أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - فندق شارون الفصل الثاني















المزيد.....


فندق شارون الفصل الثاني


أفنان القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 4828 - 2015 / 6 / 5 - 21:14
المحور: الادب والفن
    




كان صباح الغد بشمس الليل مشرقًا، فنزل يوسي لتناول طعام فطوره مبكرًا. ولقاعة الطعام الفارغة، أخذ من المتعة، ولم يعط، في اختيار الطاولة التي تلائمه. بدءًا ذي بدء جلس قرب انتزع المفتاح من يده، باب مدخل الفندق، لينهض بعد دقيقتين، وهو يتظاهر بالانزعاج من مجرى الهواء. ثم تردد أمام طاولة وسط القاعة، قبل أن يآثر الجلوس أخيرًا قرب جدار مزجج يستطيع منه النظر إلى المارة. كان صموئيل، في مكتب الاستقبال، يتابع تحركاته بقلق، لكنه يرغم نفسه على عمل تكشيرة باسمة كلما جاءت عيناه في عينيه، حتى أنه شجعه:
- انعم بما لا أحد ينعم، لك الخيار، فكل الأيام ليست هكذا!
بدا يوسي راضيًا باختياره، لا أحد يشاطره العيشَ حُلْوَهُ وَمُرَّه، وهناك من حيث هو يرتفق، كان يمكنه أن ينعم على هينته بالنظر إلى الفتيات الجميلات الذاهبات إلى الشاطئ، وهن في أكثر من خفيف اللباس، ولم يمنع نفسه من الصفير تعبيرًا عن إعجابه عندما تتوافق إحداهن مع معايير الجمال الأنثوي لديه. لاحظ صموئيل أن يوسي قد بدل بدلته بشورت وقميص ملون، ما يكفي من الإشارات التي لا تخدع: كان يرمي إلى قضاء عطلته هنا وإلى الاستمتاع بالوقت ما طاب له ذلك. سيسأله صموئيل عن هذا الموضوع فيما بعد، يكفيه في الوقت الحاضر ما عبر يوسي عن الاحتفاظ بغرفته لأسبوع، فمن يدري؟ هل سيمدّد إقامته إذا ما شعر بالارتياح؟ وهو على أي حال لن يكون في الشيراتون أفضل بينما ينعم في الشارون بكل انتباهه وانتباه نجا. في تلك اللحظة، أطلق يوسي صفيرَ المنخطفةِ روحِه، فذهب السيد شارون بعينيه نحو موضوع إعجابه. في الماضي، حتى هو كان يركع إعجابًا أمام كَفَل مخلوقة البيكيني الساحرة التي تتمايل بكرم قارعةً الطريق بصندلها، والتي تضحك عاليًا لنكت الشخص المرافقها. للشكليات، لا شيء غير الشكليات، غمز صموئيل يوسي غمزة متواطئة، في الوقت الذي حيا فيه بصمت الروح المعنوية الصحية لزبونه. إذا ما كان على مستوى تعليقاته الفاحشة، فلن يتأخر عن دعوة إحدى غزواته إلى طعام الغداء في الفندق، وهذا يعني ما لا يدحض من برهان على أن الزبائن كفوا عن الحرد.
