أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - الطيب طهوري - عاصفة الأخضر حامينا إلى أين؟















المزيد.....



عاصفة الأخضر حامينا إلى أين؟


الطيب طهوري

الحوار المتمدن-العدد: 4813 - 2015 / 5 / 21 - 14:30
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


قراءة في فيلم العاصفة للأخضر حامينا

كم هو جميل ومفرح في نفس الوقت ان نشاهد فيلما جزائريا بهذا المستوى الفني المحكم، وكم هو مؤلم ان تتجسد ذواتنا اللامبالية بهذه الطريقة العاصفية التي تقتلعنا ن واقعنا المترسب في تراكماته عبر القرون، ولا تقتلعنا مادمنا مصرين على التمسك بلحظة النهاية إلى مالا نهاية..
بدءا يأخذنا الفيلم إلى واقع غير عاصفي في ذاته، اي في عالمه الخاص،غنه الواقع الذي كان من الممكن ان يكون لو قامت العاصفة الداخلية في واقعنا قا وهدمت الذات السلبية فينا ، ولكن.... إنه واقع جامعي ، وجامعي لها دلالاتها البعيدة والعميقة جدا..تنزل فتاة من سيارة ما..ينزل معها رجل بلباس تقليدي، تقبل الفتاة رأس ذلك الرجل ، وتواصل سيرها نحو مدرج المحاضرات، فيما يبقى الرجل ينظر إليها وهي تبتعد عنه بنوع من الصمت العميق الممزوج بحس الضياع..ثم..يتحرك هو أيضا..لكن، لا أحد يدري إلى أين؟
كل الطلبة كانوا يسيرون إلى أماكن معينة ..وكل الطالبات كذلك.. اما هو فقد كان غريبا بشكل غريب أيضا في ذلك الجو الطلابي ..كان تائها لا عرف أي اتجاه يأخذ ، مادام ليس له هدف واضح ، او مكان معين يتوجه إليه..
من هو هذا الشخص ( الرجل) الذي يصر على التواجد في ذلك الواقع الجامعي ، رغم انه بعيد كل البعد عنه ؟..لماذا قبلت الفتاة رأسه؟..أسئلة كثيرة تطرحها تلك اللحظة..لكن المؤكد ان الإجابات لن تكون بالبساطة التي نتصورها ، وبالكيفية التي تعودنا عليها..الإجابات الأقرب إلى الحقيقة ستكون مركبة بالضرورة، بمعنى اننا لن نصل إليها إلا بعد تحليل الفيلم ككل..فما هي قصة الفيلم إذن؟
نشاهد تلك الفتاة نفسها وهي تحاضرلطلابها وطالباتها عن المرأة عندنا من منطلقات تاريخية اجتماعية..
قالت: أين توقفنا؟
أجاب طالب: في الخطوبة..
وقال آخر: في الزواج..
وابتدات موسيقى الصمت الرهيب تاخذنا إلى البعيد..البعيد جدا..لكنه الذي يعيش في أعماقنا المغطاة بلون الوهم ، مادام سلوكنا هو نفس سلوك ذلك البعيدفي جوانب كثيرة، وغن بأشكال مختلفة..
كانت الرمال أمامنا محيطا من الضمإ لا نهاية له، وكان الضمأ يشتد بنا أكثر ..لكن..حين بدت لنا الواحة فجأة أحسسنا بنوع من تثبيت الذات التي كانت تغوص في رمال التعب المضني..
كانت الواحة تحاصر نفسها بصمت اللانهاية ، وكانت الموسيقى تشدنا أكثر إلى جلال ذلك الصمت العميق..
قلنا: ليس لنا بد من الاستراحة هنا..و..كانت دهشتنا مؤلمة حين شاهدنا رجال الواحة ونساءها أيضا يحملون الرمال ويرمونها خارج واحتهم، والعرق يتصبب من جباههم..
قال واحد منا متعجبا: مؤلم حقا ان يعيش الناس هكذا..و..
سكتنا جميعا..جميعا سكتنا..لم يتكلم اي واحد منا..
واقتربنا أكثر..وبهدوء حذر..
انتبهوا إلينا حين حييناهم ..تجمعوا حولنا والتعب باد على وجوههم..رحبوا بنا كثيرا..
قال أحدهم مبتسما – بعد ان استرحنا قليلا- : لقد جئتم في الوقت المناسب..هيا بنا..
كان العرس قائما..والعرس في واحة معزولة كتلك الواحة قمة الفرح.
كان الناس يرقصون متناسين همومهم مع الرمال التي تحاصر وجودهم، منتظرين ما سيسفر عنه امتحان العروسة التي تلاقي ممتحنها لأول مرة ، وياله من امتحان شاق وعسير..لكنها نجحت..يبدو انها راجعت دروسها جيدا..بل إنها فعلت ذلك حتما..
كانت الزغاريد تملأ الفضاء..نعم..هذا هو قميص العروسة الملطخ بالدم.. لقد اخذت العلامة التي تناسب مهرها وتعبها..و..
ينتهي العرس..تنتهي لحظة الفرح المؤلمة..ويعود الناس جميعا إلى أعمالهم التي لا تنتهي..يبدأ الرجال عمل الكلام، بعد العمل في حقول الرمال..وتبدأ النساء عمل البيت بعد العمل الرملي نفسه..و..
من هذا الأعمى الذي يصيح متحديا رجال الواحة ونساءها ، آمرا ريح الأرض والسماء باقتلاع تلك الواحة؟
من هذا الذي ينادي: يا أولياء الشيطان ، إن ابواب الرحمة قد أقفلت ؟..من يكون يا ترى؟..
كان الشيخ (عباد) ينقل غضبه من أهل الواحة وعنهم إلى الريح فيزداد غضبها، وتعصف بالواحة ليشتد الحصار أكثر..
أيها اللعين، تفوه عليك، لو كان الله يحبك ما خلقك أعمى..هكذا واجه اهل الواحة عبادا..وهكذا كانوا يواجهونه..لكن..هل تفيد هذه الشتائم في شيء؟..
