العنان، ولكن لا تتعبي نفسك بتفسير كل خط.. لأن بكده هتخسري شغف الناظرين وهتقضي على رغبتهم في التجاوب مع العمل الفني.
انتبه له معظم الطلاب فأكمل:
- تعرفي.. في عبارة مهمة قالها أوسكار وايلد، عارفة قال إيه !! " المعرفة تقتل، وحده الضباب هو ما يجعل الأشياء تبدو ساحرة " .. وأنا هنا أنصحك أن تكوني غامضة بعض الشيء.
ألقى نظرة أخرى على اللوحة ثم استدار خارجاً وسط ذهول الجميع. شيّعته شيرين بعيون دامعة إلى أن خرج من الاستوديو، فالتف زملاؤها حولها ليواسوها، هذا يقول أنه مجنون، وذاك يظن أن شيرين ستحصل على تقدير وأخرى تؤكد لها أنهم سيتعاونون على مساعدتها لرسم لوحة جديدة . غير أن شيرين وقفت صامتة تعيد النظر في لوحتها ، وإذ بابتسامة كشعاع الشمي تعلو وجهها واختلطت بدموعها التي مسحتها بظهر يدها، فقد رأت أمامها تكويناً رائعاً لم ترسمه، نتج من سَيَلان الألوان على اللوحة مختلطة بلون الشاي، مكوّناً نسقاً لونياً شديد الجمال لم يكن في استطاعتها أن تتوقعه. فدموع الألوان التي سالت على اللوحة كانت أقوى من كل الجوامد المرسومة بريشتها من قبل.
هذا اليوم كان نقطة تحوُّل فى حياة شيرين ونقطة فارقة لعلاقتها بأستاذها، فقد أصبحت منذ تلك الواقعة مولـَعة به، تنتظر دخوله الاستوديو وتظل عيونها معلقة به، ترقب كل حركة أو إيماءة وكأنها تريد أن تطبع صورته في ذهنها، تتبع تحركاته بين الطلاب وتنصت لملاحظاته وترى فيه شخصاً غير عادي بالمرة.. تتحمس لمحاضراته التي يتحدث فيها عن جنون رواد الفن وطرائفهم وذلك من خلال تدريس مادة تاريخ الفن.. لا تفوتها محاضرة، يجذبها صوته وطريقة سرده واعتداده بنفسه.. مظهره والطريقة التي يدخن بها سجائره. ولم تكن تكفّ عن الحديث عنه أثناء لقائها اليومي بأبيها وأخيها على مائدة العشاء كل ليلة.
في أحد أيام الشتاء، الجو صافٍ والشمس دافئة كانت رحلة إلى الفيوم، أقامها طلبة قسم التصوير ومعهم مجموعة من الأساتذة أحدهم كان الدكتور مختار. وفي قارب صغير ضمَّها ومجموعة قليلة من الزملاء كان بصحبتهم يجلس في طرف القارب البعيد. الضباب يغطي صفحة المياه من خلفه والأفق الواسع يوحي بأنهم في قارب يسبح في السماء، وكان هو يصفّر بموسيقى أغنية فرانك سيناترا الشهيرة (( سترينجرز إن ذا نايت ))..
"شيء ما فى عينيك كان يدعو بشدة.. "
شيء ما فى ابتسامتك كان مثيراً للغاية.. "
تنصت إلى الصفير ثم بدأت تدندن معه، فنظر لها ودون أن يوقف الصفير، أشار لها بيده أن ترفع صوتها وتغني مع صفارته، فبدأت تغني يصاحب صوتها رقرقات المياه في بحيرة قارون الهادئة، وصوت المجداف الذي كان المراكبي يحرص على أن يكون هادئاً، وألا يصدر جلبة تقطع هذا الجمال المسترسل في صوت شيرين.
حين وصل القارب إلى الشاطئ كانت شيرين تتوقع أن يوجه لها تعليقاً أو كلمة إطراء، لكنه نزل من القارب ومضى دون أن ينطق بكلمة.
كانت غالباً ما تشعر أنه لا يراها، مع أنها في بعض اللحظات تحس أنه لا يرى سواها..
