ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1301 - 2005 / 8 / 29 - 11:09
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هناك أمور وقيم وأحكام لا يمكن إدراك حقيقتها إلا على مستوى الحدس، أو أن الحدس هو المستوى الأمثل لفهم حقائقها. خصوصا في تلك الحالات التي تصبح اشد الحقائق جلاء ميدانا للشك والجدل. وهي أيضا قضية سبق وان تناولها الفكر الفلسفي عندما توصل إلى أن البديهة حالما تصبح موضوعا للجدل فإنها تكف عن أن تكون بديهية. وهي الحالة التي جسدها الحلاج في مفارقات سلوكه المثير في شوارع بغداد قبل قرون عديدة، عندما كان يردد بأعلى صوته وهو في طريقه إلى الموت: "حسب الواجد إفراد الواحد له"! أي يكفي لمن يتواجد، أي تحترق أعماقه طربا لسماع النغمة الأبدية في رؤية المطلق (الواحد) أن يكون فريدا من بين هذا الجمع الغفير في تذوق ما لا يرونه ولا يسمعونه ولا يخطر على قلوبهم وعقولهم. وهي الحال التي عادة ما تجعل من "الحلول" الملجأ النهائي للروح المبدع في إخلاصه للحق. وليس مصادفة أن يكون الحلاج أكثر من غيره من تغنى بهذه الوحدة المغرية للروح والجسد عندما قال مرة:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
انه أدرك، شأن كل ذات إنسانية حقيقة، معنى الوحدة بوصفها أسلوب التكامل الذاتي، كما تيقن من أن التجزئة هي طريق الاندثار والزوال. وهي بديهية جسدها في حياته ومماته وما بعدهما من خلال توحيد الحياة والموت في ذاته بوصفه روحا مبدعا. فعندما ضربت عنقه ولفّ في بارية وصب عليه النفط واحرق, حملوا رماده على رأس منارة لتنسفه الريح. لقد أرادت الذاكرة الهرمة لفقهاء السلطة ومؤرخيها نسفه في رياح بغداد ومياه دجلة. غير أن رماده أبى إلا أن يتطاير في سماء الخلافة ويذوب في مياهها, وأن يتنشّقه ويشربه من هو صائم وفاطر, وهائم وعطشان, وأن يجري ظهوره من جديد في توتر الإرادة الهائجة وكبح جماحها عند المريدين, وفي كشوف المعنى الصاخب للوجود ومشاهدته في وجد العارفين, وأن ينحلّ في تربة الإسلام المتراصّة في عمارته وشعره, وقبوره ومساجده, وأزقته والتواءاتها, وطرقه وزواياها, في حريمه وحرامه وحلاله وغرامه. إذ لم يعن نسف رماده سوى تطايره في فضاء الثقافة وأرواح مبدعيها. وهي نتيجة يحققها الماضي والحاضر والمستقبل، لأنها من مستوى الحدس. وهو المستوى الذي يمكن العثور عليه في وحدة العراقية والعربية عندما يجري تحسسها وعقلها وتذوقها بمعايير الحدس وليس بمقاييس الرؤية العرقية والطائفية والحزبية وما شابهها. فهي مقاييس لا تصنع وحدة، لأنها جزئية. من هنا لا تفعل هي في الواقع إلا على تجزئة البصر والبصيرة، بمعنى فصل الإحساس عن المنطق مع ما يترتب عليه من تصنيع للأوهام وسقوط في أوحالها.