إذا كان هو سبب ما يجري لكم ، فلم لا تبعدونه عنكم؟..لم لا تقتلونه؟ قال واحد منا..
أجاب واحد منهم: إننا نخاف ان نبعده مرة أخرى..
قال آخر: لقد ابعدناه، جعلناه أعمى..لكن الرمال غطت حقولنا بشكل لم نره طوال حياتنا..
صاح الجميع: لقد قتلناه حتى..لكنه لم يمت..منذ ان رأينا وجه الأرض هذه رأيناه هكذا..إنه جزء منا ، يعيش فينا..لكنه يحقد علينا..
كان اهل الواحة جميعا يصلون ويقرأون القرآن، وينجبون الكثير الكثير من الأولاد استجابة لأمر رسولهم (ص): ناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة..وكانوا يصلون على النبي في غدوهم ورواحهم ، ويستغفرون الله في سرهم وعلانيتهم..كانوا جميعا يؤدون شعائر العبادة ، ولم يكونوا يشتمون عبادا إلا حين يرميهم بنتائج ريحه العاتية..و..
- أين عباد الآن؟..أين يقيم؟..وأين كان يقيم قبل الآن؟..
- قالت إحدى العجائز باشمئزاز ظاهر: إنه يقيم باستمرار في مكان مرتفع خارج الواحة ليراها..ولكنه المسكين ( هكذا وصفته) أعمى..
- تساءلنا في السر: ترى، هل يقوم عباد بذلك الفعل ليشعرهم بوجوده؟..وأجبنا في السر أيضا: ربما..
من هو هذا الـ ( عباد) يا ترى؟..الإسم صيغة مبالغة تعني انه كثير العبادة ..واهل الواحة يؤدون العبادة بكثرة..فلم ذلك الاختلاف بين عباد وبينهم إذن؟..لقد كانوا يؤدون العبادة داخل الواحة ( في الواقع) اما هو فقد كان يعيش خارجها ( بعيدا عن الواقع) ، وأعمى أيضا ( لا يرى الواحة حتى وهو يزورها من حين إلى آخر)..ومع ذلك كان غاضبا عنهم ، موجودا وغير موجود في نفس الوقت..يشغل بالهم في كل اللحظات..
عباد بالكيفية التي قدم بها يحيل إلى الكثير من الدلالات..قد يكون رمزا للدين الذي لم يعد في مقدوره مواكبة هذا العصر المركب المعقد..لم يعد في مقدوره إعطاء الحلول لمجمل مشاكل مجتمعاتنا العربية المسلمة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ، واخلاقيا حتى..ومن ثمة فإن حضوره لا يمكن ان يكون إلا ترسيخا لتراكم التخلف وجفاف الحياة واشتداد رياح المأساة التي نعيشها..وهو ما يحيل حتما إلى مجمل القوى الأصولية والأحزاب الإسلامية التي تحتكر الدين وتتكلم باسمه وتغطي مشاريعها الاجتماعية التي هي مشاريع بشرية في الأساس ببرنوسه لتكسب العامة إلى صفها، وهي مشاريع متخلفة بالتأكيد لأنها نتاج مجتمع متخلف ، ذلك أن الشعب المتخلف يفهم دينه فهما متخلفا ، كما يرى المفكر سمير أمين..ومن ثمة فلا يمكن أن تكون إلا مشاريع تشدنا إلى الخلف ، فيما المجتمعات الحية تسير إلى الأمام..
قد يكون رمزا للأخلاق التي ندعيها نحن المسلمين ونتفاخر بها ، بينما نمارس عمليا نقيضها ..نمارس النفاق في أقصى تجلياته ..والنتيجة هي هذا التخلف الذي نعيشه ونرفض الخروج منه ، والذي يجسده الفيلم بشكل رهيب متكرر يقول لنا بأنكم ستبقون، وسوف تبقون هكذا في تخلفكم مادمتم تفسرون واقعكم تفسيرا ميتافيزيقيا ، وتعتقدون ان الأخلاق تأتي من خارج العلاقات الاجتماعية التي تعيشون فيها، وتتعامون من ثمة عما تعيشونه من أخلاق نفاقية هي نتاج علاقاتكم الاجتماعية في حاضركم هذا، بينما هي ( الأخلاق) في جوهرها وفي وجودها نتيجة منطقية وموضوعية لنوعية هذه العلاقات التي أنتم جزء منها ، ومن ثمة فإن تغيير سلوككم بالمعنى الإيجابي لا يمكن ان يتحقق إلا بتغيير علاقاتكم الاجتماعية ، واستبدالها بعلاقات إنسانية حميمية حقيقية، لا بمطالبتكم بتغييرها ( الأخلاق ) وعظيا ، وهو ما يعني استحالة التغيير الذي تبحثون عنه ماذامت علاقاتكم الاجتماعية تتواصل وجودا بشكلها المتكرر شبه الثابت..لكن المؤكد ان وعي التغيير بالمعنى الذي وضحنا يحتاج بدوره إلى معرفة عميقة لا يمكن ان تتحقق بدورها إلا بان يصير المجتمع خلايا نحل قرائية، ترى في المطالعة( ومطالعة المتنوع المختلف أساسا) غذاء يوميا ضروريا كغذاء الجسد تماما، بل يفوقه اهمية..
----
ولا بأس.. سنترك القصة تواصل سيرها..
لقد عاد اهل الواحة نساء ورجالا إلى حمل الرمال لرميها خارج الواحة ، تلك الرمال التي غطت الخضرة في حقولهم ..والمؤكد انهم سيعودون – وباستمرار - إلى حملها ، مهما اعتقدوا انهم قد أظهروا تلك الخضرة ، ما دام عباد يعيش بينهم فيهم وخارجهم ، وما دام سلوكهم يناقض ما يدعونه من قيم أخلاقية رفيعة يتبجحون بها في كل وقت ، ويكثرون من الحديث عنها والدعوة إليها في مختلف أماكن عباداتهم ..وهو تناقض ناتج أساسا عن علاقاتهم الاجتماعية في حاضرهم ، والتي لا يمكن الحكم عليها سوى بالضياع ، والحكم ، من ثمة، على هذا التمسك الشديد المفرط بممارسة الشعائر الدينية بانه النتيجة الحتمية لذلك الضياع..
