أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامى لبيب - فى ماهية الوجود-نحو فهم الوجود والحياة والإنسان















المزيد.....


فى ماهية الوجود-نحو فهم الوجود والحياة والإنسان


سامى لبيب

الحوار المتمدن-العدد: 4946 - 2015 / 10 / 5 - 15:43
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


- نحو فهم للوجود والحياة والإنسان (35) .
- فى ماهية الوجود - جزء ثان .

- نعيش الوجود و يتباين مفهومنا عنه بالرغم أنه الجزء البارز من الحياة والكون الذى نراه , أي الجزء القابل للرصد بالنسبة لنا , لتصاحبه دوماً زاوية رؤية تتيح إدراكه ووعيه وطالما تتباين زاوية رؤانا وفق تباين الوعى والذكاء والتقدير والإحساس فهذا يعنى أن نظرتنا للوجود ليست واحدة متطابقة وإن تقاربت بفعل الثقافة السائدة التى تهيمن لتهمش زاوية الرؤية أو للدقة إستنتجاتنا الخاصة بالوجود لتسحق الإنسان فى أنماط وتشل قدراته الفكرية والإبداعية لتسود النمطية .

- الثقافة والنمطية والقولبة أعطى للمشهد الطبيعى البسيط رؤية مغايرة زائفة عما هو عليه تبعد الوعى عن حقيقة طبيعة الوجود لتضيف أشياء ليست منه خالقة لأوهام تنحرف بالإنسان عن إدراك ماهية وحقيقة وجوده كونه لا يزيد عن أى وحدة وجودية بسيطة متناغمة منطقياً مع قوانين الطبيعة , لذا من تغاضى وأهمل وأغفل إدراك هذه الحقيقة صار وجوده زائفاً متخبطاً لا يخرج من أسر القولبة والتقليد غير مُدرك الفرق بين الوهم والحقيقة لتتسلل فلسفات وأديان وأفكار ترسخ هذا الفصام وتحرف البوصلة بعيداً عن الوعى .

- لا يوجد فرق بين مفهوم الحياة كمعطى طبيعى وبين ممارسة الحياة , فالحياة لها مفرداتها يتساوى فيها الإنسان مع الحيوان والدودة والنبات , ولكن يوجد فرق بين مفهوم الوجود وبين ممارسة الوجود , فالإنسان هو الكائن الأوحد المتميز فى إدراكه لممارسة وجوده ولعل الخطأ والمأساة أن هناك من يخلطون بين ممارسة الحياة والوجود فيتصورون نشاطهم الطبيعى الحى كالتغذية والتناسل هو ممارسة للوجود بينما الأمور لا تزيد عن تفاعلات كيميائية بيولوجية تقوم بها سائر الكائنات الحية فى إطار ممارسة الحياة .

- هناك خلط دائم لدى البشر بين ممارسة الحياة وممارسة الوجود أدى إلى تشوش الوعى فنتصور أن التنافس والمحاكاة والتقليد بين البشر هى ممارسة وجودية ولكن الحيوانات تفعل ذلك , بينما ممارسة الوجود هى إنتاج الأفكار والرؤى والإنطباعات والإبداعات فإذا توقف إنتاج الأفكار توقف دواعي الوجود مثلما تتوقف الحياة تلقائياً بتوقف مقوماتها وعناصرها المادية .

- هناك خلط آخر لدى الإنسان بين الجهد الذى يبذله لتوفير متطلبات الحياة , وبين جهده المبذول في ممارسة الوجود , لنتصور أن إبداعات البشر لتوفير متطلبات الحياة وإختلاق ميادين للتنافس والصراع أن هذا يعنى ممارسة الوجود بينما هى ممارسة للحياة ولكن بصورة اكثر تعقيداً عن الإنسان القديم والحيوان لإيفاء الحاجات الحياتية المادية , بينما ممارسة الوجود يطلب خلق أسباب فكرية منطقية يحيا الإنسان من أجلها .