دومًا ما قال له جده موشيه، مؤسس فندق شارون: "قاعة طعام فارغة تُهَرِّبُ الزبائن، حتى أولئك الذين يبحثون عن الهدوء". تذكر صموئيل الطرفة التي غدت للعائلة طرفة الطرف: في الأسبوع الأول من افتتاح الفندق، دعا موشيه كل أفراد عائلته وكل أصدقائه المقربين إلى المجيء للأكل، ومن التعليمات استلموا كلهم أن يتظاهروا بعدم معرفة جيران الطاولات التي تنتصب من حولهم، بشكل يوحي إلى أن قاعة المطعم مليئة بالزبائن. ليبدو الأمر طبيعيًا، وليتركوا مكانًا للزبائن "الحقيقيين"، كانوا يصلون في مجموعات صغيرة كل نصف ساعة. سهر موشيه وزوجته على خدمتهم "رسميًا" أكثر ما يقدران عليه، وهما لا يكلان عن قول "يا سيدي" و "يا سيدتي" طوال السهرة. بعد يومين، بدأت المناورة تمشي، وأخذ الزبائن "الحقيقيون" يحلون للقاعة المفعمة الجاذبة إياهم. كان ذلك من الزمن أطيبه، تنهد صموئيل، وهو ينظر إلى السمراء التي صفر لها يوسي.
في تلك اللحظة ظهرت نجا من باب المطبخ، وهي على استعداد لتأخذ طلب يوسي، ففاجئت نظرة الرجلين المثقلة بالشبق، وتظاهرت بمظهر المصدومة.
- انظرا إلى ابنة الشوارع تلك! ألا يمكنها ارتداء شيء أكثر؟ حمدًا لله أننا في تل أبيب لا في القدس، في القدس سيبصقون عليها!
فرقعت بحدة مطاط بيكينيها، وجاءت لتنزرع أمام يوسي.
- هل اخترت؟ سألت بدلع.
- هل تقدمون الفطور الإسرائيلي كما هو في الشيراتون؟
طبعًا لم يمنع يوسي نفسه عن لفظ الاسم اللاسع كالقدر، كما لو كان يذكّر بتركه الفندق تهديدًا لم يختف تمامًا. أخذت أذنا صموئيل تطنان، فنهض متذمرًا: لن يكون أحد لنجا أكثر منه عونًا لإحضار كل الأطباق التي يتكون منها فخ السياح هذا، الفطور الإسرائيلي الشهير. فكرة على فكرة لغرفة السياحة! وإذا ما كانت نجا من رأي زوجها، فهي لم تبد من الامتعاض شيئًا. على العكس، أيدت اختيار يوسي:
- كم أنت محق، رجل مثلك بحاجة إلى قوة!
بعد غمزة وغنجة، سارعت باللحاق بزوجها في المطبخ، وما لبثا أن ظهرا، وأذرعهما مثقلة بالصواني. فواكه، سلطات، كل أنواع الخبز والفطائر، لحم بارد، أجبان، بيض مخفوق، بيض مسلوق: أرادت نجا أن تظهر ما هي قادرة عليه، ومكافأة على جهدها رافق يوسي بسحنة المغتبط اقترابها.
- آه! الحق أقول إني لست نادمًا على المجيء هنا! بعد ليلة لذيذة، لا أفضل من فطور لذيذ للتصدي لنهار واعد.
نظر صموئيل إلى يوسي من قرنة عينه، ويوسي يبتلع عددًا لا يحصى من الفطائر والفواكه، بنصف السعر. على هذا المنوال، من الأفضل أن يدفع للزبائن مجيئهم إلى فندق شارون! ونجا التي لا تكف عن ترديد أن قطعهم الصحراء قد انتهى... كان أبعد ما يكون عن واحد متفائل بهذا القدر!
وكذلك، عندما انشق الباب عن رجل شكله عربي بما لا يقبل الجدل، أوشك قلبه على التوقف عن الخفق. مبعوث لعرفات؟ مشتر آخر؟ أو أسوأ، سائح عربي؟ على كل حال، مع نظارتيه الصغيرتين المدورتين ونظرته الثاقبة، كان للقادم الجديد رأس مثقف، وهذا يعني متاعب حتمًا.
أشاح يوسي بوجهه عن الشارع مؤقتًا، ليتابع القادم الجديد بعينيه. تقدم الرجل من صموئيل بخطوة مصممة، وتحولت ابتسامته المفتعلة إلى تكشيرة غير مصدَّقة عندما وقعت عيناه على اللافتة "ممنوع للعرب وللكلاب". خيم أمام منصة الاستقبال، متيبسًا كوتد، وسلوكه يخون سخطه، فقمع يوسي ابتسامة على فكرة أن أحداثًا مثيرة ستدور في بهو الفندق.
