محمد السعدنى
الحوار المتمدن-العدد: 4784 - 2015 / 4 / 22 - 00:41
المحور:
الادب والفن
والأرض فين لما بترمى ف سنبلة بشاعر نبيل. كنا عيالاً لم تزل أعوادنا خضر، نضرب بجد فى رحاب الوطن، كان الوطن فسيحاً، ولم نكن وصلنا مرحلة الفطام السياسى بعد، وكان يلقمنا زاداً لرحلة النضال، أبداً لم يكن بخيلاً مع جيل تكون وعيه فى رحاب جمال عبدالناصر ومشروعه الوطنى للتحرر والنهضة والبناء، كنا عيالاً نضرب فى الأرض على بوابة الوطن، وكان هو حارساً ضمن حراس بوابة الأرض والعيال، أمل دنقل وصلاح عبد الصبور وصلاح جاهين، وأحمد فؤاد نجم، وفؤاد حداد، وعبد الوهاب البياتى، وملك عبد العزيز ونازك الملائكة والفيتورى ومحمود درويش وسميح القاسم ونزار قبانى وأحمد عبد المعطى حجازى ومحمد مهران السيد ومحمد إبراهيم ابو سنة وسيد حجاب وزين العابدين فؤاد، رأيناه فى وجوه على الشط، والأرض والعيال، وحاورناه فى الزحمة مع أحمد سماعين، وبعد التحية والسلام، قابلته أنا والناس فى السد العالى مع حراجى القط وفاطنة أحمد عبد الغفار فى منزلها الكاين بجبلاية الفار تحتضن عزيزة وعيد أبناء الشقاء والكفاح والغربة فى عيون الوطن، وفى الفصول والموت على الأسفلت، عشنا معه ورفاقه المد والجزر والمشروع والممنوع، كان حارساً لنا من أن تعقرنا الكلاب، وكان حائط الصد يطل علينا بعد أن ضرب المشيب رأسه من وراء المربعات وهو لايزال قابضاً على جذوة الشعر والنضال والحرية.
كان أبانا الذى فى سموات الوطن وعلى الأرض. كنا مفتونين بالثورة وجمال عبد الناصر نغنى لها وله مع عبدالحليم حافظ. ربما لم نكن نعى بعد عمق النكسة، لكن كانت مناولتنا الأولى على يديه فى عدى النهار والمغربية جاية تتخفى ورا ضهر الشجر، وعشان نتوه فى السكة شالت من ليالينا القمر، وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها، جانا نهار مقدرش يدفع مهرها، ياهل ترى الليل الحزين أبو النجوم الدبلانين، أبو الغناوي المجروحيين، يقدر ينسيها الصباح أبو شمس بترش الحنين، أبدا... بلدنا للنهار... بتحب موال النهار، لما يعدي فى الدروب ويغني قدّام كل دار.
عرفته أول مرة فى الأرض والعيال، أهدتنى الديوان رفيقة العمر وزوجتى بعد ذلك الدكتورة أمانى يوسف، ومعه جوابات حراجى القط، والغريب لألبير كامى، واسطوانة ألف ليلة وليلة لريمسكى كورساكوف. لم نكن نتهادى فى مراهقة الحب بـ "الدباديب" العبيطة. كنا نقرأ ونتبادل الكتب واسطوانات الموسيقى، كنا نغنى مع الشيخ إمام أعمال فؤاد نجم ورجعوا التلامذة ياعم حمزة للجد تانى، يامصر إنتى اللى باقية وانت قصد الأمانى، ونغنى لزين العابدين فؤاد اتجمعوا العشاق ف سجن القلعة، اتجمعوا العشاق ف باب الخلق، والشمس غنوة من الزنازن طالعة، ومصر غنوة مفرعة ف الحلق، اتجمعوا العشاق ف الزنزانة، مهما يطول السجن مهما القهر، مهما يزيد الفجر بالسجانة، مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر .
كنا نقوم بمسرحة أعمال أمل دنقل ومحمود درويش فى قصر ثقافة الحرية، إبن مشروع الثقافة الجماهيرية، وقررت مسرحة جوابات حراجى القط، ومن أسف لم تصرح لنا الجامعة بالعرض، وتحايلنا على الأمر واستعوضناه بعرض الفيل ياملك الزمان لسعد الله ونوس. كنا نصدر جريدة الحوار برئاسة المناضل المرحوم عاطف جلال، وكان معنا المرحوم د. محمد عباس منسق كفاية بعد ذلك، ويونس عبادى وعبدالعزيز عمار وخميس عبد العزيز وحمدى ياسين نائب رئيس مجلس الدولة فيما بعد، ولما توقفت وصودرت، رحت أنا وعصام السعدنى ومحمود بيرم وأمانى يوسف وخالد سعد وإيمان صيام وحورية البدرى وعبد الفتاح السيد وأحمد طلعت بن أبراهيم طلعت، نصدر مجلة الرسالة، إحياء لرسالة أحمد حسن الزيات. كنا لانعرف القعود ولا المهادنة، ولما شعرنا باليتم بعد وفاة ناصر أخرجنا الرسالة ولما توفى عبد الحليم حافظ، صوت الثورة، قررنا أن يكون العدد تعبيراً عن 23 يوليو ومشروعنا الناصرى، ورحنا نعد نعياً لحليم فى عدد ساخن تمت مصادرته فى المطبعة، لكننا طبعناه "استنسل" ووزعناه فى الجامعة والشوارع ودفعنا الثمن. وكانت مقدمتنا لإنتفاضة 18 و19 يناير 1977 التى كانت ضد السادات وبدأت شرارتها من الترسانة البحرية وجامعة الإسكندرية، هكذا ذكرنى المستشار محمود بيرم نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية من أسابيع. جاءنى صوته مساءً عبر التليفون يذكرنى أنه مر على الرسالة 38 عاماً، لم أكن أحسب أننا إلى هذا الحد هرمنا فى حب هذا الوطن. هزتنى كلماته فى عتاب رقيق، لماذا لم تكتب عن الرسالة؟ وهى التى كانت محرضاً على أحدات إنتفاضة يناير ومقدمة لها. لم يكن هذا فى بالى ولا تقديرى، لكن الكتابة عن الأبنودى ردتنا للكتابة عن الحركة الوطنية الطلابية وارتباطها العضوى مع الحركة العمالية والشعر والفن يتصدران الثورة.
والأرض فين لما بترمى ف سنبلة بشاعر نبيل، هكذا جاءت كلماته فى مقدمة ديوانه الأرض والعيال الذى أهداه إلى فؤاد حداد. وعرفنا بعدها أن النبل كله تجسد فى الأبنودى الذى قام بجمع رباعيات صلاح جاهين وأصدر له أعماله الكاملة عندما أكتأب بعد النكسة، فأراد الأبنودى أن يعيده لحضن الحياة والشعر والثورة. فى ذلك الوقت كان جاهين أمين خزانة شعر الثورة وصوتها، بينما كان الأبنودى على نقيض عبدالناصر ودخل السجن لذلك، لكن النبل والوطنية دفعاه لجمع أعمال جاهين ونشرها، كما دفعاه بعد ذلك لرد الإعتبار لجمال عبدالناصر وثورته ومشروعه الوطنى. كان مختلفاً مع عبد الناصر، لكن ذلك لم يمنعه من تمجيد مشروعه لبناء السد العالى وقدم ملحمة وطنية ألهمت جيلنا كله والأجيال اللاحقة.
عشرات المرات احتشدت للكتابة عن عبد الرحمن الأبنودى، أشعاره وأفكاره ومواقفه، ووجدتنى أكتب عن مصر ومسيرتها وثوراتها، ذلك أنك لاتستطيع الكتابة عن مصر دون الأبنودى ولا الكتابة عنه دون مسيرة نضال طويلة للشعر والفن والسياسة والثورة والوطن، لأنه كما قال فى مربعات التحرير، بحر السياسة غويط.. ماكر، أما اللي فوق البر شديد، زي اللي بيبيعوا تذاكر، وعمرهم.. ماسافروا بعيد!!، لكن الأبنودى سافر دائماً لأبعد نقطة فى كفاحه ضد الفاشية الدينية وحكم الإخوان، وجاءت كلماته لرئيسهم جارحة واضحة صريحه: الجِبَّة واسْعة على مَعَاليك، والكُرْسى مِتْهزّ.. مَقَامُه، رجَّعْتنا لْزَمَن المماليك، يرحم قَراقُوش وِايَّامُه!! وهو الذى قال: مش كنت حالِف ما تِتْفرعَن ولا تْخالِف؟ كام مرّة خَالفْت حِلْفاَنك على الدستور؟ حَالِفْت كل المِلَلْ.. وحْلِفْت ما تحالف..أهالينا.. مِنْ سلطنوك على روسنا يا الدّكتور!!. ورغم إيمانه الشديد بعبد الفتاح السيسى ودعمه له، ورغم سؤال السيسى عنه فى مرضه واهتمامه، فإن الأبنودى الذى أزعجه رفع الدعم والغلاء الذى أتى على الفقراء لم يتردد فى كتابة قصيدته "مرسال" عاتباً على الرئيس: يا أيها القبطان قانون البحر متخفش على الصارى وخاف على اللحم.
عندما تكتب عن الأبنودى فإنك لامحالة تكتب عن وطن عشقه الحياة والحرية، ولا يسعك إلا أن تهتف: والأرض فين وفين لما بترمى ف سنبلة بشاعر نبيل. الله يرحمك ياخال.
#محمد_السعدنى (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