أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - محمد طه حسين - الوعي والشخصية....... في المنظورات الانسانية والمعرفية















المزيد.....



الوعي والشخصية....... في المنظورات الانسانية والمعرفية


محمد طه حسين
أكاديمي وكاتب

(Mohammad Taha Hussein)


الحوار المتمدن-العدد: 5048 - 2016 / 1 / 18 - 22:42
المحور: المجتمع المدني
    


الوعي والشخصية.......
في المنظورات الانسانية والمعرفية
محمد طه حسين
تقديم
لا يخرج الوعي ابداً من المنظومة المتناسقة السايكوجسدية التي تسمى(الشخصية)، فالوعي هو المكون الرئيسي لماهية الفرد الانساني وبدونه لا يمكننا اطلاق صفة العاقل او حتى الموجود الانساني بالمعنى الحديث للمفهوم على الانسان.
الوعي بالشيئ بمعنى الترابط الجدلي والعضوي بين الذات الانسانية والموضوع الذي يرتكز عليه العقل في لحظاته الوجودية، ايجاد المواضيع من لدن الذات يُِخرِجُ العقل من مكامنه ويلصقه بالاشياء ومن ثم يجري على هذه الاشياء التحويلات المعرفية الى ان تصبح متماثلةً في الذاكرة والخطاطات المعرفية للفرد.
الوعي هو القدرة على الحصول على الخبرة من العالم بثرائه، هو شاهد على الحياة نفسها. قد تقول " اني احصل على الخبرة اذاً انا اعرف انني حي" فالصفة المميزة للشخصية السليمة هو الانفتاح على الخبرة الجديدة، وقدرة الفرد على الاستجابة للافكار الجديدة والادراكات الجديدة هي مؤشر على مدى وعيه(جورارد ولندزمن،1988، ص53).
يعتبر فرويد الوعي كأحد معطيات التجربة الفردية التي تطرح ذاتها على الحدس المباشر حيث يقول: اننا بصدد واقعة بدون اي مكافأ لها، لا يمكن تفسيرها ولا وصفها، وعلى الرغم من ذلك يعرف كل منّا مباشرة ومن خلال التجربة ما هو المقصود حين يجري الحديث عن الوعي(لابلانش وبونتاليس،1998، ص590).
وعلى هذا الأساس يكون الوعي هو الوجه الذاتي للعمليات الادراكية التي تستوعب ما يصل الى الذهن من المثيرات الخارجية والداخلية، ويعمل الوعي على ادراك الصفات والخصائص التي تعين الشيئ المدرك وتصنفه، او تعطيه قيمته من خلال نشاط العمليات العقلية العليا. وبصفته هذه فان نظام الادراك – الوعي يشكل نواة الأنا، وهو ذلك الركن العقلاني من النظام النفسي الذي ينسق بين رغبات ونزعات الهو وضوابط وتهديدات الأنا الاعلى ومتطلبات الواقع ومقتضياته، انه على صلة مباشرة بأدراك الذات والوجود بشكل متوازن ومتكيف ونمائي(حجازي، مصطفى،2005، ص227).
وفق هذا المنظور الفرويدي يتبين لنا ان الوعي كما قلنا في البداية هو المكون الرئيسي لبناء الذات والعقل، وهذان النظامان المعرفيان هما الشخصية بعينها من حيث الجوهر، فالوعي يجعلك على تواصل دائم مع الواقع الذي يتكون بالاساس من مجالات حياتية متعددة كل من هذه المجالات تحتاج نوع من الوعي الذي يسمى بوعي المجال المحدد، أما العقل فأِنه يخرجك من ذاتك أو بالاحرى من ذاكرتك الواعية للأتصال بمعطيات الخارج لتجد منها موضوعاً مصقولاً عقلانياً، فالعقل باستطاعته التوجه الى الداخل ايضاً لايجاد نظام جديد من العلاقات بين العناصر الاساسية للصور الموجودة المخزونة في الذاكرة لأجل تكوين صور أخرى بعلاقات وخطط معرفية جديدة وهذا هو التفكير بعينه.
ربما الجشتلطيون هم اكثر من تطرقوا الى الوعي كون المنطلقات الفكرية لديهم حول الشخصية الانسانية تبدأ من المواقف الادراكية بكليتها والنزول بعدها الى الاجزاء، الحلول الادراكية الواعية للمواقف المعرفية والتي تعتبر كل على حدى جشتلطاً هي لحظات يعي فيها الفرد ويسيطر بذلك على الموقف ويفهمه، فالفرد المُدرِك عند اصحاب هذه النظرية هو الواعي لنفسه وما يدور من حوله وهذا هو القصد من الشخصية التي تعي ذاتها وتدركها.
قد لا تخرج هذه الطروحات من التأملات والبحوث الفلسفية حول العقل والذات المفكرة، فان ديكارت عندما قال في الكوجيتو( انا افكر اذاً انا موجود) ربط الوجود بالشرط القطعي له وهو التفكير اي عملية بناء الوعي للفرد واعادة تأسيس منظومته الفكرية على الواقع التي لا يعيه الا الفرد في ذاته وهو الفرد الواعي.
والوعي عندما يُهدَر كما يقول مصطفى حجازي في كتابه(الانسان المهدور......دراسة تحليلية نفسية اجتماعية) لن يبقى للشخصية تماسكه البنيوي والعقلاني وانه يهجر وجوده ويرتفع الى الاعالي والماورائيات للانشغال ثانية بأجوبة الاسئلة التي لم يقدر الاجداد الأَوَّلّون الحصول عليها.
المنظور الانساني والمعرفي للشخصية
قد يمتزج داخل هذا العنوان مذهبان او منظوران نفسيان وهذا ما نلاحظه بالضبط، ولكن كما ان المعرفة شرط مكَمِّل لانسانية الفرد، الانسان ايضا له استعداد وراثي للحصول على المعارف ونموها من خلال النّزول بعقله الى الداخل الذاتي كي يشغله بنفسه اولاً ومن ثم بما يحيط به ثانياً والآخرون الذين يعيش معهم في الجسد الاكبر وهو المجتمع.