- إبتداع القصص والمناسبات الإجتماعية والطقوس الدينية مهما تعقدت سبلها ودروبها هى خطأ فى إنسابها لممارسة فعل وجودى بينما هى لا تزيد عن محاولات لإيهام الوعي البشري بوجود أسباب وأسس ثابتة خارجة عنه ، يقوم من أجلها الوجود البشري , بينما هي في الواقع مظاهر جوفاء خادعة لا قيمة وجودية لها , فالإنسان الذي يُمارس الحياة بهذه الصورة معتبراً الإلتزام بالبروتوكولات والطقوس والمناسبات ممارسة حقيقية للوجود، تُبرر البقاء وتستحق الجهد وتعطى معنى لوجوده هو كمن يحفر الأرض بشكل عبثى بدون غاية , فلا مقابل من عملية الحفر العبثية هذه سوى بعض الأوهام بأن الحفر ذو جدوى ، لذا يمكن التخلص من تلك القصص والبرتوكلات والطقوس وإلقاءها جانباً دون أن تؤثر على الوجود , بل النزع هنا بمثابة العودة للطريق الصحيح لفهم الوجود .

- المعتقدات والأديان أكبر محاولة بشرية لإيجاد أسباب مشتركة للوجود البشري , لكنها لا تصلح لكل البشر كونها لا تُناسب كل مستويات الوعي وذلك لأنها تصطدم بالمنطق عند عُمق معين من التفكير ,كما تتشرنق فى هوية , لذا فهى لا تُشبع ولا تَصِح أن تكون وسيلة لإيجاد معنى للوجود , فالذين إقتنعوا وإكتفوا بالمعتقدات التقليدية كدواعي للوجود وكآلية لممارسة الوجود لا يرجع هذا إلى أن النهج الميتافزيقى ذو إقناع ,فهؤلاء كان من الممكن أن يقتنعوا ويكتفوا بأي نظرية أخرى بديلة فهم ليسوا أصحاب فكر واقعي منطقي بل هم مهيأون لملأ خانة الوجود بأي سبب يُقال لهم عنه , فهم لم يسألوا عن دواعي الوجود إلا بإبلاغهم أو إكراههم أو تخويفهم . ولنلاحظ أن الإيمان بالإله جاء من أجل إثبات وجودنا نحن فلن يعنينا قصة الإله هذه بدون إدراك وإثبات وجودنا وتحقيقه بدون منغصات .

- نقبل من يتجاهل ويرفض وجودنا ولكن لا نقبل من يجهل وجودنا , فالتجاهل والرفض يعنى إننا موجودون , أما الجهل فيلغى وجودنا لنخوض صراعاً ليفرض وجودنا , ولتجد ان كل صراعات البشرية تدور فى هذا الإطار وإن تغيرت وتلونت الرايات مثل مقولة الأرض السليبة أو الحقوق المهدورة أو ثأرا لدماء الشهداء بينما هى تبحث عن فرض الوجود وتميزه , ولعل الشعار الذى تم رفعه ليصف الصراع العربى الإسرائيلى بأنه صراع وجود وليس صراع حدود أكثر الشعارات عفوية وفجاجة .

- ناموس الحياة هو الصراع حتى الموت , فمن الموت نبنى الحياة فنحن نبنى حياتنا ونحافظ عليها بنزع الحياة من كيانات وجودية أخرى فنذبح الحيوانات والطيور لنأكلها , ونقتل الفيروس لنحافظ على وجودنا , كما تفترسنا الحيوانات والفيروسات لتبنى حياتها وتحافظ على وجودها , فلماذا نعتقد أن هناك عناية وإحتفاء خاص بنا فنحن نعيش بين أقطاب الحياة والموت والصراع شأن أى كائن حى آخر .