إن وحدة العراقية والعربية هي ليس مطلبا سياسيا ولا إطارا إيديولوجيا ولا رغبة قومية، بل هي حقيقة الحقائق الكبرى للعراق. فالعراقية هي روح التاريخ الكلي، بينما العربية هي روح التاريخ الثقافي. بمعنى أن العراقية هي حصيلة الكلّ التاريخي المتراكم من مجمل معاناة العراق الفعلية على مدار آلاف السنيين في بناء ذاته التي تلمحها العيون في سحنة وجوه العراقيين، وتسمعها الآذان في نطقهم للحروف، وتتذوقها الألسن في عذوبة دجلتهم والفرات، وتلمسها الأنامل في خشونة إرادتهم ورقّة إخلاصهم، وتشتمها الأنوف في تأففهم من رذيلة الاستبداد والخيانة. أما العربية فهي جوهر كينونتهم التاريخية، ورابطة حلقات تاريخهم الكلي. وليس اعتباطا ألا تطلق في الماضي لفظة العرب والعربي إلا على العراق. لذا قيل "العراق العربي" و"العراق العجمي". كما انه ليس مصادفة أن لا تطلق في العصر الحديث تسمية العربي على العراق، على عكس اغلب البلدان العربية الأخرى، لان اسم العراقي كان يتضمن العربي، كما أن اسم العربي كانت يتضمن العراقي. بمعنى إدراك الجميع على مستوى الحدس بان العراقية والعربية كيانا واحدا، كما لو أن لسان حالهما يقول:"نحن روحان حللنا بدنا"! وفي واقع الأمر ليست العراقية والعربية سوى روحان يحلان في بدن واحد هو العراق. وهو اتحاد عضوي لا طوعي. بمعنى لا فيدرالية فيه بين التاريخ والثقافة يمكن تجزئتها برغبة عابرة أو إرادة سياسية مهما بدت قاهرة، لأنها تضع نفسها بالضرورة في صراع مع المستقبل. بينما هوية العراق الحقيقة هي المستقبل.
من هنا لا تعني فكرة تجريد العراق من عروبته سوى تجريده من المستقبل. وهي فكرة غير قابلة للحياة. بمعنى أنها مدمرة وبدون آفاق. وذلك لأنها تؤدي بالضرورة إلى صنع حالة أتعس مما أدت إليه التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. من هنا انغلاقها التاريخي. ولا معنى لجعل فكرة مغلقة بحد ذاتها مرشدا لآفاق المستقبل! وذلك لأنها لا تصنع إلا مستقبل مغلق! وهي تجربة مارسها العراق في مجرى النصف الثاني من القرن العشرين لكي يصل في نهاية المطاف إلى طريق مغلق. بعبارة أخرى، إن تجربة العراق السياسية في مجرى القرن العشرين، قد كشفت عن أن الانحراف عن تاريخه الكلي وتجاهل حقيقته الذاتية، أو هويته الوطنية يؤدي بالضرورة إلى سقوط القوى السياسية المغامرة في هاوية الخراب والنسيان، إي في هاوية العدم! وهي الهاوية التي يقف العراق أمامها من جديد والقائمة في هيئة "أفكار" و"دعاوي" و"إيديولوجيات" مسطحة تعتقد بان تجريد العراق من عروبته أو التشكيك بها هو "المنقذ" الفعلي له. بينما ليست هذه الأفكار والدعاوي والإيديولوجيات في الواقع سوى الوجه الأخر للصدامية، أي للصيغة الأكثر فضاعة في تقاليد الراديكاليات السياسية في العراق الحديث.
غير أن التاريخ بشكل عام والسياسي بشكل خاص لا يخلو حتى في اشد مراحله المعتمة والخربة من "حكمة" عقلية. بمعنى انه ليس الأحياء والعقلاء، بل والأموات والأغبياء قادرين على شحن العقل السياسي وشحذه بقيمة النقد البناء من اجل تجاوز الخلل الفعلي في العقل والضمير والوجدان. وهو خلل يميز اغلب الأفكار والقوى السياسية الفاعلة في العراق، والقومية العربية منها بشكل خاص. والقضية هنا ليست فقط في انه لا يمكن حل أية مشكلة عراقية دون أن تتمكن القومية الكبرى من حل مشاكلها وإشكاليات وجودها الذاتي، بل ولما في هذه الحلول من قدرة واقعية على تجاوز مختلف أصناف ومستويات الخلل الذي تعرضت له فكرة الدولة والنظام السياسي والمجتمع ومكوناته القومية والثقافية في العراق.
إن عروبة العراق ليست إشكالية العرب بوصفهم القومية الكبرى للعراق وحاملي هويته التاريخية والوطنية والثقافية، بل وإشكالية الأقليات القومية الأخرى جميعا. وعليها فقط تتوقف إمكانية وآفاق المسار الفعلي لحل كافة المشاكل بما في ذلك القومية. ذلك يعني أن آفاق الفكرة القومية العربية في العراق هو المفتاح الذي يفتح أو يغلق رتاج المستقبل العراقي. وبغض النظر عن المصاعب الكبرى التي لفت القومية العربية في مجرى النصف الثاني من القرن العشرين في العراق، ومستوى الخراب الهائل الذي خلفته التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية، إلا أن المؤشر العام الآخذ في الصعود من جديد بعد تجربة سنتين خلت من سقوط الصدامية يسر في الاتجاه "الطبيعي" لإعادة النظر بحقيقة القومية العربية والهوية العراقية. بمعنى السير الحتمي صوب إيجاد النسبة المعقولة والتناغم النموذجي بينهما. وهي عملية لابد لها من التكامل في صيغة نظرية وعملية قادرة على تذليل الخلل الهائل في تاريخ العلاقة بينهما. وهي الصيغة التي أطلق عليها أسم فلسفة الاستعراق، أي الفكرة العاملة من اجل تحقيق المرجعيات الفكرية والروحية لتاريخ العراق الكلي. بمعنى الإقرار والعمل بفكرة أن العراق ليس تجمع أعراق، وانه هوية ثقافية سياسية، وانه غير معقول ولا مقبول خارج وحدة مكوناته الرافيدينية العربية الإسلامية، وان العربية الإسلامية هي جوهر ثقافي. مما يحدد بدوره المبادئ العملية القائلة، بان الهوية الثقافية المفترضة للعراق والعراقية هي الاستعراق بوصفه الحد الأقصى للقومية فيه، ومن ثم فهو الكيان الذي يمكن أن تتعايش فيه جميع القوميات بصورة متساوية ومنسجمة، كما انه ضمانة البقاء ضمن الهوية التاريخية الثقافية للعراق والاحتفاظ بالأصول القومية المتعايشة فيه. ومن ثم فان الخروج عليها يشكل بالضرورة رجوعا إلى العرقية، وبالتالي خروجا على منطق الهوية الثقافية وعلى مكونات وجودها الجوهرية فيه، ومن ثم فهو خروج على القانون أيضا.
وهي فكرة تستمد مقوماتها من استقراء التاريخ القديم والحديث للعراق. فالخروج الواعي وغير الواعي على حقيقة الهوية العراقية المشار إليها أعلاه يؤدي بالضرورة إلى السير ضد تيار الحكمة الثقافية والسياسية المتراكمة في تاريخه. ولعل تجربة الصدامية هي نموذج "كلاسيكي" لما يمكن أن تؤدي إليه أية محاولة لفرض فكرة أو إرادة مهما بدت قوتها الظاهرية على تاريخ الإرادة الخفية الذائبة في مضمون العراق والعراقية، أي هويته الذاتية.
إن كل ما يجري في العراق الآن في هذا المجال يعطي لنا إمكانية الحكم على أن ما جرى ويجري فيه هو جزء من تاريخ وعي الذات العراقي بشكل عام والعربي بشكل خاص. والقضية هنا ليس فقط في تداخل العراقي والعربي، بل ولعضوية هذا التداخل في كينونته الذاتية. وكلما جرى إدراك هذه العلاقة بصورة واقعية وعقلانية كلما كانت أفضل للجميع. فهي الحركة الوحيدة التي تتمتع في تاريخ العراق وحاضره ومستقبله بيقين قاطع. وما عداه هو وهم أو هراء سياسي سرعان ما سيتبدد حارقا معه من يقول به ويعمل لأجله. فالإشكاليات والمشاكل التي واجهها العراق في تاريخه الحديث على مستوى بناء الدولة والمجتمع والثقافة والعلاقات القومية هي إشكاليات المستقبل. ولا يمكن لفكرة جزئية مهما كان مصدرها وشكلها القومي أو العرقي أو الطائفي أن تصل لشيء غير اندثارها الذاتي. وفي هذا يكمن معنى الآفاق المغرية والرحبة القادرة على صنع بديل واقعي وعقلاني وإنساني في العراق. وهو بديل لا يمكنه أن يكون شيئا أخرا غير الوحدة المنسجمة بين العراقي والعربي على أسس الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي الاجتماعي والثقافة الوطنية الحرة. وهو انسجام يستمد مقوماته من الحقيقة القائلة، بان الهوية العراقية والعربية توأمان لروح واحد، وروحان لجسد واحد. فالوحدة العضوية بين العراقية والعربية هي الوجه الثقافي لموازاة والتقاء دجلة والفرات. بمعنى أن انهار العراق وجداوله ومياهه تصب في نهاية المطاف في شط العرب.
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