تقلبات النفس ، نظرة في العمق

محمد البورقادي

الحوار المتمدن-العدد: 4979 - 2015 / 11 / 8 - 18:06
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    

أحيانا تشاهد لصا يخطف حقيبة فتاة ويلوذ بالفرار ، وتتبعه جماعة من الناس لاسترجاع ما تم اختطافه وفق صراخ وضرب مبرح يكاد المعتدي منه أن يفارق الحياة ..وأحايين كثيرة تراه في الحافلة يتملص الفرصة ليصطاد ما جادت به غفلة العقل أو خجل الصراخ ..فإن وافقت توقعاته هوى اللحظة تأتى له ما جاء من أجله ، وإن خابت ضنونه وكُشفت بادياته صار الذل حليفا عليه ، وصار الكل يلكمه وتقاذفته الضربات من كل جانب ..
قد يبدو ذلك جليا في مدن المغرب بأحيائها القديمة والجديدة على السواء فلا يتحرى السامع صحة الخبر بل تسبق يداه عقله فتتحرى هي عوضا عنه..
وقد يتمازح أخلاء فيما بينهم حتى يصير المزاح أقرب إلى الموت والحزن منه إلى الحياة والسرور..
لكن ما يعيق فهم الفهم ، هو انقلاب النقيض إلى نقيض آخر ، وصحوة النفس بعد انغلاقها ، وانقشاع الخير على الشر في مشهد يحيّر لب المفكر و يقلب موازين تحليله ومنطلقات بديهياته ..
ذلك أن ذات اللص تراه يصعد حافلة أخرى في يوم عيد أو ما شابه ، فيفاجئك حينما تبصره يخلي مكان جلوسه لامرأة عجوز أو أخرى تحمل طفلها أو آخر تهالكت صحته ..ما الذي جعل هذا القلب الجريء يصير حنينا رقيقا وكيف تحولت اليد السفلى التي تأخذ وتطمع إلى يد عليا تعطي وتأثر..
مشهد يستحق التدبر بل ينبه إلى أن نفس الإنسان ودوافعه ونوازعه عصيّة على الفهم والتحليل والقياس ..إنها متعالية عن الإحاطة وعن الوصف متجردة عن كل حكم يصدر في حقها وكل إسم يكتب لها .. إنها متقلبة كتقلب الخواطر على القلب وتقلب الأهواء على الدوافع ..
نفس اللص تراه في حديقة عمومية يطعم الإوز من فتات الخبز ، وتلحضه يرثي على القطط في الشارع فيأويهم إلى جناحه ويحيطهم به ويوزع عليهم الطعام واحدا واحدا وينذب نفسه ولومها إن حابا قطا على آخر بدون قصد بأن يزيد في حصته من الطعام على حساب قط آخر..
وتجد بجانبه فقيرا آخر قد آثر مد يديه للناس واستنجد بحاله ليحصد عطفهم عليه وشفقتهم على مآله ..فيعطوه شيئا مما جادت عليهم به الأيام ..وهذا الآخر قد تراه متشرذا بائسا يفترش الأرض ويغطي بالورق من قر البرد ومن فاقة معيشته وتجده يشتري الذرة ويذهب بها إلى مكان تجتمع فيه الحمام فيطعمها بيديه ويقربها منه فيحس بذلك الصنيع أنه امتلك الدنيا واشترى الأخرى .
فقير يؤثر البهيم على نفسه ولص لا ينعم بالجلوس ومريض أمامه ينظر
وقد تمر بجانبك سيارة تحمل شبابا أسرتهم شباك الدنيا فأغرتهم قوتهم وأطلقت هوى أنفسهم .. تسمع موسيقى عالية تخرج من سيارتهم وترى تمرد سياقتهم فتحسبهم من الذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة ، فإذا بالسيارة تتوقف ويخرج أحدهم منها فيعطي فقيرا مبلغا يسد حاجته حولا كاملا ..
وقد تعلم أن آخر يزني ويسكر ويتعاطى المخدرات بأنواعها ، ومع ذلك فهو من أطيب الناس أخلاقا ومن أكثرهم تواضعا ..
وقد يصل سمعك أن أحدا آخر يصلي في المسجد ويصوم النوافل ، ومع ذلك يعق والديه فيضرب أباه ولا يحن على أمه ..
نحن غالبا ما نتسرع بالحكم على الآخرين ونصادر حركاتهم ، ونقول من فعل هذا أنه صالح ومن فعل الآخر أنه غير ذلك ..
لكن الفعل وحده لا يكفي للحكم ، ولا يكفي للتسمية والقياس.. فهناك سرائر وبواطن لا يعلم بها إلا خالقها ، وما يظهر لنا واضحا قد يكون أشد غموضا ..
وليس لأحد منا الحق في أن يزكي نفسه ، فباب أولى أن لا ينعث الآخر بما لا يعلم منه ..
فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ لأن الله وحده هو العالم بحالنا وأحوالنا وهو المطلع على نياتنا والكاشف لسرائرنا ..

#محمد_البورقادي (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل