أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نضال الربضي - قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – 4 – الماهيَّة و الجذر – ج3.















المزيد.....


قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – 4 – الماهيَّة و الجذر – ج3.


نضال الربضي

الحوار المتمدن-العدد: 4925 - 2015 / 9 / 14 - 16:49
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – 4 – الماهيَّة و الجذر – ج3.

تحدَّثنا في في المقال ِ السابق من هذه السلسلة، عن سفر ِ أشعياء من ناحية ِ المُؤلفين و العرض ِ العام للمحتوى، و تعرَّفنا إلى الأهمية ِ العظيمة ِ التي أولاها الشعب اليهودي لمرسوم ِ الملك ِ الفارسي قورش بالسَّماح ِ لهم بالعودة ِ من أوراشليم َ إلى بابل، و توقفنا عند معنى هذه العودة ِ التي ماثــَـلها الشعب ُ بالخروج ِ الأوَّل ِ من مصر إلى أرض كنعان، و أبرزت ُ لكم قُرَّائي الكرام الدلالة الروحية المتعلــِّـقة بها باعتبارها تمثيلا ً حيـَّا ً و محسوسا ً لعودة ِ الإله ِ نفسِه ِ إلى شعبه،،،

،،، و سنتحدَّث ُ اليوم عن معنى "ما بعد الكارثة" الذي أصبغُـه ُ الشعب اليهودي على مأساتهم في بابل. هذا المعنى الذي كان َ لا بُد َّ و أن يصلوا إليه بِـحُكم ِ عقيدتهم كشعب ٍ مُختار و نمط ِ تفكيرهم كمحور ٍ لإرادة ِ الإله و موضع ٍ لمسَّرتِه و أداة ٍ لمشيئَته.

عندما يتعرَّض ُ أي إنسان ٍ منَّـا إلى مُصيبة ٍ شديدة فإنَّ أوَّل َ ما يبدأ في البحث ِ عنه هو: السبب و الدلالة. عندما تدق ُّ المصيبة فإن العقل يبدأ ُ في البحث ِ عن العِّلّة لكي يتعامل َ معها و يجد َ الحل و بالتالي يُبطل َ مفعول َ الحدث ِ الطَّارئ، و يُزيل َ الألم و يستعيد أوضاع َ ما قبل المُشكلة، و هذا صحيح ٌ لا فقط على مستوى الفرد لكن أيضا ً على مُستوى الجماعات ِ و الدُّول. إن إيجاد َ جذر ِ المشلكة و أصلها هو استجابة ٌ تلقائيَّة ٌ أوتوماتيكيَّة ٌ لغريزة ِ البقاء، و التي تستديم ُ الحياة َ في الكائن: الفردي، أو الجمعي الذي ما هو إلا أفراد يتشاركون َ في الرُّؤيا و المعتقد و المنهج.

كما و أنَّ هذا البحث سيخضع ُ بالضرورة لثقافة ِ هذا الفرد و ذلك المجتمع، فالثقافة هي المخزون ُ الذي بواسطته يرى الكائن ُ الحياة َ و يُفسِّرها و يتعامل بالتالي معها، و بما أن ثقافة الشعب ِ اليهودي هي ثقافة ُ "التميُّز ِ و الاختيار" بمعنى أن الإله اختارهم و جعلهم مختلفين بشكل ٍ اعلى من باقي الأُمم، فإنه لا بدَّ و أن يُستمدَّ معنى الكارثة من هذا الاعتقاد، و سوف بالقطع يتَّخذ ُ من قناعاتِه أداة ً و قناة ً يمرُّ بها التحليل ُ و التفكير للوصول ِ إلى النتيجة.

و عليهِ سيكون ُ السُّؤال المُلحُّ: ماذا تقول ثقافة ُ هذا الشعب، و ما هو مخزونُه ُ الفكري؟

كان الشعب اليهودي يؤمن ُ بأنَّ بركتَه ُ تتمثَّل ُ في ضمان ٍ إلهي ٍ باستقلالِه و رفعتِه و عُلو ِّ شأنه و قوته، فنقرأ ُ في سفر تثنية ِ الإشتراع "و إن سمعت َ سمعا ً لصوت ِ الربِّ إلهك َ لتحرص َ أن تعمل َ بجميع ِ وصاياه التي أنا أوصيك بها اليوم، يجعلك الرب ُّ إلهك َ مستعليا ً على جميع قبائل ِ الأرض........... يجعل الربُّ أعداءك َ القائمين عليك َ منهزمين أمامك، في طريق ٍ واحدة ٍ يخرجون َ عليك، و في سبع ِ طُرق ٍ يهربون َ أمامك" (فصل 28 الآيتين 1 و 7) يا لهاذا الوعد ِ المهول، إنَّه ُ نصر ٌ مجيد ٌ لا يُبارى،،،

،،، في نفس الفصل ِ نقرأ ُ تحذيرا ً مهولا ً بنفس ِ القدر أيضا ً "و لكن إن لم تسمع لصوت ِ الربِّ إلهك لتحرص َ أن تعمل َ بجميع ِ وصاياه و فرائضه التي أنا أوصيك َ بها اليوم، تحل ُّ عليك َ جميع ُ هذه اللعنات و تدركك........ يجعلك َ الربُّ منهزما ً أمام َ أعدائك َ. في طريق ٍ واحد ٍ تخرج ُ عليهم، و في سبع ِ طرق ٍ تهرب ُ أمامهم، و تكون ُ قلقا ً في جميع ِ ممالك ِ الارض" (فصل 28 الآيتين 15 و 25)، إنَّها لعنة ٌ عظيمة ٌ حقَّا ً!

تذكَّر َ الشعب ُ برعب ٍ و خشوع ٍ شديدين هذه اللعنة َ الفظيعة، لقد نبَّههم أشعياء و أنبياء ُ آخرون على تعدِّياتهم، لقد قالوا و أعادوا و زادوا و كرَّروا، لكن الشعب لم يسمع، لقد خان َ الرب، و الشريعة، فاستحقَّ اللعنة َ بكلِّ وطأتها. هكذا فكروا، و تلك َ كانت ِ النتيجة ُ التي توصلوا إليها،،،

،،، كان هذا من جهة!

أمّـا من جهة ٍ أخرى فلقد رأى الشعب ُ اليهودي أن حملـَـه ُ للشريعة ِ كان بحدِّ ذاتِه منزلة ً لا يحتلُّها غيره، و إن كان قد خانها، و هو في احتلالِه لأرض ِ كنعان َ قد حقَّق مشيئة ً إلهية، و هذه لها حِسابُها و مُكافآتها أيضا ً، ناهيك َ عن كونِه ِ لم يقم بأي ِّ عمل ٍ عدائي تجاه َ البابلين يُبرِّر ُ هذا الغزو الوحشي،،،

،،، و بالتالي توصّلت العقلية ُ الدينية ُ اليهودية إلى النتائج التالية:

- لقد أخطأنا ضد َّ إلهنا، فنحن ُ مذنبون َ تجاهَـه ُ و نستحق ُّ لعنته.
- لكنَّـنا بريؤون َ من جهة ِ الأمـَّة ِ البابلية براءة ً تامَّـة، و لقد استباحونا بدون ِ ذنب ٍ منَّا، فهو مذنبون َ تجاهنا.
- ذنبُنا ضد الإله قد استوفى عقوبته و لقد سمح َ لنا الرب ُّ بالعودة ِ إلى أوراشليم كدليل ٍ على ذلك كما يُخبرنا أنبياؤنا،
- لكنَّ الأمَّة َ البابلية عليها أن تُدرك َ أنها ستتعرَّض ُ للعقاب الإلهي كونها انتهكت أمَّة ً مُختارة و شعبا ً مُميـَّزا ً،
- و سيتحقَّق ُ الآن الوعد الإبراهيمي الداودي السُّليماني بإقامة ِ مملكتنا من جديد، مملكة ً مشيحانية ً أبدية لا تُنتقض.

كانت مأساة ُ السبي ِ عظيمة ً جعلت الشعب اليهودي َ يلتجِـئُ إلى هويَّته الدينية و القومية أكثر فأكثر ليستنطقها كي يُحدِّد َ ماهيته كشعب ثم على ضوئها يؤطِّر َ دوره في الخطَّة ِ الإلهية، ثم َ يُبرز َ هذا الدور َ إلى العلن ليضيفه ُ ككيان ٍ تعبُّدي إلى منظومته الدينية كاملة ً، هذا الكيان الذي رأى فيه ِ الشعب ُ اليهوديُّ نفسـَه ُ رؤية ً جمعية، أسمى نفسَه ُ فيها "العبد".

يُورد ُ أشعياء الثاني أربعة أناشيد تسمى "أناشيد العبد ِ المُتألِّم" (أو الذي يُعاني)، و يُضيف ُ بعض ُ الدارسين َ إليها نشيدا ً خامسا ً من أشعياء الثالث. تقوم ُ هذه الأناشيد بالتأكيد على الشعب اليهودي كخادم أو عبد للإله، يخضع ُ لإرادته و يُتم ُّمشيئته، و على الظلم الذي تعرضوا له، مع تركيز ٍ على أربعٍ:

1- براءتِهم الأصيـلة كمُبتدأ،
2- صبرهم على الظلم و قبولهم بالعقاب الإلهي كجزء ٍ من المشيئة الإلهية،
3- تسويغ الظلم الواقع عليهم باعتبارِه مرحلة ً ضرورية في خطَّة ٍ إلهية لها هدف ٌ نهائي حكيم،
4- و مكافأتهم الحتمية القادمة بعد اكتمال العقاب، بإنشائهم أمام الأمم منارة ً للهداية الروحية من جهة، و مُلكا ً دنيويا ً أعزَّ من أي مُلك لأي ِّ أمَّة ٍ من جهة ٍ ثانية.

النشيد ُ الأول: (أشعياء ف 42 الآيات 1 حتى 4)
"هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سرت به نفسي. وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم
لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته
قصبة مرضوضة لا يقصف ، وفتيلة خامدة لا يطفئ. إلى الأمان يخرج الحق
لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض، وتنتظر الجزائر شريعته"

في هذا النشيد يـَـبرز ُ الشعب اليهودي كعبد ٍ للإله يتصف ُ بالوادعة، لا يؤذي أحدا ً مهما كان الأذى صغيرا ً (ربما يجب ُ علينا أن نتساءل َ هنا: ماذا عن موسى و يشوع بن نون و حروب احتلال الأرض ِ الكنعانية؟)، لكنّه و على الرغم من وداعتِه يتصدَّى لإتمامِ مُهمَّة ٍ عظيمة فالأرض كلها لا تعرف ُ الحق و لا الشريعة، و هو سيأتي بها. لاحظ أيها القارئ الكريم أهمَّية الآية ِ الأخيرة ففيها اعتقاد ٌ واضح بدور ٍ مُستمر (لا يكل لا ينكسر) أممي يتجاوز ُ العنصرية َ الضيقة التي تتميَّز ُ بها أسفار ُ ما قبل السبي.

النشيد الثاني: (أشعياء ف 49 الآيات من 1 حتى 6)
"اسمعي لي أيتها الجزائر، واصغوا أيها الأمم من بعيد: الرب من البطن دعاني. من أحشاء أمي ذكر اسمي
وجعل فمي كسيف حاد. في ظل يده خبأني وجعلني سهما مبريا. في كنانته أخفاني
وقال لي: أنت عبدي إسرائيل الذي به أتمجد
أما أنا فقلت: عبثا تعبت. باطلا وفارغا أفنيت قدرتي. لكن حقي عند الرب، وعملي عند إلهي
والآن قال الرب جابلي من البطن عبدا له، لإرجاع يعقوب إليه، فينضم إليه إسرائيل فأتمجد في عيني الرب، وإلهي يصير قوتي
فقال: قليل أن تكون لي عبدا لإقامة أسباط يعقوب، ورد محفوظي إسرائيل. فقد جعلتك نورا للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض "

مرَّة ً أخرى يبرز ُ الشعب اليهودي في صورة جمعية كعبد ٍ للإله، و يُظهر لنا النص أنه يرى في عبوديته معنى ً إيجابيا ً هو تمجيد ٌ لكليهما، فالإله يتمجَّد عندما يُتمُّ الشعب ُ مشيئته، و الشعب ُ يتمجَّد عندما يكافئه الإله فيجعله ُ أفضل َ من كل الأمم، نورا ً لها، إنها علاقة ٌ مُثمرة للطرفين الإلهي و البشري،،،

،،، و جدير ٌ بالملاحظة ِ هنا أن الشعب و إن تم َّ تصويره كعبد ٍ للإله و بالتالي كطرف ٍ في علاقة ٍ ثنائية طرفها الثاني الإله، إلا أن َّ النشيد ينتقل ُ ليصورَ العبد َ كنبيّ ٍ و معلم من داخل الشعب أي من داخل الطرف الجمعي، و كأنَّه ُ يُبرز ُ مستوى ً مُركَّبا ً من التعقيد فيه طرف ٌ فردي داخل الطرف ِ الجمعي لكن باعتبار ِ الطرف الفردي مُتحدِّثا ً باسم الجمعي جُزءا ً منه ُ لا مُنفصلا ً عنه، لاحظ أيها القارئ الكريم جملة َ "لإرجاع يعقوب إليه" و جملة َ "إقامة أسباط يعقوب و رد محفوظي إسرائيل"،،،

،،، إن النشيد يبدو أنه ُ ينتقل ُ من الصيغة ِ الجمعية للتعريف بالعبد كشعب، إلى الصيغة ِ الفردية للتعريف بالعبد كشخص من داخل الشعب، في تبادلية ٍ عجيبة توضِّح تشعُّب و تعقيد الفكر الديني اليهودي، و هي التي منها ستتكوَّن ُ نواة ُ التفكير شبه-الرهباني الأسيني الأول و المسيحي اللاحق الذين سنبحثهما في مقالات ٍ قادمة من هذه السلسلة.


النشيد ُ الثالث (أشعياء ف 50 آ 4 حتى 9)
"أعطاني السيد الرب لسان المتعلمين لأعرف أن أغيث المعيي بكلمة. يوقظ كل صباح، يوقظ لي أذنا، لأسمع كالمتعلمين
السيد الرب فتح لي أذنا وأنا لم أعاند. إلى الوراء لم أرتد
بذلت ظهري للضاربين ، وخدي للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق
والسيد الرب يعينني ، لذلك لا أخجل. لذلك جعلت وجهي كالصوان وعرفت أني لا أخزى
قريب هو الذي يبررني . من يخاصمني ؟ لنتواقف من هو صاحب دعوى معي ؟ ليتقدم إلي
هوذا السيد الرب يعينني. من هو الذي يحكم علي ؟ هوذا كلهم كالثوب يبلون. يأكلهم العث"

في هذا النشيد إبرازٌ لدور الشعب اليهودي كمُعلِّم يغيث المُتعبين لكن مع تركيز ٍ أقوى على كونه يتعلـَّـم ُ من الإله، إنها تبادلية ُو ثُنائية المُعلِّم ِ المُتعلِّم المُجتمعة في "العبد"، و التي تبرز ُ كتأكيد ٍ على دور الشعب كخادم خاضع للمشيئة الإلهية و التي مع أن أثرها شديد (ضرب، نتف شعر، عار يُحمَل، بُصاق) إلا أنها ستؤدي في النهاية إلى انتصار ٍ حتمي يضمنُه الإله نفسُه، هذا الانتصار الذي لاحت معالِمُه مع عودة الشعب من السبي بمرسوم قورش الفارسي، مسيح ِالرب كما وصفوه و شرحتُه ُ في المقال السابق من هذه السلسلة.

النشيد الرابع: ( نشيد ٌ طويل من أشعياء ف 52 آ 13 و حتى ف 53 آ 12)
"هوذا عبدي يعقل، يتعالى ويرتقي ويتسامى جدا
كما اندهش منك كثيرون. كان منظره كذا مفسدا أكثر من الرجل، وصورته أكثر من بني آدم
هكذا ينضح أمما كثيرين. من أجله يسد ملوك أفواههم، لأنهم قد أبصروا ما لم يخبروا به، وما لم يسمعوه فهموه
من صدق خبرنا، ولمن استعلنت ذراع الرب
نبت قدامه كفرخ وكعرق من أرض يابسة، لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه
محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن، وكمستر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتد به
لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها. ونحن حسبناه مصابا مضروبا من الله ومذلولا
وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه، وبحبره شفينا
كلنا كغنم ضللنا. ملنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا
ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه. كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه
من الضغطة ومن الدينونة أخذ. وفي جيله من كان يظن أنه قطع من أرض الأحياء، أنه ضرب من أجل ذنب شعبي
وجعل مع الأشرار قبره، ومع غني عند موته. على أنه لم يعمل ظلما، ولم يكن في فمه غش
أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن. إن جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلا تطول أيامه، ومسرة الرب بيده تنجح
من تعب نفسه يرى ويشبع، وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين، وآثامهم هو يحملها
لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة، من أجل أنه سكب للموت نفسه وأحصي مع أثمة، وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين"

