ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1354 - 2005 / 10 / 21 - 10:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن احد المعايير الجوهرية لرقي الأمم ومستوى تطور وعيها السياسي وروحها المعنوي يقوم في حجم ونوعية التزامها بفكرة الحق. فالحق هو المضمون المنطقي والروحي لفكرة القانون. ومن ثم فان القانون هو الصيغة الوضعية لتنظيم شئون الحياة وجعل الحق في نصابه بوصفها العملية الضرورية للحياة نفسها. وهي فكرة تصل إليها الأمم كل بطريقته الخاصة بوصفها النتيجة النهائية التي يفرضها منطق العقل وقيم الأخلاق وذوق الرؤية الجمالية، أي كل ما يحدد رؤية الأمة لمصالحها العامة والخاصة. وليس مصادفة أن تصل الرؤية الإسلامية للاستنتاج القائل، بان في القصاص حياة، أي في إحقاق العدل مهما كانت صور تجسيده أسلوبا لضمان حياة الجميع بوصفها القيمة العليا للوجود. وهي رؤية تعبر دون شك عن ملامح الحدس القائل، بان القانون هو أسلوب توفير الشروط العامة لتجسيد فكرة الحق واغتنائها الدائم. فالجرائم غير متناهية في الأشكال وبالتالي فان إحقاق الحق أيضا غير متناه في الصورة والمعنى والتحقيق، لكنه متناه في الغاية باعتباره وسيلة تكامل الفرد والجماعة بمعايير العقل والأخلاق والجمال. وهي المكونات التي تشكلت منها وتتشكل تاريخيا فكرة الحق. وبالتالي فان أي خروج على منطقها الداخلي وأسلوب تحقيقه سوف يؤدي بالضرورة إلى انحطاط الدولة والمجتمع والأخلاق، وذلك لان فكرة الحق هي الماسك الحقيقي لهذه المكونات الجوهرية للإنسان نفسه.
وهو استنتاج أكثر ما يوضحه تاريخ العراق الحديث، وبالأخص في مجرى عقوده الأربعة الأخيرة، التي جسدت بصورة لا يحسد عليها مختلف أساليب وأشكال انتهاك القانون وفكرة الحق. أما النتيجة فهي واضحة للعيان بحيث لا تحتاج إلى أدلة عقلية للبرهنة عليها. فهي الحالة التي تتكشف بصورة جلية ومباشرة، بحيث ترتقي إلى مصاف ما أطلقت عليه تقاليد الإسلام عبارة "عين اليقين"! إذ لا يقين اشد جلاء في ظروف العراق الحالية من الفكرة القائلة، بان الخروج على القانون ومنطق الحق لا يؤدي في نهاية المطاف إلا إلى الخراب والانحطاط، الذي يشكل الخضوع للاحتلال الأجنبي والانصياع الذليل لرغباته مجرد مظهره العام. فالعبودية لا تنشأ بفعل الاحتلال، بل الاحتلال يظهر بسبب العبودية. إذ لا عبودية مع الحق. لكنها قادرة فقط على إعادة إنتاج الاحتلال بطرق وأشكال ومستويات مختلفة تصب جميعا في مجرى الخروج على الحق.
لقد كان الخروج على الحق في تاريخ العراق الحديث، وبالأخص في زمن التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية مصدر الإنتاج الدائم للخراب والانحطاط. إذ لم يكن تاريخ التوتاليتارية والدكتاتورية سوى زمن الاستبداد الشامل. وتاريخ الأمم بشكل عام، والعراق بشكل خاص، يبرهن على أن الاستبداد لا يصنع غير مغامرين وعبيد. وكلاهما يصبان في مجرى واحد، هو مجرى الانحطاط والخروج على فكرة الحق، بوصفها عاصمة الوجود الإنساني. وهي الحالة التي يقف أمامها العراق في محاولاته تجاوزها وتذليلها النهائي من اجل الارتقاء والتكامل بمعايير الحق وسيادة القانون، أي العمل حسب قواعد ومبادئ الدولة الشرعية والديمقراطية الفعلية والمجتمع المدني والثقافة العقلانية. من هنا كانت وما تزال وسوف تبقى فكرة الاستفتاء والمحاكمة مكونات ضرورية لتطوير ورقي الوعي الاجتماعي والسياسي والحقوقي.
فالمقصود الحقيقي من فكرة الاستفتاء والمحاكمة هو رفع مستوى تكامل المجتمع والنخبة والأفراد والقوى السياسية إلى مصاف التكامل الفعلي بمعايير الدولة ومصالحها العامة. أما تحويلهما إلى جزء من لعبة السياسة الماكرة وتكنيك PR (دعاية العلاقات العامة)، الذي يجري فهمه على أنه مجرد تجميل الوجه أو تغطية تجاعيده الخربة، فانه دليل على أن مضمون الاستفتاء والمحاكمة هو مجرد استعادة فجة لنفسية وذهنية التوتاليتارية البعثية الدكتاتورية الصدامية. فقد كانت الأخيرة "بارعة" في مجال تخريب المفاهيم العقلانية والقيم الإنسانية. والنتيجة هي وقوفها الذليل أمام محاكمة لم ترتق في الواقع إلى مصاف فكرة الحق، وذلك لأنها ما زالت جزء من لعبة المصالح السياسية الضيقة ومحكومة بالعبودية لقوة الاحتلال. والأتعس ما فيها هو ربطها من الناحية الزمنية (والسياسية) بالاستفتاء العام عن مسودة "الدستور الدائم". وهو ربط يشير من الناحية الفعلية على فشل الاستفتاء، ومن ثم فشل المحاكمة الحقيقة للصدامية، بوصفها احد أشنع نماذج الخروج على فكرة الحق. بل يمكن القول، بأنها تستعيد في كثير من أساليبها نموذج الصدامية في التغطية الصاخبة من اجل تمرير أفعال لا يمكنها أن ترسي أسس الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي. على العكس، أنها تسير بالضد منهما مع ما يترتب على ذلك من هزيمة شنيعة لها بحكم الضرورة.
فقد مارست الصدامية قبل عقود نفس هذه الأساليب عندما حولت "محاكمة الجواسيس" و"الانقلابيين" وملهاة "المصارعين" وحكايات "أبو طبر" وكثير غيرها إلى أساليب مبكرة من PR لتمرير اغتيالها للمعارضة والعقل الاجتماعي. أما في الواقع فإنها لم تغتال إلا فكرة الحق والدولة والمصلحة القومية. ولعل المفارقة المخزية في محاكمة صدام الحالية تقوم في أن الطرفين يتمسكان بفكرة الحق مع إنهما تجسيد نموذجي للخروج عليها. فصدام "العلماني" يمسك القرآن ويقول "كل ما بني على باطل فهو باطل"، والقضاة يحتمون في منطقة "خضراء" لا تعني في الواقع سوى "حق السير" بقواعد المرور الخاصة بها!! وهي مهزلة تتضح معالمها المدمرة على خلفية الاستفتاء. فمن الناحية الحقوقية والمنطقية والأخلاقية والسياسية والوطنية ليس الاستفتاء سوى المحاكمة التي يقوم بها الشعب في تحديد موقفه من القضايا الجوهري والمصيرية. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الاستفتاء العراقي الأخير كان حول "الدستور الدائم"، الذي ينبغي أن يهدف إلى تأسيس فكرة الحق والقضاء النهائي على تقاليد الاستبداد، فان ربطه بمحاكمة صدام هو هدر لفكرة الاستفتاء ومحاكمة الصدامية. فحقيقة الاستفتاء هي محاكمة من نوع رفيع. فعندما يقول الشعب بأغلبية مطلقة للدستور الدائم "نعم" فان ذلك دليل على انه دستور الوحدة الوطنية، كما انه دستور إدراكهم الحقوقي والسياسي، بان ما فيه هو تذليل وتجاوز لزمن الاستبداد وتقاليد الخروج على الحق. وهو ما لم يحصل. ومن ثم ليس توقيت محاكمة صدام قبل إعلان النتائج الرسمية للاستفتاء سوى PR لتغطية عجز بآخر، أو لتمرير خرق للحق بخرق آخر مثله.
إن مهمة محاكمة صدام بالنسبة للعراق والعراقيين هي ليست محاكمة شخصية ولا أخذا بالثار ولا تمريرا لجدول سياسي ضيق ولا أي شيء آخر غير محاكمة تقاليد الاستبداد والخروج على الحق. وهي المحاكمة التي ينبغي أن يكون الإجماع على دستور دائم نموذجها الأرفع. بينما نقف الآن أمام حالة مزرية تعبر عن خواء الاستفتاء والمحاكمة. وهو خواء يكشف طبيعة النخبة السياسية المختبئة في "المنطقة الخضراء"، أي في المنطقة التي جعلها صدام حصنا "منيعا" له ضد الشعب وخوفا منه! ولا مفارقة في تاريخ السياسة العراقية أسخف من أن تتحصن القوى "الديمقراطية" و"الشعبية" و"الوطنية" و"الإسلامية" و"العلمانية" فيها. إن مجرد وجودها ومحاصرتها في "المنطقة الخضراء" هو دليل على إفلاسها، كما انها إشارة على تغلغل الذهنية الصدامية إلى عقلها والهلع إلى نفسيتها. أما أن يتخاصما فيها في محكمة مغلقة على خلفية استفتاء خرب لدستور لا يقل خرابا منه، فهو دليل على بداية الهزيمة التاريخية والسياسية لنخبة المؤقتين الجدد في العراق. إن تجربة سنتين من سيطرة "القوى الديمقراطية" الإسلامية و"العلمانية" الكردية لم تنتج غير مسخ مشوه من طائفية عرقية ابتذلت بطريقة شنيعة فكرة الديمقراطية كما ابتذلت الصدامية فكرة الوطنية العراقية والقومية العربية. لكن للتاريخ حكمه النهائي في جعل الابتذال نهاية المبتذل!!
***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