- هذا لماذا؟ تذمر صموئيل، دون أن يعيي نفسه بالقيام من مقعده.
- اعلم، يا سيدي، أنني أشجب تمام الشجب هذا النوع من الكلام العنصري، نطق الآخر بصوت جاف. قلبي ينقبض، ويدي ترتعش، نعم يا سيدي، على أكمل وجه، لأن مستقبل الإنسانية على ما يبدو لي قاتم بشكل رهيب.
يالله، شو تاني! لم يغلط صموئيل: الرجل ليسه فقط مثقف، ولكن مثقف مكلف في اعتقاده بمهمة تقويم الأخطاء. رمى نجا بنظرة مهددة، فاقتربت، وكلها ابتسام، كي تحول دون تدخله، ولا يجعل من هذا العربي شغله.
- عندما أرى هذا النوع من الكلام المكتوب على لافتتك، لا يمكنني أن أمنع نفسي من التفكير في كل الشعوب المقهورة التي كافحت للاحتفاظ بكرامتها، تابع الآخر بنبرته الطنانة. هل نسيت ألمانيا النازية ونجماتها الصفراء؟ هل نسيت السود الأمريكان الممنوعة عليهم باصات البيض؟
- لا تسخر، بصق صموئيل.
- تظنني أسخر؟ شكلي شكل واحد يسخر؟ إنساني، أنا، يا سيدي، وعندما أرى أنك تضع العرب والكلاب في نفس الطنجرة، لا يمكنني أن أمنع نفسي من التفكير في أن الإنسانية تتراجع إلى مصاف الحيوانات حقًا! العنصرية أرض الحيوانية!
- ولكني لست عنصريًا، احتج صموئيل. أنا لا أحب العرب، ليس الأمر سيان!
هزت نجا رأسها هزًا قويًا تعبيرًا عن موافقتها، وازدرد يوسي فطيرة جديدة.
- وإذن، لعلمك، اعرف أنني يهودي، أرخى الرجل، وهو يراقب ردود فعل محدثيه. أنا يهودي، واسمي سالومون.
ارتدى صموئيل رداءً ساخرًا، وإيش كمان؟ حقًا هذا العربي لا تنقصه الشجاعة، وهو يبدي استعداده لإنكار أصوله، وذلك لدعم اعتقاداته السياسو-إنسانية، لكن إذا ما تصور أنه سيجعله يبلع هذا على مثل تلك السهولة، فهو مخطئ!
- أنت يهودي؟ وأنا ملكة الإنجليز! عليك أن تثبت أنك يهودي!
- أن أثبت أنني يهودي؟ لو لم أكرس كل حياتي لهذه المعركة الأساسية الرامية إلى إقامة المحبة بين الشعوب، لاستدرت عائدًا من حيث أتيت أول ما قرأت لافتتك القبيحة. لكن بما أنني أصر على الإدلاء بدلوي الصغير في هذه القضية العظيمة، سأثبته لك، وبالشكل الأكثر فظاظة مهما كان، الوحيد الذي تستأهله.
وضع يده على دكانه، وتظاهر بإنزال بنطاله، فاقشعرت نجا، وأخفت وجهها خلف يديها، قبل أن تباعد أصابعها قليلاً قليلاً كيلا تُضيع شيئًا من المشهد. توقف يوسي عن الأكل، فقد نجح الآخر في قطع شهيته، بينما راح صموئيل يقهقه:
- أوقف سيركك، يا سيدي الحلو الكلام الذي ينسى أن المسلمين أيضًا كاليهود يختنون أنفسهم! أرني بطاقة هويتك!
