ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1277 - 2005 / 8 / 5 - 09:36
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إن المهمة الاساسية لهذه المقالات تقوم في تأسيس فكرة المرجعية بالشكل الذي يجردها من "قدسية" الأفراد والأفكار أيا كان حجم ونوعية ومستوى تأثيرهم في ظروف العراق الحالية. فهي أمور عارضة، بمعنى متغيرة ومتبدلة، ومن ثم لا تحمل في ذاتها قدسية. والقضية هنا ليست فقط في أن حقيقة المقدس هو المجرد عن الابتذال، بينما أفعال الرجال والأحزاب والمؤسسات والعقائد يمكن ان تبتذل بطريقة مخزية، بل ولما في رفع فكرة المقدس إلى مصاف الأصنام الفعالة في تنويم العقل النقدي من خطورة بالنسبة لافاق التطور التاريخي المفترض في العراق.
فالتاريخ عموما يبرهن على أن كل محاولة لاختزال تجارب الأمم ألى عقائد مقدسة عادة ما ينتج اشد الممارسات انتهاكا للعقل والضمير والقيم المتسامية. وبما أن قضية المرجعية في العراق هي من بين اكثرها حساسية والتباسا، وذلك لاقتصارها في وعي العوام والنخب السياسية أيضا على مؤسسات وافراد (شيعية في الغالب) من هنا سوف تكون بداية هذه الحلقات دراسة وتحليل ماهية ومضمون وتاريخ المرجعية من حيث كونها فكرة ومبادئ وممارسة وقيم ومؤسسات، ووسطها تطبيق مباشر على أوضاع العراق الحالية ونهايتها مراجعة لمرجعية السيستاني. ذلك يعني أن مهمتي هنا تقوم في العمل من أجل تأسيس فكرة المرجعية المجردة من خلال ارجاعها إلى قيم متسامية وليس الى عقائد ايديولوجية ايا كان شعارها المعلن.
إن التجارب التاريخية للامم جميعا تبرهن على أن عظمة الثقافة على قدر مرجعياتها في الحقائق والرجال. أما الفكرة التي تحاول ربط المرجعية بالرجال بشكل عام وبرجال الدين بشكل خاص، فإنها لا تعمل في الواقع إلا على تكريس نفسية التقليد الأعمى. وهي ممارسة تتعارض مع مجرى الحقيقة ومنطق التطور. كما أنها فكرة سبق وان انتقدتها الثقافة الإسلامية بعبارة تنسب للإمام علي تقول، بان الرجال بالحق وليس الحق بالرجال. أي أن الأولية للحق المجرد لا للأفراد أيا كانوا. وهي فكرة تعبر بصيغة جدا مكثفة عن جوهر الصراع التاريخي القديم والحديث بين الإبداع والتقليد، بين الحقيقة المغتنية والعقائد الجامدة. كما أنها تعبر عن منطق الحقيقة نفسه، الذي يتسامى عن ربطه بالأفراد أيا كانوا. ولا يعني ذلك تقليلا لاهمية الفرد أو انتقاصا من شأنه، على العكس! لقد أرادت هذه الفكرة القول، بان الأفراد عرضة للموت والمرض والاعوجاج والتناقض في الآراء والأحكام والتبدل في المواقف وغيرها من التغيرات التي تطرأ على وجودهم، بينما الحقيقة حية ثابتة ومستقيمة من حيث تمثيلها للحق المجرد. وبالتالي فهي الوعاء الوحيد القادر على الاغتناء بقيم السمو الروحي والتقدم المادي.
