والقلب يعشق سراً. ( الجزء السابع )

فاتن واصل

الحوار المتمدن-العدد: 4905 - 2015 / 8 / 23 - 17:02
المحور: الادب والفن
    

انتهت السهرة، لكنها كانت آخر لقاء بيننا وبين بهاء، الذي لاحظ أيضاً في هذه الليلة اهتمام أشرف بي. كنت أعرف أنه يكنّ لي شعوراً دفيناً قديماً بالحب أثناء الدراسة، لم يصرح به بسبب ظروفه المادية، وكنت أحسّ به من خلال غيرته الشديدة من نديم، إلا أنه عندما عاد والتقينا لم يستطع البوح بهذا الشعور، إذ على ما يبدو أنه اكتشف في هذه الليلة كم تباعدت المسافات بيننا.
كان بهاء قد فاتحني في الزواج قبل سفره طالباً مني أن أنتظره حتى يعود، لكني قلت له وقتها بديبلوماسية وبحسم:
- إحنا طول عمرنا أخوات وأنا عمري ما فكرت فى الموضوع ده وكمان أنا عاوزة أكمل دراسات عليا بعد الكلية ومش فاضية دلوقتي للارتباط.
لم يعتبر بهاء هذا الرد رفضاً في ذاك الوقت ، بل اعتبر الموضوع مؤجلاً، وفكر أني طالما قررت ألا أرتبط إلا بعد الدراسات العليا، فيمكنه أن يستغل الوقت ليحسِّن من إمكانياته.
وفي تلك الليلة التي التقيت فيها ببهاء لأول مرة منذ تخرجنا، تعمدت أن أرفع الكلفة مع الدكتور أشرف أمامه، لطرد فكرة الارتباط من ذهنه نهائياً إن كانت ما زالت موجودة، كان هذا يشبع شعوراً في داخلي بالتفوق والانتصار، خصوصاً بعد ما أصاب شخصيته من تشوهات بسبب هذا الثوب من الأفكار البالية الذي ارتداه بعد عودته من السعودية.
***

بعد ذلك بحوالي العام تزوجنا أنا وأشرف. طلب مني الزواج بطريقة غريبة وغير تقليدية بالمرة. فقد كنا نتناول العشاء بأحد مطاعم منطقة سقارة بالهرم على نغمات الموسيقى، وكان أحد أفراد الفرقة التي تعزف في هذا المطعم يعرفني شخصياً واسمه نادر، اقترب ورحّب بنا وتعرَّف بأشرف صافحه قائلاً:
- حظك حلو معاك الكروان.
فابتسم أشرف بتحفظ ورد باقتضاب:
- آه طبعا طبعا.
فقال نادر محاولاً بردِّه أن يقنع أشرف أنه لا يغازلني:
- الأغنية الجاية هتعجبك ( ثم وجه كلامه لي ) ومهداة ليكي إنتي والدكتور أشرف وهي " هاو ديب إذ يور لاف " بس المفاجأة إن إنتي اللى هاتغنيها ، أوعي تقولي لأ.