- سيدي، أنا لا أسمح لك بالتحدث معي هكذا! قال الآخر بنبرة جليدية. خذ، بما أن قلبك جامد كالحجر، ها هي بطاقة هويتي!
لوّح سالومون بطاقته تحت أنف صموئيل الذي تناولها بهدوء، وأخذ يدقق فيها ليحكم في صحتها.
- سالومون بيكورارو؟ سأل في الأخير.
- نعم، هذا هو اسمي.
- مولود في الجزائر؟ عَمَلَ بعد صمت آخر طويل.
تبدل صوته بشكل واضح، فقد سبق له ورأى من المهاجرين اليهود جزائريين في الكنيس، لهم شكل الرجل الواقف أمامه، وقد كان يتساءل عن قدرات شعبه اللامتناهية على التكيف.
- على أكمل وجه، مولود في الجزائر.
- دين يهودي! وتريدني ألا أشك في هذا؟ قويٌّ من فبرك لك هذه الأوراق المزورة! عمل لا أجمل، لكنك تفهم جيدًا أنني لا أستطيع الوثوق بهذا.
- هذا ما فوق الحد، حاضرًا! لن أحتمل دقيقة أكثر سبي بهذا الشكل! سأذهب لأرى في فندق شيراتون، حتى ولو دفعت ثلاثة أضعاف أغلى. على الأقل سأنام مرتاح البال لأني لم أكفل سلوكًا معيبًا، سلوكك! أضف إلى ذلك، هناك رائحة خبيئة في فندقك!
قال ما توقعتْ أن يقول، فأطلقت نجا صرخة صغيرة، واندفعت نحوه:
- انتظر، يا سيدي العزيز! هذا لأنك لا تعرف زوجي تمامًا، أنت تظنه هكذا! والحق أنه بين كل الرجال هو الأفضل! ثم، ماذا تتخيل؟ أن فندق شيراتون لن يفحص هويتك؟ موظف الاستقبال نفسه ربما كان من الموساد! اسمح لي لحظة، أضافت، وهي تسحب زوجها إلى المطبخ.
- ماذا جرى لكَ؟ وكأنك تعمل عن عمد على إفلاس الفندق! لم أركَ موسوسًا كما رأيتك اليوم!
- نحن لن نقبل عربًا هنا تحت حجة أن الفندق لا يمشي حاله هذه الأيام!
- ليس هذا ما قلت! لكن هو، عملت حركة باتجاه الباب، ربما هو يهودي، بعد كل شيء! كل هذا، لأنك لا تريد تصديق مفعول صمغ الصبر. أقول لك، وأعيد عليك، الأرواح العربية تترك الفندق، والنزلاء لن يتأخروا عن المجيء. هل تعتقد أن هذا محض صدفة مجيء زبونين جديدين في يومين متلاحقين؟ أمس يوسي واليوم هذا؟
إذا كان صموئيل قادرًا على العناد، فهو بالمقابل، لأجل عيني نجا، لم يكن قادرًا على الصمود.
- طيب، صحيح أن هذا نرفزني بشكل خاص مع كلامه المنفوخ وشكله أنا-أعرف-كل شيء، أنا متفق معك على أن يقيم هنا، لكن أبدًا لن نعطيه غرفة جيدة، وأكثر أن نخفض الأسعار! هكذا سيدفع لكل ما يأكل الآخر! وإذا كان هناك مشكل فيما بعد، فلا تأتي لتشتكي عندي.
- إذن يجدر بنا الذهاب في الحال، قبل أن يأخذ هذان الاثنان بالثرثرة، ويوشك يوسي أن يقول له السعر الذي أعطيناه إياه أمس، فيكون سُعرنا! اتركني أتصرف، وإلا ذهب الجديد إلى الشيراتون دون رجعة.
أخذت نجا إدارة العمليات بيدها، وكوسيلة احتياطية، سحبت زوجها إلى مكتب الاستقبال، وصموئيل يبدي سحنة مقطبة، لا إنتاجية، بينما هي بدت نبيهة وفعالة.