إضافة لذلك إن مرجعية الحقيقة بحد ذاتها هي المصدر الضروري والوحيد للإبداع الحق، كما أنها وسيلة التحرر الذاتي للأفراد والجماعات والأمم من ثقل التقليد وبلادته الموتورة. ومن ثم فان الإقرار بجوهرية الحقيقة لا الأفراد، أي جعل الحقيقة مرجعا أعلى للبحث والأعمال والمواقف والأقوال، هو الأسلوب الذي يحرر الاختلاف من العراك ويجعله أداة ووسيلة إضافية للتنوع والإبداع. مما يساهم بدوره في جعل الاختلاف مصدرا للاغتناء الدائم في الأفراد المبدعين ونمو الحقائق وتجذرها في الوعي الاجتماعي. إذ لا تعني كثرة الحقائق وكثرة الرجال المبدعين سوى الوجهين المتكاملين للإقرار بمبدأ أولوية الحقيقة على الرجال، وتمثله العلمي والعملي. إذ ليس الكثرة هنا في الواقع سوى التنوع المختلف في الاجتهاد. وبالتالي فان أي تصور يحاول أن يربط الحقيقة أو مرجعيتها بالأفراد أيا كانوا لا يعني سوى الخضوع الأعمى للتقليد والاستعادة "المتجددة" للأوهام والبقاء ضمن حيزها المستبد.
غير أن ذلك لا يعني التخلي عن إبداع الرجال أو الماضي. إذ ليس كل ما هو ماض لا قيمة له، كما أن ليس كل جديد حامل للقيمة والمعنى. ومن ثم فأن المقصود بذلك هو ألا يكون إبداع الرجال أيا كانوا مصدرا نهائيا للمعرفة والحقيقة. وهو موقف يفترض عدم تحويل إبداعهم إلى نصوص مقدسة. وبالتالي، ألا تكون الشخصيات الواقعية منها والوهمية، مرجعية للأفراد والجماعات والأحزاب. ذلك يعني، أن المرجعية الكبرى في كل ذلك ينبغي أن يكون الاجتهاد الحر في حل الإشكاليات الكبرى القائمة أمام المجتمع والدولة، والمستند أيضا إلى تأمل إبداع الأسلاف العظام وتجارب الأمم.
إن حقيقة المرجعية ليست كيانا مستقلا بذاته أو متجسدا في فرد أو جماعة أو مؤسسة، كما أنه ليس صيغة ثابتة ونهائية من العقائد والمعارف في التعامل مع الوجود في مختلف مظاهره وأحداثه، بل هي منظومة المبادئ والقيم المتبدلة ضمن ثبات الانتماء لحقائق الكلّ الثقافي للأمة. وهو الأمر الذي أعطى ويعطي لها أهمية علمية وعملية، كما جعلها في نفس الوقت مشكلة فكرية مثيرة على امتداد التاريخ الثقافي للأمم. فهي مشكلة متعددة المستويات والأشكال، إلا أنها تشق لنفسها الطريق ضمن الأديان والفلسفات والأيديولوجيات العملية من جهة، وضمن صيرورة ما أسميته بحقائق الكلّ الثقافي للأمم، من جهة أخرى.
ففي الأديان تظهر وتتبلور وتترسخ على شكل عقائد إيمانية، بفعل ارتباط المرجعية فيها بمصدر متعال ومقدس. ومن ثم ليس حاضر ومستقبل الأمم سوى المسار الذي ينبغي أن يتغذى ويهتدي بما فيها من مبادئ وقيم أبدية غير قابلة للتغير والتبدل. أي أن الثبات فيها للثابت، والمتغيرات هي براهين جزئية وعابرة على القيم والمبادئ النصية الثابتة. من هنا سلسلة الله – النبي – النص واستمرارها في وحدة الرواية والدراية ووحدة المعقول والمنقول. ففي البدء لم يكن هناك انفصالا أو انفصاما بين الله والرسول والنص (القرآني). من هنا كانت المرجعية في الإسلام النبوي لله والرسول فيما اختلفوا فيه. أما تجليها المباشر والنهائي ففي نزول الآيات. فالآية القرآنية هي المرجع النصي والمصدر المتعالي الثابت تجاه إشكاليات الوجود العابرة والجزئية. من هنا "أبديتها" و"أزليتها". وبعد موت الرسول يتحول الله إلى نص قرآني والرسول إلى سّنة نبوية. وهو انفصال وانفصام وجودي للمسار الديني للامة الإسلامية جرى استكماله وتوسيعه في مجرى التطور الثقافي للامة الدينية (الإسلامية) عبر إعادة توحيد الله ومحمد أو القرآن والسنة، الذي وجد انعكاسه الأكثر تطورا في تنامي وتوسع وترسخ وحدة الرواية (النص القرآني والحديث) والدراية (الرأي التقليدي والاجتهادي)، ووحدة المنقول (النص القرآني والحديث وأقوال السلف) والمعقول (العقل بمختلف أنواعه). وشكلت هذه الوحدة الجديدة الحلقة الثقافية المكملة في مسار الأمة الإسلامية، التي فسحت بدورها المجال أمام تنامي مختلف المرجعيات في الحضارة الإسلامية.
