محمد السعدنى
الحوار المتمدن-العدد: 4797 - 2015 / 5 / 5 - 23:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا تلق بهمتك على صغار الأمور فيمنعك ذلك من كبارها, ولا تشتغل بما يقل قدره فلا يكون فيك فضل لما يعظم شأنه. هكذا قال أحمد بن طولون فى نصح إبنه العباس. وكم فيك يامصر من عباس لمّا ينتصح، أو ألقى السمع وهو شهيد. ولعل محيطنا العام فى الإعلام والسياسة شاهد على أننا لانشتغل إلا بما قل شأنه وعز نفعه، وأننا شغلنا عن كبار الأمور بصغارها، وهو حال صنفته كتب التاريخ وفلسفة العمران والحضارة باعتباره حالة جزر ينحسر فيها عطاء المجتمع وتقل غلته المعرفيه ونتاجه الفكرى وحصيلته المادية، فلا يحقق فى مدارج الترقى إلا أهونه، ولا ينتقل من حال الندرة إلى حال الكفاية، ناهيك عن الوفرة والرفاهة، وهو نوع من الحمق والغفلة عاشته فى بداياتها بعض مجتمعاتنا، وسخر منه مفكرونا وكتابنا، وحوت كتب التراث نوادره ورواده ومفارقاته وحكاياه، فما بالنا اليوم نعيده من منتهاه، ونعتمده منهجاً للإعلام والسياسة وطريقة، يالغرابتها فى الحياة.
كان ب "سجستان" وهى ناحية بين إيران وأفغانستان، شيخ يتعاطى النحو. فقال يوما لابنه: إذا أردت أن تتكلم بشئ فأعرضه على عقلك, وفكر فيه بجهدك حتى تقومه, ثم أخرج الكلمة مقومة. فبينما هما جالسان في ليلة شتاء, والنار تتقد, وقعت شرارة في جبة خز "عباءة من حرير" كانت على الأب، وهو غافل والإبن يراه، فسكت الإبن ساعة يفكر ثم قال: يا أبت, أريد أن أقول شيئا, فتأذن لي فيه؟ قال أبوه: إن حقا فتكلم. قال: أراه حقا. فقال: قل. قال: إنى أرى شيئاً أحمر. قال: وما هو؟ قال: شرارة وقعت في جبتك. فنظر الأب إلى جبته وقد احترقت منها قطعة. فقال للابن: لم لم تعلمني سريعا؟ قال: فكرت فيه كما أمرتنى, ثم قومت الكلام وتكلمت فيه. فحلف أبوه بالطلاق أن لا يتكلم بالنحو أبدا! (من كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزى: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن جعفر). بالله عليك ألا ترى مثل نماذج هذا الإبن فى الحمق والغفلة فى كثيرين ممن يتصدرون حياتنا السياسية وإعلامنا من نخبة بائسة الفكر، شحيحة الحوّل، قليلة الطوّل، زلقة العقل، لايكفيهم مانحن فيه من حرب ضروس تشنها علينا جحافل الإرهاب من خوارج العصر، إخوان الشياطين ومناصريهم فى الداخل والخارج، فإذا بهم يتصدرون فى التوافه، ويتنطعون حيث لامقتضى، تأخذهم الغفلة حيث لامورد، ويدفعهم الحمق إلى غير طريق، يهرعون حينما يجب التروى، ويتباطؤن حيثماً تستوجب العجلة، كما فعل صاحبنا إبن النحوى فى سجستان، فتسبب بغباءه وغفلته فى احتراق كان يمكن تداركه لو أعمل النصيحة فى مكانها وأدركها فى توقيتها. وقس على ذلك مانعايشه من عجائب الإعلام والسياسة فى بلادنا المنكوبة بنخبتها وحكومتها وبعض رجالها. وأعان الله الرئيس فيما هو فيه ومانحن عليه، وإن كنت لاأعفيه هو وأجهزته، من مسئولية أمام الوطن والتاريخ على مثل هذه الاختيارات البائسة لمن يتصدرون معه الصورة ويشاركونه المسئولية، ولا تقل لى أن مصر عقمت الكفاءات وتم تجريفها، فهذا كلام تدارى به الأجهزة عجزها وإغراضها فى ضحالة الإختيار. ولا تتحجج بأن القادم أفضل، وانها مرحلة تمر وسنأتى برجال الدولة المؤهلين بعدها، فذلك كلام لايصمد لعقل، وهو أشبه بما فعله صاحبنا فى سجستان، الذى جاء كلامه بعد حريق جبة أبيه الذى طلق بسببه النحو، مهنته وعمله.
