مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 4906 - 2015 / 8 / 24 - 15:30
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
الكسندر بيركمان
دروس و أهمية كرونشتادت
كانت حركة كرونشتادت عفوية , وقعت دون إعداد مسبق , و كانت سلمية . أما أنها تحولت فيما بعد إلى صراع مسلح و انتهت بمأساة دموية , كان كل ذلك بفضل الاستبداد التتري للديكتاتورية الشيوعية . رغم وعيهم بالطبيعة الحقيقية للبلاشفة , كان لدى ثوار كرونشتادت إيمان بإمكانية حل سلمي ما معهم . لقد اعتقدوا أن الحكومة البلشفية قد تخضع للعقل , و أنها ما تزال تملك إحساسا ما بالعدالة و الحرية . أثبتت خبرة كرونشتادت مرة أخرى أن الحكومة , الدولة - تحت أي اسم أو شكل كانت - هي العدو الأزلي للحرية و تقرير المصير . ليس للدولة روح , و لا مبادئ . لديها هدف واحد فقط - أن تحافظ على السلطة بأي ثمن . هذا هو الدرس السياسي لكرونشتادت . هناك درس آخر استراتيجي تعلمنا إياه كل الثورات : أن نجاح الانتفاضة مرتهن بحزمها , و طاقتها , و إقدامها . يملك الثوار إلى جانبهم تأييد الجماهير . يتسارع هذا التعاطف أو التأييد في الموجة الصاعدة للثورة . يجب ألا يسمح لتأييد الجماهير هذا بأن يتراجع , أو أن يخبو بالعودة إلى كآبة الحياة اليومية . من جهة أخرى , تقف كل ثورة ضد الماكينة القوية للدولة . تستطيع الحكومة أن تركز في يدها مصادر الإمداد و وسائل الاتصال . يجب ألا تعطى الحكومات الوقت الكافي لتتصرف بسلطاتها تلك . يجب أن تكون الثورة كاسحة , و أن تضرب بشكل مفاجئ و حازم . و يجب ألا تبقى محلية , لأن هذا يعني الجمود . يجب أن تتوسع و تتطور . الثورة التي تحصر نفسها في حدود محلية ضيقة , أو تختار أن تلعب سياسة الانتظار , أو تضع نفسها في موقع الدفاع , محكومة بالهزيمة لا محالة . في هذا المجال خاصة , كررت كرونشتادت الأخطاء الاستراتيجية القاتلة لثوار كومونة باريس . لم يستمع الأخيرون لنصيحة أولئك الذين أرادوا شن هجوم فوري على فرساي بينما كانت حكومة ثاير ما تزال غير منظمة . و لم ينقلوا الثورة إلى الريف . لا عمال باريس 1871 و لا بحارة كرونشتادت أرادوا إسقاط الحكومة . كان ثوار الكومونة يريدون فقط بعض الحريات الجمهورية , و عندما حاولت الحكومة أن تنزع سلاحهم , طردوا وزراء ثاير من باريس و انتزعوا حرياتهم تلك و استعدوا للدفاع عنها - لا أكثر . أيضا طالبت كرونشتادت فقط بانتخابات حرة للسوفييتات . بعد اعتقالهم لعدة قوميسارات , جهز البحارة أنفسهم ليدافعوا عن أنفسهم ضد أي هجوم . رفضت كرونشتادت أن تتصرف بحسب نصيحة الخبراء العسكريين بأن تستولي فورا على الأورانينباوم ( قصر للقيصر الروسي , يقع في خليج فنلندا غرب سانت بطرسبورغ أو بتروغراد بالقرب من كرونشتادت - المترجم ) . كان الأخير ذا أهمية عسكرية هائلة , إلى جانب أنه كان يحتوي على خمسين ألف بود ( 1 ) من القمح الذي يعود لكرونشتادت نفسها . الإنزال في الأورانينباوم كان ممكنا أيضا , كان من الممكن مفاجأة البلاشفة دون أن يكون لديهم الوقت الكافي لإحضار تعزيزات ( 2 ) . لكن البحارة لم يريدوا البدء بالهجوم , و هكذا ضاعت اللحظة السيكولوجية . بعد عدة أيام , عندما أقنعت بيانات و تصريحات الحكومة البلشفية بحارة كرونشتادت أنهم اصبحوا الآن في صراع من أجل حياتهم , كان الوقت قد أصبح متأخرا جدا لتصحيح ذلك الخطأ . نفس الشيء حدث مع كومونة باريس . عندما كشف لهم منطق الحرب التي فرضت عليهم ضرورة إسقاط نظام ثايير , ليس في مدينتهم وحدها , بل في كل البلاد , كان الوقت أيضا قد تأخر . في كومونة باريس كما في انتفاضة كرونشتادت , أثبت النزوع نحو تكتيكات سلبية دفاعية أنه كان مميتا . سقطت كرونشتادت . حركة كرونشتادت في سبيل سوفييتات حرة أغرقت بالدم , في نفس الوقت الذي كانت فيه حكومة البلاشفة تعقد مساومات مع الرأسماليين الأوروبيين , موقعة صلح ريغا , الذي وضع بموجبه 12 مليونا تحت رحمة بولندا , و تساعد الإمبريالية التركية