صفوت فوزى
الحوار المتمدن-العدد: 4838 - 2015 / 6 / 15 - 08:13
المحور:
الادب والفن
خلع عنها ملابسها . خلع ملابسه .اتخذ مكانه على الكرسى المجاور للطاولة الصغيرة .بقايا مأكولات، علب سجائر مختلفة الماركات ، مناديل ورقية ،كتب ، اسطوانات موسيقى ، صور لنساء بملابس البحر مقصوصة بعناية من مجلات قديمة ، وفى الركن تستقر أدوات القهوة .
أشعل الموقد الكحولى ، وضع فوقه الكنكة الملآنة بالماء ، أضاف ملعقة البن ، وراح يرنو مترقباً لحظة الفوران . فى اللحظة المناسبة يخطفها من فوق النار ويصبها فى الفنجان .
أشعل سيجارة ، نفث دخانها بعمق فيما راح – على مهل – يرشف قهوته ، يستحلب طعمها العبقرى . مرارتها تذوب فى سكرها وتسرح فى كيانه كالسرور.
ضغط زر التشغيل . انسابت الموسيقى عذبة ناعمة تتسلق الجدران ، تعانق مئات الملابس النسائية المعلقة فى مشاجبها تدلك روحه المتعبة .
الحاجة الحارقة للتواصل الجسدى ، والاحتياج الممض للاحتضان والدفء يغدوان الآن ألماً واخزاً كاوياً لا يطاق .
تعلو الموسيقى فى ايقاع متسارع . خدر لذيذ يسرى فى أوصاله ، يلمس منابت العصب . ينهض من مكانه ، ببطء يتحرك نحوها ، يده اليسرى ترقد حانية فوق خصرها النحيل ، واليمنى تتشابك مع يدها اليسرى . منتشياً يدور ، ويدور ، ويدور .
هنا فقط يعرف معنى أن يكون حراً ، على راحته ، يحاول أن يفك شفرات شفتيه ، يعالج اختناق الكلمات وتلعثم الحروف . يلقى وراءه أرق الليالى ، ملوحة أيامه ، وظمأ الروح .
هنا كان ينسل من شرنقة الوحدة كاملة الغزل ، يقضى الساعات فى حوار طويل صامت ، مع الستائر ، والأضواء ، والأكواب ، وعلب السجائر ، والصور، والأغانى ، والوقت المتمدد فى لزوجة على الجدران ، والأبواب ، وساعة الحائط .
ضجيج المارة ، وغبار الطريق ، وبقايا اليوم المتصاعدة من المدينة الراقدة فى الظلام ، يأخذونه جميعاً فى رحلة عبر مكانه وزمانه ، رحلة مكررة من الكشف المحبط والتحقق المستحيل .
هنا فقط كان يمكن أن يغمض عينيه ، لكى يحتفظ بلذة الانتصار على مكامن
خوفه واحساسه الباهظ بالألم .
• • •
اليوم، وقد خلا البيت منها . أتقلب فى فراشى للمرة الألف ، تختلط اليقظة بالحلم ، فى فمى طعم صابون رخيص ، القلب مهجور كبئر جف منها الماء . انظر كل مرة الى الفراغ المجاور لسريرى ، آملاً أن تكتحل عيناى برؤية وجهها الطيب ، فلا أرى سوى الفراغ والوحشة والحزن المقيم .
كانت تملأ البيت أنساً ودفئاً ، بهجة وحضوراً . كان حضورها طاغياً ، والآن لا شيء . صار البيت مجرد جدران جهمة تخنقنى .
متثاقلاً مكرهاً أنهض من مكانى ، أجرجر قدماى الى المطبخ . هنا كانت جلستها المفضلة . تنسل فى لطف من تحت الغطاء . تعد فنجان القهوة ينضج على نار هادئة ، والصبح يسند خده على الشباك . واذ تشرب قهوتها ، تشيع فى ملامحها رقة وأسى .
لقد ماتت السيدة . هذا شيء تقوله كل طوبة هنا . كل الفناجين الفارغة ، وأوانى الطبخ المتروكة . صار البيت خانقاً ، ليس فيه مكان يأوى اليه القلب .قهر صامت ناعم لا يقيم حولى سوراً ولا يغلق على باباً بل يسرى فى روحى كالمرض .
" عييييييب . غمض عينيك . تقولها مداعبة وأنا أدفع الباب برفق فأراها جالسة فى الطست على كرسى تغتسل . جلست قبالتها وهى واصلت استحمامها . أحببت جسمها . الحمام يشيع فى سماره وردية يانعة ، وهى تحممه باعتناء وحنان . وعندما انتهت جففت نفسها متأنية . قلت فى نفسى أن المرأة كائن نبيل . من يومها صارت أنثاى "
مهزوم أنا حتى النخاع . وحيداً فى عراء الكون . فى قلبى ذات الفراغ الذى تعانيه الدار بعدما عرفت طويلاً صخب الحياة وثراءها .
صار الحنين اليها خبزى اليومى وقهوتى الصباحية . أرتدى ملابسى . أذرع شوارع المدينة وطرقاتها . أبحث عن وجهها بين العابرين .
وجه أمى حنون كما لم يكن وجه أم . وحده ثوبها ، لا يشبه أى ثوب آخر ، ابتسامتها لا تشبهها ابتسامة . وحدها أمى المرأة الناحلة بالجديلة المحناة التى تنفلت من تحت ايشاربها ، أروع النساء .
تنكرنى الطرقات . تقفر الشوارع والميادين ، تنسحب الأصوات والأضواء . الخيبة تخرج لسانها لى وتفر .
آلاف من علامات الاستفهام تركت لى غموضها وحيرتها ، أذرع مكانى معكر الخاطر ، مدججاً بسؤالاتى وشكوكى , مثخناً بأوجاعى وهمومى . فراغ لا يدفع ، انه اليتم الذى اذا أصاب القلب استقر هناك ولم يبرح .
تقودنى الأسئلة المراوغة الى رجل الدين : هل صحيح ما علمونا اياه من أننا سنبعث احياء بعد الموت ونلقى احباءنا الراحلين ؟
يرد الرجل : هذه حقيقة مطلقة . ويقول ، ويقول ، ويقول .
ترتفع قبة الكنيسة ، تكبر وتتسع حتى تتلاشى فى الظلام . تباعدت الجدران والأعمدة . تبهت الألوان والأضواء وتتمازج حتى تذوب . ثم رأيتنى المصلوب والصليب تتطاول أذرعه نحو اللانهايات الأربع ، وأنا فى نقطة التقاطع .
•••
عندما كسروا الباب عنوة ، كان المشهد مروعاً . تماثيل العارضات معراة وقد ثقب ما بين أفخاذهن . جسده الناحل الممصوص مكوم على الأرض وقد انثنت ركبتاه حتى لامستا ذقنه ، وخيط دم قان ينسال من رسغ اليد . غير بعيد كانت بقع متفرقة من سائل أبيض لزج تتناثر على الأرض ، فيما كانت موسيقى صاخبة تملأ المكان
-----------------------------
#صفوت_فوزى (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