وبين هذين الشعورين كانت شيرين تتماوج بين حيرة وحزن شديدين وانجذاب لا حدود له.

حفلات التخرج بكلية الفنون الجميلة كانت بمثابة مهرجان فني رائع، يحرص على حضورها كل الطلاب من الصفوف الأدني وليس فقط الخريجون. حيث يُقام معرض كبير يضمّ أعمال الطلاب الذين سيتخرجون، وبعض الأعمال المتميزة لطلاب السنوات الأدنى من كافة التخصصات من نحت وتصوير وديكور. وكانت شيرين على رأس هؤلاء، لتقدم معزوفة موسيقية أو اثنتين وإشعال الحفل بالتصفيق والصخب والحماس.
كان الدكتور مختار حاضراً مع باقي الأساتذة يدخن بشراهة ويضحك بصوت عال كعادته، يصمت برهة دائما قبل أن يرد على أي استفسار متأملاً محدثه، أو حتى قبل أن يرد التحية لشخص ما، دائما منغمس في عالم بعيد، عالم سريّ خاص به لا يُعرَف له حدود.
انسحب ووقف وحيداً فى أحد الأركان، اقتربت منه شيرين التي كانت تبدو كملاك وهي ترتدي ثوباً من الشيفون الأبيض ينسدل شعرها الأصفر الحريري على كتفيها ويصل إلى منتصف ظهرها، تشبك فيه وردة حمراء أهداها لها أحد زملائها، ألقتْ عليه التحية دون أن تقترب، فدعاها قائلاً بهدوء:
- عزفك مش بطال .. بتدرسي الموسيقى؟ والا مجرد عزف سماعي؟
- أعزف من وقت ما كان عمري أربع سنين، ولما كان عندي سبعة درست قراءة النوتة ، دربني واحد من أساتذة معهد الكونسرفتوار.
نظر لها بتمعن، كان الضوء المسلط على وجهها بالصدفة يجعلها تبدو كأميرة آتية من القصص الخيالية بتلك الوردة الحمراء المغروسة فى شعرها الذهبي فوق أذنها.
- إسمك إيه ؟
- شيرين.. شيرين توفيق المغربي.
- إنتي طالبة هنا فى الكلية؟ والا ضيفة؟
ردت شيرين مندهشة:
- أيوة طبعا طالبة.
- فى سنة كام يا شيرين؟
- فى سنة ثانية.. حضرتك بتدرِّس لنا مادة التشكيل المرئي وتاريخ فن.
- غريبة ليه ما شوفتكيش قبل كده ؟
دهشت شيرين بعد أن باغتها بكلماته الأخيرة، ثم ردت مستنكرة:
- مع اني مش بفوِّت محاضرة، جايز حضرتك مش بتاخد بالك.
- عدي عليا فى الأتيليه، هديلك كتاب مهم عن شخصية موتسارت.. عارفاه ؟
ردت وابتسامة تعلو أساريرها:
- طبعا، وحافظة حاجات كثير له وأعزفها بالنوتة وبدونها.. بس واضح أن حضرتك مهتم بالموسيقى الكلاسيكية، كنت أتوقع أن حضرتك تديني كتاب في الرسم.
انشغل بإشعال سيجارة ينفث دخانها وردّ دون أن يظهر على وجهه أي تعبير:
- كـُتـُب الرسم ستجديها في مكتبة الكلية بغزارة، وعموما الكتاب عن شخصية فنان وليس عن الموسيقى وده لا ينفي إهتمامي بالموسيقى. أنا اهتم بحياة الفنانين لأنها تعرفنا بالظروف الحياتية التى عادة ما تساهم في جنونهم وإبداعاتهم .. بالاضافة إلى أن الموسيقى فيها الانسجام والتضاد وفيها التدرج وفيها العالي والمنخفض وفيها كل العلاقات اللى ممكن نحصل عليها داخل لوحة الرسم التصويري ، والا إيه ..!!
شعرت بأنها تعجز عن مواصلة الحديث فقالت لتغيّر الموضوع:
- طبعا طبعا .. ثم أكملت، حضرتك شربت حاجة؟ أروح أجيب لك حاجة من البوفيه؟
- لا متشكر.