الانسانية حركة فلسفية تشدد على كفاءة الفرد الشخصية ومركزية القيم الانسانية. والمقاربة الانسانية الى الشخصية ايضا تعني بمسائل الاخلاق والكفائة الشخصية. ويشدد الكثير من المقاربات الى الشخصية، كونها حتمية على الدرجة التي يكون فيها سلوكنا محكوما بقوى لاشعورية او تجارب سابقة. ولكن المقاربات الانسانية التي تستند الى الاساس الفلسفي الاكثر تعقيدا للوجوديةن اكثر حرية في الوثوق بالروح الانسانية. وهكذا اطلق ابراهام ماسلو على علم النفس الانساني تسمية "القوة الثالثة" (القوَّتان الاوليان هما السلوكية والتحليل النفسي). تشدد هذه المقاربات على الابداع والتلقائية والطبيعة النشيطة للكائنات الانسانية، وهذه المقاربات عادة متفائلة، كما في تركيزها على القدرة البشرية النبيلة للتغلب على الصعوبة واليأس. ولكنها احيانا تتحول الى متشائمة(فريدمان،هاورد وشستك،2013، ص454).
يؤكد كارل روجرز كأحد المنظرين الانسانويين على ان الشخصية الانسانية ليست فريدة من نوعها فحسب بل ان كلاً منّا يقطن عالَماً فريداً من نوعه، عالما من الخبرات الذاتية التي نعرفها دون سِوانا. يسمي روجرز هذا العالم الذاتي الذي يسكنه ايٌّ منّا (مجالنا الظاهراتي) ويسلم كما يفعل فرويد، ان هذا المجال يحتوي على العوامل الشعورية واللاشعورية. فالشعور الواعي يعني بالدرجة الاولى بالخبرات التي يمكن تحويلها الى رموز(اي الخبرة التي يمكن ان يعبر عنها لغوياً، ان يجري الحديث عنها، ان يفهمها)، يرى روجرز ان التهديد الرئيس للشخصية يتمثل في ان الفرد يحوِّل الخبرات الواعية احياناً الى الرموز بشكلٍ غير صحيح اي انها يُسيئ فهمها، وان الترميز الخاطئ يجعل من الفرد ان يتصرف بشكل غير لائق مستقبلاً وفي بعض الاحيان يتم تصحيح عمليات الترميز الخاطئة الا انها قد تدوم احياناً اخرى، وعلى حد رؤية روجرز للوعي والوعي الذاتي فاِنَّ وعي الذات عنده هو ذلك الجزء من الكائن العضوي الذي يشتمل على كل الافكار التي نمتلكها عن انفسنا، بل في الحقيقة كل الاشياء التي نحس بانها تصوغ كل منا في قالب فريد من نوعه(فونتانا، ديفيد،1989، ص85-89).
أما المنظور المعرفي فمنذ الثورة المعرفية في الستينات من القرن العشرين تمت دراسة مشكلات كثيرة تهم علماء نفس الشخصية من خلال تطبيق مبادئ واجراءات استعيرت من علم النفس المعرفي التجريبي، ونستطيع بوجه خاص ان نلاحظ مجالات مثل عمليات اللاشعور والذات والدافعية. وقد اختلفت المبادئ والاجراءات التي يؤكدها العلماء المرتبطون بهذه المناحي المعرفية للشخصية، عن تلك التي يؤكدها المجربون الاوائل من علماء نفس التعلم مثل "هل" و "سكنر" اذ استخدموا مفاهيم لعمليات داخلية مثل الاهداف كما كانوا غالبا انتقائيين في مناهج بحثهم، بما في ذلك اوقات استخدام الاستخبار، وهم بوجه عام يؤكدون على دراسة المشاركين البشر اكثر من تأكيدهم على دراسة الحيوانات، واكدوا احيانا على الدراسة في البيئة الطبيعية اكثر من الدراسة في المعمل، ومع ذلك فان الذي جمعهم معاً وسمح لنا بضمهم داخل التراث التجريبي هو تأكيدهم على الروابط بين علم النفس التجريبي واستخدام البحث المنظم لأقامة مبادئ عامة لأداء الشخصية، ورغم قبول استخدام المادة العيادية للايحاء بفروض للتحقق منها، فأنهم يرفضون المنحى العيادي كأَساس رئيسي للعلم بالشخصية، اكثر من هذا فبالرغم من قبول استخدام التقرير الذاتي في بعض البحوث، فهم يرفضون التأكيد الاولى على الاستخبار واستخدام مفاهيم الشخصية المستمدة من المناحي الارتباطية مثل التحليل العاملي. النفسانيين في هذا المجال هم (جورج كيلي) وهو صاحب نظرية التكوين الشخصي التي يبنى بها الفرد الاحداث ويفسرها و تقول النظرية انه لا توجد حقيقة موضوعية بل هناك فقط طرق في تفسير الاحداث وصياغتها في تكوينات عقلية. وكذلك (جوليان روتر) صاحب نظرية التعلم الاجتماعي والتي تؤكد على اهمية المكون الاجتماعي في الوظائف النفسية، فاشار روتر الى ضرورة الانتباه الى تعلمنا –في معظمه- يحدث في اطار سياق اجتماعي، وان اغلب تنبيهات دوافعنا مصدرها الآخرين(برافين،لورانس،ج1، 2010، ص72،180،186).
وهناك البرت اليس و آرون بيك ووليام جلاسر وفريدريك بيرلز الذين اهتموا بالعلاج المعرفي للشخصيات التي اصابهم الاختلال، (اليس) صاغ العلاج العقلاني الانفعالي السلوكي في الشخصية حيث يرى ان المدخل الوحيد لفهم الشخصية هو من خلال تحليل كيف يحدث اضطراب الشخصية اي من خلال نموذج (ABC) و A هي الخبرات والاحداث المثيرة و B تشير الى المعتقدات و c تشير الى النتائج والاعراض العصابية. اما طريقة (بيك) هي العلاج المعرفي CT وهي تحديد وتغيير استجابات التفكير المختلة وظيفياً والسلوك والاستجابات العاطفية. اما طريقة (جلاسر) هي استراتيجيات العلاج الواقعي وهي تمثل دورة وحلقة دائرية من الارشاد والعلاج النفسي والتي تتكون من البيئة الارشادية واجراءات معينة تؤدي الى تغيير في السلوك. اما طريقة بيرلز هي العلاج الجشتلطي حيث اهتم في البداية على السايكودراما وبعدها على الجشتلط الذي يهتم بالفرد ككل الذي ينظر اليه بوصفه يمثل اكثر من مجرد مجموع سلوكه، ويؤكد على ضرورة وضع حدود مناسبة ما بين الذات والآخرين، ويجب ان تكون الحدود مرنة بدرجة كافية تسمح باحتكاك الفرد بالآخرين(علاءالدين، جهاد،2013،ص22،85،186،370).