- ينهج الإنسان دوما إلى إثبات وجوده من خارج ذاته متحققا فى الآخرين فلا سبيل له سوى إنتزاع وجوده بإعتراف الآخرين به , ولا معنى لوجوده بدون إعتماد الآخر له , وهذا النهج له ما له وعليه ما عليه , كما يفسر لنا كل تمظهرات السلوكيات البشرية .. الجانب الإيجابى فى هذا النهج يتمثل فى إنخراط الإنسان فى الجماعة البشرية وهذا ما يفسر لنا مقولة أن الإنسان كائن إجتماعى ليمارس سلوكيات إيجابية فى المشاركة والتكافل والفعل والإبداع فيحظى على إعتراف بوجوده وتمايزه أيضا وبذا ينال درجة من الإستقرار النفسى فقد نال اثبات وجوده مع قبول , ولكن ليس هكذا تدور كل الدوائر فنجد من يسلك طريق التصادم وفرض القوة المادية والمعنوية والهيمنة لينال الإعتراف بوجوده لتكون سلوكيات الإستبداد والوصاية سواء من الحكام أو الأباء أو الأزواج هو سلوك يبغى فرض الوجود وتحقيقه بالقوة لأتصور أن هذا النهج يسبق أو للدقة يتزامن مع المنفعة المادية بدليل ممارسته من قبل الأباء والأزواج بدون عائد , فما الهيمنة الذكورية والأبوية إلا إشباع الرغبة فى إثبات وتحقيق الوجود بقهر الآخر لتتسلل السادية مع شعور باللذة كونها تحقق الفعل الوجودى بقوة , ويمكن إعتبار كافة أشكال الصراع والتناحر الدينى والمذهبى والعرقى فى هذا الإطار , فلا فائدة مادية واضحة ناتجة من سطوة طرف على آخر إلا تلك اللذة فى القهر التى تعطى لوجودنا معنى وإثبات ولذة .!

- لا يكون حرصنا على إنجاب الأطفال من باب إعمار الأرض وأن هذا ناموس الحياة وكل هذا الهراء , ولكنها رغبة جنسية تبغى الإشباع أولا فلا تفكر فى ماهية ماهو قادم , فهى ليس لديها بالفعل أى ملمح عن المولود القادم لكى تحبه وتحتفى به ولكنها ستحتفى به وتحبه عندما يتواجد ليس كإلهام و مشاعر جاءت من السماء ولكن لكون المولود إمتداد لنا يثبت ويحقق وجودنا ويمنحنا مرآة كبيرة نرى فيها وجودنا , فالآباء هنا يُحاولون رؤية ذواتهم مُتجسدة خارجهم على هيئة أبناء كونهم عاجزون عن رؤيتها في أنفسهم , ليعبر البسطاء عن هذه الحالة بأن الوليد يحمل إسمنا وإمتداد لإسم العائلة وعزوتنا القادمة , وكما نرى هو فكر يعبر بعفوية عن أن التناسل تأكيد وتحقيق وجودنا .

- سلوك الآباء تجاه أبنائهم وأسلوبهم في تربيتهم تتركز على ضرورة إمتنان وإنسحاق الأبناء في إثبات وجود الآباء ويتحقق ذلك بالطاعة العمياء للآباء واستشارتهم في كل كبيرة وصغيرة فيما يفقهون وما لا يفقهون فيه ،وتبجيلهم وتمجيدهم معنوياً وعملياً كونهم آباء ليصل الأمر إلى حد أن يصبح من واجب الأبناء شكر الآباء ومدحهم بأشياء لم يفعلوها وكل ذلك من أجل تكريس ثقافة أن الآباء ليسوا مُطالبين بإنجاز يستحقون به هذا الإنسحاق سوى أنهم أنجبوا الأبناء بالرغم أن الإنجاب ماهو إلا ممارسة خارجية أرادوا به تحقيق وجودهم . فهكذا تتشكل علاقات إجتماعية من هذا السعى الحثيث نحو إثبات الوجود .

- يمكن تفسير التعصب بحالة نفسية عاطفية لامنطقية تبحث عن إثبات وجودها من خلال الإهتمام بالإنتساب والمحافظة على وجود بشر يدركون وجودها ويشاركونها نفس الرؤية للوجود فى مواجهة الآخرين وذلك لا يعكس وعياً بقدر ما يعكس ضعف لدى الإنسان ناجم عن جهله بذاته أو إنفصاله عنها معوضاً هذا الخلل الوجودي بإرتباط عاطفي إندفاعي عصبى بالآخرين متصادماً بالضرورة مع غيرهم .