وانصرف على عجل دون أن يعطيني فرصة للرفض أو القبول، وأشار للفرقة فبدأ العزف، واقترب منا حاملاً الميكروفون معلناً للحضور أني سوف أغني، فنظرت لأشرف محاولة أن أستشف إذا كان هذا السلوك قد ضايقه أم لا وكاستئذان أن أغني، وكانت المرة الأولى التي أستأذِن فيها بالغناء ـ فقد علمني أبي رحمه الله أن الغناء حق من حقوق الانسان طالما يملك صوتاً عذباً ـ لكن لم يظهر على وجه أشرف أي تعبير وقد ترك لي القرار. مددت يدي فتناولت الميكروفون ووضعته بالقرب من فم أشرف لنغني سوياً، فضحك ودفعه نحوي برفق وقال: غنّي إنتِ يا سلوى. شعرت لحظتها أني خفيفة كالريشة، وكأنه أعطاني إشارة بأن أبدأ الحياة، ومع بدء عزف نغمات موسيقى الأغنية، اجتاحني تيار جارف من السعادة ومع مفاجأة رواد المكان بغنائي، بعد أن كنت أرقص في الحلبة بينهم، صفق الجميع تصفيقاً ملأ أرجاء المطعم.. فانتشيت وانسجمت أكثر بالغناء لدرجة نسيت معها كل شيء، وانطلقت كالطائر الذي يحلق في السماء، وحين انتهت الأغنية، صفق الحضور بحرارة وفوجئت بأشرف يطلب من نادر أن يُبقي له الميكروفون لدقيقة.. فنظرت له والدهشة تملأ عينيَّ متسائلة إن كان سوف يغني هو الآخر، فإذا به يقرب الميكروفون من فمه ويقول موجهاً كلامه لي:
- أعتقد إني عاوز أكمل حياتي معاكي، وإن الحياة من غيرك عادية، لكن معاكي لها طعم جميل.. كل يوم الصبح أصحى من النوم أدور عليكي، وبعدين اكتشفت إن علشان ألاقيكي لازم أتجوزك، وبكده تبقي معايا على طول وكل يوم ولما أدوَّر عليكي ألاقيكي.. إيه رأيك ؟ تتجوزيني ؟
فصفق رواد المطعم بحماس شديد، وضحكت من أعماق قلبي، وشعرت أنه لا توجد من هي أسعد مني في هذه اللحظة على وجه الأرض.. فجذبت الميكروفون من يده وأنا أضحك بانطلاق وقلت وكأني أحدّث الجميع:
- موافقة من كل قلبي.
طوال الطريق كنت أغني كعصفور يحلو له التغريد، وكنت أغني له.. لأشرف.. فنظر لي بحب وقال بهدوء ورقة وبكلمات تكاد تكون هامسة:
- عاوزك تغني لي لوحدي دايما.
لم أفهم ما قاله وقتها ولكن على أي حال، لم أغنّ في مكان عام بعد ذلك أو في أي حفلة، وأصبحت أغني في الحمام مثل أبي.
في تلك الليلة تحدثت طويلاً مع نديم عبر الهاتف، وكنت متحمسة للغاية. حكيت له عن تفاصيل ما حدث، ولكن لوهلة شعرت أنه كمنْ صُدِم وظل يرد عليّ بذهن شارد، أو كأنه غير متوقع أن يكون أشرف جاداً في حبه وارتباطه بي، أو من الجائز أنه ظل طوال الوقت يدخل نفسه في تحدّ أني رغم شخصية أشرف المبهرة فإن هذا لن يغير من مشاعري الواضحة تجاهه شيء.
ثم.. ولنهاية المحادثة التليفونية حاول أن يُبدي فرحاً مفتعلاً لم يقنعني وتجاهلته.
تلك النبرة، الترقب وانتظار كلمة لم تقل، والإحساس بعاطفة مبتسرة يتم خنقها قبل ميلادها الوشيك.. هذا الشعور الذي أرَّقني طوال حياتي، كاد أن يفسد عليّ واحدة من أحلى اللحظات التي تمر بها أية فتاة.