حقيقة الأمر، أنهم يستسهلون استوزار واستوظاف المديوكر البوسطجية غير القادرين على صنع القرار فهم أسلس قياداً، لكن كلفة وجودهم على الوطن ومسئولياته أكبر خطراً وأعمق أثراً. وهم يتسببون فى زعزعة المجتمع وتأرجح قناعاته أكثر مما يعوقون تقدمه وتحقيق طموحاته، ويخصمون من شعبية الرئيس ويحبطون الناس الذين تتجاذبهم الفكرة ونقيضها ويتخاطفهم التصريح وعكسه، ويصيرون مثل أولئك فيمن ذكرهم إبراهيم بن محمد البيهقى، فى كتابه "المحاسن والمساوئ" إذ يقول: كان لرجل من المعتزلة جار يرى رأى الخوارج, أى يعتقد مثلهم، كثير الصلاة والصيام, حسن العبادة. ذات يوم فقال المعتزلى لرجلين من أصحابه: مرا بنا إلى هذا الرجل فنكلمه, لعل الله يهديه من الضلالة. فأتوه وكلموه, فأصغى إلى كلامهم. فلما سكتوا لبس نعله, وقام ومعه القوم حتى وقف على باب المسجد. فرفع صوته بالقراءة, واجتمع إليه الناس. فقرأ ساعة حتى بكى الناس, ثم وعظ فأحسن, ثم ذكر الحجاج فقال: أحرق المصاحف, وهدم الكعبة, وفعل وفعل, فالعنوه لعنه الله! فلعنه الناس ورفعوا أصواتهم. ثم قال: يا قوم, وما علينا من ذنوب الحجاج ومن أن يغفر الله له ولنا معه. فإنا كلنا مذنبون. لقد كان الحجاج غيورا على حرم المسلمين, تاركا للغدر ضابطاً للسبيل, عفيفا عن المال, لم يتخذ صنيعة, ولم يكن له مال. فما علينا أن نترحم عليه, فإن الله رحيم يحب الراحمين! ثم رفع يده, ودعا بالمغفرة للحجاج, ورفع القوم أيديهم, وارتفعت الأصوات بالاستغفار. فلما فرغ الخارجى وانصرف, ضرب بيده إلى منكب المعتزلى وقال:هل رأيت مثل هؤلاء القوم ؟ لعنوه واستغفروا له في ساعة واحدة! أتنهى عن دماء أمثال هؤلاء ؟! والله لأجاهدنهم مع كل ما أعانني عليهم!
موقف الخارجى هنا هو نفسه منهج الإخوان، وتلاعبهم بالحجة ونقيضها، ولعبهم على أوتار فضائل الدين عند بسطاء الناس حتى تمكنهم من التلاعب بعقولهم وذبذبة مواقفهم. وهو نفسه منهج الإعلام والسياسة فى بلادنا، إن صح أن لهما منهج. وكما ترى مما ذكره البيهقى، أن الناس دعوا فى ساعة على الحجاج بن يوسف الثقفى، ثم دعوا واستغفروا الله له. أليس مثل ذلك، من أسف ومن حمق وغفلة، يحدث بيننا؟. وحتى نفهم ولا يستغلق علينا شئ ممنا سردناه فى الحكاية السابقة، فالمعتزلة فرقة كلامية أسسها بداية القرن الثاني الهجري (80 هـ- 131 هـ) في البصرة، مولانا واصل بن عطاء الله السكندرى، الذي كان يعقد مجالسه ودروسه للرد على بدع الخوارج وأضاليلهم. والمعتزلة أهل عقل لا نقل، كان تأكيدهم على التوحيد والعدل الإجتماعي، ما أعطاهم أهمية لدى الناس في عصر كثرت فيه المظالم وتغييب المنطق والعقل.
أما الخوارج، في عبارة الشهرستاني، هم كل من خرج على الإمام الحق الذى اتفقت الجماعة عليه, سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين, أو كان بعدهم على التابعين والأئمة في كل زمان, ويجمع الخوارج، كما يقول الشهرستانى أيضاً على التبري من عثمان وعلى, ويكفرون الكبائر, ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة حقا واجبا.
عطف على ماقاله ابن طولون لولده العباس، فقد كثر العباسون فى بلادنا على حمقهم وغفلتهم وقلة عطائهم وانحراف منحاهم، وتطاولوا فى البنيان حتى سدوا المنافذ على كل النابهين والمؤهلين والكفاءات والعلماء، فأصبح حالنا كما قال حافظ إبراهيم: ويهضم فينا الإمام الأريب، ويكرم فينا الجهول الغبى.
#محمد_السعدنى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