محمد السعدنى
الحوار المتمدن-العدد: 4812 - 2015 / 5 / 20 - 00:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
السياسة الأمريكية فى حياتنا أشبه ما تكون برجلين، أحدهما ينكر أن يكون حاصل جمع إثنين وإثنين أربعاُ، فالناتج عنده ثلاثة وربما خمسة لكنه أبدا ليس أربعة، وهو يقيم لك الحجج على ذلك الذى يراه صحيحا وفق منطقه ورؤاه. أما الثانى فهو يسلم لك بداية بأن الناتج بالفعل أربعة، ذلك وفق منطق الحساب ومبادئ الرياضيات، لكنه يضيف بأن ذلك هو ما يقلقه وربما يزعجه أيضا. وقس على ذلك كثير من السياسات الأمريكية تجاه قضايانا العربية وعلاقاتنا المشتركة.
وأحسب أن سياساتنا جاءت دائما فى دائرة رد الفعل لواحد من هذين النموذجين وربما لكليهما معا. فلطالما وقعنا فى مصيدة الأول نحشد له الحجج والبراهين ونعيد على مسامعه ما استقرت عليه علوم الرياضيات والحساب، وما أنجزه العرب الأوائل فى علوم الجبر وقوانين اللوغاريتمات. وسقنا فى مواجهة الثانى عرائض الاتهام بالاستعلاء والهيمنة وإزدواجية المعايير، وقدمنا له مرافعات مطولة عن تجاوزه فكرة القانون وتعديه على مفاهيم السيادة والشئون الداخلية، وأفضنا عن مبادئ الاخلاق وقيمة العدل وحاكمية الحقوق التاريخية.
كانت ولا زالت هذه هى حالتنا وربما حيرتنا مع السياسات الأمريكية والتى تبدت فى كثير من خلافات الرؤى والمواقف وتعارض المصالح والتحيزات المسبقة وسوء الفهم، والتى يمكن ردها فى جانب كبير منها إلى إشكاليات الحالات الذهنية المتابينة بين الطرفين. ونعنى بها خصوصية المنظومة المعرفية وتجلياتها فى تباين الثقافة والإدراك وطرائق التفكير.
وهى ليست ظاهرة مصرية- أمريكية وإنما هى علامة على العالم الحديث فى علاقاته الدولية. فالشعوب والحكومات والدول لا تؤدى بهم نفس المقدمات إلى نفس النتائج، حتى لو تشابهت الظروف وخلصت النوايا. وبعبارة أخرى، فالناس عندما يفكرون فى تدبير أمورهم الحياتية، أو حتى عندما يفكرون فى الإصلاح والنهضة أوعندما ينظرون الى الطريقة التى تؤثر بها السياسات الأمريكية فى بقية العالم، فإنهم ينطلقون من حالات ذهنية مختلفة.
والحالة الذهنية هى موقف فكرى ثابت تشكله الثقافة والتعلم والخبرات الإجتماعية والمعتقدات السائدة. وهى التى تجعل الأشخاص على استعداد للإدراك والتفكير والإستجابة على النحو الذى يرون به ويتفاعلون من خلاله. أو هى إطار من التركيبات العقلية بشأن العالم الخارجى والمعتقدات والصور والافتراضات وعادات التفكير والإدراك وأنماط السلوك. وهى ظاهرة تمتد فى نهاية المطاف إلى الطريقة التى ينظر بها أحد المجتمعات أو الدول إلى مجتمع آخر أودولة أخرى، أو هكذا يعرفها الكاتب الأمريكى الشهير د.جلين فيشر أستاذ الإجتماع السياسى والعلاقات الدولية فى كتابه القيم " الحالات الذهنية: دور الثقافة والإدراك فى العلاقات الدولية" .
وإذ اختلف مع د. جلين فشر فى تسليمه بالأساطير المؤسسية للحركة الصهيونية وتفهمه للحالة الذهنية الإسرائيلية وما يحكمها من ثقافة وخبرة تاريخية تجاه النزاع مع الشعوب المجاورة، إلا أن مساحة أخرى للاتفاق مع كثير مما جاء فى كتابه ألخصها فى النقاط التالية: 1. أننا ندرك الأشياء بطريقة انتقائية وبما يتفق مع منظومتنا المعرفية. مثال ذلك ما يمكن أن يحدث مع شخص عاد يقرأ الصحف قراءة عابرة، يقع نظره على خبرين: أحدهما عن محاولة قتل فاشلة لفنان معروف، والثانى عن معارك وإنقسامات حزب الوفد، فقد يشد الخبر الأول اهتمام القارئ فيطالع تفاصيله، بينما ينتقل إلى صفحة تالية دون النظر إلى الخبر الثانى. الأمر هنا متعلق باستعداد القارئ وخبراته واهتماماته، وليس بأى الخبرين أهم أو أكثر تأثيراُ فى حياته ومستقبله. 2. نحن نميل لأن نرى وندرك بطريقة لا تقلق نظامنا المعرفى المستقر إلا فى أقل حدود ممكنة. 3. ونميل أن نفسر ما نلاحظه بطريقة تتفق مع حالتنا الذهنية الخاصة. 4. ونحن لا نتقبل بسهولة الحقائق غير المتوافقة إذا كانت منظوماتنا المعرفية تؤدى المهمة التى يفترض أن تؤديها. وعلى ذلك بينما قد يصف الخبر المذكور ذلك الفنان بأنه كان ضحية مؤامرة الزوجة التى أرادت التخلص منه، فإنما القارئ العادى يستنتج أن ذلك ما هو إلا الثمن الفادح الذى يدفعه الفنان نتيجة مواقفه المعارضة. وربما قارئ آخر تقوده رومانسيته إلى أن الحادث دراما صارخة عن فشل الحب وتفكك الأسرة وليس له ثمة علاقة بالسياسة والمعارضة. 5. إن ما نراه فى الحقيقة أكثر بكثير مما تصادفه أعيننا. ذلك أن الجانب الأكبر من الإدراك يبدأ بنوع من المنبه المحدود يؤدى فى الواقع إلى إطلاق مجموعة من الخبرات السابقة ليؤلف منها الصورة الكاملة. وقد يكون المنبه كلمة أو رمزا أو صورة، ويكون على العقل أن يضيف إليه أجزاء حتى يستكمل المشهد, ومن هنا يأتى احتمال الخطأ فى الادراك. 6. نحن نفترض ودون وعى بأن طريقتنا المعتادة فى التفكير هى جزء من الطبيعة البشرية، فنتصور بالتالى أن ما نراه نحن بطريقة معينة لابد وأن يراه الآخرون بنفس الطريقةُ، وهنا تبدأ المشكلات. 7. فى سبيلنا لفهم ما يفعله الآخرون فإننا ننسب إليهم بصورة تلقائية دوافع معينة لا تعبر إلا عن خصوصيتنا الثقافية ومنظومتنا المعرفية. ويبدو أن الآخرين ينسبون لنا أيضاُ دوافع غير صحيحة سواء بالسذاجة أو عن عمد. إنه "تخصيص الدافع"، وهو نوع من الإسقاط ذو أهمية خاصة فى العلاقات الدولية، خصوصاُ فى المواقف التى يطغى عليها تباين الثقافات. 8. إن اختلافات اللغة كمؤثرات فى الإدراك والتفكير لها دور أكبر مما نحسبه أونتوقعه. ذلك أن الألفاظ ماهى إلا تركيبات ذهنية مصغرة لها دلالاتها، فإذا ما أستخدمت فى غير حذر ودقة لتسببت الترجمة فى سوء فهم التصريحات الرسمية أو التقارير الإخبارية. ناهيك أنه باختيارك لكلمات بعينها تكون قد وضعت برنامجاُ مختلفاُ لمعالجة الموضوع وحددت انحيازك المسبق. فالفارق كبير بين استخدامك لكلمات مثل المقاومة المشروعة أو العمليات الإرهابية، أو قولك النزاع مع الشعوب المجاورة بدلاُ من النزاع فى الأرض المحتلة. أو أن تقول عن استهداف المدنيين بطائرات الدرونز " الأضرار المصاحبة". يزداد الأمر تعقيداُ إذا ما كان الكلام عن مفاهيم معقدة ثقافياُ مثل حقوق الإنسان، تمكين المراة، الديمقراطية، وتحديث الخطاب الدينى.
وبشكل أو بآخر يتفق مع هذه الرؤية "د. فيرتزبرجر" الذى يؤكد فى كتابه "العالم فى أذهانهم" ما للأبعاد الثقافية من دور فى عمليات التفكير والإدراك ومعالجة المعلومات بشأن اتخاذ القرارات فى شئون السياسة الخارجية. وهنا يضيف أستاذ العلوم السياسية الأمريكى "د. إدوارد ستيوارت" بعداً آخر أسماه "البرمجة الثقافية" الأساسية أوالثقافة العميقة والتى يصفها كجذور النبات تحت السطح تغذى الثقافة السلوكية والعامة وتعطيها خصائصها المميزة. ويقصد بهذه الثقافة العميقة الأسس التى تبنى عليها المعتقدات ، ومنطق العقل والحكمة التقليدية للشعوب.
نجمل فنقول إن إشكاليات الثقافة والإدراك ستظل عقبة ضمن عقبات كثيرة أخرى حاكمة فى علاقاتنا المصرية الأمريكية، فسواء كان التعامل بين وزارات أو هيئات أو سفارات، فإن السياسة يقوم بتنفيذها أشخاص محكومين ثقافياُ.
#محمد_السعدنى (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