نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4774 - 2015 / 4 / 11 - 13:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قراءة في اللادينية – 6 – مقدِّمة في مظاهر ما قبل الدين عند الحيوانات.
نستكمل ُ اليوم َ جزءا ً جديدا ً من سلسلة "قراءة في اللادينية" بُغية َ إلقاء ِ مزيد ٍ من الضوء و بالتالي تحصيل فهم ٍ أشمل و أعمَّ للظاهرة الدينية، يساعدنا على تفكيك الفكر الديني، و إدراك المخفيات التي:
- تربط أجزاءه مع بعضها
- و تعطيه القدرة على:
السيطرة على المشاعر،
و تكبيل آليات التفكير المنطقي،
و اعتراض تداعيات النقد،
و سد الانسيابية الفكرية فلا تصل إلى حيث ُ يجب أن تبلغُ بقوة ِ العقل فتبقى تراوحُ مكانها حيث ُ اعتُرضت حتى تجفَّ بوهج ِ الزخم ِ العقيدوي و طقوسهِ، أو يتمَّ تحويُلُها إلى مسارات الفكر الغيبي لتتوظفَ قوُّتُها ضدَّ ما خرجت من أجله بداية ً، أي لتخدم َ ضد َّ الحقيقة و تستديم َ نقيضها.
يتحتَّم ُ علينا أن نعود َ دائما ً إلى الجذور، إلى البدايات، إلى التأسيس ِ الذي خرجت منه الفكرة ُ الدينية، و هو الفردُ الإنسان، الذي يُشكِّل المفتاح َ الأوَّل َ في ثلاثيةِ : الاعتقاد-الممارسة-التثبيت. و لسوف َ نفهمُ مصدر خروج ُ الديني حينما نلجُ إلى النفس البشرية لنراقب َ ما يدورُ بداخلها، و كيف تُعبِّرُ عن فهمها لما يحدثُ في خارجها، و أين تضعُ ذاتَها منه، و كيف تبني العلاقة َ بينهما، و بالتالي ماذا يُصبح ُ البناء ُ التصوري للوجود مُستتبَعا ً من تفاعُل الإنسان مع نفسه و الوجود. وتأسيسا ً على ما سبق، سيكون ُ "خارج ُ الإنسان" أو "الوجود" هو المفتاح الثاني، و بالضرورة سيكون ُ المفتاح ُ الثالثُ هو جدلية التفاعلات النفسية.
أمَّا من جهة المفتاح ِ الأول: الإنسان، فنقول ُ أن هذا الكائن َ البيولوجي يُبرزُ خصائصا ً فريدة يتشابه فيها مع باقي الكائنات في المملكة ِ الحيوانية، من حيثُ تحقيقُه لمعاير: الحياة، كونَها قُدرة َ الكائن الحي على النمو من خلال عمليات الأيض (التمثيل الغذائي) الكيميائية، و استمراريته بالتكاثر، مع إظهار خصائصِ "إدراكِه" أو "وعيه" لمحيطه، و تفاعلهِ مع هذا الوجود الخارجي.
لكن يا تُرى هل يشترك ُ مع باقي الكائنات الأخرى في "وجود" الدين كما نعرفه اليوم، و "مُمارسته"، أم أن هذه الخاصية َ فريدة ٌ عنده؟
جواب هذا السؤال سهل: الإنسان هو الوحيد الذي يملك "ديناً" و "يمارسه" أما الحيوانات فلا.
لكن الدين بحد ِّ ذاته مُنتج ٌ مركَّب ٌ من عناصر بسيطة تضافرت لتصنع َ هيكلا ً يفوق ُ في خصائصِه الكلية مجموع َ خصائصِ العناصر ِ التي أنتجته، و بالتالي لا بدَّ من تفكيك ِ هذه العناصر، و سنبحثُ عن مظاهرها في الحيوانات، لنقاربها مع السلوك البشري.
تمارس ُ الحيواناتُ سلوكا ً مُثيرا ً للانتباه أمام الموت، فطائرُ العقيق Magpie و هو من فصيلة الغُرابيات، ينقرُ الميت َ من فصيلته، و يجرُّ الأعشاب َ ليضعها حوله، بينما تُبرز الفيلة Elephants سلوك احترام ٍ كبير (إن جاز التعبير) لعظام الأموات ِ من أفراد ِ القطيع، و تغطي الثعالب ُ و الذئاب أمواتها بالتراب في مواقف َ موثَّقة بلغ َ بعضها حدَّ التغطية ِ الكاملة فيما يمكن َ أن نقول عنه: دفنا ً بدائيا ً.