الخبرة وكيفية اكتسابها
موضوعة الخبرة معرفيةٌ بامتياز ولكن الشخصية الانسانية بتنوع انماطها واختلاف مصادر ثقافاتها تعتبر ماكينة اوتوماتيكية التشغيل للحصول على الخبرة والمعارف من محيطها وما تصل اليها احاسيسها، المحيط الخارجي متكون من كم هائل لا تحصى من المثيرات التي تثير الكائن الحي العاقل وهو يختار ما يهمه من الخبرات كي يبقى متوازاناً بالمعايير التي تتوازن بها الشخصية، هو اي الفرد يكون دائماً انتقائيٌ في التعامل مع الخبرات كون ليس بمقدوره ان يتلقي اكثر من سعة كل حاسة لديه، والذاكرة لا تستطيع التعامل مع كل هذه المثيرات التي تتحول الى خبرات وفق الآليات المعرفية لتكوُّن النظام المعرفي لديه.
لعل جان بياجيه هو الاوضح تداولاً لهذا الموضوع من خلال تصنيفه لمراحل النمو العقلي والمعرفي وتقسيمه الى المراحل الستة التي اختزلها بعد ذلك الى اربع اطوار متسلسلة. فالمراحل الستة هي:
1- من الولادة الى نهاية الشهر الاول من العمر.
2- من نهاية الشهر الاول الى الشهر الرابع، تظهر ردود افعال نفسية بدائية.
3- من الشهر الرابع الى العاشر، تظهر ردود افعال ثانوية وتتسع افق التجربة والمعرفة لدى الوليد ويحبو للحصول على ما يقع عليه بصره.
4- من الشهر العاشر الى الثانية عشرة، يتجه الطفل الى الاهداف المشخصة ويدركه، ويدرك كيف يتعامل مع الاشياء وماذا يفعل تجاهها؟.
5- من الشهر الثانية عشرة الى الثامنة عشرة من العمر. يكشف هنا الوسائل الجديدة ويفقد الطفل التأكيدات المحافظة السابقة لديه، وهنا باستطاعته المشي والوقوف على قدميه، يحاول ان يجرب الاشياء غير المعروفة من حوله ويبدأ بالبحث والاستطلاع.
6- من الثامنة عشرة الى عمر السنتين. يبدأ بالفكير المجرد واساليب جديدة للتعلم وحتى باستطاعته الابداع في محاولاته من كل النواحي، ويتعلم اللغة التي من خلالها يعبر عن ما يريد وما يهوي ايصاله الى الآخرين (جينزبرغ، هربرت واوبر،1992،ص69،76،88،98،106،113). هذه المراحل الستة تكونت منها اربع مراحل من خلالها ينمو معارف الطفل الى ان يصل الى المراحل النهائية وهي التفكير تجريدياً والمراحل هي:
( الحسية الحركية والماقبل العمليات العقلية ومرحلة العمليات ومن ثم مرحلة التفكير المجرد). كل هذه المراحل ليس الا ارتقاءً بالعقل ومعارف الفرد الانساني ومحاولاته للحصول على خبرات الحياة، والحالة السايكولوجية للفرد تتغير من مرحلة الى اخرى اي كل ما تزداد خبرة الافراد يزداد درايته بماجريات الحياة المحيط الذي يعيش فيه، فالخبرة هي الوقود المعرفي للانسان فكلما تصفو مكوناتها تتميز السلوكات العقلية والظاهرية له الى ان يرتقي بفضل نوعيات الخبرة التي يحصل عليها سواء بالبحث الفرداني او من خلال الانظمة التربوية والتعليمية للبلد التي تنظمه اجتماعياً وتخرجه الى الحياة.
مستويات الوعي مرتبطة الى درجة كبيرة بآليات معالجة الخبرات وتنظيمها في الفرد والمجموعات البشرية، فالترميز والتخزين واسترجاع المعلومات كما تداولها ابنكهاوس(العتوم،2004، ص117) هي المراحل الثلاثة التي اتفق العلماء حولها كونها هي مراحل شبه آلية للحصول الجيد على الخبرات اذا ما تمكن الفرد تداركهما بالشكل السلس والواعي.
فالذاكرة الانسانية هي البنك المعلوماتي للفرد وهي تحوي كل ما امكنه ان يقع احاسيسه عليها والتعامل معها بهدف معالجتها حسب مستويات الوعي لديه في المراحل والاطوار التأريخية، وتعتبر الخبرات المخزونة فيها هي الرأسمال الرمزي للفرد والذي يتحول عند جاك لاكان الى العالم الذي نحن فيها نتنفس ونتحرك.
يقول لاكان في دراسة له بعنوان(مرحلة المرآة باعتبارها مشكلة لوظيفة الأنا) والذي قدمه الى المؤتمر السادس عشر للتحليل النفسي بزيوريخ في 17 يوليو1949: ان مرحلة المرآة هي تماهياً بالمعنى الكامل التي يعطيه التحليل النفسي لهذه العبارة اي بمعنى التحول الذي يطرأ على الذات عندما تتقلد صورة ما- حيث يكون مصيرها في هذا الأثر المرحلي مشاراً اليه بما يكفي من طرق الاستعمال، داخل النظرية من خلال اللفظ القديم (الصورة الهوامية). ومن ثم سيبدو لنا ان التقلد الابتهاجي الذي يُجَرِّبه الكائن وهو لايزال مغموراً بالعجز الحركي والاعتماد على الرُّضّاع في هذه المرحلة الطفلية يجلو ضمن حالة نموذجية الرحم الرمزي الذي يهرع اليه الانا في شكل اولي قبل ان يتموضع ضمن جدل التماهي بالآخر، وقبل ان ترد له اللغة وظيفته باعتباره ذاتاً ضمن الكلِّي(لاكان،جاك،2006، ص118).
هذا الدخول البشري الى اللغة عند لاكان هو بمثابة البدء بحيازة الخبرة التي لا تفارق الفرد الانساني الى ان يبقى داخلها الا اذا تشوش لديه آلية الاستقبال للخبرة والمعلومات وعنها يكون الفرد قد انحرف من الخط الطبيعي ودخل حالات العصاب التي لا نجد اسبابها والاقتراب العلاجي لها الا اذا دخلنا معه الى مجاهيل المخزون اللغوي الرمزي له.
اساليب اكتشاف الخبرة
ادراك الفرد للعالم
الادراك هو اعطاء المعنى للاشياء المحسوسة وهو العملية الأمهر لدى الفرد البشري للحصول على الخبرات في الحياة كي يسعفه على الاستمرار مع نفسه المتكيفة والمتوافقة ومع الآخرين من الناس ومع البيئة المحيطة به، ان الكثير من التشوشات الادراكية والعقلية لنا هي من خلال سوء ادراكنا للعالم، فالانحراف الادراكي الذي صاحب التأريخ الانساني قبل الثورة الصناعية والحداثة الغربية غيَّبَ الفرد عن نفسه وذاته وجعل منه كائناً مُسَيِِّراً لا ارادة لديه ولا قدرة على التفاعل الموضوعي مع الاشياء.
و يُعرَّف الادراك perception بأنه عملية تنظيم وتفسير المعطيات الحسية التي تصلنا عبر الاحاسيس لزيادة وعينا بما يحيط بنا وبذواتنا(دافيدوف،1983، ص246). ويعرفه ستيرنبيرغ على انه العملية التي يتم من خلالها التعرف على المثيرات الحسية القادمة من الحواس وتنظيمها وفهمها. ان الادراك عملية تفكيرية عليا مرتبطة بالبنى المعرفية لدى الفرد ومتأثرة بميوله وقدراته المختلفة(عتوم،عدنان،2004، ص93-94).
الادراك لا تفارق المعنى الذي ساير العقل حيث للانسان استعداداً وراثياً للحصول عليه والاقتداء به. يقول تيري ايغلتن في كتابه (معنى الحياة): ان كلمة "معنى" meaning ترتبط اصطلاحياً بالكلمة "ذهن"mind (اغلتون،2010، ص56).
كيف تجد المعنى؟ وكيف تعطيها للاشياء ومن ثم للحياة؟ هذه هي الاشكالية التي صاحبت البشرية الى الآن فالادراك مادام مرتبطاً باعطاء وايجاد المعاني للاشياء التي تحيطنا وما نشعره من داخلنا فان الصواب والصدق والمنطقية في التعامل مع معطياتها هو المسوغ الرئيسي لنوعية الحياة التي نعيشها ان كانت جيدة ام سيئة.
يقول هوسرل في كتاب له بعنوان(الفلسفة علماً دقيقاً) ان كل علم نفس تجريبي لابد ان يسبقه علم نفس ماهوي، اي لابد ان يتأسس الاستقراء على جهد تأملي انعكاسي ندرك عن طريقه دلالة التصورات التي يستخدمها علم النفس التجريبي مثل الادراك الحسي والصورة والذهنية والوعي....الخ، عند هوسرل ان الوجود النفسي لا يجرب على انه شيئ يظهر بل انه "تجربة معيشة" فيظهر على انه هو ذاته في سيال مطلق على انه حاضر "الآن"(هوسرل،2009، ص44).
من الجدير ان نتذكر ثانية الكوجيتو الديكارتي ولكن هذه المرة على لسان جان بول سارتر في كتابه(تعالي الأنا موجود) حيث يحلل الكوجيتو بالشكل الآتي: (الأنا افكر) عند كانط شرط امكانية، والكوجيتو عند كل من ديكارت وهوسرل واقعة، وقد تحدث البعض عن ضرورة(واقعة) الكوجيتو، ويبدو لي هذا التعبير والكلام لسارترسليماً للغاية، ومن المؤكد ان الكوجيتو شخصي، ففي (الأنا أفكر) يوجد (أنا) يفكر، وعندئذ نحصل على (الأنا) في نقائه. ومن الكوجيتو ينبغي تأسيس "علم الأنا موجود" و الواقعة التي يمكن استخدامها نقطة للبداية هي هذه: في اللحظة التي ندرك فيها فكرنا سواءً بحدس مباشر او بحدسٍ يستند على الذاكرة فاننا ندرك(أنا) هو(انا الفكر المدرك) الذي ينكشف باعتباره مفارقاً لهذا الفكر ولأي فكر آخر ممكن. فمثلاً اذا اردت تذكر منظر كنت قد ادركته بالامس وانا في القطار فبامكاني استعادة ذكرى هذا المنظر كما هو، ولكن في امكاني كذلك ان اتذكر انني قد رأيت ذلك المنظر ، وهذا ما يسميه هوسرل في كتابه الشعور الداخلي بالزمان و ادراك الخبرات الحية امكانية التأمل في الذكرى. وفي عبارة اخرى نقول انه في امكاني باستمرار استدعاء اية ذكرى بصورة شخصية وعندئذٍ يظهر (الأنا). وهذا ضمان واقعي لأقرار مبدأ كانط ولهذا يبدو انه ليس في امكاني ادراك اي حالة من حالات شعوري من غير " أنا " (سارتر،2008، ص 59).
يقول روجرز ان المرء يجب ان ينفتح مع خبراته ومدركاته الناجمة عن تجارب داخلية مثل الاحاسيس والمشاعر والافكار...الخ بنفس مستوى تجاوبه مع البيئة الخارجية المادية، روجرز كأحد النفسانيين الوجوديين يتخذ زاوية اقتراب " ظاهراتية " لفهم السلوك الانساني، ان الافراد لديهم نزعة ينشدون بها لتحقيق ذواتهم ويجب فهم هذه النزعة في ضوء مفهوم كل فرد للواقع كما يدركه ويترائى له (ناى،روبرت،2008، ص194).
ادراك العالم وعدم ادراكه في نظر علماء النفس الوجوديين والظاهراتيين هو المعيار الاصح للحكم على سلامة وعي الافراد ومدى تواصلهم مع العالم بكل فضاءاته، وتوظيف الخبرات الموضوعية التي يحصلون عليها من خلال الاحتكاك المباشر معها في نظم الحياة ومؤسساتها، فاذا كانت الافراد على حضور فعلي مع مصادر ومناهل خبراتهم لا يكونون مغيبين ولا ينفصلون عنها وبهذا يبقون سليمي الرؤية والادراك لما يحسون ويتعايشون معها. فالحالة الادراكية المباشرة مع المحيط يجعلك ان تشتق من معارفك المفاهيم الاساسية التي كنت قد اختلقتها او بالاحرى ابدعتها كي تستعملها كلغة حية وواقعية للتواصل الانساني والفيزيكي ايضاً.