- وهكذا حللنا المشكل! ألقت مرحة باتجاه سالومون، غرفتك جاهزة، وسيعينك زوجي على حمل حقائبك، أليس كذلك، يا صموئيل؟
كل ما أعطاه صموئيل من جواب كان نخيرًا. تناول مفتاحًا عن اللوحة، وألقاه في اليد التي يمدها سالومون، وهو يتفادى لمسها. ثم دعاه إلى اللحاق به، بحركة من رأسه. اختفى الرجلان في الدرج، وقطعا الممر بصمت: صموئيل يجرجر الحقيبة أكثر مما يحمل، غير مبال بالضربات على الجدار مع كل خطوة. توقف مقابل الغرفة التي يحتلها يوسي،انتزع المفتاح من يده، وفتح الباب بحركة مباغتة. وأكثر من أن يضع الحقيبة، رماها على الأرض.
خطا سالومون في الغرفة خطوة، واستدار ساخطًا:
- لكنها صغيرة! وأنا لا أرى الحمام!
- على المِسطحة، هناك، أوضح لسالومون مشيرًا إلى باب، وهو مدفوع الثمن، يمكنك الحصول على فيشات في مكتب الاستقبال.
خرج سالومون في الممر ليرى "الشيء"، وهتف حانقًا:
- كما هو في المخيمات الصيفية! بالنظر إلى سعر الغرفة، ظننتها بدوش!
- إذا لم تكن مبسوطًا، فيمكنك الذهاب إلى الحمام! سأعطيك العنوان، في يافا، في العجمي. ربما ذكرك هذا بقصبة الجزائر، قهقه صموئيل بمراءاة.
اغتنمَ فرصة غياب نجا ليعود إلى الأعمال الحربية، فما من شك أنها كانت ستدقه بكوعها في خاصرته لاستفزاز كهذا. كان سالومون من الحكمة ألا يجيبه، واكتفى برميه بنظرة كحلاء جعلت الفندقي يخفض عينيه، وكنهاية لبداية، ذهب، وهو يغمغم. دخل سالومون الغرفة، وأقفل الباب من ورائه. جلس بكل ثقله على السرير، والسرير يصر تحته. نهض عابسًا، واتجه نحو النافذة الصغيرة. تأمل البانوراما الحزينة التي تنفتح أمامه: ساحة مغطاة بالقمامة، وجدار رمادي.
- أهلاً وسهلاً بكم في تل أبيب، أهلاً وسهلاً بكم في إسرائيل، همهم بمرارة، البلد الصغير الكبير بقدر العالم...
خلال ذلك، عاد صموئيل إلى مكتبه، وهو يصفر. "أين الشهامة لما تخلو الشهامة من الشهامة! حتى أنا لن أقبل أبدًا بغرفة كهذه! يجب إعادة طراشة كل الغرف، ولكن علينا انتظار عودة الزبائن أولاً وقبل كل شيء." عندما وصل إلى مكتب الاستقبال، لم يكن يوسي في المطعم، ويا للخسارة. كان يريد أن يعرف رأيه في القادم الجديد، وإذا كان يرى فيه هذا اليهودي الذي لا يراه فيه. مر برأسه من باب المطبخ، ليتحرى قرب نجا عن ذهاب يوسي.
- هل تعرفين إلى أين ذهب يوسي؟
- إلى الشاطئ، كما قال لي. لا تقلق، سيعود. ذهبتُ لأرى في غرفته: لم تزل أغراضه هناك.
- أنت تفهمينني دومًا دون أن أفوه بكلمة.
- والآخر؟ هل ألقى رحاله؟
- نعم، وضعته في الغرفة الضيقة. مقزِّزة بالفعل هذه الغرفة، حتى أنكِ نسيتِ أن تنقيها برائحتك العفنة!