- وأشار لكأس من البرتقال موضوع على إفريز الشرفة، ثم أخرج من جيبه قارورة معدنية فضية اللون داخل جراب قصير من الجلد، ورفعها إلى فمه وارتشف منها رشفة واحدة، وصب بعضاً مما بها داخل كأس البرتقال، ثم غطاها وأعادها لجيبه مرة ثانية، فانبعثت رائحة كحول قوية.. نفث دخان سيجارته في الهواء وبدا كما لو كان قد نسي أن هناك فتاة تحادثه، وعاد لعالمه الخاص مادّاً بصره في الأفق.
في تلك الليلة لم تكن شيرين تمشي على الأرض بل كادت تطير، كان لإطرائه على عزفها فعل السحر، قلبها يخفق بعنف، وحين التقت بزميلتها حنان قالت لها:
- مالك يا شيري؟ وشك أحمر كده ليه؟
وضعت كفها على خدها وكأن زميلتها رأت ما يدور بخاطرها وردت بارتباك:
- أحمر ؟ لا.. لا أبدا مافيش حاجة.. أنا عادية خالص.

كان معروفاً بجفاف الطبع والتعالي كما كان حاداً فى ردود أفعاله. لم يكن يعجبه التعامل مع الطلاب، فقد كان يرى أنهم يحتاجون للكثير كي يصبحوا مؤهلين لدراسة الفن، بما في ذلك زملاؤه الأساتذة. كانت هناك مسافة بين أستاذ تعلم الفن بأكبر معاهده في فرنسا، وبين زملائه الذين يتصارعون على درجات الترقي في السلم الوظيفي ولا يوجد بينه وبينهم أي قواسم مشتركة، فأصبح منعزلاً قليل الكلام. لكن على أي حال كانت شيرين تجد في غموضه ما يدعوها للغوص داخل عالمه الغريب، ووجدت في دعوته لها لكي تزوره في الاستوديو فرصة لكي تقترب منه أكثر وتشبع فضولها، وتجد الرد على الكثير من الأسئلة التي تولدت بداخلها نحوه كشخص محاط بكمّ هائل من الشائعات ولا سيَّما تلك التي تدور حول علاقاته النسائية.
حين عادت إلى المنزل فى تلك الليلة، كانت كمن يعيش في حلم .. دخلت غرفتها ووقفت أمام المرآة تتأمل مظهرها الذي كانت عليه في الحفلة، ترفع شعرها ثم تتركه ليسقط على كتفيها، تنظر بشراسة وإغراء، تبلل شفتيها وتقبل المرآة فترتسم بصمات الشفتين القرمزيتين على زجاجها، تزيح أكتاف الفستان الأبيض الذي ترتديه وتتأمل رقبتها وكتفيها، ثم تسقطهما إلى أسفل أكثر فيظهر صدرها الصغير الفتي، فتخبئه بكفيها وتضحك، ثم تعيد فستانها مرة أخرى لوضعه الطبيعي وتستدير في حركة راقصة أمام المرآة فيرتفع الفستان إلى أعلى ساقيها الرشيقتين فتبدو كراقصة باليه. لأول مرة يغزوها هذا الشعور شعور الأنثى حين تمتلك الجمال وسطوته.. حين ترى نفسها كما تريد أن يراها عليه الآخرون ويتدلهون إعجاباً وحباً.
أفاقت من أحلامها على طرقات خفيفة على باب الغرفة من نديم منادياً إياها ثم مبتعداً:
- ياللا يا شيري علشان نتعشى، بابي مستنيكي.
فردّت بصوت باسم:
- جاية حالا يا نودي.
***
في أحد مقاهي الكمبيوتر يجلس أمام الجهاز يلعب بحماس، تنتهي اللعبة في دقائق فيقوم من مقعده ويذهب نحو الجالس على مكتب الكاشير فيعطيه نقوداً ثم يعود للعب مرة أخرى.