يرى الفلاسفة وعلماء النفس الوجودييين امثال هايدغر وفروم وفرانكل ورولو ماي بأن التأريخ الطويل للبشرية امتدت دون ان يكون للافراد دوراً فعالاً لابداع اساليب حياتهم وشكل روابطهم مع المحيط فالاطر الايمانية والميثولوجية المقدسة انهت كل شيئ وما كان للافراد الا الاستجابة الجبرية لها وهذا هو بالاساس سرُّ الدوغمائية السلوكية والمعرفية لدى المجتمعات لحين ظهور النهضة والانفتاح العقلي في الغرب.
الوعي و(الخيال ،الاحلام ،الاوهام)
عندما يرى الفرد انه هو نفسه بالفعل ولا يرتبط بالايقونات الخارجة عنه للتفكير نيابةً عنه، يبدأ بممارسة فردانيته التي تختلف بواسطته شخصيته عن الشخصيات الاخرى ومن هنا يبدأ بمد خيوط العلاقة مع الآخرين و المحيط، عندها ايضاً يلجا الى الخيال الخصب والذي كان ممنوعا عليه الدخول الى لامتناهياته الأوسع من لامتناهية الكون، ففي الخيال فضاء لامتناهي للتفكير حيث التفكير التخيلي يجعل الفرد حراً الى ابعد الحدود ويجد كثيراً من الاحيان حلولا لما يساوره من افكار وتساءلات. يقول غاستون باشلار بهذا الصدد في كتابه(الماء والاحلام...دراسة عن الخيال والمادة): تتطور القوى المتخيلة في ذهننا على محورين شديدَي الاختلاف، منها ما يجد انطلاقه امام الجِدَّة، اذ يتسلّى بالفتان، والمتنوع، والحدث غير المتنوع، وللخيال الذي تنعشه ربيعٌ يصفه باستمرار، ففي الطبيعة الحية بعيداً عنها تنتج هذه القوى ازهاراً. اما القوى الاخرى المتخيلة فتحفر عمق الكون، تبغي ان تكشف البدئي والسرمدي معاً، ان تهيمن على العارض وعلى التأريخ، وهي تنتج في الطبيعة الموجودة داخلنا وخارجنا براعمٌ، براعمَ حيث يغور الشكل في مادةٍ وحيث يكون " الشكل داخليا". يسترسل باشلار حول الخيال ويقول: هناك نمطين من الخيال، خيالٌ يُوَلِّد العلَّة الصورية وخيال يُوّلِّد العلة المادية اي الخيال الصوري والخيال المادي(باشلار،غاستون،2007، ص13-14).
وعن الاحلام قبل ان نتطرق اليها من المفضل ان نتحول الى كتاب آخر لباشلار حول(النار...التحليل النفسي لاحلام اليقظة) حيث يقول عن احلام اليقظة كونها قابعة تحت التجربة والوعي، ان العلم يقوم على الخيال وحلم اليقظة اكثر مما يقوم على التجربة ويجب اجراء التجارب فعلاً لاستبعاد ضبابية وغشاوة هذا الحلم، انه نوع من التفكير المسترسل في التلقاءية(باشلار،غاستون،2011، ص53-54).
اهتمام باشلار بالخيال واحلام اليقظة هو محاولة جادة له في سبيل ازالة الهوة بين الادب والعلم وحاجة كل واحد للآخر للسير في دروب البحث، احلام اليقظة لدى باشلار هي جغرافية خصبة للأطر المعرفية للفرد ومدى وسعة آفاقه تجاه اي ظاهرة من ظواهر الوجود، انه يرى بان العلم الى الآن أَهمل هذا النوع من الحلم وهو السباق فعلاً للبت في مكامنه.
ولكن لمعرفة آراء العمالقة الاوائل(فرويد وادلر ويونغ) وتأثر وجهات نظرهم العلمية في تكوين الشخصية الانسانية ومنها السليمة، نبدأ بفرويد حين يقول عن الحلم: ان الاحلام تمثل ظاهرة للحياة النفسية اثناء النوم، وان كانت هذه الحياة تشبه من بعض الوجوه حياة اليقظة فهي تختلف عنها ايضاً بفوارق لا يستهان بها(فرويد، سيغموند،2007، ص11-12).
ويقول فرويد بفصل كامل عن الحلم في كتابه(تفسير الاحلام) بأن الحلم تحقيق رغبة(فرويد، سيغموند،2003، ص167). كِلا هذين الرأيين يدلنا على رأي فرويدي آخر وهو اننا في الحلم لا ننفصل عن عملياتنا النفسية، بمعنى الموجود الانساني كلٌّ متكامل يتحول في النوم واحلامه الى عوالم رمزية متناثرة يحلله المحلل النفسي من خلال ايجاد الترابط بين الرموز تلك.
ويقول كارل غوستاف يونغ في كتابه(الاحلام): ان الحلم بصرف النظر عما يظن به عموماً من انه اختلاط التداعيات التصادفية والخاوية من المعنى، او نتيجة مجرد الاحاسيس الجسدية في النوم كما يفترض مؤلفون كثيرون، هو نتاج مستقل وذو معنى للنشاط النفسي، قابل للتحليل النظامي، شأن الوظائف النفسية الاخرى جميعها، والحلم وفقاً لفرويد هو ابداع مثل كل نتاج نفسي معقد، هو قطعة عمل لها بواعثها(يونغ، كارل،2013، ص35).
هذه المحاور التي تطرقنا اليها في موضوع الوعي والشخصية كلها تمدنا بخبرات ومعلومات وفيرة حول الشخصية الانسانية ونظامها المعرفي، فالمعرفة هي المحرك الاساس في اظهار الشخصية للواقع الخارجي وتماسكها الداخلي ايضاً.