في حفل عائلي بسيط، حضره عدد قليل من المدعوين. معارف أشرف لا يتعدّون عشرة أشخاص، إذ لم يكن شخصية اجتماعية بل كان يفضل السكون والتأمل والعزلة، وجميع أصدقائي وعلى رأسهم نديم الذي بدا ذاهلاً صامتاً بعض الشيء. أما عصام الذى سبق الجميع بالزواج بابنة عمه نيفين والتي كان يحبها تقريباً وهو فى بطن أمه إذ لم نعرفه إلا ويحبها، فكان بطلاً للحفل، يضحك ويطلق النكات هنا وهناك لإسعادي.. لكني لا أعلم لماذا كنت أحس أن عصام بالذات يرى ما لا يراه الجميع؟ من الجائز لأنه أقرب أصدقائي أنا ونديم، وتربينا سوياً منذ الطفولة ونعرف بعضنا البعض جيداً.. أو ربما هو وهْم يسكن أعماقي ! كنت أرتدي ثوباً أبيض بسيطاً وأضع تاجاً على رأسي وتركت شعري ينسدل على كتفي، وكنا نتحرك بين المدعوين نضحك ونتلقى التهاني من الجميع. تركني أشرف لدقائق كي يستقبل أحد أصدقائه، فاقترب مني نديم وعصام ضاحكَين وقال عصام موجهاً كلامه لنديم:
- تيجي نخطفها ونطلب فدية؟ بيقولوا عليه غني وأكيد هيدفع.
فضحكنا بصوت مرتفع لفت انتباه الجميع، وللحظات أحسست أني عدت لأيام الدراسة والفرقة، حين كنا نجتمع ثلاثتنا في الاستراحة وكان عصام يجعلنا نرتمي على الأرض من شدة الضحك.. كانت أياماً رائعة لا تــُنسَى. نظر نديم نحوي ثم التقت عيوننا، عيناه الزرقاوان الصافيتان اللتان كانتا مرفأً لقلبي في وقت من الأوقات، وقال بمنتهى العذوبة:
- أتمنى لك حياة سعيدة، إنتِ أروع إنسانة قابلتها في حياتي.
نظر عصام لكلينا وقال متعجلاً موجهاً كلامه لنديم قبل أن أردّ حيث لمح أشرف قادماً نحونا:
- طب أشرف جاي إيه رأيك نطلب منه خمسة جنيه فدية؟
فضحكنا مجدداً. استغرق الحفل ساعتين بعدها أوصلنا نديم إلى المطار لنقضي شهر العسل بجزيرة كريت.
***
كنت حاملاً يوم ذهبت لزيارة نديم في صحبة أشرف. جلست معنا شيرين في غرفة الصالون الكبيرة لحين عودة نديم من مكالمة تليفونية تلقاها أثناء زيارتنا، بيدها كراسة الرسم الخاصة بها، وكنا نبدي إعجابنا برسوماتها. جاءت الست نبوية حاملة صينية بها ثلاثة فناجين من القهوة، سيدة بشوشة الوجه خمسينية تقريباً ، فقالت شيرين:
- إتفضلوا القهوة، على فكرة عاوزة اقدم لكم دادا نبوية دي مديرة البيت واللى كلنا هنا بنسمع كلامها حتى بابي ونودي.
ابتسمت وقلت لها:
- عارفينها من قبل ما تتولدي.
ثم نظرت بودّ للست نبوية، وكانت قد مرت فترة لم أرها ومؤكداً تغير شكلي بعد الحمل وقلت:
- إزيك يا ست نبوية، فاكراني أنا سلوى زميلة نديم.
ضحكت بلطف وردت مؤكدة :
- طبعا يا دكتورة سلوى هو معقول أنسى حضرتك ؟؟ مبروك البيبي ـ بعد ان لاحظت مظهري ـ ربنا يتم ولادتك على خير ويقومك بالسلامة يا بنتي.
التفتُّ لأشرف وقلت وانا اغمز له بعيني دون ان تلاحظ الست نبوية:
- الست نبوية ياما أكــِّلتنا، هي مربية نديم على إيديها، وعارفة تاريخه الاسود كله .
ردت الست نبوية مستنكرة ولكن مدركة أني امزح:
- إسود ، يا خبر هو فى زي سي نديم، طب ياريت الناس كلها فى أخلاقه، طالع لوالدته الدكتورة نوال الله يرحمها، كانت بلسم يتحط عالجرح يطيب.
ثم التفتت لشيرين قائلة :
- ياللا حبيبتي معاد نومك جه وعندك مدرسة الصبح، الدكتورة سلوى مش غريبة وسي نديم خلص تليفون وجاي.