يخرج محمود ابن الخمسة عشر عاماً بعد أن يخسر كل ما في جيوبه من قروش بسيطة. تشاحن مع أمه في الصباح من أجل أن يحصل عليها، ولا يذهب للمدرسة بل ينتظر أمام الانترنت كافيه ليقضي عدة ساعات يلعب ثم يخسر ما معه من نقود. ويخرج ليتسكع هنا وهناك، لا يجد بجيبه ما يكفي حتى لشراء ساندوتش يسد به جوعه، إلى أن يحل الغروب أو المساء فيعود ليتناول غداءه ويذهب للنوم قبل أن تشنف ناهد آذانه بأقذع الألفاظ.
محمود هو الابن الذي أنجبته ناهد بعد عام من زواجها من شوقي، وقد تسبب بميلاده في تراجع أسهم الطفلة دعاء ابنة ناهد التي كانوا يدللونها ويتعاملون معها كإبنة من صلبهم، أما بعد مولد محمود فقد تحولت الست نبوية بكل عواطفها نحوه، وباتت تفرِّق في المعاملة بين الطفلين، بل وتعامل دعاء بخشونة وتعنفها دائماً وبالذات من أجله، ورغم أنه ليس حفيدها الأول وليس الأخير، إذ أن لها أحفاداً من أبناء آخرين، كما أن ناهد أنجبت ولداً آخر، لكن ظَل محمود هو الحفيد المفضل لدى الست نبوية، والابن المفضل لدى أبيه.
كانت تخصه بالمنح المالية والنفحات، ويوم تلقّيها راتبها الشهري كان من الضروري أن تعود إلى المنزل وبيدها شيء ما لمحمود. حتى قيمة العيدية التي تمنحها له كانت تختلف عن باقي الأحفاد، كانت تخصه دائما بمبلغ أكبر من الجميع.. ولو حدث أن ذبحت وفاءً لنذر، كان لمحمود النصيب الأكبر خلال وجبة العشاء ، وإذا خصصت نفسها أحياناً دون بقية أفراد الأسرة بشراء ساندوتشات كبدة رخيصة أو علبة سردين مثلاً، لا تدعو سوى محمود لمشاركتها، تشرف بنفسها على طعامه ثم بعد ذلك تأخذه في حضنها وينامان في نفس الفراش لشدة حبها له.
كان طفلاً سيء الطباع أنانياً له وجه جميل، ملامحه تشبه إلى حد بعيد ملامح الأوروبيين، حيث ورث العيون الخضراء من جدته والشعر البني الفاتح من أبيه، كان دائم الرسوب ومشاكس ويجلب المشاكل أينما حل، لم تكن علاقته بدعاء طيبة بل كان بينهما دوماً تنافس ونقار.
أما دعاء فكانت تحب رضا الأخ الأصغر وتدللــه وتعامله معاملة الأم، وكان يحبها ويحترم رأيها ولا يفعل أي شيء بدون مشورتها.. مما يسبب دائماً خلافات بين الشقيقين بسبب غيرة محمود من دعاء لسيطرتها على رضا وطاعته لها.
كان محمود يطالب أمه بأن توفر له ملابس جديدة وأحذية بأشكال وأذواق معينة، ولا يتنازل ولا يهتم حتى لو اضطرت أن تعمل في بيتين في نفس اليوم أو يوم الجمعة وهو يوم عطلتها الوحيد، الأهم عنده أن يحصل على ما يريد مهما كان الثمن. يسرق مصروف أخوته البسيط لكي ينفقه على نفسه، ورغم عطاء جدته السخيِّ له، إلا أن هذا لم يكن يشبع طمعه بل لم يكن يؤثر فيه إلا سلباً، فكان يتطاول على أخته بالضرب وعلى أمه بالسباب. كانت ناهد تضربه ضرباً مبرحاً ولا تتوقف إلا حين تتدخل الست نبوية التي كانت تصرخ فيها قائلة:
- هو ابن ضرتك؟ إيه بتضربي جاموسة.. خفِّي إيدك شوية عن الواد، إنتى عاوزة تموتيه؟ ده ايه النصيبة دي!!
كان هذا الشاب الصغير بمثابة الألم المستمر فى قلب وعقل ناهد، وكان أبوه العاطل يشجعه، كما لو كان يحقق من خلاله كل ما كان يرغب في فعله من أشياء سيئة ولم يجرؤ.
