|
نخبتنا العاجزة: الدولة لاتصنع السياسة
محمد السعدنى
الحوار المتمدن-العدد: 4847 - 2015 / 6 / 24 - 02:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عندما فقد السيطرة على الدراجة التى كان يقودها دون سابق خبرة أومعرفة، بدأ ينزلق بسرعة عالية على منحدر طويل يقطع آخره محل حلوانى بواجهة زجاجية عريضة، تأكد لامحالة أنه مصطدم بها، فراح يصرخ فى هستيريا:"إلحجونا ياخلج الله، نزلوا باب الدكان الحديد، إجفلوا ياولد باب الحلوانى لاتكسر الإزاز، ألحجونا ياناس ياحكومة، إلحقونا ياولد الكلب حيكسر المحل". صوت إرتطام غطى عليه أنين التوجع والفجيعة. لقد "لبس" صاحبنا بدراجته وكامل جسمه المترهل فى فترينة الحلوانى الزجاجية، اختلطت آهاته ودمائه بشظى الزجاج وعجين الحلوى ليقدموا نوعاً غير مألوف من المعجنات. أخذت الصدمة الجميع، لكنهم سرعان مااستفاقوا على ضحكات الذين تابعوا المشهد من بدايته. نكتة؟ نعم هى بكل المعايير نكتة حريفة ولاذعة، لكن المفاجأة انها قصة حقيقية رواها لى فى جلسة سمر الدكتور أحمد ياسين نصار الأستاذ بطب أسيوط. الواقعة حدثت بالفعل فى إحدى شوارع القبارى بالإسكندرية فى ستينيات القرن العشرين، وكان هو شاهد عليها، واعتبرناها نكتة مضحكة موجعة عن بلدينا الذى مارس النزق والتهور دون استعداد وتدبير، ثم مارس الغفلة والحمق بأن ألقى تبعة غباء تصرفه على خلق الله ثم الحكومة، وكان هاجسه الأوحد عند صراخه هو حساباته الخاطئة عن المكسب والخسارة إذا "لبس فى الزجاج" وكسره، وكان أهون عليه أن يصطدم هو نفسه بباب الدكان الحديد وليكن مايكون، هكذا كان اختياره، وياله من غرابة. وأنت تستطيع أن تقلب النكتة على كل وجوهها، فلن يواجهك مع كل لمحة منها إلا آيات التخلف والحمق والرعونة والتسرع والغباء وقصور الفكر وانحسار النظر وضيق الرؤية، وسطحية المعالجة، وغياب المنطق ومجافاة العقل، و... تذكرت هذه الحكاية بينما أتفكر فيما آلت إليه أحوال النخبة فى بلادنا، وقد استحالت بشخوصها ونزقها وجهلها وتخلفها وتفاهتها إلى نكتة، تكاد تتطابق مع حكايتنا السابقة فى كل أركانها وملابساتها. ولقد زادت نخبتنا السياسية ونظيرتها الإعلامية وحتى الحكومية على غفلة صاحبنا الذى كاد يقتل نفسه وعاش بعاهات مستديمة بعد الحادثة، أنهم فوق ذلك يضرون بمستقبل هذا الوطن ويعوقون مسيرته بحمق وغفلة وغباء. إذا كنت لاتصدقنى، أعد قراءة النكتة وضاهى وقائعها على مانعايشة من نكسة النخب السياسية والإعلامية والحكومية فى بلادنا، ومدى الخلل البادى فى مجالنا العام، والولع الشديد بكل ماهو تافه وفرعى وسطحى وغير لازم ولا واجب ولا أصيل. هل هذه صورة لمجال عام لدولة تستهدف من داخلها وخارجها، دولة تواجه الإرهاب والعنف والتآمر وتحاك لها الدسائس فى محيطها العربى وإقليمها، دولة يستهدف جيشها ووعيها وحدودها وركائز قوتها ومحاور دورها ومصادر دخلها ووعى وعقل شبابها وصبر جماهيرها ومعاناة شعبها، دولة فى حالة حرب بكل ماجاء فى أدبيات التعبئة والحروب الحديثة، ولاتزال النخبة تشغلنا صباح