فترد شيرين بأدب :
- حاضر يا دادا.
الست نبوية تعمل ببيت أسرة نديم منذ أن كان طفلاً، واستمرت حتى بعد زواج أبيه بالسيدة السويدية. شهدت طفولة شيرين وشاركت فى أحداث حياتها التالية، وتعرفت علي وعلى كل مجموعتنا منذ ذاك الوقت حين كنا نأتي لنذاكر مع نديم.
ترددت قليلا وهمست لأشرف، ثم حين وافقني استدرت للست نبوية وقلت لها:
- وحياتك يا دادا نبوية ما تعرفيش حد يبقى معايا بعد الولادة؟ أصل ماما صحتها بقت على قدها وأكيد هاعوز حد معايا في الفترة اللى جاية بعد ما اولد.
فوافقت الست نبوية وطلبت مني أمهلها بعضاً من الوقت حتى تجد سيدة تستطيع أن تثق فيها وتصلح لأن تعمل لدي.
بعد ولادة ابني كريم، أرسلت الست نبوية زوجة ابنها ناهد، لتعمل لدي وتساعدني في العناية بالطفل. وكان هذا أول تعارف بيني وبين أم محمود أو ناهد.
كانت في البداية تأتي إلي مصطحبة ابنتها الصغيرة دعاء، وكان عمرها حوالي سنة. وبعد ذلك بعام أنجبت ابنها محمود، الذي اضطرت مع شظف العيش أن ترسله مع أخته للحضانة لتستمر في العمل، خاصة وأن الست نبوية كانت ما زالت تعمل ببيت نديم، ولا يوجد لديها من يرعى الطفلين.
كنت أتعاطف مع ناهد وأحببتها، فقد كانت ذكية. أكملت تعليمها حتى المرحلة الإعدادية، ثم تركت الدراسة رغماً عنها، لأنها اضطرتْ أن تعمل في الحقل مع أبيها بعد عودتها من المدرسة كحال الكثير من الريفيات، وكانت تعود مرهقة إلى درجة تعجز معها عن القيام بفروضها المدرسية، فترسب وتـُطرَد من المدرسة، وانتهى الأمر بأن تركت الدراسة وظلت تعمل مع باقي إخوتها، إلى أن تزوجت في سن مبكرة وأنجبت ابنتها دعاء.

***
كان الوقت قد جاوز الرابعة عصراً، حين استقلت ناهد ميكروباص من الموقف المجاور لمنطقة سكنها عند منطقة " التبة " عند الكيلو أربعة ونص بطريق السويس قرب مدينة القاهرة. وهي منطقة عشوائية، اشتهرت في وقت من الأوقات بأن الذين يسكنوها معظمهم لصوص ولذا أطلق عليها أيضا إسم " عزبة الهجَّامة " ، كانت تريد أن تسابق الزمن بعد أن أنهت عملها اليومي ببيتي، متجهة إلى مستشفى معهد ناصرالحكومى بحي شبرا الخيمة، حيث ترقد حماتها منذ حوالي ثلاثة أشهر تصارع مرض السرطان والموت المتربص بها بين يوم وآخر.
سبق دخولها المستشفى فترة رقاد طويلة بالبيت، رعتْها فيها أم محمود وسهرتْ على تمريضها وخدمتها بجانب أعباء عملها وطلبات أبنائها.
كنت أعلم أنها كانت تفعل كل ذلك عن طيب خاطر لم يجدْ صداه عند أبناء السيدة المريضة الأربعة، الذين كانوا يحضرون لزيارتها لوقت قصير ولا يتوانون عن توجيه اللوم والانتقادات بنزق لطريقة خدمة ناهد لأمهم.