أما ضمن الفلسفة (غير الدينية)، فإن المرجعية تظهر وتتبلور وتترسخ على شكل عقائد عقلية بفعل ارتباطها بمصدر الاجتهاد العقلي والوضعي الخالص. وبالتالي ليس المقدس فيها سوى الفكرة المجردة المتسامية والقادرة على التدليل والبرهنة العقلية. ومن ثم ليس حاضر ومستقبل الأمم سوى المسار الذي ينبغي أن يتنور ويستنير ويتعلم بما فيها من مبادئ وقيم قابلة للتغير والتبدل الدائم. أي أن الثبات فيها للتغير، والمتغيرات هي أدلة دائمة على قانون الوجود وناموس الطبيعة والحياة. وهو تغير مطلق. من هنا سلسلة الحقيقة المطلقة والفيلسوف واستمرارها في الاجتهاد العقلي العامل من اجل نفي القديم والبحث عن الجديد وتأسيسه المنظومي. وبالتالي ليست المرجعية الحقيقة سوى تلك التي تعمل من اجل ترسيخ منظومة العقل في اجتهاده الدائم بدأ من الشك وانتهاء باليقين بوصفها العملية الأبدية للحقيقة المطلقة.
أما الأيديولوجية العملية، فإنها التجسيد السياسي للاجتهاد النظري، ومن ثم فإنها عادة ما تشكل الاستيعاب الجزئي للعقائد الكبرى وتطبيقها النسبي. وذلك لان الصيغة العملية للتطبيق الأيديولوجي عادة ما ترتبط بما يسمى بالمهمات الملحة. وهي مهمات جزئية بالضرورة. أما طابعها النسبي فعادة ما يتحدد بمستوى تطور الأفكار والأفراد من جهة، ومستوى تطور التجارب التاريخية للأمم والحركات الاجتماعية والسياسية من جهة أخرى. وهو السبب القائم وراء جمع الأيديولوجيات العملية بين ما هو مميز للدين والفلسفة، بمعنى الجمع بين الثابت والمتغير، والاجتهاد والتقليد، والجزئي والكلي، والمطلق والعابر، والأزل والأبد، وتوظيف كل ذلك بطريقة لا يضبطها في الأغلب غير رؤية "المصالح" التي عادة ما تقترن بإضافة أخرى كالوطنية والقومية والدينية والطبقية والعالمية وما إلى ذلك. وذلك لان الثبات الوحيد فيها هو للتأويل المتحزب. وبالتالي لا أولوية ثابتة فيها لغير التحزب بوصفه أسلوب وجودها المستقل والفعال. وهو الأمر الذي عادة ما يعرّض القيم والمبادئ فيه إلى كسر وتغيير قسري باسم الحقيقة وتمثلها. كما يضفي عليها خطورة فعلية، نابعة أساسا من جمعها بين الضدين، مع أن الجمع بين الضدين هو مصدر السمو الشامل. غير أن مصدر السمو هنا مرهون بالسلوك الفردي المتجرد من رق الأغيار، كما تدعوه الصوفية. بينما لا تستطيع الأيديولوجية العملية التحرر كليا من "العبودية" المتحزبة سواء كان ذلك بهيئة مصالح أو أفكار أو عقائد أو قيم. بينما السمو الحقيقي يفترض في حالة الأفراد التحرر من رق الأغيار جميعا وتحويلها إلى عناصر منفية في طريق اللانهاية. بينما الأيديولوجية بحد ذاتها هي التجسيد الفعلي لفكرة النهاية. وهو تناقض واقعي وفعلي يمكن حله أو تجذيره من خلال فكرة المرجعية نفسها.
***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