حين كان فى العاشرة من عمره كان يترك المدرسة ليلعب كرة القدم فى الشارع، وعندما اكتشفت ناهد ما يفعله محمود، حكت لي عن معاناتها معه، لكني رأيت الموضوع من زاوية أخرى، هذا الولد قد يكون موهوباً فلماذا لا نشجعه، ووعدت ناهد أن أتحدث إلى كابتن كرة القدم فى النادي الرياضي الذي كنت من أعضائه، ويمكنني أن أصطحبه في يوم من الأيام للتعرف على الكابتن كي يختبر موهبته وقدراته.
في الموعد المحدد أحضرتْه ناهد وحضر شوقي أبوه أيضاً، وحين تساءلت عن سبب مجيئه رد علي شوقي:
- الواد لا مؤاخذة موهوب، والكباتن دول بيكسبوا من ورا العيال دي، فعاوزين نعرف حيدفع كام.
اندهشت من وقاحة الرجل، ونظرت لناهد ـ التى نكست رأسها لأسفل - فقدّرت مدى البؤس الذي تعانيه ثم قلت بتحدٍ:
- مافيش فلوس، ولا بيع ولا شرا، لو كان عاجبك سيبه وأنا اللى هاســِّلمُه بنفسي للكابتن ولو مش عاجبك خده وروَّح.
لم يتوقع شوقي أني سأرد على هذا النحو، ولكنه أصرّ على موقفه، فبادرني بصفاقة قائلاً:
- يفتح الله، ده الواد رجله فيها زمبلك، والكابتن ده حيكسب من وراه دهب، وحضرتك ما يرضيكيش نطلع من المولد بلا حمص.. ياللا ياواد ، قوم بينا نروَّح.
استدار خارجاً مصطحباً ابنه الذي امتلأت عيناه بالحسرة والدموع، فنظرت لناهد بحزن وأنا مشفقة عليها وعلى الطفل، الذي كان من الممكن أن ينتظره مستقبلٌ واعد لولا هذا الجاهل الذي يصر على بيع ابنه، والتعامل معه على أنه صفقة تجارية عليه أن يخرج منها بمكسب أو عمولة أو سمسرة.
عصر هذا اليوم كان أشرف جالساً كالمعتاد وأمامه كريم على نفس المنضدة، منكبّيْن على تركيب لعبة بواسطة قطع الميكانو، من خلال كتيب التعليمات الذي يضعانه بينهما وينظران فيه من حين لآخر. أحياناً يتدخل أشرف لتصحيح اختيار كريم لقطعة من القطع منبهاً إياه أنها ليست الأنسب للاستخدام الآن، فيعترض كريم ويصرّ على اختياره.. وحين يثبت صحة رأيه فى النهاية يضحكان، ويُشهدني أشرف على مهارة كريم الذي يعتبره ورث ذكاءه الفطري مني وتشغيل الدماغ منه، حيث أصبح يهزمه كثيراً هذه الأيام.. تذكّرني كلماته كأب عن ابنه، بشوقي زوج ناهد، هذا النموذج المزعج الذي التقيت به في صباح نفس اليوم، ويبدو أن تعبيراً ما ظهر على وجهي فانتبه أن لدي ما أقوله، فسألني والضحكة مرتسمة على وجهه:

- إيه اللى شاغلِك النهاردة ؟؟ ثم بمزاح.. طول النهار شارد يا غزال.
فرددت كأنه أنقذني من الغرق:
- الراجل جوز ناهد، عاوز يتاجر بابنه، متهيأ لي لو جت له فرصة يبيعه فى السوق وجاله فيه قرشين كويسين يعملها ويبيعه.
رد أشرف ويداه ما زالتا منشغلتين فى تجميع قطع الميكانو، وعيناه مركزتان داخل صندوق القطع، وقد ارتسمت على ملامحه الجدية وخاصة بالنظارة المعلقة على أرنبة أنفه:
- الشريحة دي من المجتمع تشوَّهت تماما بفعل الفقر والجهل والضياع، كل دول نازحين من الريف اللى هو بيئتهم الأصلية.. تركوا كل شيء وسكنوا على أطراف المدن الكبيرة.. تأكدي أن البيئة دي وكر لبلاوي كثير، وبعدين فى النهاية ما تنسيش إنه عايش عالة على مراته من سنين، والنهاردة عاوز يطلع بأي مكسب حتى ولو كان يبيع ولاده.