مرت حوالي ربع ساعة وهي جالسة تنتظر داخل الميكروباص، لا يريد سائقه أن يتحرك إلا بعد اكتمال عدد الركاب الأربعة عشر. فبدأ الركاب المنتظرون داخل الميكروباص يتأففون من شدة الحرارة رغم أن الجو خريف، بعضهم يلوح بجريدة حتى يحرك الهواء والبعض يلوح بيده، وسيدة فكت الحجاب عن رقبتها بحركة تدل على شعورها بالاختناق وسط النظرات الجانبية المتلصصة، ورجل يتمتم لجاره:
- مش حيطلع إلا لما الميكروباص يكمل.
فيرد الجار:
- طب مالأرزاق بيد الله، يمشي وبعدين لو ربنا رايدله حيلاقي الزباين بتشاور له.
أخيراً جاء الراكب الرابع عشر، فصعد السائق وبين أصابعه سيجارة، ملابسه قذرة كأنه لم يستحم منذ دهر، ثم طلب من التبَّاع الذي يمسك بيده مبلغاً من العملات الورقية المطوية بالطول من فئات بسيطة، يبدو أنها تمنحه بعض السلطة أن يبدأ بلمّ الأجرة، كان يركب على سلم السيارة وباب الميكروباص مفتوح يمسكه بيده، معتمداً على ساق واحدة ومدليَّاً الأخرى بحرية، زعق:
- جنيه وربع.

ثم بدأ يجمع النقود من الركاب . فشهقت سيدة بدينة جالسة داخل الميكروباص:
- جنيه وربع ؟ ليه ياخويا ؟ من إمتى؟ إنتوا كل شوية تزودوا!! إحنا ناقصينكوا.
همهم الركاب، بعضهم اعترض، وآخر انتظر إلى أن يحصد مكتسبات الصراع بين السيدة والتبَّاع، لم تستطع السيدة بتذمرها منفردة أن تفعل شيئاً، وخاب رجاؤها في أن ينضم لها ركاب الميكروباص، وحسم التبَّاع الأمر وقال بصفاقة وعناد:
- جنيه وربع يا ست.. واللى مش عاجبه ينزل يا حضرات.
هنا عرج السائق بحركة فجائية قاطعاً الطريق، ثم أوقف السيارة بعصبية وزعق:
- الأجرة جنيه وربع، هتدفعوا والا نرجع نلم زباين تانيين؟
مدت السيدة البدينة يدها بالنقود في استسلام للتبَّاع الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة متمتمة:
- خد.. إلهي تنضرب في قلبك منك له.
وصل الميكروباص إلى الكورنيش وأصبح في محاذاة النيل. تنهدت أم محمود ومدت نظرها تتأمل قرص الشمس الذي بدأ يتوارى خلف الأبنية الشاهقة على ضفة النهر الغربية، مسدلاً وشاحاً برتقالياً من الضوء على المباني المتراصة، يتحرك المارة بتراخٍ، تصطف أعمدة الإنارة بلمباتها الصفراء الشاحبة مدلــِّية رؤوسها فى انكسار كصف من الأسرى، يخترق بعضها شواشي الشجر الشاخص فى حراستها بثبات، وقد اصفرت معظم أوراقه وأخذت تتساقط مع مداعبة نسمات الخريف المشاكسة.
هذا المشهد، ـ رغم تكراره يومياً وفي نفس الموعد تقريباً ـ كان يسدل ستاراً من الوحشة والأحزان الثقيلة على قلب أم محمود في رحلتها، خشية أن يكون يوم الزيارة الأخيرة، وكان المكان والطريق والصور يعيد إلى ذاكرتها تفاصيل تعارُفها بأم زوجها الست نبوية، وعلاقتها الطويلة بها التي كادت أن تكون أطول زمناً من علاقتها بأبويها.
كان هذا المستشفى هو مكان لقائهما الأول، والذي يبدو أن الأقدار تشاء أن يكون هو نفسه المكان الذي ستفترقان فيه، ومع تتالي معالم هذا الطريق أثناء رحلة الميكروباص، كان يمر شريط حياتها بالكامل أمام عينيها، شاركتها في جزء كبير منه هذه السيدة.