- أى نشاط فكرى أو مادى يبغى إثبات الوجود فأفعالنا وإبداعنا من أجل إثبات وجودنا من خلاله , فيكون تماهينا فى نشاط ما هو إلا لتحقيق ذاتنا وإثبات فعلنا الوجودى ليتساوى فى ذلك كل تمظهرات الفعل والنشاط الإنسانى سواء أكان مفيداً أو ضاراً , خيراً أو شراً .

-أرى الكتابة بوح عن أفكارنا وصرخاتنا ولكنها لا تكتفى بالتعبير عما يجول فى ذهننا من أفكار وإحساس لنتحمس له بل تكون فعل إثبات وجودى كإنسان فاعل فى وجود عبثى بلا معنى .. تكون الكتابة مظهر من مظاهر اثبات الوجود من خلال تبنى قضية فكرية وليست من أجل القضية الفكرية فى حد ذاتها أى إننا نعتنى بوجودنا من خلال التحمس لفكرة .

- الفن أرقى تمظهر لإثبات الوجود كونه لا يكتفى بفعل مؤثر جميل ولكنه يدخل فى إطار الخلق الذى يحقق ذاتية الإنسان ووجوده الفاعل ليصل إلى التماس مع فكرة موءودة باطنية عن ألوهية الإنسان .

- كذلك الافكار المتطرفة والفعل الإرهابى هى محاولة من أصحابها لإثبات وجودهم من خلال فكر وفعل عنيف يتلمس صاحبه أن يخرجه من دائرة التهمييش والعجز الى إثبات قوة حضوره ووجوده مصحوباً أيضا بنزعات عنف كامنة تحت الجلد ترغب فى الإنطلاق والتنفيس والممارسة لتحقق لذتها ووجودها من خلال لذة سادية تستمتع بالدم والقهر , لذا أرى حل إشكالية الإرهاب والإرهابيين فى خلق مجال آخر لإثبات الوجود أو إبادة وجودهم .

- إبتدع الإنسان فكرة الملكية والإستحواذ كفكرة تدور فى إطار الصراع الراغب فى إثبات وجود على حساب وجود الآخرين كونها تحقق نظرية صراع تنشد إثبات الوجود والتمايز بالنيل من وجود الآخرين ,لتجد هذه الفكرة هوى وحماس بالرغم من قبحها الشديد كونها تفتح المجال للكثيرين فى ممارستها فلا تطلب أصحاب القوة الفيزيائية فقط بل كل من يستطيع الهيمنة والإستغلال .

- ونحن صغار كنا نحاول إثبات رقينا بسؤال : هل نحن نأكل لنعيش أم نعيش لنأكل لنجاوب بأننا نأكل لنعيش حتى نعطى إنطباع اننا لسنا حيوانات تسعد بالأكل فقط فلدينا ما نهتم به من الرياضة والفنون والثقافة .. لو تأملنا جيداً فى هذه العبارة سنجد أن الإنسان البدئى كان يعيش ليأكل فكل ما يعنيه فى الحياة أن يأكل أما بالنسبة لنا فقد حدث أمان غذائى وعدم قلق على الوجبة القادمة فبعد شبعنا وجدنا الوقت لنلعب ونلهو بين الوجبات مثل القطط , لو وصلنا للدرجة التى كان فيها الإنسان البدئى فى عدم الأمان على وجبته التالية فهنا من الهراء أن نتكلم عن ثقافة وفنون ورياضة فسنعيش وكل همنا ان نأكل . نحن نأكل لنعيش ونعيش لكى نأكل .

- الحرص على ترك بصمة وجودية ! . الإنسان يحس ويستمتع بوجوده عندما يترك بصمة على الوجود ولا يهم هنا شكل ونوعية هذه البصمة كونها مفيدة أو ضارة , فالعلماء والفنانون والمثقفون يتركون بصمة , كذلك المتطرفون الإرهابيون يتركون بصمة , وكلما كانت البصمة واضحة الملامح ذات تأثير أدرك الإنسان وإستمتع بوجوده فهو فاعل مؤثر ذو حضور وليس ريشة تذروها الرياح .
سعي البشر اللامحدود للشهرة من خلال الرياضة، الفن، السياسة , الأدب , الإرهاب يأتي فى نفس إطار الحرص على ترك بصمة من ذات المنطلق النفسي العاطفي اللامنطقي كممارسة خارجية للوجود بطابع تخصصي متميز , ومن هنا نجد البشر الأقل وعياً وثقافة معدومى القدرات هم الأكثر حرصاً على إنجاب الأطفال دون مراعاة للتوفيق بين الواقع والمنطق وليس ذلك سوى ممارسة خارجية للوجود وفق إنعدام القدرات .

- كائن صاخب ! . جمال الحياة أن الإنسان يعيش بصخب يعلن عن وجوده بضجيج وإنفعال طالباً أن يقر الآخرين بوجوده فبدون الصخب ستدور الحياة فى هدوء ورتابة فلن نحس بوجودنا الفاعل , وما الفنانين والعلماء والأدباء والفلاسفة والثوار إلا بشر مارسوا حياتهم بصخب رغبة فى إثبات وجودهم وترك بصمة وجودية تثبت أن لوجودهم كان ذو حضور قوى ومعنى .. جمال الحياة أن نمارسها بصخب ولولا هذا الصخب ما تطورنا ولا ذقنا حلاوة الحياة بأحلامها وأمانيها , وحلوها ومرها , ولكن من الخطأ تصور الحياة ذات حلاوة ومرارة فى ذاتها , بل هى تفاعلنا معها وإسقاط معانى ومشاعر عليها فى حالة صاخبة .

- نحن لا نختلف عن الأطفال فى محاولة إثبات وجودهم بلفت الإنتباه وإثارة الصخب والجلبة ولكن وسائلنا ككبار أكثر تعقيداً من فعل الصغار فالغاية واحدة فى محاولة إثبات حضورنا ووجودنا وتحقيقه وإعتباره محور الحياة .

- الذين يكذبون و يختلقون القصص والمواقف البطولية ليس بالضرورة لجني مكاسب مادية أو إجتناب ضرر إنما لجذب الانتباه بمحاولة إدخال صورته في مخيلة الآخرين , ليكونوا بمثابة مرايا تعكس أو تُثبت له وجوده , فلتعتبره نوع من الصخب والجلبة المصاحبة لإنسان يريد زرع وجوده .

- الموت هو العقبة الكبرى التى تنال من الإنسان فى إثبات وتحقيق وجوده , فوجوده تصادم مع الموت الذى يعتبر إنهاء الوجود لترتطم رأسه بقوة على صخرة الموت لذا أرى ان فكرة البعث والخلود لم تأتى لتحقيق معنى وغاية للحياة فقط بل لتحقيق وإثبات وجود مهدد على عتبات الموت .

- قصة الخلود والعالم الآخر فيها جزئية إثبات وجود فلسنا دودة تدوسها النعال فتتبدد , ولكن فكرة البعث والخلود تعتنى أكثر بفكرة المعنى والغاية بشكل أعمق لتعطى لوجودنا معنى ولكنها لم تتحرر من إثبات فعل وجودى .
كل القصص والأساطير أحاطت فى جوهرها بالموت فتسلل فكرة الإله والعالم الآخر وكل تلك الأوهام لذهنية الإنسان القديم من هدف إثبات وجوده , لأرى أن الإنسان البدئى كان له كل العذر فيما ذهب إليه من رؤى وخيالات فعندما يقف المرء فى مواجهة الموت سيتحرك فى الداخل الإنسانى ألم وقلق الوجود الذى حاول دفنه فى أعماقه عن عدمية الحياة وقسوة الوجود المادى , فموت الأحباء ليس فجيعة وألم نتيجة فقدهم بل صفعة لوجودنا.

- لعل أسطورة الروح والعالم الآخر والبعث والحياة بعد الموت من أكثر ما أنتجه الفكر البشرى إبداعاً ليتجاوز الموت فى ظل ضعف إنسانى إستمد من الخيال والوهم مُخدر لتجاوز تلك اللحظات العصيبة المواجهة للموت والمتوسمة عبور مشهده لتهدأ من روع إنسان صار وجوده على المحك .. الموت حالة تصادم مع وعى إنسانى مفارق للطبيعة ومتعالى على ناموسها بالرغم أنه جزء من لحميتها لينتج أفكار وثقافة ورؤى مغلوطة للحياة والوجود وضع فيها ذاته كمحور للوجود فبدا له الموت صفعة قوية تهزأ بغروره ليتحايل عليه بإله يخرجه من سراديب الموت قاهراً العدم والخواء برجاء فى حياة ووجود أخر .

- الوعى المفارق المنسلخ عن ناموس الطبيعة صاحبه غرور إنسانى أحس بتمايزه عن الطبيعة وله العذر فى ذلك فهو يرى نفسه الذات العاقلة المُتفردة الوحيدة المنفصلة عن الطبيعة بالوعى فكيف يتساوى مع دودة وحشرة وحيوان فى النهايات , كيف يكون مصيرى كمصيرهم , وما معنى أننى أرى صور الموتى فى مخيلتى , فلابد أن وجودى مغايراً ذو طبيعة خاصة بالروح , فلن أنتهى ولن أنقضى بالموت .

- المرايا ! . لماذا نحزن على موتانا ونبكيهم ؟. قد تكون الإجابة البسيطة لأننا نحس بفراقهم ولنا رصيد من الذكريات والمشاعر تجاههم إجابة مقنعة وكافية لتفسير الحزن والبكاء والنحيب الذى يرافقنا فى موت أحبائنا ولكن هذه المشاعر الطافية على السطح تحجب مايدور فى العمق الإنسانى من أسباب , فنحن نحزن ونفجع فى فقد أحبائنا لأننا نفقد مرآة من مرايا إثبات وتحقيق وجودنا .!
نحن ندرك وجودنا من عدة مرايا تتمثل فى بشر مثلنا أو حيوانات نألفها أو موجودات لتعطى كل مرآة ملمح من ملامح وجودنا وكلما زادت المرايا كلما إبتعدنا عن إغترابنا وأحسسنا بإنسجامنا وأماننا مع الوجود , وكلما كانت المرايا كبيرة متمثلة فى علاقات حميمية دافئة كلما أصبح لوجودنا معنى كبير لذا تكون خسارة أى مرآة هو إنتقاص لوجودنا الذى إعتدناه وبمثابة هزة عنيفة لوجداننا بخسارة مرآة من مكونات وجودنا .

- وجودنا هو علاقتنا بمجمل الوجود المادى من بشر وحيوان ونبات وجماد فلا وجود لنا من غير محيط مادى يحتوينا سواء أكان حى أو جامد ,وكلما كانت العلاقة ذات تفاعل قوى كلما أدركنا وأحسسنا بوجودنا وودعنا الإحساس بالإغتراب من وجود مادى صارم يقذف صور بلا معنى , فالعلاقات الإنسانية ذات أهمية كبيرة فى إحساسنا بوجودنا فهى تفاعل حىّ متبادل يمنح الكثير من الزخم لذا يميل البشر للتجمع فى جماعات بشرية , كذلك علاقتنا مع الحيوان يمنحنا إحساس بالوجود وإن كان أقل فاعلية من علاقة الإنسان بالإنسان لتعتبر تربية الحيوانات والطيور والنباتات والتعلق بها مرايا أخرى تحقق وجودنا.

- إن علاقاتنا مع الآخرين تتأسس على فكرة المرايا كإنعكاس لوجودنا أو بالأحرى تكوين ملامح وجودنا , وكلما كانت المرايا قريبة زادت مشاعرنا وخوفنا وقلقنا كإحساس لا واعى بأن الموت يعنى هزة شديدة لوجودنا وكينونتنا لذا يمكن تفهم مشاعر الأباء والأمهات تجاه الأبناء ومشاعر الأبناء تجاه ذويهم والذى يُعبر عنه بكلمة الغريزة فتكون المرايا التفسير النفسى للغريزة الإنسانية

- إهتمام الانسان بالحيوانات مثلا وتعلقه بها سببه إفتقاده لعلاقات انسانية دافئة يرى فيها ذاته أو نحو تعديد المرايا , فأنتج مرايا بديلة يسقط مشاعره عليها ويخلق علاقة حميمية معها , وعندما نفتح العدسة عن مشهد إعتناء الإنسان بإنقاذ كل أصناف الحيوانات والنباتات من الانقراض بالرغم أن هذا لا يؤثر سلبًا بشكل قوى على حياته , فماهو إلا إرتباط وجودى بها من خلال مرايا كثيرة تملأ ساحة الوعى .

- لا تكتفى مرايا وجودنا على الكائنات الحية فكما ذكرنا عن تفاعل الإنسان مع الوجود المادى بأكمله لذا تتكون علاقة شعورية ما مع الجماد تقتصر على مشاعرنا فقط التى نخلقها ونسقطها على الأشياء لذا نجد ارتباط وشعور وذكريات تجاه بعض الموجودات الجامدة كالدار والقرية والشارع .. هذه العلاقات والمشاعر هى صور وجودنا أو مرايا تعكس وجودنا الحي ليكون فقد أى مرآة من عشرات المرايا التى تحقق وجودنا بمثابة هزة عنيفة لكياننا والرجوع لمربع الإغتراب .

- وجودك يعني أنك مُحاط بمرايا تعكس أو تُثبت وجودك متمثل فى بشر أو حيوانات أو نباتات أو حتى جماد , فكلما زاد عدد المرايا التي تعكس وجودك من حولك، تحول شعورك بالوجود إلى إحساس حقيقي به , وكلما اختفت مرآة من حولك إختفى جزء من وجودك وإذا اختفت كل المرايا اختفى شعورك بالوجود , لذلك يُحافظ البشر على وجود أكبر عدد ممكن من الأشياء التي تعكس وجودهم من حولهم .

- يمكن إثبات فكرة المرايا كسبب جوهرى لاوعى لإحساسنا بالحزن على أمواتنا كوننا لا نحزن على أى ميت , فليس كل الموتى أصحاب تأثير فى صالة مرايانا , ولكن قد يفسرها البعض كوننا لا تجمعنا معهم تاريخ من الذكريات والمشاعر وهذا صحيح ولا يتناقض مع رؤيتنا المطروحة بل يفسر المشهد من الخارج فقط , فيمكن صياغة مقولة لا تجمعنا تاريخ ذكريات ومشاعر بقرب الميت "المرآة " من إحساسنا بوجودنا , فمقولة تاريخ الذكريات والمشاعر ليست ذات كينونة مستقلة بل تعبير عن إسقاط لكينونتنا وذاتنا على الأشياء , لذا لو سألنا ما معنى تاريخ الذكريات والمشاعر ستكون الإجابة أنها حالة من التفاعل الوجودى الذاتى مع الآخر لتحفر ذكريات على مرآة الوعى .. ولو سألنا ماذا يعنى التفاعل الوجودى فهو يعنى وجودى الذى يتحقق بالتفاعل مع الآخر , لذا كلما كان التفاعل قوياً فيعنى أننى أمام مرآة كبيرة أنظر فيها إلى وجودى لتمنحنى الأمان , ويكون تحطم هذه المرآة هزة قوية لوجودى , لذا نجد مواساة البشر لبعضهم البعض كتعبير يعلن لنا ولهم أن هناك مرايا أخرى ستعوض خسارة المرآة التى تحطمت .