هذا النشيد هو أعظم ُ الأربعة ِ و أقواها على الإطلاق، إنه تصوير ٌ درامي ٌّ تفصيلي حي للمأساة اليهودية و إعلان ٌ أبوكاليبتي عن الحكمة ِ النهائية خلف َ الأحداث، و لقد كان َ عبر العصور مثار َ جدال ٍ حاد ٍّ بين اليهود و المسيحين الذين رأوا فيه ِ نبوءة ً صريحة عن يسوع َ المُتألم، بينما تمسَّك َ اليهود ُ بكل قوَّة ٍ بموقفهم الذي يقول ُ أن العبد هنا هو الشعب اليهودي و ليس شخصا ً واحدا ً و لا مسيحا ً مُتألما ً، مُستندين إلى الأناشيد الثلاث ِ السابقة التي تُبرز ُ بوضوح هذا المعنى، و إلى آيات أخرى كثيرة يُذكر ُ فيها و يُنادى الشعب اليهودي بلقب ِ "العبد".

نُلاحظ ُ في هذا النشيد أن المُتحدِّث طرفان:

- الأول هو الإله اليهودي نفسه في الآيات الثلاثة ِ الأولى، الذي يؤكِّد ُ بنفسِه ِ أن الشعب اليهودي هو خادمه و عبدُه، و أنه بعدما أتمَّ عقابَه ُ كاملا ً سيرتفع ُ أمام َ الأمم ِ و الملوك ِ الذين سيفهمون َ الآن الحكمة َ من عذاب هذا الشعب و لن يستطيعوا أن يتفوهوا بكلمة أمام هذا الانكشاف ِ العظيم من جهة و القيمة ِ السامية ِ المُفاجئة التي ستكون للشعب من جهة ٍ أخرى.

- أما المُتكلم الثاني و الذي يرد في الآيات من "من صدَّق َ خبرنا" و حتى النهاية فهو: الأمم ُ الوثنية ُ نفسُها، و هي المفاجأة ُ المُذهلة ُ في هذا النشيد و التي تكشف حكمة َ الخطَّة ِ الإلهية، فلقد كان َ كلُّ عذاب الشعب اليهودي من أجل ِ أن تُدرك َ الأمم الوثنية خطأ طُرقها، و بُطلان َ مسلكها، و فساد َ عقائدها و عباداتها، و في النهاية ِ يشفع ُ لها الشعب اليهودي ُّ أمام الإله و تنضمَّ للإعتراف ِ بإله اليهود إلها ً لها. (راجع مقالي السابق من هذه السلسلة عن النبوءة المشيحانية التي يكون ُ فيها بيت الرب بيتا ً للأمم)،،،

،،، مُدهش ٌ حقا ً كيف تتكلَّم ُ الأمم الوثنية و كأنها يهودية ُ الفكر ِ، و مدهش ٌ أيضا ً كيف أنها خضعت لتوبة ٍ طارئة بعد شعور ٍ بالذنب، إنها صياغة ٌ أقرب ُ إلى الفكر الطفولي الرغبوي غير ِ الناضج ، بل هي كذلك! لكنـَّـك عزيزي القارئ و بعد أن قرأت َ الأجزاء السابقة من السلسلة ووصلت َ في الجزء ِ إلى هنا لا بُدَّ و أنك قد أصبحت َ مُعتادا ً على اكتشاف ِ النزعة ِ النرجسية ِ في العقلية ِ الدينية و التي ترى نفسها محور َ كل شئ و سببه، و تتجاهل ُ الأحداث السياسية و تشابك َ السلطة ِ و المُلك ِ و الاقتصاد (حتى بمقايس ذلك الزمن).