ناهد كانت شابة فى الثامنة عشرة من عمرها حين التقت بالست نبوية، أمام باب مستشفى فى رحلة بحثها عن عمل ومأوى مؤقت ليضمّها هي وطفلتها الرضيعة، بعد هروبها من أهل زوجها المتوفي الذين كانوا يريدون الاحتفاظ بطفلة ابنهم بعد وفاته وطردها من بيتهم، لكنها خرجت متسللة في إحدى الليالي حاملة الطفلة بين ذراعيها ولجأت لبيت أبيها بنفس البلدة آملة ألا يردّها.
طرقت الباب الخشبي الذي يتسرب من تحته ضوء لمبة الجاز المرتعش، ولما اقتربت خطوات متثاقلة تحتك بالأرض، جاءها صوت أبيها الناعس من خلف الباب :
- مين ؟!
نكست رأسها وخبأت وجهها في الباب ثم أجابت هامسة:
- ناهد .. ناهد يابا، إفتح.
صوت مزلاج ثم فتح والدها الباب وكان بسروال وصديري اعتاد أن يرتديهما للنوم، رافعاً لمبة الجاز أعلى رأسه ليتحقق من وجه الطارق، وحين تأكد أنها ناهد، تراجع بالباب للخلف مصدراً صريراً غليظاً كي تدخل ثم أغلقه مباشرة وأعاد المزلاج لمكانه الأول واستدار لها سائلاً:
- خير ؟! إيه اللى جايبك الساعة دي؟
شرحت له ناهد الأمر وهي تبكي، ويبدو أن صوتها أيقظ أمها التي لاذت بالصمت كالعادة، وإخوتها أيضاً الذين لم ينبسوا بكلمة خوفاً من بطشه وقسوته التي اعتادوها، وخاصة الشابان اللذان كانا يكبراها بسنوات قليلة فاستدارا متجهين إلى داخل الدار، فقط أختها هناء التي تصغرها بثلاثة اعوام، هي التي بكت من أجلها بحرقة لدرجة أنه نهرها وأمرها أن تدخل لتنام فانسحبت بصمت.
أصر على ألا يأويها، وأمرها بأن تعود مرة أخرى لبيت أهل زوجها الذين هم أوْلى من وجهة نظره برعاية ابنتهم، فيتولون إطعامهما معا وإعاشتهما، قال بجفاف بعد أن أدار لها ظهره:
- قـَلــِّبي عيشك يا بنتي.
فقالت بحيرة:-
- يابا دول عاوزين ياخدوا البت.
- ما ليش شأن، خليهم ياخدوها، هم أوّلـَى بيها، مش بنت ابنهم !! تبقى بنتهم.!!
فردت ناهد بإصرار والدموع تملأ عينيها:
- وانا ما سيبش بنتي.
هذا العناد يعرفه جيداً والد ناهد. تلك الفتاة لم تكن تبكي أبداً حين يضربها خلافاً لِكل إخوتها، بل كانت تؤجل بكاءها إلى أن تخلو إلى نفسها، وكأن البكاء عار تأبى أن يلوثها، صلبة تتحداه وترد على كلامه الفظـّ بشجاعة لم يتحلّ بها أخوتها الرجال، ولكن كان يُسمع صوت النحيب ليلاً بعد أن ينام الجميع ، وكأنها تبكي كرامتها التي أهدِرَت.
زعق بغضب وبصوت أخاف الباقين فانسحبوا واحداً تلو الآخر:-
- وانا حأكلك إنتي وهي وألا أأكل البغال دول ؟!
مشيراً نحو الموضع الذي كانوا يقفون فيه ثم أكمل:
- روحي عندهم وعيشي تحت رجلين بنتك، ربنا يهديكي.
أبوها هذا القاسي البخيل الذي يمتلك أرضاً يزرعها ومواشي وبيتاً من دورين، ترك ردّه علامة غائرة بقلبها، وحتى الأم التي لم تواجهه مطلقاً نطقت أخيراً بصوت مستكين في محاولة للالتفاف حوله قائلة:
- هدِّي أخلاقك يا حاج، خليها بايتة الليلة وبكرة الصبح يحلها ربك.
فرد برضوخ لرجائها ولكن رفع إصبعه مهدداً :
- لكن بشرط من النجمة تكوني فى بيت أهل جوزك.
لم تسامحه ناهد أبداً، وبرفضه إحتوائها أضرم غضباً بصدرها لا يُنسَى، وخلق بداخلها تحدياً وقوة استغناء، فلم تلجأ لطلب المساعدة من أحد، وكان كل همِّها أن تعيش مع ابنتها دون أن يتحكم فيهما أي إنسان.. أياً كان.
لم تنم ناهد فى تلك الليلة، بل ظلت قابعة فى مكانها تفكر في الحل، وبجوارها هناء أختها التي كانت تواسيها بحب وحنان، وتتبادلان ضمّ المولودة وحملها وهدهدتها لإسكاتها، حتى لا يستيقظ أبوهما وقد تبقت له ساعات قليلة كي ينهض لأداء صلاة الفجر ثم يذهب إلى حقله.
قررت أن تعتمد على نفسها، وأن تربي ابنتها وحدها مهما كلفها هذا الأمر من صعوبات، وكثيراً ما كانت تحدث نفسها أن أي عمل طالما كان شريفاً فسوف يكون أفضل لها من أن تفقد حريتها ويتولى إطعامها هذا أو ذاك.
قبل أن يؤذن الفجر، كانت ناهد تحمل ابنتها متوجهة إلى محطة القطار في طريقها إلى القاهرة بحثاً عن أي سبيل للرزق. جاءت جلستها بجوار شباك القطار، واستعادت بمشاهدة الحقول والترع التي يمر أحياناً بمحاذاتها القطار، يوم كانت تساعد أبيها فى الحقل، يحرثان الأرض تمهيداً لنثر الحبوب، وكانت لم تتعد بعد الثانية عشرة من عمرها، تركب على ظهر الحمار لتقوده كي يجر المحراث، فغفتْ غفوة قصيرة ، وحاد بها الحمار عن خط المسير، وكان أن استيقظت على صفعة من أبيها قائلاً لها بغِلظــَة:
- إصحي يا بنت الكلب.
سقطت من فوق ظهر الحمار من شدة الصفعة، ذهب وأحضر حبلاً ثم أوثق به يديها، ثم ربط طرفه الآخر بالشجرة ودفعها فى الترعة، ظل يقذفها بالطوب والحجارة إلى أن مرّ أحد الفلاحين عائداً لبيته فأشفق عليها، وخلع ملابسه ونزل لينقذها ويفك وثاقها.
ظلت ناهد تحتمل الألم دون أن تبكي، ربطت رأسها المجروح بجزء من جلبابها المبتل وحين عادت للمنزل ترتجف، استقبلتها أمها بصمت يشبه صمتها إزاء رفضه إيوائها الليلة الماضية.. في هذه الليلة بكت ناهد على وسادتها بحرارة كما لم ولن تبكي أبداً.
فكرتْ أثناء الطريق أن أنسب عمل سيكون في إحدى المستشفيات كعاملة نظافة، فهو عمل ومبيت في نفس الوقت، لكن حين وصلت إلى القاهرة وتوجهت للمستشفى الكبير، رفضت إدارة المستشفى أن تمنحها العمل والمأوى معاً، فاضطرت أن تقبل بالعمل فقط، على الأقل لتأمين قوتها هي وابنتها، ولكن هل ستنام وابنتها في الشارع إلى أن يطلع نهار كل يوم؟ أي مأزق هذا !
جلست بجوار سور المستشفى حائرة، وأخرجت من صدرها منديلاً فكت عقدته وعدت النقود القليلة بداخله، ثم أعادت ربطه مرة أخرى ودسته مجدداً فى صدرها. وعلى مقربة من بوابة المستشفى بائعة خضار تفترش الأرض، دنت منها وسألتها بعد تردد:
- والنبي يا حاجة ما تعرفيليش أوضة فوق سطح أو فى بدروم أي بيت يكون سعرها متهاود، أأجرها وأبات فيها أنا وبنتي.. أنا أصلي غريبة وماليش حد هنا ؟
ردت البائعة المنهمكة في وزن الخضروات للزبائن وتعبئتها ودون أن تنظر لناهد:
- لا والنبي يا بنتي ما كانش ينعز، أنا ست على باب الله ومش من هنا، ببيع اللى عالفرشة وأروَّح بلدنا كل يوم فى المغربية.. إسألي سايس العربيات بتاع المنطقة جايز يعرف.
ثم تأملتها، فوجدتها مع ابنتها في حالة يرثى لها من الارهاق والضعف فقررت أن تساعدها، نادت البائعة بأعلى صوت على شاب أعرج يرتدي ملابس رثة عمره لا يتجاوز العشرين، فاقترب مستجيباً، فقالت له بطريقة أم تحدث ابنها:-
- ولة يا عربي.. تعرفش حد فى المنطقة عايز يأجر أوضة؟
ثم رمقتها من أعلى لأسفل بتفحص أكملت بنبرة كأنها توصيه:-
- بس تكون نضيفة.
أزاح الطاقية إلى الخلف، حكّ رأسه كما لو كان يفكر ثم أعادها مرة أخرى وردّ:
- لا والنبي يا أم مظلوم، بالك لو سألتيني إمبارح كنت أجيبلك أوضة زي الفل، عارفة فين ـ ولم ينتظر ردها ـ على سطح البيت اللى في آخر الحارة، هناك.. فى ظهر الجامع. عالعموم سيبيني يومين كده، ولو ظهر حاجة أقولك.
فشهقت مستنكرة :
- يومين ؟؟ يومين إيه ياولة !! ما ينفعش، لازم النهاردة.
فرد عربي السايس:-
- ربك يبعت، آدينا واقفين على باب الله.
ثم انحنى ليلتقط ثمرة خيار من فوق الفرشة وقضمها، بعد أن مسحها مرتين فى ثيابه وبصق طرفها المُرّ على الأرض، وغادر عائداً إلى عمله، مطلقاً صفارة يضعها بين شفتيه تشبه تلك التي يستخدمها الكمساري معلقة في رقبته، ملوحاً بيده لسيارة ترغب فى الانتظار.
بالقرب منهم كانت تقف سيدة متقدمة فى العمر خمسينية منحنية تنتقي الخضراوات وقد لفت انتباهها الحوار الدائر، فرفعت رأسها ونظرت لناهد متأملة، ثم تحدثت بنبرة العارف بكل شيء وبصوت يشوبه الكثير من الخشونة:
- إنتي منين يا شابة؟
- أنا من شرشابة يا حاجة، مركز طنطا غربية.
سألتها السيدة وهي ماتزال منهمكة في اختيار ثمرات الخضار:
- هممم وانتي لوحدك والا متجوزة؟ أنا شايفة معاكي عيِّل.
ردت ناهد بتودد في محاولة للتشبث بأي أمل:
- جوزي ميت يا حاجة ودي بنتي، ومن بكرة الصبح جاية المستشفى أشتغل، يعني الأجرة مضمونة إن شاء الله، باين عليكي ست طيبة، وعندك طلبي.
قالت في توسل:
- صح يا حاجة ؟
ردت السيدة الخمسينية وعلى وجهها ابتسامة:
- من عيني يا بنتي سيبيها على الله وعليا، بس خليكي قاعدة هنا فى "الضُّوليلة" جنب خالتك أم مظلوم تحت السجرة، وأنا مروَّحة بعد الشغل أفوت آخدك عشان أوريكي الأوضة.


يتبع غداً

#فاتن_واصل (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات