ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1288 - 2005 / 8 / 16 - 12:04
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
إن إحدى المفارقات الغريبة بمعايير العقل والمنطق أن نرى رئيسا كرديا للعراق ووزراء أكراد في الحكومة المنتخبة من بين الحزبين السياسيين القوميين "الحليفين"، وفي نفس الوقت يعملان على تنظيم "مظاهرة جماهيرية" في اربيل والسليمانية ودهوك تدعو للاستقلال عن العراق!! وهي "مفارقة" يمكن فهممها بمعايير الرؤية السائدة بين الأحزاب السياسية في العراق الحالي، التي لا ترى في السياسة أكثر من قواعد متنوعة للعبة الاحتيال والمراوغة والحصول على مكاسب وما شابه ذلك. بمعنى أنها لا ترى في السياسة علما مهمته بناء الدولة. وإذا كان هذا النمط من السياسة هو القائم وراء مظاهرات الدعوة للانفصال في ظل الظروف الحالية للعراق، وفي ظل هذا المستوى من مشاركة القوى القومية الكردية في السلطة، وقبيل إعلان "الدستور الدائم"، فانه أمر يشير إلى قضايا أكثر تعقيدا وعمقا مما يبدو للوهلة الأولى. بمعنى أن من الضروري البحث عنها في نوعية ونمط الذهنية السياسية والإيديولوجية للحركات القومية الكردية الحالية في العراق.
فمما لا شك فيه، أن الخطاب السياسي للإفراد والجماعات والأحزاب والدول هو المؤشر الظاهري لحقيقة ما تستبطنه. بمعنى إننا نستطيع العثور فيه على ما تريد قوله أو إيصاله أو الإفصاح عنه. وهو أمر طبيعي أيضا بوصفه الصيغة المناسبة لإبلاغ أبعاد "الرسالة" السياسية وأهدافها المعلنة والمستترة. وهي حالة تعبر عن مستوى ارتقاء الدعاية والممارسة السياسية التي تجعل من الكلمة أداة فعالة في الصراع السياسي.
وعندما نطبق ذلك على أوضاع الحياة السياسية في ظروف العراق الآنية، فإننا نقف أمام حالة مزرية من تدني الخطاب السياسي. وهي حالة تعكس أولا وقبل كل شيء انحطاط التقاليد السياسية بشكل عام والثقافة السياسية بشكل خاص. إضافة إلى تقليدية الأحزاب السياسية بالمعنى الفكري والإيديولوجي والاجتماعي. وهي حصيلة كثفت في ذاتها زمن الانحطاط الذي رافق تاريخ العراق المعاصر، وبالأخص في مجرى صعود الراديكالية السياسية بمختلف أشكالها الدينية والدنيوية، الاجتماعية والقومية، والتي وجدت نموذجها التام في البعثية الصدامية.
وقد سبق وان درست هذه الظاهرة بتوسع في كتابي (العراق ومعاصرة المستقبل) على مثال الحركات القومية العربية والإسلامية والشيوعية. وقد أغفلت متعمدا تحليل الخطاب القومي الكردي وذلك لاشكاليته العامة وجزئيته القومية. بمعنى إنني لم أتناوله بسبب خلوه وفراغه من الهمّ الوطني العراقي العام. وهو فراغ يمكن فهمه ضمن المسار العام الذي تعرض له العراق والدولة بعد "عاصفة الصحراء". إلا انه تعرض لتحول وتغير جديد في مجرى الانقلاب العاصف في حياة العراق السياسية، وما استتبعه من "رجوع" القوى الكردية" إلى حضيرة العراق بوصفهم قوة قومية منظمة لها مشروعها الخاص. من هنا خطورتها الفعلية بالنسبة لمفهوم الدولة والوطنية العامة. ففقدان الهمّ الوطني العراقي العام، الذي كان أيضا نتاجا لسياسية الدولة المركزية، حالما يتحول إلى طرف في الصراع السياسي، فانه لا يمكنه العمل بمعايير الرؤية الواقعية والعقلانية. على العكس، انه يكون على الدوام خاضعا لضغط مقدماته الإيديولوجية. وليس هناك من مقدمات إيديولوجية للحركات القومية الكردية تتعدى مضمون المشاريع الكردية و"الكردستانية". وهو أمر بدأت ملامحه تتضح بعد كل حركة "إلى الأمام" في أوضاع العراق العامة.