يؤكد الفرد ادلر ما أكده فرويد ويونغ حول الاحلام وان كانوا مختلفين في تفسيرها وبعض جوانب وقوعها، يقول أدلر حول الحلم: ان شخصية الفرد ثابتة لا تتغير سواءً كان هذا الفرد في حالة صحو، او في حالة نوم، ولكن عندما نكون نائمين فان ضغوط المتطلبات الاجتماعية تكون اقل حدةً، مما يجعل حقيقة الشخصية تتكشف بوضوح، لأن حالة النوم تجعلنا اقل حذراً من حالة اليقظة، كما انها تجعلنا على استعداد اكثر لاظهار حقيقة نوايانا، وما نحاول اخفاءه عن الآخرين. علينا ان نؤكد هنا حقيقة مهمة وهي ان الخبرة التي مرَّ بها الفرد في حد ذاتها مهمة، وانما المهم هو ان هذه الخبرة ظلت في الذاكرة وساعدت على بلورة المعنى المنسوب للحياة(ادلر،ألفرد،2009، ص41).
اما ما ينافي الشخصية السليمة هنا هي الاوهام التي لا تمت الى الواقع المدرك بصلة حيث كما اشرنا اليها فيما سبق انها الانفصال عن الوعي والتحول الى غياهب الماورائيات غير المتحققة. فالاوهام غالباً ما هي امراض نفسية عصابية تضرب الافراد نتيجة غياب الوعي الذي يربطهم بذاتهم وبواقعهم. فالبقاء خارج الزمان والمكان ليس الاّ انكاراً لممارسة عملية الوعي بالذات والاشياء، وتسليماً قدرياً للخارج الايقوني التي يرى منه الفرد المستلَب ماضيه وحاضره ومستقبله، ويستعيد استقراره السايكولوجي الذي طالما اختلَّ من أثر صُدَفِ التفكير بعض الاحيان.
يقول منكوفسكي حول اللاّزمان للشخص المريض:ان هذا المريض قد فقد القدرة على ان يقيم الصلة بالزمن، بمعنى انه لم يعد قادراً على ان يأمل في الآتي ويتشوف الى المستقبل، لم يعد هذا المريض يستشعر اي امتداد يصله بالغد. فالقطيعة هذه بين الفرد المريض والمستقبل او العجز عن التوجه الزمني ناجم عن اعتقاده الضلالي بانه سوف ينتهي وشيكاً. فالزمن هو قلب الوجود مثلما يعتقد هنري برجسون(ماى، رولو،1999، ص66).

الخبرة الاجتماعية والوعي
عملية تحويل الكائن من الموجود البيولوجي الى الاجتماعي ضمن الثقافة السائدة والارث الرمزي الذي انشأ الهوية المجتمعية للمجموعة البشرية المدروسة هي بالاساس عملية تنشئة اجتماعية وتحويل الخبرات الموجودة من جيل الى جيل وهي الوظيفة الاجتماعية لكل مجتمع يريد ان يُنمذِج وينمط افراده كي يحملون الصفات المجتمعية طويلة الامد التي هي عموميات الثقافة والقصيرة الامد وهي خصوصياتها.
يقول ألفرد أدلر في كتابه(معنى الحياة): ان كل انسان اياً كان مكانه ومكانته في المجتمع يتطلع الى وجود معنىً لحياته ولكننا نرتكب خطأً شنيعا اذا ما اعتقدنا انه من الممكن ان نجد هذا المعنى لحياتنا بمنآى عن الآخرين وان حياتنا يكون لها معنى عندما نساهم مساهمة ايجابية في حياة الآخرين. يسترسل ادلر حول هذا الموضوع ويؤكد حتى في المراحل المبكرة جداً من حياة الطفل فانه يمكن ادراك "معنى الحياة" والذي يكون قد بدأ بالتشكل، فحتى الاطفال الرُضَّع يسعون بشدة الى التحقق من قوتهم ومن نصيبهم من الاشياء التي تحيط بهم، وفي حوالي نهاية العام الخامس من حياة الطفل يصبح واضحاً ان هناك نمطاً محددا للسلوك قد تجسم و تبلور، حتى انه يمكننا ان نميز وجود طريقة مستقلة لمعالجة المشاكل والمواقف التي تواجه ذلك الطفل، ويمكننا ان نطلق على هذه الطريقة اسم: اسلوب الحياة، من هذه النقطة في حياة الطفل وحتى نهاية وجوده على الارض فان اسلوب الحياة هذا سوف يشكل كل مفاهيمه وتعريفاته عن ما سوف يتوقع منه، وعن ما يتوقعه هو من العالم الخارجي، ومن هذه النقطة فصاعداً فانه سيرى العالم من خلال مجموعة محددة ومترابطة من النظم(ادلر،الفرد،2009، ص24،31).
يعتقد ماسلو ان العالم يظهر للمرء بجوهره، كما هو عليه في الواقع، خلال هذه الخبرات القممية او بعدها، ويؤكد ايضاً بأن الفرد في هذه اللحظات يكون فرداً متكاملاً فيكون اكثر توحداً واقل ملاحظةً لذاته وفي الحقيقة يقوم بوظائفه بشكل افضل واقل دفاعاً بازاء العالم. ويبدو ان هناك نوعين من الخبرات التي تسهم في تكوين الشخصية السليمة وهي كما يرى ليندزمان اولاً: الخبرة الايجابية(القممية)، الخبرات ذات المعنى والتي تستدعي السعادة والدفء وما الى ذلك، ثانياً: الخبرات غير السارة التي ينتج عنها تعزيز الذات او فهمها بشكل افضل(جورارد ولندزمان،1988، ص76).
الخبرة الاجتماعية هي محاولة فهم دوافع سلوك الآخرين في المواقف الاجتماعية والتعرف على الاسباب الحقيقية التي تدفعهم للتصرف بالطرائق التي يتصرفون بها. ومن اجل تحقيق ذلك فقد لجأ علماء النفس الى التعرف على الآخرين مباشرةً من خلال طرح الاسئلة حول اسباب سلوكهم، او دراسة السلوكيات غير اللفظية المرتبطة بالمواقف الاجتماعية والبحث عن الانفعالات او تعبيرات الوجه التي يظهرها الناس كمؤشر عن الحالة المعرفية للأفراد، او كما حاولت نظريات العزو ان تحدد المواقف التي يمكن ان تساعد الناس على فهم سلوك الآخرين مثل معرفة مدى حرية الفرد في اختيار السلوك، ومدى تميز وحداثة السلوك، ومعرفة ما اذا كانت السلوك غير مألوف او غير مرغوب اجتماعياً(العتوم،عدنان،2004، ص95-96).