مساء بتصريحات الفريق شفيق وأحاديث الوهم والبطولات الزائفة مع المشير طنطاوى والفريق سامى عنان، وقضية الدكتور أسامة الغزالى حرب وأحمد موسى، والكابتن شوبير وسمير زاهر، وعبدالمنعم أبوالفتوح وهرتلته وهلفطاته، ويوسف ندا وتخاريفه وزكريا عبدالعزيز وأحداث أمن الدولة، وإسفاف الدراما المغشوشة وتدنى مستويات القضايا الهامشية التى يشغلوننا بها وما أغنانا عنها. وسط كل هذا الغثاء وبدلاً من توارى النخبة السياسية المفلسة خجلاً، إذا بهم يرفعون عقيرتهم كل يوم يطالبون الرئيس بحماية الأحزاب ودعمها وفرض الحماية على قادتها ورجالها وتحصينهم ضد النقد، ويقدمون عرائض للرئيس بشأن الديمقراطية والانتخابات التشريعية وتقسيم الدوائر ويعايرون الدولة ليل نهار بغياب السياسة وانسداد الأفق العام والمجال العام أمام الأحزاب، ينتقدون الدولة المستبدة بالنهار ويطالبون السيسى ونظامه بأن يكون ديكتاتوراً يتدخل بليل فى الإعلام والعفو القضائى والتسريبات وماتشات الكورة ودعمهم فى الانتخابات ضد المتأسلمين! ماذا بكم؟ أليس منكم رجل رشيد؟ أتريدون دولة ديمقراطية بالفعل؟ أم تريدونها تفصيل على مقاس حضراتكم وتلبى كل مطالبكم حتى لو تناقضت مع الأصول والواجبات والإلتزامات والإشتراطات. تطلبون دولة حديثة بمفهوم الدولة الحارسة، أى الحكم بين السلطات والرقيب بالقانون على حركة المجتمع ومؤسساته، أم تطلبون حاكمية الدولة كما كانت مع عبدالناصر والسادات؟ أتطلبون الدولة الرخوة لتعفيكم من الضرائب وتقدم التسهيلات للسطو على أراضى الدولة ومقدراتها، أم تريدون دولة القانون والحريات؟ ماذا تريدون أيها المتلونون المفارقون لكل عقل ومنطق؟. أحد رؤساء الأحزاب يكلمنا عن الاستقلال الوطنى، بينما حزبه هو الذى أتى لنا بمصائب البرادعى، وبهاء الدين والببلاوى الذى نال جائزته بالوظيفة الدولية على حساب مصالح مصر وشعبها. يتشدقون بأن الحكومة منزوعة السياسة وأن الدولة لاتصنع السياسة وتتجاهلها، وأعجب لذلك، السياسة لاتصنعها الدولة، إنما تصنعها مكونات ثلاث: الفاعلين السياسيين، الأفكار، الآليات، وهذه كلها مسئولية الأحزاب والمجتمع المدنى الذين ينبغى أن يصنعوا السياسة ويحركوا المجتمع بطرح الأفكار وتبنى البرامج والمشروعات وتحريك الشارع وقيادة الجماهير، وفرض إطار عمل مؤسسى يحمل رؤية سياسية تحدد للدولة طبقاً لانحيازات الأحزاب الممثلة للأغلبية فى أى إتجاه تتحرك. الدولة لاتصنع السياسة، إنما تمتلك رؤية تستخدم توجهات المجتمع السياسية فى تحقيق الوعى وحشد الجماهير نحو مشروعنا القومى للبناء والاستقلال والتقدم. السياسة مسئولية النخبة وهى التى تحددها للدولة وتفرضها عليها، أما إذا كانت نخبة "فاشلة مفلسة" فاسمع كلام وعكسه ونقيضه وضده ومرادفه وغيره ليأخذوك إلى ماهم فيه من تفاهة وإفلاس. بصراحة على هذه النخبة العاجزة أن تتوارى خجلاً، إذا ماقارنا حالها مع ماحدث فى تونس، وماذا فعل الباجى قائد السبسى ذو السبعة وثمانين ربيعاً فى مواجهة حركة النهضة "الإخوان" بقيادة الغنوشى، إذ أسس حزباً معارضاً "نداء تونس" استطاع فى خلال أقل من عامين أن يحوز به الأغلبية البرلمانية ويفوز برئاسة الدولة، هو لم يطلب من الدولة أن تنشط السياسة وأن تساعد الأحزاب، وأن وأن، هو بحزبه وكوادره وماطرحه من أفكار وماأداه من نشاط وحركة، رسم سياسة تونس التى يريدها والتى لم تكن ظروفها تختلف عنا كثيراً. فى المقابل، ماذا فعل أبوالغار، وماذا فعل رفعت السعيد، وعمرو موسى، ومصطفى الفقى وأسامة الغزالى حرب وعبدالغفار شكر، وأحمد شفيق، وماذا فعل غيرهم لتغيير معادلة السياسة فى بلادنا؟ وأنا هنا أذكر شخصيات توافر لها تجربة قريبة من تجربة السبسى، لكنه نجح هناك بالجد والعمل، ولازلنا هنا نحرث فى البحر. الحزب ياسادة، أى حزب تعبير عن مصالح طبقة، أوتوجهات فئة، أوأفكار وطموحات وأهداف جماهير، وفى سبيله للوصول للسلطة عليه أن يصنع سياساته ويقدم كوادره ويكسب انتخاباته ويغير مجتمعه، وليس من وظيفته أبداً التسول من السلطة، أوالتوسل إليها، والأحزاب تصنعها المعارك السياسية وتبلور توجهاتها، ونحن على أعتاب إنتخابات برلمانية، فماذا أنتم فاعلون أيها العجزة؟
#محمد_السعدنى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التفكير: فريضتنا السياسية الغائبة
-
لا أخلاقية السياسة الأمريكية
-
إشكاليات الثقافة والإدراك فى العلاقات المصرية الأمريكية
-
فى كامب ديفيد .. الشيطان يعظ ويصلح الساعات
-
عن الحمقى والمغفلين
-
إستهداف ملكة الحد الأوسط: مصر يصعب أن تكون تابعاً
-
الأرض لما بترمى ف سنبلة بشاعر نبيل الأبنودى: عمر من النضال و
...
-
الأزهر ومحاكم التفتيش
-
الثورة ليست وجهة نظر
-
المرايا والنوافذ بين الثقافة والسياسة
-
ثوبها الأخضر رَفّت الشمس ثقوبه
-
الأعدقاء الأمريكان وسياسات الأقل كفاءة
-
بريسترويكا جديدة من برج القاهرة
-
إكشفوا الذئاب قبل محاربة الإرهاب
-
ست شخصيات تبحث عن مؤلف
-
أن تكتب عن جمال عبد الناصر
-
لا مانع لدى الملا أوباما أن يضرب فرنسا فى طريقه إلينا
-
مصر بين سياسات الاحتواء وتجسيد الفكرة
-
هل تعيين خالد فوزى عنواناً لمرحلة جديدة؟
-
إتجاه مصر نحو الشرق ضرورة استراتيجية
المزيد.....
-
Xiaomi تروّج لساعتها الجديدة
-
خبير مصري يفجر مفاجأة عن حصة مصر المحجوزة في سد النهضة بعد ت
...
-
رئيس مجلس النواب الليبي يرحب بتجديد مهمة البعثة الأممية ويشد
...
-
مصر.. حقيقة إلغاء شرط الحج لمن سبق له أداء الفريضة
-
عبد الملك الحوثي يعلق على -خطة الجنرالات- الإسرائيلية في غزة
...
-
وزير الخارجية الأوكراني يكشف ما طلبه الغرب من زيلينسكي قبل ب
...
-
مخاطر تقلبات الضغط الجوي
-
-حزب الله- اللبناني ينشر ملخصا ميدانيا وتفصيلا دقيقا للوضع ف
...
-
محكمة تونسية تقضي بالسجن أربع سنوات ونصف على صانعة محتوى بته
...
-
-شبهات فساد وتهرب ضريبي وعسكرة-.. النفط العراقي تحت هيمنة ا
...
المزيد.....
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
-
الخطاب السياسي في مسرحية "بوابةالميناء" للسيد حافظ
/ ليندة زهير
-
لا تُعارضْ
/ ياسر يونس
المزيد.....
|