- توقف مع هذه "الرائحة العفنة"! أنت ترى جيدًا أن هذا يمشي!
ما أن فاهت نجا بهذه الكلمات، حتى طنت جلاجل الباب. رمت السيدة شارون زوجها بابتسامة منتصرة، وصرفته بحركة من يدها ليستعيد مكانه في مكتب الاستقبال بأقصى سرعة، بينما هي تطبخ على نار خفيفة أطباقها ببشاشة ونشاط.
انبهر صموئيل على مرأى زوجين يبدو عليهما أنهما يخرجان مباشرة من مجلة للفِتنة: شابان، ساحران، مبتسمان، وكما هو بائن عاشقان جدًا. كانت المرأة الشابة طويلة جدًا، شقراء جدًا، متكلفة جدًا، وكانت ترتدي فستانًا يلتصق بجسدها التصاقًا لا يصدق. كانت تبتسم بأناقة على دعابات الرجل الذي كان يرتدي بدلة –عند الخياط مخيطة على القياس كما هو بائن- رغم ارتفاع الحرارة. رجل أعمال؟ زوجان شابان في شهر العسل؟ سياح بسطاء؟ طوال حياة الفندقي التي له، كانت المرة الأولى التي يتشرف فيها صموئيل بأناس على مثل تلك الأبهة، يجتازون باب بنسيونه المتواضع. لانبهاره، كان على وشك أن يشير إليهما بالخطأ الذي يرتكبانه، وأن الشيراتون هو الفندق المجاور.
انتظر بصبر أن ينتبه العاشقان إليه، فقطع الرجل في الأخير حديثه الذي تتخلله شظايا الضحك، ليجاهر:
- صباح الخير! أنا بحاجة إلى غرفة ليوم أو يومين. كنت أنوي النزول في الشيراتون، لكن لم يبق لديهم من الغرف سوى بسرير واحد. الخطأ خطأ الحجز! ميريام، زوجتي، ستقيم هناك، وما أن تفرغ غرفة لشخصين، سألحق بها، ربما غدًا أو بعد غد.
وجد صموئيل في التوضيح منطقًا، إلا أنه لم يمنع نفسه عن الإلحاح:
- لكن لدينا غرفًا جميلة جدًا، مدام! ألا تفضلين البقاء هنا مع زوجك؟
بدا على ميريام الاستغراب، وهي ترى أنه يتوجه بالكلام إليها، وأنه يسألها سؤالاً أخرق. كيف أمكنه أن يفكر لحظة واحدة أنها ستنزل في فندق حقير كهذا؟ قرصت شفتيها، وترددت قبل أن تجيب، وكأن هذا يكشط شفتيها بالتوجه إلى الفندقي:
- لا، بصراحة، فندقك لا يتماشى إطلاقًا مع منزلتي. لزوجي، هو، ناحية وغدة، ويجد في هذا النوع من المنشئات بعض الغرابة، فهو يحب كل ما يعمل "شعبي"، وأنا أفضل كل ما يعمل "هاي هاي".
أكدت كلماتها الأخيرة بضحكة صغيرة جليدية، وصموئيل يفكر: المرأة الشابة جميلة لكنها كريهة، ضراطة بالفعل! لم تخطئ نجا: ما أن ظهرت على باب المطبخ، جمدت، وقلّبت المخلوقة الجميلة من قمة الرأس إلى أخمص القدم. وفي ذهنها أجرت مقارنة بين كل ما للأخرى وما ليس لها، جرى ذلك بسرعة، بما أنها لم تزل في البيكيني. فستان حرير، من المحتمل "كِنزو"، خُفّ جلد خروف، نظارت شمسية كريستيان ديور، ملقاة بإهمال على شلال من الخصلات الذهبية، حقيبة رائعة جلد تمساح، "فويتون"؟ ثم ذاك العطر المُدَوِّخ الذي يحجب حتى رائحة صمغ الصبر: "جيرلان". وخاصة النظرة المغرمة لمن تخيلته زوجها، دون أن تعمل حسابًا للنظرة المزججة لزوجها، تحت تأثير السحر. حتى هذا البَئِس سالومون الذي عاد إلى النزول من غرفته، أبدى دهشته عندما رآها. كانت المرأة الشابة تشع جمالاً وشبابًا، إذا ما لم تُبْدِ من الضيق أقله من تعرية رجا البصرية لها، وهي المعتادة على أن تكون موضع الإعجاب والغيرة، فهي لم تحرم نفسها، بالمقابل، من إبداء احتقارها للفندقية. يعني بعد أن مطت شفتيها مطًا خفيفًا مستهجنةً رِداء نجا الطفيف، لم تعد تتفضل بالنظر إليها. امرأة لا شأن لها!