تحريف الوعي وحرمان الدافعية
ينحرف الوعي بدون ادنى شك اذا ما لم يتمكن الفرد والمجتمع بكل مؤسساته ان يوفر الشروط الملائمة لانمائه، فالمسببات كثيرة لعزوف الوعي واعوجاج خطوطه النمائية، قبل كل شيئ الفكر والارث الميثولوجي والميتافيزيقي للمجموعات البشرية حوَّل الافراد من المتفاعل الى المنفعلين ومن الفاعل الى المفعول بهم، سُلِبَت عقولهم مثل ما سبقت الاشارة اليها، واصبحوا كالقطعان لا حول لهم ولا قوة، الفكر البشري الماقبل حداثوي لم يخرج من ذاته لكي يتفاعل مع المواضيع ويتحول من المساير الى المنازع وهذا هو السبب الرئيسي لبقاء العقل جامداً لا يحركه الاشياء كي لا يثقل عليه ايجاد البدائل للحياة الراكدة التي تعود عليها ولا يحرك ساكناً لتصقيلها بمقومات العقل العلمي.
الآن وعلى الصعيد الشخصي والفردي ايضاً لا يستقر الوعي عند مستوى وخط معين، يتاثر بعوامل شتى ويستضعف مقابلها وسرعان ما يفقد القدرة على المقاومة فتنحرف عن الخط و يتجه الى مقاصد غير منطقية.
ولنأخذ على سبيل المثال صفة (النزاهة): فهل يمكن الاعتقاد ان الانسان الذي يظهر النزاهة في حالة معينة سيكون نزيهاً في حالة اخرى؟، على ما يبدو لا يمكن. في بحث غ.هارتشون و م. ماي تم تثبيت سلوك الاطفال ذاتهم(عدد الذين اجرى عليهم البحث يزيد عن ثمانية آلاف طفل) في حالات مختلفة: استخدام وسيلة الغش في قاعة الامتحان، الخداع في تنفيذ الواجب، الاحتيال في اللعب، اختلاس النقود، الكذب، ان الروابط المتبادلة لثلاثة وعشرين مما يماثل هذه الاختبارات بدت متدنية جداً، وقد قادت الى الاعتقاد ان اظهار النزاهة في حالة مايتمتع بقيمة تنبؤية متدنية بالنسبة لحالة واحدة(كون، ايغور، ص6).
فالخداع الادراكي ايضاً يتسبب بضياع الوعي وفقدانه السيطرة على التوازن النوعي الاصيل وقيادة الفرد الى الوجهات الصائبة الحقيقية.
فخداع الادراك الذي يسبب الانحراف في الوعي هو حالة خاطئة من الادراك تبدو فيها المثيرات بخصائص ليست لها أو ان المثيرات تصبح مجردة من بعض خصائصها الاصيلة(عتوم،عدنان،2004، ص112).
فعندما نقوم بمهام حياتنا بالاسلوب الاعتيادي دون ان نشبع حاجاتنا الاساسية فاننا ندرك العالم في الغالب تحت تأثير الحرمان الدافعي، هذا النوع من الحرمان كما يقول عنه ماسلو هو احدى طريقتين لادراك العالم اما الطريقة الثانية فهي ادراك العالم ادراكاً وجودياً، فالذين يعملون تحت تأثير الحرمان الدافعي يتحكم الحرمان في مدركاتهم ولا يستطيعون رؤية العالم الا من خلال ما يحقق حاجاتهم الاساسية مثل(الحاجة للأمان) ولا يستطيعون ادراك الناس والعالم الا كأدوات صالحة للاستخدام والاستعمال لسد تلك الحاجات، ومن جهة اخرى فالذين اشبعت حاجاتهم الاساسية يستطيعون رؤية العالم بشكل كوني اوسع، كما هو عليه وكما يمكن ان يكون(جورارد ولندزمان،1988، ص80).
الوعي الموسَّع والشخصية السليمة
يرى لندزمان وجورارد(1988) ان الشخص الذي يملك وعياً اوسع يواجه مشكلة في التواصل مع الآخرين من ذوي الوعي الضيق. ولهذا نرى بانهم محدودي العلاقات الصداقوية وانهم يتكيفون في الحِيَز الاجتماعية المكونة للمجتمع بصورة اصعب من هؤلاء الذين لا يمتلكون وسعة الوعي، ان واسعي الرؤية والوعي لا يرون في الادنى وعياً منهم نظيراً كي يتوازنون ويتكافؤون معهم في المستويات المعرفية لهذا نجدهم منزويين ويعتبرون بانهم نخبويين في المجتمع.
يعتمد ما اذا كان توسيع الوعي مفضياً الى تكوين الشخصية السليمة أم لا على عدة عناصر من ضمنها المشاريع التي يلتزم بها الشخص، وقدرته على اكتساب مهارات تتناسب مع الوعي الموسع، وتعتمد الشخصية السليمة على الكفاية والجدارة والقدرة على العمل بشكل فاعل في السعي وراء المعاني التي تجعل الحياة ممكنة وجديرة بأن يعيشها الانسان(جورارد ولندزمان،1988، ص87).
كل فرد يحاول ويكافح في حياته لكي يحصل على ما يؤمِّن له الحياة، ولكن كلهم ليس بمقدورهم تحقيق ذواتهم والوصول الى ذروة الخبرة والنشاط والانتاج العقلي، طاقة الفرد المعرفية والعقلية وكل انواع الطاقات الاخرى مرتبطة بمدى قدرته على انتاج الطاقة من كل النواحي كي يصدرها الى خارجه وايجاد نوع من المحورية حوله، الوعي كنوع من القدرة لا يظهر هكذا اعتباطياً ما لم يستثمر الافراد جهودهم المعرفية والعقلية بهدف صناعة الوعي الفعال والفاعل، ان وسعة الوعي الذي يمتلكه اي فرد اذا لم تعتبرها مؤسسات المجتمع بكل انواعها وخاصة المؤسسة الحكومية ثروة قومية ووطنية فانها لا تمتد اكثر من حدود ظلّ الافراد.