النشيد الخامس (أشعياء ف 61 آ 1 حتى 3)
"روح السيد الرب علي ، لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي للمسبيين بالعتق، وللمأسورين بالإطلاق
لأنادي بسنة مقبولة للرب، وبيوم انتقام لإلهنا. لأعزي كل النائحين
لأجعل لنائحي صهيون ، لأعطيهم جمالا عوضا عن الرماد، ودهن فرح عوضا عن النوح، ورداء تسبيح عوضا عن الروح اليائسة، فيدعون أشجار البر، غرس الرب للتمجيد"

يعدُّ بعض الدارسين و بصورة ٍ غير رسمية الآيات ِ الثلاثة َ السابقة نشيدا ً خامسا ً ينسجم ُ جُزئيا ً مع الأربعة ِ التي عرضناها، و هو استكمال ٌ لعرض ِ الشعب اليهودي كخادم ٍ للرب و تأكيد ٍ على تعويضِه ِ عن كلِّ مُعاناته من خلال إبراز ِ فردٍ منه (قد يكون النبي الذي كتب َ هذه الآيات) كأداة ِ تعزية، أي إنَّ هذا النشيد يُركِّز على شفاء ِ الشعب و تحقيق ِ سلامِه ِ بصورة ٍ حصرية دون أن يذكر دورَه ُ كمنارة ٍ للأمم الأخرى،،،

،،، و بفحص ِ مُفارقتِه الجُزئية للموضوع الرئيسي للأناشيد الأربع ِ أقول أنه ربما كان جُزءا ً من نشيد ٍ كامل ٍ في الموروث ِ المروي اليهودي وجد َ المعروض ُ منه ُ طريقا ً إلى التدوين و سقط الباقي. و هذا القولُ و الرأي ُ منِّي و هو غير ُ مُلزم ٍ و لا أزعُم ُ فيه ِ أنني أضع ُ يدي على الحقيقة، و يبقى اجتهاداً و تحليلا ً شخصيا ً، و للقارئ ِ الكريم مُطلق الحُرِّية ِ في أن يتجاهلـَـه ُ.

يُكمل ُ أشعياء الثالث في فصولِه ِ من 56 إلى 66 وصف َ المملكة ِ المشيحانية ِ القادمة، و التي ستكون مملكة َ عالمية ً لجميع البشر، و هي الفكرة ُ الفريدة الجديدة التي يتم ُّ تبنِّيها و التي تنسجم ُ مع رؤية ِ أشعياء الأول قبل مئتي عام، و رؤية ِ أشعياء الثاني كما أبرزناها، فنقرأ نصَّا ً جميلا ً في الفصل 56 الآيات 6 و 7:
"وأبناء الغريب الذين يقترنون بالرب ليخدموه وليحبوا اسم الرب ليكونوا له عبيدا، كل الذين يحفظون السبت لئلا ينجسوه، ويتمسكون بعهدي
آتي بهم إلى جبل قدسي، وأفرحهم في بيت صلاتي، وتكون محرقاتهم وذبائحهم مقبولة على مذبحي، لأن بيتي بيت الصلاة يدعى لكل الشعوب"

إن أشعياء كسفر ٍ ينتقل ُ بنا من الإله كربٍّ لليهود وحدهم إلى الإله كربٍّ لجميع الأمم، و من الهيكل كونه هيكلا ً يهوديا ً نحو بيت ِ صلاة ٍ لكل الشعوب و هي الفكرة ُ التي تصبِح ُ جذر ُ الفكر المسيحي اللاحق، لكن لا يتمُّ هذا إلا من خلال الشعب ِ اليهودي الذي ستكون ُ منزلتُهُ أعلى من كل ِّ الأمم بصفتِه ِ المُختار الأوَّل و الصَّفيَّ الأوحد،،،

،،، و حريٌّ بنا في موقع ِ تحليلنا و سعينا وراء الجذور أن نُلاحظ َ كيف ينمو الفكر المسيحي من تراث ٍ أعتق، فكما يتوسَّع ُ الفكر اليهودي ليشمل الأمم في بيت الرب يتوسَّع ُ بولس الرسول المؤسس الثاني للمسيحية، ليجعل الختان روحيا ً فيُحوِّل َ الأممي إلى يهودي بختان ِ الإيمان بيسوع المتألم المصلوب، "العبد" الجديد، فتتحقَّق ُ فيه النبوءات، مدهشة ٌ بحق عوالم ُ الفكر الديني المُنعكسة ُ عن نفوس ٍ بشرية ٍ تنشد ُ السلام َ و الكمال حين تعمل ُ للخير، و فظيعة ٌ بنفس المقدار حينما تتجه ُ للكراهية ِ و البغضاء ِ و العنف.

مما سبق نرى أن الشعب اليهودي انتظر َ إقامة َ المملكة ِ المشيحانية ِ الموعودة، و تنبَّأ عنها، و تلهَّف َ لِحضورها، و وزَّع َ بكرم ٍ كبير ثمارها المُفترضه على جلاديه من الأمم ِ الأُخرى رسالة َ غُفران ٍ و حب. لقد كان السبي درسا ً قاسيا ً جعلَه ُ يتواضع ُ أمام َ كبريائِه ِ السابق، و دمويته ِ الفظيعة تجاه الأمم المحيطة ِ به. و بعدها عمل َ العائدون َ إلى أوراشليم في بناء ِ الهيكل و بدأوا يتَّبعون الشريعة َ من جديد لكي يتحقق الوعد، لكن َّ الوعد لم يأتِ و المنشود َ لم يتمثَّل حقيقة ً، و استمر َ احتلال أرضِهم من قبل الفُرس ثم تلاهم اليونان، ثم تلاهم مُلوك ٌ يهود لفترة ٍ وجيزة مُضطربة ما لبث َ أن انتقض َ مُلكُهم، ثم أخيراً وقع الشعب ُ تحت الاحتلال ِ الروماني.

كان كلُّ شي ٍ يسير ُ عكس النبوءات ِ القديمة، و كان لا بُد َّ أن يُعاد فحصُها و أن تُستنطق َ لكي تُخرج َ معانٍ جديدة و تُعطي فهما ً مُغايرا ً يُفسَّر ُ الواقِع ُ على ضوئِه، لكي يستطيع الشعب ُ بناء توقعاتهم الدينية التي تُحدِّد ُ رؤيتهم للعالم و طريقة َ تفاعلهم مع أحداثِه.

لكن قبل َ أن أمضي بكم نحو التفسير الجديد الذي تبنته الفئاتُ التي عُرفت فيما بعد تحت التصنيف ِ الأبوكاليبتي، سيكون ُ لنا حديث ٌ في بعض الرموز ِ الأبوكاليبتيَّة ِ الأوَّلية الأخرى، بشكل ٍ أقل َّ تفصيلا ً من سفر ِ أشعياء، لكي تعيشوا الخبرة َ الأبوكاليبتية الأوَّلية بكل ِّ عُمقِها، استعدادا ً لفهم ِ الأبوكاليبتية ِ المسيحية و تحوُّلاتها.



#نضال_الربضي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مع صديقي المسلم على نفس أرجيلة.
- قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – 3 – الماهيَّة و الجذر – ج 2.
- قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – 2 – الماهيَّة و الجذر – ج 1.
- قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – مُقدِّمة للسلسلة.
- بوح في جدليات – 13 – لوسيفر.
- قراءة من سفر التطور – 6 – من ال 1 إلى ال 3.
- بوح في جدليات – 12 – عصفور ماريَّا.
- قراءة في الوجود – 5 - الوعي كوعاء للعقل و الإحساس و ما دونه.
- قراءة في الوجود – 4 – بين وعي المادة و هدفها.
- بوح في جدليات – 11 – في مديح ِ عشتار - نحن ُ الإنسان!ّ
- قراءة في اللادينية – 6 – مقدِّمة في مظاهر ما قبل الدين عند ا ...
- بوح في جدليات – 10 – ثلاثة ُ أيام ٍ بعد.
- قراءة في اللادينية – 5 – جذورُ: الإحيائية، الطوطم و التابو ف ...
- قراءة من سفر التطور – 5 – من ال 24 إلى ال 23
- قراءة من سفر التطور – 4 – من ال SIV إلى ال HIV
- المرأة الفلسطينية – بين الأمومة و السياسة.
- بوح في جدليات - 9 - ديك أسكليبيوس.
- عشتار - 4 – انبثاقُ الحياة.
- عمَّا بين النقد المُنفلت و نجاعة التأثير - 2
- الفيلا في وسط الغابة –الياكيم، باراك، أوباما و التاريخ.


المزيد.....




- مستوطنون يقتحمون مدنا بالضفة في عيد الفصح اليهودي بحماية الج ...
- حكومة نتنياهو تطلب تمديدا جديدا لمهلة تجنيد اليهود المتشددين ...
- قطر.. استمرار ضجة تصريحات عيسى النصر عن اليهود و-قتل الأنبيا ...
- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نضال الربضي - قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – 4 – الماهيَّة و الجذر – ج3.