سجلت نجا صدمة نظرة اللازِر بلا تذمر، ونظرت فيما ستتركه هذه المرأة السحرية من أثر، وهي تتربع على عرشها في قلب قاعة طعام فندق شارون. تخيلت العابرين، وهم يتوقفون أمام الجدار الزجاجي، مذهولين إعجابًا. وفي حالة أشبه بالنوم، سيخترقون صالة المطعم، وسيجلسون أقرب ما يكون من المخلوقة، سيطلبون وعيونهم مغمضة الطعام الأكثر وفرة، ليطيلوا من متعة القرب منها، سينعمون بضحكات حلقها الشبقية، وسيثملون من شذى عطرها. سيحاولون ربط الحديث مع اللطيف البشوش بنيامين، ليلتمسوا بشكل أفضل رأي الإلهة: "وأنتِ؟ ما رأيك؟" من يدري؟ ربما عَبّرا عن رغبتهما في تمديد وجودهم بحجز غرفة؟
رأت نجا رأيًا أن رأيها قد تم، رسمت على شفتيها أجمل ابتساماتها، واقتربت من الزوجين، وهي ترحب بهما. أخبرها صموئيل بطلب "الموسيو":
- بنيامين، ادعني بنيامين، لو تفضلت.
- بنيامين، إذن، يريد غرفة. هل الغرف جاهزة؟
- لم تبق لي سوى الغرف 44، لكنك تستطيع إعطاء 46 للموسيو، معذرة: لبنيامين.
بإيمائية ذات أثر مثير للعجب (للتعجب)، تبنى صموئيل ونجا لهجة "جافة" بإفراط، ليبهّروا ويملّحوا حيلةَ الفندقي المرهَق بالعمل لكثرة النزلاء. ارتدى سالومون رداء القَرفان، وهو يلتقط مع عبوره نتفًا من الحديث الدائر. كان عاجزًا عن تصديق أن الرجل الذي سبه بشكل وقح منذ نصف ساعة من قبل، قد تحول إلى كلب الراعي هذا المرح والناعم. دفعته المقارنة العفوية إلى الضحك رغمًا عنه، وهو يتذكر "ممنوع للعرب وللكلاب"، فنحن دومًا ما ينتهي بنا الأمر إلى التشابه بمن نكره. تقدم من منصة الاستقبال، ليعيد مفتاحه، ولا أحد به يبالي.
- من فضلك؟ قال طلق المحيا.
- هذا لماذا؟ عوى صموئيل.
- هذا للمفتاح. سأمضي نهاري في الخارج، أنا أختنق في هذه الغرفة الصغيرة، هل يمكنك تبديل الشراشف، لدي إحساس بأنها ليست نظيفة؟
مناورةُ خرقِ السفينة لإغراقها من طرف سالومون أتت أُكُلها، فميريام التي لم تفقد شيئًا من ردها السريع، ارتعشت من الهلع، مما أرضى سالومون، حتى أنه لم ينتظر جواب الفندقي، ولى على عَقِبَيْه، وما أن خرج من الفندق حتى هتف صموئيل مستنكرًا:
- لكن ما الذي يتخيله هذا؟ يريد دفع أقل ما يمكن ويريد أجمل الغرف! ليس مثلكما! إذا شئتِ، مدام، تركت لك غرفة بلا مقابل معروفًا مني، لأني أجد من الخسارة أن تنفصلي عن زوجك!
- لا تقلق، يا سيدي، أجاب بنيامين، وهو يشعر أن زوجته يبست للعرض، زوجتي لها ميولها المفرطة الصغيرة، ثم، لسنا بعيدًا كثيرًا أحدنا عن الآخر. سنكون أكثر سعادة عندما نتلاقى، أليس كذلك، يا حبيبتي؟
أكدت ميريام، وزوجها يزيل عنها عبء الجواب، ومن الأفضل المغادرة بأسرع ما يمكن، والفندقيان غدوا لجوجين، مع اقتراحاتهما المزعجة.
- اتفقنا، أنهى بنيامين، وهو يجذبها. حبيبتي، لن أتأخر كثيرًا، فما عليك إلا الذهاب إلى الشيراتون لتبدلي ملابسك، وسنلتقي على الشاطئ خلال نصف ساعة، طيب؟
- طيب، وشوشت ميريام، وهي تقبله من طرف شفتيها. إلى اللقاء العاجل.
اتجهت نحو باب الفندق تحت العين المتأسفة للشارونين، وقبل أن تخرج، قامت بآخر حركة صغيرة من يدها لزوجها. انغلق الباب من ورائها، ومن جديد، سقط البهو في الدجى.
- زوجتك آية من آيات الجمال، هنأه صموئيل. خسارة ألا تبقى هنا! المهم! تعال، سأريك غرفتك.
رافقه بنيامين حتى الدرج، وَنَقَّ بالضحك:
- لحسن الحظ أن زوجتي لم تصحبني حتى الغرفة، فهي لا غنى لها عن المصعد. أعبدها، آه! لكم أعبدها، إنها في غاية الرقة!
اغتبط صموئيل لغبطة الرجل الشاب دون أن يبدي اغتباطه، لم يلاحظ رائحة صمغ الصبر، ولا الجدران المصفرة، وهو المشغوف بهواه. كان حقًا ما رأى: عندما دخل بنيامين حجرته المحاذية لحجرة يوسي، اتجه في الحال نحو النافذة، غير مبال بالديكور، وانحنى ليرى إذا كان لم يزل يرى زوجته في الشارع. لم يستقم إلا بعد عدة دقائق لا مجدية ليتأمل المنظر من حوله، وليصيح بمرح:
- أعبد تل أبيب! أعبد إسرائيل! أعبد العالم أجمعين!
كانت كلماته كلمات رجل عاشق عن حق.


يتبع الفصل الثالث



#أفنان_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فندق شارون الفصل الأول
- في بيتنا داعشي 5 وأخير الرؤساء والملوك
- في بيتنا داعشي 4 أمريكا
- في بيتنا داعشي 3 التعايش
- في بيتنا داعشي 2 المؤمن
- في بيتنا داعشي 1 الله
- مدام ميرابيل القسم الثالث4 وأخير
- مدام ميرابيل القسم الثالث3
- مدام ميرابيل القسم الثالث2
- مدام ميرابيل القسم الثالث1
- مدام ميرابيل القسم الثاني13
- مدام ميرابيل القسم الثاني12
- مدام ميرابيل القسم الثاني11
- مدام ميرابيل القسم الثاني10
- مدام ميرابيل القسم الثاني9
- مدام ميرابيل القسم الثاني8
- مدام ميرابيل القسم الثاني7
- مدام ميرابيل القسم الثاني6
- مدام ميرابيل القسم الثاني5
- مدام ميرابيل القسم الثاني4


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أفنان القاسم - فندق شارون الفصل الثاني