نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4911 - 2015 / 8 / 31 - 12:44
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بوح في جدليات – 13 – لوسيفر.
يُعتبر ُ كليف باركر Clive Barker أحد َ أقطاب روايات الخيال و الرعب عالميا ً. و تتميزُ أفكارُه بالغرابة، و الابتكار، و الابداع، و الخروج عن المألوف، و تجاوز الإنساني ببرود و قسوة شديدتين تتجليان في سرده الآلي المفصل للأحداث.
جرعات ُ الصدمة في نصوص ُ كليف باركر مُتكرِّرة و قوية، و تتجاوز ُ القدرة على توقع الأحداث بشكل ٍ يكاد ُ يكون ُ دائما ً، مع حرصِهِ الشديد على عرض الألم و الإحباط و اليأس و القسوة و الظلم و الشر بشكل ٍ طاغ ٍ، ووصفِه المفصل لمشاهد العذاب و التعذيب و السادية و الجنس بطريقة ٍ فريدة تحمل ُ القارئ َ إلى وسط ِ الحدث فيما يُشبِه ُ خبرة ً مُعاشة ً لكن من داخل ِ كتاب ٍ و بأداة ِ: النص.
في روايته ِ "الأناجيل ُ القرمزية" The Scarlet Gospels يقذف ُ باركر بالقارئ ِ في وسط ِ عالم ٍ من السحر و الشعوذة، و الهمجية ِ الجهنَّـميّة للكاهن ِالشيطان المدعو "رأس الدبابيس" PinHead. لهذا الكاهن ِ طموح ٌ غير محدود، فهو يريد ُ أن يُحطِّم نظام َ جُهنّم و يأسِّس َ لحقبة ٍ شيطانية ٍ جديدة، و في سبيل ِ ذلك َ عليه ِ أن يبلغ َ بمعارِفِه ِ حيث ُ لم يبلغ أحدَ، فيجمع َ في نفسِه ِ لا فقط قدراتِه النابعة من طبيعتِه ِ كشيطان لكن أيضا ً معارف َ السحر ِ و الشعوذة التي اخترعها البشر،،،
،،، و حتى يتحقَّق َ لهُ ذلك، عليه أن ينفرد َ بالسحرة ِ من البشر، واحدا ً واحدا ً، فيعذِّب من حان دورُهُ مُجبرا ً إياهُ على الاعترافِ بأسماء كتبِه ِ و مخطوطاتِه و أماكنها، و بأسرارِه و قدراتِه، حتى إذا ما حصل َ على الكُتب و المخطوطات ِ و الأسرار و العلوم قتله أو قتلها مُنهيا ً عذابه(ها)،،،
،،، يستفيضُ باركر في سرد التعذيب ِ مُفصَّلا ً و وصف و توصيف ِ الأحداث، و يبرزُ آدوات ِ التعذيب، و يشرح ُ كيف اتخذت طريقها إلى جسد الضحية، و إلى أي عضو ٍ قصدت، ثم كيف تعاملت مع ذلك العضو، و الأسلوب َ الذي انتهجتُه لإيقاع الألم، و تأثيرها على العضو ِ نفسه من حيث تشويهها لتركيبه و فسيولوجيته و انفطاره و خروج الدم ِ منه، و مسير َ الدم ِ و سيلانه،،،
،،، لا بل إن باركر يصعدُ من الجُزئِّ العُضويِّ المفصَّل نحو الأكثر شمولية ً ليصف َ الأعضاء الأخرى، ثم يستمر ُ صعودا ً ليصف الجسد َ كاملاً، بينما يكون ُ أثناءَ كل ِّ هذا الوصف ِ الدمويِّ العنيف ِ البارد القاسي الشنيع قد أدخل القارئ َ في بُعد ٍ آخر َ هو البعد النفسي لمشاعر الضحية و ألمها و رعبها، لكي يمتلئَ الوجدان ُ بعاملين ِ يتبنـَّـيان ِ و يُتمِّـَـان ِ الأثر َ الكامل لنص باركر، الأول هو عامل الصدمة النفسية من هول الوصف ِ المُستفيض للعذابِ الجسدي، و الثاني هو عامل ُ توظيفِ تعارض ِ فعل ِ التعذيب مع الردِّ التلقائي للطبيعة البشرية عند القارئ.
اختيارُ باركر لعنوان روايته توظيف ٌ ذكيٌّ للكلمات لتختصر َ محتوى الكتاب في بالكامل. فالأناجيل Gospels هي كلمة لها دلالة مسيحية من حيث أنها: البشرى السارة، لكن معناها المُعاصر يرتبط ُ بالمؤسَّسة الدينية و باستدعاء ِ هيكلها التنظيمي و سلطتها الدينية أكثر منه بالقيمة النفسية الإيجابية لمفهوم الخلاص و لما يجلبهُ على المستوى الفردية من حرِّية و فرح و حياة أفضل،،،
،،، فإذا ً يقصد باركر أن يقول أن الأناجيل Gospels هي رمزُ حضور ِ السلطة المؤسسية. ثم بعد ذلك َ يستخدم ُ بذكاء ٍ شديد لفظ Scarlet و الذي يحمل في الإنجليزية معنين:
- الأول: هو اللون القرمزي.
- الثاني: هو السلوك الفاسق و الداعر.
لكي يقودنا (أي باركر) بتحليل ِ ما سبق لحقيقة ِ جمعِه ِ في لفظ Scarlet دلالة َ اللون الأحمر ِ المائل للبرتقالي و المعروف بالقرمزي - و هو لون الدمِ، دم ِ ضحايا الشيطان ِ كاهن ِ جهنَّم - و دلالة َ أفعال ِ هذا الكاهن ِ البربرية الهمجية الفاسقة الداعرة، التي تنفصل ُ عن، و تخالف ُ أيَّ، عُرفٍ إنساني أو طبيعي،،،
،،، إن َّ باركر يقول لنا: كتابي حامل ٌ لكل ِّ ما هو: خبر ٌ شرِّير و دموي، هكذا و بكل بساطة ٍ ووضوح! و بالفعل هذا هو الكتاب لمن استطاع َ أن يُكمله إلى نهايتِه.
إنَّهُ إبداع ٌ أسود، قارص، قاسي، خبيث، لئيم، ماكر، ذكي، مُنحط، مجنون، سادي، مازوخي، وحشي، يحملك َ إلى عالم ٍ آخر، فيه ِ ستمضي وراء الشيطان ِ كاهن ِ جهنَّم َ في رحلتِه ِ تتلقــَّـف ُ كل جنُوِنِه، و يدقُّ قلبُك َ مع كل ِّ ضربةٍ و ارتقابا ً لكل ِّ خُطوة ٍ حتى يقف َ هذا الشيطان ُ اللئيم في آخر الكتاب ِ أمام َ سيِّده ِ الأعلى، لتكتشف َ أنه ما فعل َ ما فعل َ إلا ليصل َ لهذه ِ اللحظة، ليضع َ نفسَه ُ و علومَه ُ التي انتهك َ في سبيل ِ الحصول ِ عليها قوانين الأرض و قوانين جُهنَّم َ على حد ٍّ سواء، في خدمة ِ هذا السيد، الذي هو أكبر ُ الشياطين و أعلاهُم و أكثرهُم جمالا ً و إشراقا ً و شرَّا ً: لوسيفر، حامل ُ النور، زهرة ُ الصباح ِ المنيرة ُ الساقطة ُ من أمام ِ الإله ِ المطرودة ِ من حضرتِه للأبد.
لكن ِّ رياح َ جهَّنم َ كرياح ِ بحار ِ الأرضِ، تجري بما لا تشتهي مراكبها، فزهرة ُ الصباحِ لوسيفر، و حين َ يدخل ُ عليهِ الشيطانُ الكاهن ُ، ليس عندَها سوى جُثــّــَـة ٍ هامِدة ٍ ميتة، على عرش ٍ باردٍ عظيم، تخترقُ جسدَه ُ شفرات ٌ كحِراب ٍ عملاقة، دفعتها إلى داخلِه ِ آلة ٌ جهنَّمية اخترعها لوسيفر نفسه، صمَّمها و قد رسم عليها نقوشا ً من كل ِّ حضارات الأرض و أسحار ِ البشر ِ و معارفهم، ثم جلس على عرشه و شغّــلها لتقوم َ بعملها الذي صنعها من أجله،،،
،،، لكي تقتُلَه ُ ملكا ً على عرشه، مُنتحرا ً، في عمل ِ تحدٍّ أخير لإرادة الإله الذي يحبُّه، هذا الإله الذي حكم َ عليه ِ بالطرد ِ من حضرته، و بالخلود الأبدي، بعيدا ً عنه، بعيدا ً عن عشقه، فجاء َ انتحارُهُ آخر عمل كبرياءٍ و شموخ ٍ يصنُعُهُ، كذروة ٍ للتحدي و تتويج ٍ للتــَّـمرُّدِ، و إعلان ٍ اخير ٍ صاخِب ٍ للاستقلالية ٍ و الفردية،،،
،،، إنها رسالة ُ لوسيفر الأخيرة، التي في شقِّها الأول تعترف ُ لا فقط بكبريائه لكن أيضا ً: بِحُـبـِّه ِ لهذا الإله، و إعجابِهِ به، و اعتماديَّتِه المُطلقة عليه، و رغبتِهِ بإعادة ِ الاتحاد ِ به، و المثول ِ في حضرتِه ِ و التماهي مَعَهُ لكن دون أن يخسر َ فرديتَهُ كلوسيفر و تميُّزَه َ و كرامتهُ الشخصية،،،
،،، و في شِقِّها الثاني تصرخُ فاضِحة ً قسوة ً إلهية ً مُفرطة ً في جوانب َ ثلاث ٍ:
- الأول: في الحكم ِ المُتعسِّف ِ النهائي بنفي لوسيفر نفيا ً أبديـَّا ً غير َ قابل ٍ للتغير ِ أو التبديل.
- الثاني: في الأثر ِ الشديد على لوسيفر.
- الثالث: في الأثر الشديد على الإله نفسِه الذي يُحبُّ لوسيفر.
إن َّ مشهد َ لوسيفر المُنتحِر لهو من أجمل ِ المشاهد ِ التعبيرية ِ القويِّة ِ شديدة ِ التأثير في دلالتها و سطوتِها و صدمتها الفكرية، التي تُعلن ُ عن قوَّة ِ علاقة ٍ قديمة ٍ بين الإله و بين لوسيفر، فشلت القدرة ُ الإلهية ُ نفسُها في إلغائها، إنها قوَّة الحبِّ الذي يعلو فوق الألوهة ِ نفسها، و فوق َ الشرِّ نفسه، إنها قوَّة ُ الوجود ِ المفارِق ِ لمفاهيم الألوهة و الشيطنة، بدلالة ِ الحبِّ، الذي يظهر ُ هنا مُتماهيا ً مع الوجود، تعبيرا ً عنه، و تجسيدا ً له، و مرادفا ً لمعناه،،،
،،، إن المشهدَ هو الحبُّ معلِنا ً عن نفسِه ِ في فعل ِ انتحار ِ كبير ِ الشياطين ِ و رئيسهم: لوسيفر الجميل!
ماذا يصنع ُ الشيطان ُ كاهن ُ جهنَّم َ "رأس ُ الدبابيس" PinHead حين َ يشاهدُ سيِّده ُ منتحراً؟
كيف تنتهي القصة، بل لنقل هل تنتهي القصَّة؟
اسئلة ٌ عليكم أن تقرأوا لتكتشفوا إجاباتِها!
ختاما ً: في كل ٍّ واحد ٍ منا إله ٌ و شيطان، و هما باختصار: الإنسان في كلِّ حالاته، و هما كذئبين يتقاتلان، يحيا منهما من تُطعِمُه ُ و تحاربُ إلى جانِبه، و ستجد ُ قارئ الكريم و قارئتي الكريمة أنك تطعِم ُ كليهما بمقدار و تمنع ُ عن كليهِما بمقدار، و أن َّ واحدهما لا يمكن ُ أن يحيا بدون ِ الآخر.
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