و لو رجعنا لسلوك ِ طائر العقيق السابق، و حاولنا إيجاد َ السلوك ِ البشري ِ المُماثل أو المُقارب فإننا سنعود ُ لأزمنة ِ ما قبل التاريخ ِ المكتوب حين كشفت التنقيبات ُ الأثرية عن سلوك ِ دفن ٍ بدائي يُحاط ُ به الميت ُ الإنسان بالورود و الأعشاب بنفس طريقة ِ هذا الطائر، و كما دفنت ِ الثعالب ُ و الذئاب، دفن هذا الإنسان ُ البدائيُّ ميته بدون عناية ٍ احترافية، لكن بعناية ٍ بدائية ٍ مقصودة بحسب إمكانيته.
أي أننا هنا أمام َ سلوك ٍ حيواني بدائي يجد ُ له نظيرا ً دينيا ً عند الإنسان ِ المتطور، و الذي بقوَّة العقل ِ البدائيِّ القادر ِ على تميز ِ الانجذابات النفسية نحو المشاعر ِ المتناقضة و المتصارعة في داخل ِ الكائن البشري، أوجدَ دينَه ليستطيع َ أن يتعامل َ مع هذه المشاعر و يُديرَ اضطرابها في قنوات ٍ تُتيحُ له استمرارية َ البقاء الغريزي الذي يتطلبُ منه دوما ً أمرين:
- إيجاد َ تفسير ٍ لما يحدث.
- ربط هذا التفسير بنفسه لكي يُحدِّد َ العلاقة بينه و بين الحدث الخارجي.
و لأن َّ القدرات ِ العقلية َ للإنسانِ تفوق َ تلك الموجودة َ عند الحيوانات ِ الأخرى فإن تعامله مع حدث الموت، و مع المشاعر النفسية ِ الناتجة ِ عنه، لا بدَّ و أن يكون متطورا ً بنسبة ٍ تتوافقُ مع تطوره العقلي، فكما كان ردُّ فعل حيوانات ِ: العقيق، و الفيلة، و الثعالب، و الذئاب بسيطا ً بحسب ِ قدرة عقولها، جاء ردُّ فعل إنسان ِ ما قبل التاريخ بسيطا ً لكنه أفضل منها، حتّى إذا ما امتلك الأدوات َ و المعرفة َ في عصور ٍ تاريخية ٍ مُسجلة، عبَّر بكل ِّ اقتدار ٍ عن هذا التفوق، و سخَّرَهُ في "شعوره الديني"، فجاءنا من الفراعنة ِ التحنيط، و الروح، و الأهرامات، و مفهوم الحساب بعد الموت، و الخلود. و كلُّها لا تخرج ُ عن الأمرين الذين دفعت غريزة ُ البقاء الإنسان إليهما كما أوردت ُ في الفقرة ِ التي تسبقُ هذه مباشرة ً، أي التفسير و العلاقة.
تمارس ُ الحيوانات ُ سلوك َ "الاندهاشِ" و "التأثُّر ِ" أمام مظاهر ِ الطبيعة، و تُحيي "طقوسا ً" بدائية ً هي الأخرى، فعلى سبيل ِ المثال: تقوم ُ حيوانات ُ الشيمبانزي بالحركة ِ المُنتظمة على ضفاف النهر الذي يسقط ُ فيه الشلام ُ الهادرُ أمامها، بينما تلقي فيه الأحجار، ثم َّ تتسلقُ بعض الأغصان ِ في الأشجار ِ المحاذية و تتأرجحُ راقصة ً لمدة ٍ قد تزيد ُ على دقائق َ عشرة و هي ترمقُ الماء الذي ينحدرُ من الشلال و تسمع صوت َ تلاطُمه على الصخور، و تتفاعل ُ مع حركة ِ الماء ِ و صوت ِ الهدير.
هذا السلوك ُ الانداهشيُّ يشي بوضوح ٍ لا مجال َ للشكِّ فيه بأن الشيمبانزي "يُدركُ" الظاهرة َ الفريدة َ للشلال، و تميُّزها عن مُحيطها الهادئ، و بأنه "يطربُ" لها، و "ينتشي" بوجودها، و "يضع ُ" نفسه في "مركز" الحدث، و "يُنشئُ" علاقة ً مع "ظاهرة ِ" الشلال، ليبني َ تصورا ً لها و يتخذ َ موقفا ً منها، و يتَّبع َ "طقساً" يخترعه، "يعتقدُ" أنه يتناسب ُ مع، و يُعبِّرُ عن، هذه الظاهرة و علاقته به. نحن هنا أمام َ سلوك ٍ نرجسي ٍ نشاهدُ مثيله عند القبائلِ البدائية في طقوسها و رقصاتها الدينية البدائية.
بعض ُ الشيمبانزيات خرقت المألوف َ أو المتوقَّع من السلوك تجاه النار، بأن بدأت ترقصُ حولها. أحد هذه الشمبانزيات اقترب َ من النارِ بشكل ٍ واضح يثير الاستغراب، و "استعرضَ" نفسه أمامها، و هو مشهد ٌ يستدعي بقوة ٍ كبيرة سلوك رجل الشامان الأوَّل ِ عند القبيلة البدائية، و الشامان هو النسخة البدائية من "رجل الدين" و "النبي" مُندمجتين بدون فصل لا تعرفُه القبائل البدائية.
قرود ُ البابون رُصِدت و هي تجلس ُ تنظرُ بصمت ٍ و وداعة ٍ و هدوء في جريان ِ نهر ٍ، دون أن تنبسَ بصوت أو تتحرك، و مارس َ هذا السلوك كِبارُها و صغارُها على حدٍّ سواء، لمدَّة ثلاثين دقيقة، و هذا مُدهش لكونهِ يتعارض مع المتوقع منها و المعروف عنها. إنها هنا في حالة بدائية تشبه سلوك "الخشوع" الديني، لكنه بدائي ٌّ كما تسمح ُ لها "عقولها" و "قدراتها" الجسدية و النفسية.
إن هذه العودة َ للجذور، و دراستها في الحيوانات، ثم مقاربة َ السلوك البشري مع نظيره الحيواني، و بإلقاء ِ الضوء ِ على التأكيد ِ العلمي على الأصول ِ المشتركة ِ للبشر ِ مع الأجناس ِ الأخيرة، لا يتبقى لدينا سوى الاعتراف بأننا أمام مظاهر َ سلوكية ٍ تكادُ تكونُ مُتطابقة في أصولها التي نشأت عنها أي: الطبيعة و أحداثها و الموت، و في الاستجابات البيولوجية النفسية: أي الاندهاش و موضعة النفس في قلب الحدث و استخلاص العلاقة بينهما ثم إتيان ِ طقوس: الدفن و التأملُ و الرقص. كما و سنجد ُ أننا و إن توقفنا عند الحيوان ِ أمام مظاهر َ بدائية لمحدودية ِ استطاعة ِ هذا الحيوان ِ التعبير َ عن نفسه بحسب ِ عقله القاصر، لا بدَّ و أن نُكمل المشوار َ مع العقل ِ البشريِّ القادر!
و سوف َ لن نستطيع َ أن نُنكر بأي حال ٍ من الأحوال، أن الإنسان َ استقى دينه الأول من الطبيعة، و صنعه كما فهمه، و كما انسجم َ مع قناعته بأن هذا الفهم هو "تمثيل ٌ صحيح" و "تصوير ٌ أصيل" و "تعبير ٌ صادق" عن حقيقة الوجود.
و كلَّما غُصنا أكثر َ في التاريخ غير المكتوب و الذي نستدل ُ عليه من الاكتشافات الأنثروبولوجيه و الحفرية، سنلتقي باندهاش ٍ كبير بتماثلُ أو تقارُب السلوك البشري الأول مع نظيره الحيواني، و إني اعتقدُ أن دراسة َ الحيوانات تُلقي بضوء ٍ كبير و تساهمُ بفاعلية في الكشف ِ عن سلوك إنسان ِ ما قبل "الإنسان – العاقل" و الذي حين َ نفكُّه و نشرِّحُه و نُحلِّله و ندرسه كاملا ً سنستطيع ُ رسم َ الخريطة ِ الإنسانية ِ كاملة ً بدون غموض!
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