في القضاء على جمهوريات القوقاز . لكن "انتصار" البلاشفة على كرونشتادت حمل معه هزيمة البلشفية . لقد عرى الطبيعة الحقيقية للديكتاتورية الشيوعية . أكد الشيوعيون أنهم مستعدون للتضحية بالشيوعية نفسها في سبيل أية مساومة مع الرأسمالية العالمية , بينما يرفضون في نفس الوقت مطالب شعبهم بالذات - المطالب التي رفعت شعارات أكتوبر التي نادى بها البلاشفة أنفسهم : سوفييتات منتخبة بالاقتراع الحر و السري , بحسب دستور جمهورية روسيا الاشتراكية السوفيتية , و حرية التعبير و الصحافة للأحزاب الثورية . مؤتمر عموم روسيا العاشر للحزب الشيوعي كان منعقدا في موسكو عندما اندلعت انتفاضة كرونشتادت . في ذلك المؤتمر تغيرت سياسة البلاشفة الاقتصادية نتيجة لأحداث كرونشتادت و بسبب أحداث مشابهة بين السكان في مناطق أخرى من روسيا و سيبيريا . فضل البلاشفة أن يعكسوا سياساتهم الأساسية , أن يوقفوا الرازفيرستكا ( الاستيلاء بالقوة على المحاصيل ) , و أن يسمحوا بحرية التجارة , و يقدموا تنازلات للرأسماليين و أن يتخلوا عن الشيوعية نفسها - الشيوعية التي قاتلت من أجلها ثورة أكتوبر , و أريقت في سبيلها بحور من الدماء , و أوصلت روسيا إلى الخراب و اليأس - كل ذلك كيلا يسمحوا بسوفييتات منتخبة بحرية . هل يمكن لأحد بعد ذلك أن يسأل عن الهدف الحقيقي للبلاشفة ؟ هل كانوا يسعون وراء المثل الشيوعية أم سلطة الحكومة ؟ إن كرونشتادت ذات أهمية تاريخية كبرى . لقد دقت ناقوس الموت للبلشفية و ديكتاتورية حزبها , و مركزيتها المجنونة , و إرهاب التشيكا , و فئاتها البيروقراطية . لقد ضربت الأوتوقراطية البلشفية في القلب . و بنفس الوقت صدمت العقول المثقفة و المخلصة في أوروبا و أمريكا لكي تعيد دراسة نظريات البلاشفة و ممارساتهم بشكل نقدي . و أطاحت بالأسطورة البلشفية عن أن الدولة الشيوعية هي "حكومة عمال و فلاحين" . لقد أثبتت أن ديكتاتورية الحزب الشيوعي و الثورة الروسية هما شيئان متناقضان , متضادان , ينفي أحدهما الآخر . و كشفت أن النظام البلشفي ليس إلا استبدادا و رجعية صريحتين , و أن الدولة الشيوعية هي بحد ذاتها أخطر ثورة مضادة و أقواها . لقد سقطت كرونشتادت . لكنها سقطت و هي منتصرة بمثلها و نقائها الأخلاقي , بكرمها و إنسانيتها الأسمى . كانت كرونشتادت مجرد ضاحية . لكنها تفتخر بأنها لم ترق دماء عدوها , و الشيوعيون من بينهم . لم تعدم كرونشتادت أحدا . البحارة غير المثقفين , غير المصقولين , و الصارمون في تصرفاتهم و كلامهم , كانوا أكثر نبلا من أن يتبعوا المثال البلشفي في الانتقام : لم يطلقوا النار حتى على قوميساراتهم الكريهين . جسدت كرونشتادت الروح المعطاءة , السلافية , و الحركة من أجل انعتاق روسيا التي بدأت منذ قرن كامل . كانت كرونشتادت أول محاولة شعبية و مستقلة تماما للتحرر من نير اشتراكية الدولة - محاولة قام بها الناس أنفسهم مباشرة , العمال , الجنود , و البحارة . كانت الخطوة الأولى نحو ثورة ثالثة حتمية , و التي قد تأتي , كما نأمل , بحرية و سلام دائمين لروسيا التي عانت طويلا .
( 1 ) البود يعادل 40 رطل روسي أو حوالي 36 رطل انكليزي
( 2 ) عدم قيام بحارة كرونشتادت بالاستيلاء على أورانينباوم أعطى الحكومة الفرصة لتقوي قلعتها بوحدات موثوق بولائها و القضاء على العناصر "التي أصابتها عدوى كرونشتادت" في الحامية , و أن تقوم بإعدام قادة سرب الطيران الذي كان على وشك الانضمام إلى متمردي كرونشتادت . و فيما بعد استخدم البلاشفة القلعة كنقطة انطلاق لمهاجمة كرونشتادت . من بين الذين أعدموا في أورانينباوم : كولوسوف , آمر فرقة طيران بحرية الجيش الأحمر و قائد اللجنة الثورية المؤقتة التي تشكلت للتو في أورانينباوم , بالاشنوف , سكرتير تلك اللجنة , و أعضاء اللجنة : رومانوف , فلاديميروف , الخ .
نقلا عن
https://www.marxists.org/reference/archive/berkman/1922/kronstadt-rebellion/afterword.htm
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