- الحب هو صقل مرآة وجودنا ليزداد إحساسنا بوجودنا وضوحاً وبريقاً لنرى أنفسنا فى الحبيب أكثر ونحظى على درجة أكبر من التحقق والتوازن والسلام لذا تكون خسارة الحبيب خسارة فادحة فقد تحطمت مرآة مهمة من مرايا شعورنا بالحياة .. الحب يبدو لنا مشاعر جميلة وهو كذلك بالفعل ولكن الحب ليس شئ هائم فى الهواء فجذوره فى عمق الإنسان والكائن الحى باحثاً عن إيجاد علاقة دافئة حية تعطى أمان وسلام وترفق فى وجود مادى جامد غير معتنى تحقق وجوده .
نلاحظ فى أدبيات الموت ترديد عبارة أن الأرض دار إغتراب بالرغم أننا لا نعرف ولا نعى إلا الوجود الأرضى ولكنها عبارة تعبر عن العمق الإنسانى الداخلى المتأصل منذ القدم بحالة إغترابه عن الطبيعة فى وجود مادى جامد غير معتنى ولا واعى يكون الحب جسر عبورها .

دمتم بخير.
لو بطلنا نحلم نموت .. طب ليه ما نحلمش - شعار أختم به بعض مقالاتى , أرى هذا المقال يفسره , فالوجود حلم ووهم فلما لا نحلمه .



#سامى_لبيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شيزوفرانيا-تناقضات فى الكتابات المقدسة–جزء13
- عاوز أعرف – مشاغبات فى التراث 8
- إستنساخ التهافت-الأديان بشرية الفكر والهوى والتهافت
- الماركسية السلفية وعلاء الصفار
- إستنساخ آلهة البدواة-الأديان بشرية الفكر والهوى والتوحش
- فضائح وشجون ومخاطر على سواحل أوربا
- منطق شديد التهافت ولكن إحترس فهو مقدس
- إنهم ينفقون على الجن بسخاء-لماذا نحن متخلفون
- منطق الله الغريب - مشاغبات فى التراث 7
- أبشركم بإله ودين جديد .
- كيف تؤلف لك دين جديد -جزء ثانى
- كيف تؤلف لك دين جديد - جزء أول
- سؤال فى تأمل-خربشة عقل على جدران الخرافة والوهم
- تغييب السبب الرئيسى إما جهلاً أو خجلاً
- تهافت البلاغة – مشاغبات فى التراث(6)
- تصعيد ثقافات وليس صراع حضارات-فى نقد نظرية صموئيل هنتنجتون
- وهم الوجود(1)- نظرية البحث عن علاقة .
- عالم معندهاش دم ولتحذر غدرهم وخيانتهم
- نظرية ورؤية فى فهم الوجود والحياة والإنسان
- لا هى أخلاق ولا يحزنون-الدين عندما ينتهك انسانيتنا


المزيد.....




- الرد الإسرائيلي على إيران: غانتس وغالانت... من هم أعضاء مجلس ...
- بعد الأمطار الغزيرة في الإمارات.. وسيم يوسف يرد على -أهل الح ...
- لحظة الهجوم الإسرائيلي داخل إيران.. فيديو يظهر ما حدث قرب قا ...
- ما حجم الأضرار في قاعدة جوية بإيران استهدفها هجوم إسرائيلي م ...
- باحث إسرائيلي: تل أبيب حاولت شن هجوم كبير على إيران لكنها فش ...
- ستولتنبيرغ: دول الناتو وافقت على تزويد أوكرانيا بالمزيد من أ ...
- أوربان يحذر الاتحاد الأوروبي من لعب بالنار قد يقود أوروبا إل ...
- فضيحة صحية في بريطانيا: استخدام أطفال كـ-فئران تجارب- عبر تع ...
- ماذا نعرف عن منشأة نطنز النووية التي أكد مسؤولون إيرانيون سل ...
- المخابرات الأمريكية: أوكرانيا قد تخسر الحرب بحلول نهاية عام ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامى لبيب - فى ماهية الوجود-نحو فهم الوجود والحياة والإنسان