فقد كانت مشاركة القوى القومية الكردية بعد سقوط الصدامية وظهور ملامح الانتقال الأولي إلى الديمقراطية، ايجابية وفعالة بالنسبة لإعادة بناء "العراق الجديد". إلا أنها سرعان ما أخذت تتحول تحت تأثير الخراب الهائل للعراق وانهيار قواه الاجتماعية والسياسية وسقوط السلطة المركزية إلى مجرد سلسلة مطالب قومية. وهي مطالب يختلط فيها الشرعي وغير الشرعي. ومع كل حركة "إلى الأمام" بدأت معالم المطالب السياسية تتحول شيئا فشيئا صوب الرؤية القومية الضيقة. وهي ظاهرة تشير إلى استفحال الأبعاد القومية المتراكمة في مرحلة "الاستقلال" القصيرة وتحولها إلى نمط عملي تجاه العراق بشكل عام. مما جعل من المواقف والممارسة السياسية الكردية شيئا اقرب إلى الرؤية النفسية منه إلى الرؤية العقلية. بمعنى غلبة المزاج والوجدان على المواقف والسلوك والمطالب. وهو أمر واضح في انتشار مختلف عبارات التهديد مثل "الرد العنيف" و"الانسحاب" و"الانفصال" وما شابه ذلك اثر كل "أزمة" مهما كان حجمها!
طبعا، أن ردود الأفعال المشار إليها أعلاه ليست مجردة عن طبيعة العلاقات الكردية الكردية وصراعها الخفي، إلا أنها تشير، ضمن معايير الحياة السياسية العراقية ككل، إلى استمرار غياب الهمّ الوطني العراقي، الذي نتج عن طبيعة الشرخ القومي المتراكم في مجرى الحرب العراقية الإيرانية وبلغ ذروته بعد انتهاء "عاصفة الصحراء". إذ لم يعد الهمّ العراقي هاجسا ضروريا في الرؤية القومية الكردية. بمعنى استبدال الهمّ الوطني العراقي العام بأولوية المشروع الكردي و"الكردستاني". وهو أمر طبيعي أيضا في حال النظر إليه ضمن سياق العلاقات القومية والسياسية التي ميزت زمن الدكتاتورية الصدامية. ومن ثم يمكن النظر إلى ردود الأفعال الكردية على أنها جزء من بقايا الخلل المترسبة في الوعي السياسي القومي اثر التدمير والتخريب الذي مارسته الدكتاتورية على كافة الأصعدة وفي كافة الميادين.
إن استفحال الهمّ الكردي القومي على الهمّ العراقي الوطني هو الصيغة الأولية لردود الفعل المترتبة على طبيعة ومستوى الفراغ السياسي الذي حدث في العراق بعد انهيار الدولة المركزية. وهو تحول يمكن فهمه بمعايير الانتقال المفاجئ للأقلية القومية إلى هرم السلطة. وهي حالة يمكن رؤيتها على مثال عشرات التجارب السياسية التي مرت بها الكثير من دول العالم المعاصر. وهو "استفحال" وهمي لا محالة في تبدده اللاحق، إلا انه عادة ما يمر بطريق الآلام من اجل أن تتكامل الرؤية السياسية بمعايير الواقعية أو العقلانية، أو تضطر أصحابها إلى الخراب والهزيمة. وهي الحالة التي تقف أمامها الحركة القوية الكردية. بمعنى السير "إلى الأمام" في تغليب الهموم القومية الكردية على العراقية مع ما يترتب عليه من ردود فعل سياسي وقومي محتمل، أو السير صوب الاندماج الوطني العراقي بمعايير الرؤية الواقعية والعقلانية. ومن ثم العمل من اجل اجتياز مرحلة الانتقال الصعبة صوب الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. وهما تياران يتنازعان الحركات القومية الكردية في العراق. إلا أن الغلبة مازالت بعد للتيار الأول، والذي أكثر من يمثله حركة البرزانيين. ولكنه يتخلل بدرجات متفاوتة كافة الحركات القومية الكردية الحالية في العراق. وهو أمر جلي في اشتراك أو إجماع مختلف الحركات القومية الكردية بإشكال وصيغ متباينة على "مطالب قومية" متزايدة ومعزولة عن الهمّ العراقي العام. بمعنى خضوعها من حيث المقدمات والغايات إلى أولوية المشروع الكردي و"الكردستاني".
غير أن هذه "المطالب القومية" حالما تصبح جزء من "اللعبة السياسية" في ظروف الانتقال الصعبة والخطرة إلى الديمقراطية والدولة الشرعية، فإنها لم تعد جزء من قضية قومية كردية، بل عراقية عامة. بمعنى أنها لم تعد قضية جزئية بل قضية عامة، وذلك لما لها من أثر مباشر وغير مباشر على آفاق تطور العملية السياسية والعلاقات القومية في العراق ككل. لاسيما وان حصيلة "المطالب القومية" الكردية لا تتعدى في الواقع غير قضية الأرض والثروة! فهما الحافزان القائمان وراء الخطاب السياسي العلني والمستتر. وبما أن قضية الأرض في العراق هي قضية مفتعلة، بمعنى انه لا تاريخ فعلي فيها ولها، من هنا تراكم العبارة الوجدانية والأسطورية في الخطاب القومي الكردي. كما لا يعني بروزها و"تكاملها" في الوعي السياسي القومي الكردي سوى الاضمحلال شبه الكامل للرؤية الوطنية العراقية. وهي حالة بلغت ذروتها فيما يسمى بقضية كركوك وأخيرا الخارطة الكردية في العراق!! (يتبع)
***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