فأردفت بأسى:
- أيوة بس الغلبانة ناهد دي هتعمل إيه، دي مسكينة بتشتغل سبع أيام فى الاسبوع، وطلباتهم ما بتخلصش .. تموت بقى ..!! تعرف مشكلة ناهد إيه؟ إنها طموحة لدرجة أكبر من قدراتها وإمكانياتها.. ساعات أحس إن عينها على كريم والطريقة اللى بيتربى بيها، وعاوزة تعمل نفس الشيء مع أولادها.. وده طبعا مستحيل، الظروف مختلفة تماما، لكن ما يمنعش إني على قدر ما أشفق عليها، أحترمها وأحترم كفاحها.
- ثم أكملت:
- تصور إن البيت اللى هي عايشة فيه دلوقتي ده بيت من دورين، كل ثمنه من تحويشة عملها وبيع ذهبها هي وحماتها الست نبوية، أما الأصل فبيت قديم باعوه وأضافوا ليه مدخراتهم.. دور جوزها إيه بقى فى الموضوع.. ولا حاجة !! كان ناقص ياخد عمولة منهم فى عملية بيع البيت القديم وشراء الجديد.
ظل هذا الموضوع مصدراً للحوار فيما بيننا، وخاصة بين أشرف ونديم في سهرات نهاية الأسبوع التى كانت تقام ببيتنا، لدرجة تحمَّس معها نديم للموضوع، فطلب من الست نبوية أن تسهــِّل له عملية تصوير المنطقة التي تعيش فيها، ليقوم بإخراج فيلم تسجيلي عن العشوائيات بوجه عام، وعن منطقة الكيلو أربعة ونص بالذات، وذلك على أمل أن يلفت انتباه المسؤولين كي يفعلوا شيئاً للنهوض بالمنطقة وسكانها، وإقامة حِرَف صغيرة لإيجاد عمل لشباب المنطقة بدلاً من العمل بالسرقة والسطو والسمسرة.
ظللت أتلقى حكايات ومصائب أسرة ناهد وخاصة ابنها محمود. فكانت تقصّ عنه كل يوم حدثاً وتبكي..اليوم فـُصِلَ من المدرسة.. في يوم آخر معركة في الشارع .. بعده محضر في قسم الشرطة لسرقة نقود بهدف شراء السجائر أو من أجل البانجو.. العصر معاكسة وتحرش وفي الليل مطاوي وتدريب على السطو وقطع الطريق.
كانت دعاء ابنة ناهد الكبرى قد بلغت الثالثة عشرة من عمرها، وبدأ شكلها يتغير نحو الأنوثة، وأصبحت تشعر بالخجل وترفض أن ترتدي ملابسها أمام إخوتها كما كانت تفعل من قبل، وتفزع لو أن أحدهم اقتحم الغرفة عليها فجأة.
ورأت أم محمود أنه من الأفضل أن تدعها تنام في فراش منفصل، ولكن ضيق ذات اليد لم يسمح بهذه الرفاهية، فافترشت لها سجادة على الأرض فى نفس الغرفة التي ينام فيها أخواها، وأعطتها لحافاً قديماً كانت قد اشترته من محلات المستعمل.
رضا الابن الأصغر والأقرب لقلب دعاء، يترك فراشه ويذهب لينام بجوارها على الأرض حين يستيقظ في منتصف الليل، يهرع إليها وكأنها أمه، وقد كانت تحبه وتحتضنه وتدفئه وتحنو عليه فارتبط بها وأحبها. وكان يقتسم معها حلواه التي يشتريها من مصروفه المتواضع فى طريق عودته من المدرسة، وتمنحه هي بعضاً من نصيبها من طعام الغداء، الذي كانت تفضل أن تتركه لتتناوله ليلاً وحدها في فراشها بحريتها وهرباً من لسان الست نبوية اللاذع.