ولا بأس أيضا..سنترك القصة تواصل سيرها في الثبات..
قال العراف بولعراس ( والإسم له مدلوله العميق، إذ يوحي بالعرس، والعرس فعل لخلق الجديد ، لكنه الخلق المرتبط بالخرافة ، لا بالعقل): ستنجب هذه المرة ولدا..لكن..بشرط..
قالت العجوز: وما هو شرطك يا مولاي؟..
تامل العراف وجهها مليا ..غاب في شطحاته قليلا، ثم قال: سموه المختار..
استبشرت العجوز فرحا عميقا..ابتسمت للعراف ..أعطته ثمن الكلام..ثم عادت..
كان الصمت يخيم على المنزل ..الإشارات وحدها تتكلم..ولا يسمع صوتها إلا النساء..
لقد جاءها المخاض..تحملي أيتها المرأة التي لم تنجب في حياتها إلا البنات..واصلي عملك وتحملي..امتحانك اليوم أصعب من كل شيء..
– سبع بنات؟ يا للكارثة..
تحملي أيتها المرأة..تحملي..هذا امتحانك الأصعب..ولا مفر لك منه..
كان الجميع في انتظار المختار الذي سيأتي ويعيد للعائلة شرفها.. نعم، سيأتي..والعراف لا يخطئ..أبدا لا يخطئ..
سقط الجنين على الأرض..تلقفته العجوز بسرعة..ثمانية؟..
تغير لونها ..نظرت إلى المرأة المسكينة وشظايا الغضب تتطاير من عينيها..
دخل الرجلان المنزل حين سمعا صراخ الجنين..استقبلتهما العجوز باشمئزاز لا حد له..فهما كل شيء..
دخل الرجل على امرأته – وهي تتخبط في آلامها – بالضرب..لم يكن يعرف أين يضع ضرباته الشديدة..كل الأماكن فيها صالحة للجنون..
حين تعب من عمله قال لها: طالق..أنت طالق..
عندما سمعت نسوة الواحة الخبر قلن ببراءة تامة: مسكينة، ماذنبها؟ إن الله هو الذي يخلق عباده.. من هنا تبدأ قصة الفيلم في تصوير العلاقات الاجتماعية السائدة في تلك الواحة التي تحاول التشبث بالحياة فيما هي تقتلها.. ازدادت مأساة الرجل..صار أشرس، أشرس من ذي قبل..صار يعامل بناته الثمانية معاملة شديدة القساوة..صار ينتقم لنفسه - وقد حرم من الذكر – منهن..
وكان الواقع يقمعه أكثر: ترى، كيف ستزوجهن..مبروكة عليك الخطوبة يارجل..إلخ..إلخ....و..
هل كان القدر ضده؟..لقد أنجبت تلك العروسة التي حضرنا عرسها اول ما حللنا بالواحة طفلا أعرج..إنها زوجة اخيه..والطفل ابن أخيه..ورغم انه طفل أعرج إلا أنه كان يثير الكثير الكثير من كوامن المأساة في ذاته..ولا بأس..الأرض تدور..والوا حة تدور في نفس حلقاتها المفرغة..يحمل الناس الرمال خارج الواحة حفاظا على خضرتها..على عناصر الحياة فيها..والرمال تخاتلهم وتعود..تعانق الرياح العاتية وتعود..ولاشيء يجيء سوى عباد الذي الذي يواصل نداءاته المؤلمة : يا اولياء الشيطان..عباد الذي صار قدرنا الذي لابد منه..وهذه الواحة التي تواصل سيرها في الثبات: سقطت روما..طلعت روما..
سقطت لينينغراد..طلعت لينينغراد..
سقطت في البحر الحمراءُ..
ومات وحيدا عبد الله..
لم يطلع قصر الحمراء من البحرِ..
وما زال وحيدا عبد الله مع العشاق المنفيين (1)..
ويحاول عبد الله النهوض..
حين رأوه يتهيأ للرحيل تساءلوا في سرهم: ماذا يفعل هذا المجنون؟..وسرعان ما تحول سؤالهم السري ذاك إلى جهره، حين رأوه يحمل امتعته القليلة جدا ويشد الرحال..
قال الرجل: كرهت هذه الحياة المؤلمة، حياة الجوع والتعب اللامجدي..
صاح الجميع في وجهه: ولكن الواحة وطن اجدادك، فكيف تتخلى عنها؟ كيف تتخلى عن عاداتهم وتقاليدهم يا خوان؟.. كيف؟..
لكن خوان يرحل..وحده يرحل..إلى أين؟..إلى حيث الحياة الآمنة والخبز؟..إلى حيث لا رياح عباد العاتية؟..و..
تبقى الواحة تواصل سيرها في الثبات..تراوح مكانها في الرمال، ليوحي ذلك بأن الحل الفردي لا يمكن ان يكون حلا بالمرة ..
هنا يطرح السؤال ايضا: من يكون هذا الرجل؟..ما دلالته؟.. لقد ناداه اهل الواحة بالإسم خوان ،على صيغة المبالغة ، تماما كما هو اسم عباد، والإسم في مدلوله اللفظي بهذه الصيغة يعني كثير الخيانة ..فلماذا اعتبر ذلك الرجل خائنا؟..
قصة الفيلم تعطينا الإجابة الصريحة: أليس هو الذي وقف ضد تراث الأجداد كما هو ماثل في الواحة بالمفهوم السلبي الذي يعمق تراكم الثبات؟..أليس هو الذي استعمل عقله – انطلاقا من الظروف التي يعيش فيها – ليتوصل إلى الحل الذي يتمثل في حتمية الخروج من تلك الأوضاع المهترئة بتقاليدها البالية الخانقة للحياة ، والسائدة في واقعه باسم تراث الأجداد، وباسم الدين أيضا؟..
خوان ذاك هو الواعي إذن ، حسب ظروف واقعه الخاصة والعامة ، وحسب نوعية وعمق الصراعات في ذلك الواقع - واقعنا العربي المرموز له بالواحات – وهو الواقع الذي ما يزال يحمل النعرة القبلية في ذاته ، بشكل او بآخر.. خوان هو هذا الواعي الذي يفضحنا ويفضح زيف ادعاءاتنا ، ولأننا لا نستطيع التحاور معه ومجادلته بالحسنى ،كون الجدل العقلي الموضوعي عن القمع المادي والمعنوي يفضحنا أكثر ، نلجأ إلى وسيلتنا الإرهابية الموروثة أيضا : اتهامه بالخيانة والإلحاد ..وما إلى ذلك من الصفات التي تعودنا عليها ، واستعملناها لإسكات المفكر النقدي ، وحيث يغيب الدفاع عن الإنسان المقموع المضطهد والمستغل بأشكال وكيفيات مختلفة ، ويحل محله الدفاع عن الله، وكان الله عاجز عن الدفاع عن نفسه، او على الأقل هذا ما يوحي به سوكنا ذاك للآخرين من غير المسلمين .. وهو --- كما يجب أن نكون صرحاء مع انفسنا – فعل لإيديولوجي، يعيه البرجوازيون الطفيليون والقمعيون عندنا بشكل واضح، ويصرون على طرحه وممارسته بحدة عنيفة تؤدي إلى انتشار الوعي الزائف ، وتعميق تغييب الوعي الحقيقي ، حتى يحافظوا على مصالحهم وكراسي حكمهم..والمؤكد ان هذا هو سر تحالفهم المباشر تارة وغير المباشر تارة أخرى مع مختلف القوى الأصولية ، إدراكا منهم بأن تلك القوى هي التي تهيء الناس للإيمان بذلك الوعي الزائف والتمسك به، ومناهضة كل وعي ينتقده ويبرز آليات وأهداف سيطرته على اذهانهم.. ومن هنا تأتي المعالجة الموضوعية لواقعنا ، لتدلنا على الجذر الأساس لتخلفنا الحضاري بكل أبعاده،أي تدلنا على الأسباب الاجتماعية الثقافية الحقيقية لهذا التخلف بشكل عميق وعنيف، وهي نفسها المعالجة التي تجعلنا ندرك مدلول رمز الثبات المتكرر في الواحة والمتمثل في إخراج الرمال من داخل الواحة ثم عودة تلك الرمال وبشكل مستمر ، دون اي تغيير يحدث في عمل اهل الواحة ..وهم بذلك لا يختلفون أبدا عن الحيوانات التي تعيش بنفس الطريقة منذ ان وجدت على سطح هذه الأرض حتى تنتهي..كان لا عقول لهم تفرقهم عنها..
يمكن القول – وباطمئنان كبير – ان ذلك الثبات المتكرر هو نفسه الماضي الذي يكرر وجوده في حاضر كل مرحلة من مراحل تاريخنا الطويل ، وإن بكيفيات تختلف شكليا فيما هي تتشابه جوهريا ، إنه تكرار الذات لذاتها بذاتها تبعا للقاعدة: هذا ما وجدنا عليه آباءنا..مع بعض لحظات الانقطاع القصيرة في تواصل ذلك التكرار، وهي لحظات سرعان ما تموت في مهدها بفعل ضغط قوى التخلف والظلامية المهيمنة على ذهنيات الناس ، مادام الجهل العقلي قد صار ظاهرة عامة في عالمنا العربي الإسلامي ..فيما تعمل الكثير من الشعوب الأخرى ، وانطلاقا من ظروفها الموضوعية ، على تغيير واقعها إيجابيا ، ومن ثمة تضيف لتراثها ما يجعله تراثا حيا فاعلا، يدفع إلى الأمام، فيما نكرر نحن تراثنا بشكل رملي يجعله حاجزا بيننا وبين التطور ، ونقتله فيما نعتقد اننا نحييه..ونموت حضاريا معه بالتاكيد..
هذا التفسير لرمز الثبات هو نفسه الذي يجعلنا ندرك مدلول رمز الرمال الكثيف.... الرمال بشكلها الطبيعي توحي بالجفاف ، ومادام الأمر كذلك فإن حصارها للواحة من داخلها ومن خارجها أيضا يصبح رمزا لتلك العوامل التي تعمل على قتل عناصر الحياة فيها ( الواحة) ..ويجب ان ننتبه هنا إلى ان حصار الرمال للواحة يتم نتيجة غضب عباد على ما يجري فيها ( الواحة) ..كما يجب ان لا ننسى انهم من جعله أعمى ..وإذا كنا نرى ان مدلول رمز الحصار الرملي هو سقوطنا في براثن الاستعمار وبراثن التخلف الذي يجدد نفسه فينا بشكل لا نهائي، فغن ذلك الحصار – كما يبين الفيلم – نتيجة منطقية للحصار الداخلي كما هو ماثل في بيئتنا الاجتماعية ، حيث تسود العلاقات اللاإنسانية ، علاقات النفاق بمختلف انواعه ، علاقات العبودية الممارسة باسم عادات وتقاليد الاجداد ، وباسم الدين أيضا، الدين وقد ادلج..وهنا يمكن القول بان عبادا ذاك ما هو إلا هذا الدين المؤدلج الذي بادلجته تلك يعمى عن رؤية الواقع، فيسير إلى الخلف لأنه ساره من قبل، ويعجز عن السير إلى الأمام لأنه لم ير طريق الامام ابدا..طريق الامام تصير مخيفة مرعبة له ..يرى في كل من يحاول السير به فيها عدوا يريد إسقاطه في خندق الضياع وتعريته من ملابسه الرثة والاستيلاء عليها..وهو لذلك يتشبث أكثر بالسير إلى الخلف والمسك بجذوع أشجاره النخرة حتى لا يسقط، والإكثار من الصياح والشكوى..فيما هو ساقط حقيقة في تخلفه المزمن عن اللحاق بركب الحضارة البشرية..
والفيلم بفضحه لذواتنا المتناقضة التي تعيش في زيف الادعاءات موهمة نفسها بالحياة ، يصبح هو خوان ذاته..فهل ينجو من التهمة التي وجهت لذلك الرافض ( تهمة الخيانة)؟..
لا بأس..كان رجال الواحة يواصلون تحركهم في الثبات:
لماذا نحن هكذا؟ تساءل أحدهم..
واجابه آخر: لأننا هكذا..هكذا خلقنا..
وكانت النسوة تطرحن نفس الأسئلة أيضا..وتتلقين نفس الإجابات..
وكان الجميع يتهمون بعضهم البعض بالخروج عن الدين..
ولا بأس..لقد حان وقت عمل الكلام..إنه عمل يسير ابنتظام..فترة من وقتهم للعمل في حمل الرمال..أخرى للراحة في عمل الكلام..وثالثة في الذهول...
كان الرجال منشغلين بكلامهم حين قال احدهم:لقد مات الشيخ.. تحرك بعضهم باتجاه الميت..أغمضوا عينيه ، فيما بقي الآخرون في أماكنهم ثابتين ..لم يتالم احد..لم يذرفوا ولو دمعة واحدة..الموت شيء طبيعي..فلماذا يتألمون؟..كلهم سيلاقون نفس المصير، وكلهم سيقفون أمام ربهم.. لم يتغير أي شيء عند الرجال.ماذا بعني ذلك؟..هل جعلتهم الطبيعة قساة إلى هذا الحد؟..
لاأعتقد ذلك..الطبيعة القاسية حين تحاصر الناس وبكيفية عادلة بقساوتها تلك تجعلهم أكثر ارتباطا ببعضهم البعض، كي يعوضوا بعض ما افتقدوه من حنانها..لكن الذي حدث كان عكس ذلك تماما.. هل نقول إذن: إن هذه الحالة تتخطى الواقعي لتكون رمزا يحيل إلى مدلول ما؟..وما هو ذلك المدلول ياترى؟..
يمكن القول ببساطة إن مدلول تلك الحالة هو أن هؤلاء الناس وموتهم سيان..بل إن موتهم / موتنا جميعا في هذا الذي نعتقده الحياة ..إنه الموت في الحياة، على حد تعبير الشاعر العربي المعاصر عبد الوهاب البياتي ، والحياة غيمة الموت ، على حد تعبير الشاعر العربي القديم الذي عاش في اوج ازدهار الحضارة العربية الإسلامية في عصرها العباسي ، أبي العلاء المعري..
ولا بأس أيضا..لقد جاء الحسناوي ..الحسناوي جاء..كان الأطفال يتصايحون ملأ أفواههم ، مسكين هذا الحسناوي ، لقد جاء كعادته يحمل جنونه في عينيه، في كلماته، في حركاته، في آلامه التي لا تهدأ..نهض الجميع من اماكنهم..أحاطوا بالحسناوي..كان العرق يغسل وجهه ..كم هو متعب هذا المسكين ..لكنه كان ،رغم تعبه ذاك، يرفع يديه إلى الأعلى، محاولا التشبث أكثر بشيء بعيد..بعيد في هذه السماء الزرقاء..يراه وحده..ووحده يتألم لبعده..
كان وهو يرفع يديه ، يرفع صوته بالغناء أيضا..و..لمن ياترى كل هذه الصبابات ؟..من التي يغني لها بكل هذه الآلام؟..
كان الجميع ، رجالا ونساء، يتساءلون في سرهم وعلانيتهم عمن تكون تلك التي كان يناجيها في آلامه تلك..في رحيله المشدود إلى اللانهاية..ولا أحد يدري.. وحدها ، تلك الفتاة التي حضرنا عرسها أول ما حللنا بالواحة كانت تعرف كل شيء..وتتألم في صمتها ..تتألم حد البكاء الذي لا يجيء..
مسكينة هي أيضا تلك الفتاة ..الجميع ينظرون إليها بنوع من السخرية ..والجميع يتساءلون عن تحديها المفرط لعاداتهم ..والجميع يتغامزون..
كم هو مؤلم عذابها اللانهائي..لقد جيء بها من خارج تلك الواحة ..ومن داخلها ايضا..او ليست الواحات متشابهة؟..لم تكن تعرف أبدا ذلك الرجل الذي ستقضي معه بقية حياتها..ومع ذلك كان لا بد ان تجيء..
كان الجميع يعاملونها يقسوة ، واولهم اخو زوجها وحماتها.. كل نساء الواحة يلبسن السواد.. ووحدها التي كانت تلبس البياض..كن جميعا يغطين رؤوسهن..ووحدها التي تترك رأسها عاريا لأشعة الشمس وغبار الرمال..وحين كان الحسناوي يحل بالواحة تتوقف عن حمل الرمال لتسمع آلامه..كان البعض من اهل الواحة يحسون بان هناك شيئا ما بين ذلك الحسناوي وهذه الفتاة المتحدية..لكن..لم يصل الأمر بهم إلى اكثر من ذلك، رغم علمهم ان الفتاة من واحة الحسناوي، حتى كان ما كان..رىها اخو زوجها وهي تترك منديلها الاحمر في مكان تعود الحسناوي على المرور به، فادرك ذلك الشيء الخفي..
وحين كان يتناول الطعام مع اخيه وضيفه بولعراس ، كان ذلك الضيف يعمل يعمل بكلامه على جعل الأخ الأصغر يدرك ما غاب عنهن بطريق غير مباشرة..
وقد ادرك الفتى فدخل على زوجته الشابة يشبعها ضربا ، وينزع قرطيها من اذنيها بلا ادنى رحمة، ليسيل دمها غاسلا جسدها البريء، دون ان تتحرك المسكينة ولو بالكلام، ثم يتركها لتحتضن ابنها الباكي..
وقد عاد الشرف إلى الأسرةن فزغردت العجوز وامتلأت حبورا..
خرج الفتى باحثا عن غريمه..وقد وجده..هذا هو الحسناوي كعادته..استمع إليه قليلا، ثم مشى نحوه ببطء..وامام الجميع أغمد موساه في عنقه..ولم يتحرك أي احد كالعادة.. و..
طلقت العجوز امرأة ابنها، ليسوقها أخوه امامه..وفيما كانت النسوة تتحرشن بها، كان الرجال يقفون صامتين..سار بها الرجل قليلا خارج الواحة، ثم تركها وحيدة في سراب الرمال الممتدة دون حدود،بعيدا..بعيدا عم ابنها الأعرج الذي احتضنه عباد متألما..ثم تركه يلحق بها ببطء شديد، ليضيع معها في جفاف الرمال التي تحاصر كل شيء.. و..
تنتهي القصة هنا..في هذا الضمإ المحرق القاتل لكل حياة..
لماذا هذه النهاية المؤلمة؟..لماذا يضيع الجميع، الحسناوي والفتاة وابنها؟..لماذا يعجز عباد عن فعل اي سيء؟..وأسئلة كثيرة أخرى تطرحها هذه النهاية..
في لقطة قصيرة جدا تظهر الكاميرا تلك الفتاة مع الحسناوي في شبابهما الأول، وقد تشابكت اصابع يديهما ، يجريان والفرح يغطي وجهيهما ..وفي احداث القصة/ الفيلم تظهر تلك الفتاة وهي تترك منديلها للحسناوي..وهو المنديل الذي كان سببا لكل ما جرى لها ولحسناويها..
من هنا يبدأ التحليل..
لقد بقي حبهما متواصلا، وبشكل اعنف، رغم افتراقهما عن بعض، أو بسبب ذلك الافتراق ربما، ليبين الفيلم أن تلك العلاقة الحميمية هي العلاقة الإنسانية الحقة،وأن علاقة الزواج التي تمت بين الفتاة والشاب الذي ذبح الحسناوي وأضاع دمه في الرمال علاقة لا إنسانية بالمرة ، رغم شرعيتها الشكلية..وواضح هنا ان الفيلم يوجه نقده اللاذع لمؤسسة الزواج في عالمنا العربي الإسلامي التي تخضع فيها المرأة لإرادة الذكر أكثر نتيجة عوامل كثيرة ، أبرزها ذكورية المجتمع بما تعنيه من عادت وتقاليد تفرض على المرأة الاستجابة لإرادة الذكر المسيطر في اسرتها ، أبا كان او عما أواخا...إلخ..والبحث عن تزويجها بأي شكل خوفا مما يسمى المس بالشرف، والعنوسة التي تعني بقاء الفتاة غير المتزوجة عرضة للقيل والقال والخوف من وقوعها في المحضور ..
فتاة الحسناوي تلك كانت المثال الحي عن مجتمع الذكور ذاك، مجتمع قمع الأنثى وحرمانها من حريتها في اختيار طريق حياتها، كيف تعيشها ومع من..لقد تحدت تلك الفتاة أعراف الواحة وعاداتها فكان مصيرها ما حدث لها من قبل ذلك المجتمع الذكوري القطيعي ( من القطيع) الفحولي ..الغريب في الأمر أنهم كانوا يلبسون الأبيض رمز البراءة والمحبة والصفاء، وفي نفس الوقت كانوا ينظرون إلى تلك الفتاة التي كانت تلبس الأبيض بعين الاحتقار ، رغم أنها كانت بريئة وصادفة في حبها..وبمعنى اصح ، عاملوها بتلك الطريقة لأنها كانت كذلك..وقد كانوا بتلك المعاملة اللاإنسانية وبذلك التناقض يمثلون موت الحياة في نفوسهم ..كانت ألبستهم البيضاء تلك أكفانهم..إنهم ميتون في الحياة..
لقد تركت الفتاة منديلها الأحمر ليأخذه الحسناوي – وهو مل لم يحدث – وبما اننا كنا قد أدركنا من خلال القصة ان ذلك المنديل هو رمز التحدي المتواصل لكل الظروف القامعة ، فغن اللون الحمر يضفي عليه شيئا آخر أعمق بكثير من الحب الذي نعرفه عادة في واقعنا ..الون الحمر هو رمز الحياة بذاتها ، لأنه لون الدم ، والدم هو العنصر الأساس لحياة الإنسان ، خلافا للون الأخضر الذي هو رمز الحياة بفعل الآخرين إدراكا ووجودا في الغالب ، أي بفعل البشر، بمعنى ان الحياة بشكلها الأخضرنتيجة لفعل الحياة الأولى ، ومن ثمة ندرك المعنى العميق لعمل اهل الواحة المتواصل من أجل رفع الرمال عن الخضرة القليلة في واحتهم باسم المحافظة على وطن الأجداد (والوطن هنا ليس حيزا مكانيا فقط ،بل هو موقف في الأساس ) فيما هم يريقون – باسم تقاليد الأجداد وعاداتهم أيضا دم الحسناوي في رمال الضياع...
كذا يتضح لنا المدلول الرمزي للمنديل الأحمر ، منديل تلك الفتاة البريئة ، إنه حياتها التي رهنتها لمستقبلها ، وبعبارة اخرى حاولت ان تحقق بها مستقبلها ( ربما هروبا مع الحسناوي) ..لكن، دون جدوى، لأن الواقع بعلاقاته اللاإنسانية قضى على حياتها تلك ( استولى على منديلها ..مزقه او احرقه..لا يهم) ، ومن ثمة قضى على مستقبلها ( ذبح الحسناوي الشاعر) ..والذبح هنا اعمق في الدلالة على ما قلناه من اي شكل آخر للقتل..وكون الحسناوي المقتول كان شاعرا فإن ذلك يعني ما يعني ، ولعل اهم ما يعنيه على الإطلاق ان الشاعر يحيل إلى الإنسانية والمستقبل الأكثر خصوبة حياة والأكثر حميمية والأكثر حلما أيضا ..
هل يعني ذلك ان الفتاة كرمز قد تعمق مدلولها أكثر لتصير هي هذه الأمة الضائعة في حصار التخلف والجهل والعلاقات اللاإنسانية التي تجعلها تدور في الفراغ واجترار الماضي بشكل متشابه ، دون ان تعي خطورة ما هي عليه، وما سيؤدي إليه ذلك في واقع تتقدم فيه مختلف الشعوب فيما هي تراوح مكانها ؟..
سنقول وبكل اطمئنان وثقة ان ذلك هو الأصح ، خاصة وان احداث القصة كما بدا في التحليل موضوعة بدقة كرموز لدلالات واضحة يخدم بعضها البعض ..
ومن هنا ندرك ايضا مدلول رمز الطفل الأعرج الذي كان يبكي حين احتضن امه ( والبكا له بعده الإنساني العميق) والذي ما هو إلا مستقبل هذه الأمة الذي سيضيع كما ضاعت أمه/ أمته..وحتى لو افترضنا ( واقعيا) أنه كبر وعاد إلى الواحة او عاش في واحة أهل امته، فإنه لن يستطيع حمل الرمال إلى خارج الواحة محاولة للحفاظ على عناصر الحياة فيها..ومن ثمة فغن الرمال ستقضي حتما – بطريق او باخرى – على حقل اسرته ( والأسرة في الفيلم هي المعادل الموضوعي المصغر لواقعنا بكل تناقضاته ) ..وهو ما يعني ان تلك العلاقات الاجتماعية اللاإنسانية لا تنجب مستقبلا أبدا ( فشل الأخ الكبر في الإنجاب)..وإذا انجبت فإنها لاتنجب إلا مستقبلا مشوها عاجزا عن إنقاذ الأمة مما هي فيه وعليه من تخلف..إنه مستقبل زيادة فقدان عناصر الحياة أكثر..والنتيجة هي ان هذا الطفل / المستقبل سيكون ضائعا حتما في الحصار حتى لو احتضنه الدين وباركه، ذلك ان الدين أعمى ، لا قدرة له على الخروج من وضعيته/ حالته إلا بالناس ..والناس كما قدم الفيلم يعيشون في قاع التخلف الاجتماعي والانحطاط الخلقي، ومن ثمة لا يمكنهم فهم دينهم إلا فهما متخلفا منحطا ، يرسخ فيهم وضعيتهم تلك اكثر، بل ويسبغ عليها بعدا تقديسيا يجعلها تزداد رسوخا أكثر عبر السنين.. نعم..سيكون المستقبل ضائعا - تماما كما هو الحاضر ضائع- مادام الماضي بخرافاته ، بتقاليد الأجداد الحية في موتنا، رغم موت أصحابها وزوال الظروف التي عاشوا فيها بحكم طبيعة الحياة .. او لم تطلق العجوز( رمز تلك العادات والتقاليد ) تلك الفتاة نيابة عن ابنها ( رمز الحاضر الذي ينقاد لذلك الماضي ويخضع له ويرى فيه كل شيء) ؟..
هكذا – اكرر – تنتهي القصة/ الفيلم بهذا الشكل المأساوي ، ولكنه الواقعي ..تنتهي بهذه الكيفية محاولة رجنا ..تحريك أعماقنا..و..دون جدوى..
والحل؟..ما هو الحل؟..
الفتاة رأيناها تحاضر كانت قد قبلت رأس ذلك الرجل بلباسه التقليدي حين نزلا من السيارة ( رمز حضارة العصر ) ووقفا في الحرم الجامعي ..وإذن فهي قريبته بالضرورة..
وما دام الفيلم مبنيا – في مستواه الرمزي – بدقة للدلالة على قضايا واقعية تاريخيا وما تزال ، مرتبطة ببعضها البعض ، فإن تلك الفتاة تصبح – انطلاقا من تحليلنا للفيلم ككل – هي أمتنه هذه التي تحلم بالمشاركة في البناء الحضاري الإنساني ، في الحاضر والمستقبل ،انطلاقا من احترام ماضيها الذي يتمثل رمزيا في تقبل رأس الرجل بلباسه التقليدي الذي هو رمز ماضينا المتحكم فينا واقعيا ، والذي ييفرض علينا- كنتيجة منطقية لذلك التحكم – البقاء في الحصار الذاتي عن طريق قتل العقل المنطقي –عقلنا المفترض طبيعة وضرورة – باسم التراث وعادات الأجداد وتقاليدهم ، وربطها كلها بالدين من أجل إدخالها عالم القداسة ، في عالم يخطط – منذ زمن طويل – وآخر يفكر في التخطيط من أجل المستقبل بعقله ..ليس هذا فحسب..بل إنه الحصار الداخلي الذي يفرض أيضا حتى بقاء الحصار الخارجي – في إطار العلاقة البنيوية بين الحصارين – الذي بدأ يتعمق وجوده أكثر منذ أن شرعت الرأسمالية بشكلها الإمبريالي الحتمي في عملية التفكيك للبنية الاجتماعية التقليدية السلبية في جوهرها، وذلك تبعا لإيديولوجيا الواقع المسيطرة ، سواء كانت هذه الإيديولوجيا ممثلة في مستوى وعينا كانعكاس موضوعي للواقع الذي نعيش فيه،أي كانعكاس محدد بدرجة تطور القوى المنتجة في هذا الواقع والوعي المرتبط بها،أوكانت ممثلة في في المفاهيم والمعتقدات التي كونتها الطبقتان المسيطرتان ثقافيا وسياسيا بمثقفيهما وفقهائهما ( السلطة والقوى الإسلامية بمختلف أطيافها).. وهكذا يتضح الحل..إنه العالم الجامعي ، عالم العلم والمعرفة الإنسانية الراقية ،العالم الذي يجعل المرأة والرجل معا يشاركان في البناء الحضاري لأمتنا ، دون أية سيطرة من أحد الطرفين على الآخر، بعيدا عن كل ما ورثناه تاريخيا من من معاملات دنيئة مبنية على الغش و الاحتيال وانفاق والاحتقار..وإنه لحلم جميل بالتأكيد..لكن ، في أية علاقات يتحقق هذا الحلم الحضاري المؤلم في بعده يا ترى؟.. لقد قدم الحل في شكله الساكن، ولم يقدم في شكله العملي المتحرك، أي أن الفيلم لم يبين نوعية العلاقات الاجتماعية التي تحقق ذلك الحلم في شكله العملي المباشر ، وهو مايعني أننا مضطرون إلى البحث عن تلك العلاقات في أبعاد الفيلم كماعشنا لحظاته المتوترة لحظة فلحظة ..إنها العلاقات التي تتحدد – بشكل لامباشر – انطلاقا من ذلك المنديل الأحمر الذي تركته فتاة الواحة للحسناوي حبيبها كدليل على مواصلة عهد الحب الإنساني الحقيقي الذي لا يتحقق بصورته الطبيعية إلا في واقع العلاقات الإنسانية الحميمية ، علاقات اللاإستغلال ماديا ومعنويا وفكريا ، اي في لعلاقات الاشتراكية الديمقراطية التي هي النقيض للممارسات الستالينية التي كانت سائدة فيما يسمى بالعالم الاشتراكي ادعاء، لأن العلاقات غير الاشتراكية – حتى وإن بدت أحيانا إنسانية – تقتل فيما بعد وتدريجيا بشكل مباشر أو مغلف بالروح الإنسانية ، وذلك انطلاقا من التنافس الربحي بين متنفذيها ،وممارستهم استغلال ضعفائهم بحكم ذلك التنافس ..ولا عجب في ذلك..فهذا رسول المسلمين يقول ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )..ويقول أيضا ( إن الأشعريين إذا أرملوا او قل طعام عيالهم جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم بالسوية ، فهم مني وانا منهم )..
وهذا ماركس وإنجلز يقولان بعده بزمن طويل مفسرين تلك القضية: ( أزيلوا استثمار الإنسان للإنسان ، تزيلوا استثمار امة لأخرى ، وعندما يزول تناحر الطبقات في كل امة ، يزول في الوقت نفسه العداء والحقد بين الأمم )..
في حين يرى ابن باديس في عصرنا العربي الإسلامي الحديث ان الحرية التي تعني توفير مختلف الشروط الضرورية لتفتح الإنسان وتطوره ، ككائن اجتماعي بالطبيعة ماديا وفكريا وروحيا، لا يمكن أن تتحقق أبدا - كقضية اجتماعية – في واقع يمتاز بأن القوي فيه يستعبد ضعيفه ،وغنيه يستغل فقيره، يقول في هذا الصدد مخاطبا الحرية: ( فتشت عنك في قصور الأغنياء فوجدت القوم قد استعبدهم الدينار والدرهم ، تعس عبد الدينار والدرهم ، وغلت ايديهم إلى أعناقهم الشهوات ، فتشت عنك في اكواخ الفقراء ، فوجدت المساكين قد قيدهم الفقر فرماهم في غيابات الجهل ودركات الشقاء، فتشت عنك في الشعوب القوية ، فوجدت العتاة الطغاة قد قيدتهم الأطماع في ثروات الضعفاء ، فتشت عنك في الشعوب الضعيفة فوجدت الأنضاء المرهقيت كبلهم استبداد الأقوياء، فأين انت أيتها الحرية المحبوبة من هذا الورى؟)
**إضافة:
بالتأكيد ماتدعو إليه الشخصيات التي ذكرنا في نهاية القراءة – كحل - لا يمكن ان يتحقق أبدا في واقع يسيطر على عقول أناسه الجهل وتتحكم الخرافات فيهم.. بل يتحقق فقط، ، وبشكل نسبي يتفاوت من مجتمع إلى آخر ، بوعي الناس بواقعهم وواقع العالم من حولهم، وإدراك مصالحهم في إطار مراعاة المصلحة البشرية المشتركة في حاضرها ومستقبلها، وهو ما يستلزم تراكما معرفيا إنسانيا واسعا وعميقا..
المؤكد ايضا ان ذلك التراكم المعرفي الإنساني لا يمكن تحقيقه إلا بأن يتحول المجتمع إلى خلايا قرائية للمتنوع المعرفي المختلف، تضع في اعتبارها ان تغذية العقل لا تقل أبدا- في اهميتها - عن تغذية الجسد، بل تفوقها في الأهمية، ما دام العقل هو منتج ما يغذي الجسد ويحافظ على سلامته..
فأين عالمنا العربي الإسلامي من ذلك الغذاء العقلي يا ترى؟..
واقع الحال يقول بان رمل الجهل هو السائد المحاصر لنا ..وانه يزداد كثافة ونزداد نحن العرب المسلمين به تخلفا كلما ازدادت فتوحات الآخرين فكرا وعلما وإبداعا وتقنية..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* السطور الشعرية للشاعر الجزائري محمد زتيلي
** الإضافة كتبت يوم 04/10/2014



#الطيب_طهوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعيدة محطة القطار
- أيها الماضي الضابح، إرحل
- احترام العالم لنا ولمقدساتنا يبدأ من احترامنا لأنفسنا
- لاهوية لي إلا الإنسان
- فأس الصمت تحفر قلبه
- البترول شُحَّ ريعه..أيها النظام ،ماذا أنت فاعل؟
- أضرحة تفتح فاه الصحراء
- من انا؟
- كيف يستعيد الوفاءَ إنسانُ حاضرنا العربي؟
- الموت
- احجار الغيم..صهيل النار
- رأي في أضحية العيد
- ثلج الحياة..نار الحب
- واقعنا العربي الإسلامي والداعشية
- كيف يكون الدين في الواقع ؟
- عن الثقافي السائد..عن الثقافي البديل ..
- رغم المتاهة..هناك أمل في الحياة
- عميقا في البئر يغوص الحلاج
- يرمى النار على جثته
- في المهب هنا صخرة للصدى


المزيد.....




- العجل الذهبي و-سفر الخروج- من الصهيونية.. هل تكتب نعومي كلاي ...
- مجلس الأوقاف بالقدس يحذر من تعاظم المخاوف تجاه المسجد الأقصى ...
- مصلون يهود عند حائط البراق في ثالث أيام عيد الفصح
- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - الطيب طهوري - عاصفة الأخضر حامينا إلى أين؟