الوعي الفاعل هو الذات النشطة لا يظهر في الثقافات المغلقة الدائرية الانطلاق والرجعة كالثقافات السائدة في منطقة الشرق الاوسط بالدرجة الأساس، الثقافة الكوردية التي نننتمي اليها نحن ليست بمقدورها الانفصال من الارث الذاكروي القطيعي الذي ينمي الذوات الانسانية لواقع راكد نعيه فقط ولا نعقلنه، بقاء الفرد عند خط الوعي هو الوقوف عند المحرمات والدوغماتية ولكن التعقلن هو توظيف الوعي ضمن جدلية عضوية تنتج منها اشكال جديدة للمنتجات العقلية. وهذا هو الحركية العقلية نحو التغيير بالمعنى العقلاني للمفهوم.
المصادر
1-ادلر،ألفرد(2009). معنى الحياة، ، ط2، القاهرة- مصر، المركز القومي للترجمة.
2- اغلتون،تيري(2010). معنى الحياة ، ط1، دمشق-سورية، دار الفرقد.
3- باشلار،غاستون(2007). الماء والاحلام ط1، بيروت-لبنان، مركز دراسات الوحدة العربية.
4- باشلار،غاستون(2011). النار...التحليل النفسي لأحلام اليقظة، ط1، دمشق-سورية، دار كنعان.
5- برافين،لورانس(2010). علم الشخصية ج1 ج2، ط1، قاهرة-مصر، المركز القومي للترجمة.
6- جورارد، سدني ولندزمن(1988).الشخصية السليمة، جامعة بغداد، ط1، بغداد.
7- جيزنبرك،هربرت(1992). رشد عقلانى كودك از ديدكاه بياجى، انتشارات فاتمى، جاب اول،تهران-ايران.
8- دافيدوف،ليندا(1983). مدخل علم النفس ، ط4، USA، دار ماكجروهيل للنشر.
9- هوسرل،ادموند(2009). الفلسفة علماً دقيقاً ،ط2، الجيزة- القاهرة،المركز القومي للترجمة.
10- حجازي،مصطفى(2005). الانسان المهدور....دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، ط1، بيروت-لبنان، المركز الثقافي العربي.
11- يونغ،كارل(2013).الاحلام، ط1، اللاذقية-سورية، دار الحوار،.
12- كون،ايغور(1985). وعي الذات، ترجمة : غسان دارب نصر.
13- لابلانش وبونتاليس(2008). معجم مصطلحات التحليل النفسي ،ط1، بيروت-لبنان، المنظمة العربية للترجمة.
14- لاكان،جاك(2006).اللغة...الخيالي الرمزي ،ط1،الجزائر،منشورات الاختلاف.
15- ماى،رولو(1999). مدخل الى العلاج النفسي الوجودي ،ط2، بيروت-لبنان، دار النهضة العربية.
16- ناى،روبرت(2008). السلوك الانساني ،ط3، الجيزة-مصر،هلا للنشر.
17- سارتر، جان بول(2008). تعالي الأنا موجود ،ط1، طرابلس-لبنان، التنوير.
18- عتوم،عدنان(2004). علم النفس المعرفي ،ط1، عمان-الاردن، دار المسيرة.
19- علاءالدين،جهاد(2013). نظريات الارشاد النفسي...المعرفي والانساني ،ط1، عمان-الاردن،الاهلية.
20- فونتانا،ديفيد(1989). الشخصية والتربية ، ط1،اربيل-العراق،جامعة صلاح الدين.
21- فريدمان،هاورد و شستك(2013). الشخصية...النظريات الكلاسيكية والبحث الحديث ،ط1، بيروت-لبنان، المنظمة العربية للترجمة.
22- فرويد،سيغموند(2003). تفسير الاحلام ،ط1،بيروت-لبنان، دار الفارابي.
23- فرويد،سيغموند(2007). نظرية الاحلام ،ط4،بيروت-لبنان، دار الطليعة.


















#محمد_طه_حسين (هاشتاغ)       Mohammad_Taha_Hussein#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السواء واللاّسواء بيننا..... رؤية نفسية
- سايكولوجية المعنى..... مقاربات تشخيصية لمعنى الحياة*
- شخصية الأرهابيّ*
- أشياء على غير مسمياتها.....تجليات الأشياء في جماليات الكلمة
- الذات الشاردة
- احزاب معدلة وراثيا!!!
- حديث عن فينومينولوجيا الذات
- ذاتنا المغتربة من منطلقات فكر اريك فروم
- الهروب من العقل .... الأدمان بالجهل!!!
- الذات السياسية و العودة الاسطورية
- أردوغان..... التقمص الفاشل لشخصية السلطان
- الهشاشة الوجودية... قراءة لخلفيات الآيدز النفسي و السوسيوثقا ...
- اللازمان و اللامكان الداعشي
- ما زلنا في حدود الذات.... ثالوث الذات ..القارئة و الكاتبة و ...
- ذات تتقنع........ذات تحن الى طفولتها!!
- مالك الدم الحزين!!
- الاصل الميتافيزيكي و السيبرنيتيكي للذات
- الذات المثقفة و الذات الاكاديمية
- اننا محكومون بأن نتلقى أكثر مما يعطي!
- أنانا لا يساوي ذاتنا


المزيد.....




- الحكم على مغنٍ إيراني بالإعدام على خلفية احتجاجات مهسا
- الإعدام لـ11 شخصا في العراق أدينوا -بجرائم إرهابية-
- تخوف إسرائيلي من صدور أوامر اعتقال بحق نتنياهو وغالانت ورئيس ...
-  البيت الأبيض: بايدن يدعم حرية التعبير في الجامعات الأميركية ...
- احتجاجات أمام مقر إقامة نتنياهو.. وبن غفير يهرب من سخط المطا ...
- الخارجية الروسية: واشنطن ترفض منح تأشيرات دخول لمقر الأمم ال ...
- إسرائيل.. الأسرى وفشل القضاء على حماس
- الحكم على مغني إيراني بالإعدام على خلفية احتجاجات مهسا
- -نقاش سري في تل أبيب-.. تخوف إسرائيلي من صدور أوامر اعتقال ب ...
- العفو الدولية: إسرائيل ترتكب جرائم حرب في غزة بذخائر أمريكية ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - محمد طه حسين - الوعي والشخصية....... في المنظورات الانسانية والمعرفية