اعتادت الفتاة منذ الصغر أن كل ما يخصها مستباح. كانت الست نبوية تنادي عليها أثناء أدائها فروضها المدرسية أو نومها لتشتري لها السجائر أو لِتعدّ لها الشاي، الشيء الذي لا تفعله مع محمود أو رضا، وكانت تكافئهم لو حدث وطلبت منهما القيام بأي مهمة سواء بالبيت أو خارجه. كانت دعاء حين تدخل دورة المياه لكي تستحم أو تقضي حاجة، ينادون عليها أو يطرقون الباب مهللين كي تسرع لتقوم بأداء عمل ما، وتجد من يقول :
- ساعة فى الحمام !! ايه بتغسلي كرشة ؟
كانت مُلكاً للجميع، وكل ما لديها مباح، وقتها وجهدها وحتى جسدها.. وبالذات جسدها.
إحدى الليالي، وبعد أن غاب الجميع في نوم ثقيل، دخل شوقي الغرفة التي ينام فيها الأبناء بعد عودته من إحدى سهرات الحشيش، فتح الباب بحذر فدخل ضوء إلى الغرفة، فاستيقظت دعاء التي كان رضا ينام بجوارها، توجه شوقي إليهما وأمر رضا بأن يصعد إلى الفراش لينام بجوار أخيه وقال بهمس:
- بت يا دعاء، قومي يا بت إعملي لي كوباية شاي.
فردت بصوت نصف نائم متذمرة :
- يووووه يا بابا، شاي إيه دلوقتي، والنبي سيبني أنام.
فمد يده إلى كتفها وغزها بإصبعيه بقوة كي تستيقظ ، فأدارت له ظهرها بتأفف دون أن تتكلم. نظر إليها متفحصاً، وهو جالس القرفصاء على الأرض بجوارها، والضوء من خارج الغرفة يسقط على جسدها الشاب فتظهر استداراته الصغيرة، مد يده بهدوء مثل لص، وتحسس مؤخرتها.. فقفزت جالسة وزعقت:
- يا لهويييييي عاوزة أنام يا ناس، حتى النوم مش عارفين ننام !! عندي مدرسة الصبح.
فكتم فمها بيده مذعوراً:
- بس الله يخرب بيتك، حتصحي أخواتك يا بنت الهبلة. خلاص.. جتك داهية، مش عايز من وشك حاجة.
ثم خرج هارباً قبل أن تستيقظ ناهد أو أمه. لم يتوقف شوقي عند هذا الحد، بل كان يطارد الفتاة لو تصادف وعادت من المدرسة في وجوده بالمنزل، يتعمد أن يقتحم عليها الغرفة بشكل مفاجئ فتصرخ محتجة .
فيضحك بنذالة ويخرج . وكان وجود رضا يحدّ من استرساله في شذوذه لكنه أحياناً كان يرسله ليشتري له علبة سجائر لينفرد بالفتاة، فيأتي ويقف خلفها ويقبض على مؤخرتها أثناء وقوفها أمام حوض الغسيل، فتصرخ وترشه بالمياه فيتحول إلى وحش مفترس وينهال عليها ضرباً بضراوة، لتكون فرصة له كي يتحرش بها، فتفر هاربة باكية.
ظلت دعاء صامتة على تلك الأفعال فتعتبر الأمر لا يتجاوز المزاح الثقيل. فهذا الرجل الذي رباها هو بالنسبة لها بمثابة أب ولا يمكن أن تكون نيته سيئة كي يرى فيها فريسة، خاصة أنها تحبه وتعطف عليه وتعتني به في غياب أمها بالعمل حين يمرض، ولم تشعر قط أنه يكرهها أو أنه من الممكن أن يؤذيها.
كثيرا ما كان يقوم محمود أيضا بفتح الباب عليها فى الحمام فتصرخ:
- يا ماما، حوشي محمود.
فترد ناهد بتأفف وزهق:
- والله يابن شوقي لآجي أقطـَّعك، مالكش دعوة باختك الله يحرقك.

يتبع غداً

#فاتن_واصل (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات