أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين سليمان- هيوستن - الجد محمد الآلوسي















المزيد.....

الجد محمد الآلوسي


حسين سليمان- هيوستن

الحوار المتمدن-العدد: 1332 - 2005 / 9 / 29 - 11:05
المحور: الادب والفن
    


محمد الآلوسي بهيكله الطويل وجسده النحيل على كرسي القصب أمام الباب يشيع المارة ويتذكر حياته وشبابه الذي مر. بالكاد يميز المارة ، فمنهم من يرفع له تحية وكلمات مقتضبة يسأله عن الصحة والأحلام ولغز الرجولة. وكان يجيبهم : تراها مرت ها! يجيبهم جوابا واحدا، مرت، ليست كل الحياة فهناك ما بقي منها يحيا كل يوم. فهو يجلس على كرسيه كل عصر يرى إلى المارة والى طريقة المشي والعبور في الشارع الذي عبدته البلدية فأصبح مستويا لا حفر فيه. تفتح عجوزه الباب بعد آذان العصر وتضع له الكرسي في مكان لم يغيره منذ سنوات طويلة. يحسب إن تبديل الأمكنة لا يحمل فأل خير. وكان في سنوات ماضية قد وقف معارضا قرار البلدية في تعبيد الشارع الذي مر أمام البيت منذ ترعرعه في البلدة، لم يرض عن القرار، وظن أنه قرار من الشيطان: حين دخل جرار المدحلة ، مصبوبا في دولاب واحد، كتلة من اسمنت تدور فوق الرمل والتراب المردوم في الحفر، كان يصلي ويدعو الله أن يهوّن الأمر ويجعله سلاما. وكانت رائحة القطران تذكره بالذنب وبيوم الحساب، فيرفع يده إلى الرحمن يدعو المغفرة. كانت حياته ستنتهي عما قريب، فبعد تعبيد الطريق، الطريق الذي عرف ترابه ومطره، كان المطر الذي يهطل كل عام يخلق أغان وغدرانا تعكس غيوما بيضاء، وبعض الأحيان إن تملى الغدير يرى فيه سماء قريبة فيها طيور؛ لقد توجس البغتة من تعبيد الطريق وعرف أن الحياة في بلدته لن تكون كما كانت، فما تعبيد الطريق إلا إمارة وإشارة لما هو أكبر: إن القادم هلاك وزوال.
مرت سنوات، فتعود جدنا محمد الآلوسي على الطريق وأصبحت ظاهرة التعبيد في شوارع البلدة لا تثير نقمته. ولم نكن نعرف إن كان الجد قد استسلم للأمر أو أنه قبله بعين الرضا، بعد أن رأى فوائد الطرق المعبدة، فلم يغير عادة الجلوس عند الباب على كرسيه تفتح عجوزه باب المنزل ثم تضع له الكرسي، تقوده من يده ثم تمسح المقعد براحة يدها كي يستدل جدنا على المقعد. ونسمع طقطقة مفاصل العظام وهو يجلس على الكرسي يسند جسده النحيل على حائط الطين ثم يزحف بظهره نحو الكرسي كي يثبت قعدته إلى أن يحين المساء.
مع السنوات أخذ جدنا يغيب، يبقى في كرسيه، لا يرد السلام أحيانا، لا يمد نظره إلى الطريق أحيانا، فتقول الجدة أنه الكبر والعمر، فالسنون قاسية ممضية. وراح المارة يهملون وجوده، فيمرون به كما يمرون بجدار قديم غير مسنود، ويتجنبون الاقتراب منه. وكنا نقترب منه، نحن الأحفاد، نحرك كف اليد أمام وجهه كي نتأكد أنه نائم، وكانت الجدة تقول لنا أنه لا ينام لكنه يسافر فيغيب، وتطلب منا أن نتركه في رحلته فهي نزهة يومه، فالحياة التي بداخله تختلف عن حياتنا، وكانت الجدة تقودنا إلى الداخل وتسألنا إن كنا نريد شرب الشاي. كانت الجدة تخلصه منا بهذه الطريقة، يشكرها جدنا ويمتن لصنيعها، فدوما كانت إلى جانبه أيام المحن .
ثم جدنا لم يتغير.
تغيرت البلدة، تغير التراب، وأمست السماء مختلفة بغيومها وبمطرها .. مرة نزل علينا مطر من سناج فتذكرنا قصة الفيل وطيور أبابيل .. الله يعلم ماذا كان يدور وقتها في خلد جدنا؟
ومرة نقلت لنا السماء غيوما حمراء فيها غروب شمس وبقايا نار … الله يعلم ماذا كان يدور في خلد جدنا وقتها ..
لم يغير قعدته وسهوبه. ونعرف أن الوقت عصر حين نراه على كرسيه أمام الباب.
ثم مع مرور السنوات راح الجد يفقد قدرته على السمع، يفقد قدرته على الرؤية، ماء أسود نزل على عينيه بسبب تلوث الجو بالسناج الذي راحت الغيوم تحمله إلينا.
وظلت الجدة تفتح له الباب عند العصر، تقوده مثلما تقود طفلها، من هنا يا رجلي ومن هنا يا رجلي .. ثم ينتبه الجد حين يصل الباب كي لا تعثر قدمه بالعتبة.
لكنه لا يسمع، فالكلمات التي تنطقها الجدة تذهب هباء، جدنا أمسى ضريرا، ثم جدنا أمسى أطرش.
لم نعد نلعب معه ونعذبه كما كنا نفعل منذ سنين، لقد تعذر التواصل معه وبالتالي أصبح اللعب معه من دون معنى، لأنه لا يشعر بقربنا ولا ببعدنا، لكنه كان يسوى نظره كي يوهم المارة أن محمد الآلوسي مازال يرى ويسمع .. وكان المارة لا يصدقون ما تراه عيونهم، لقد سمعوا حكاية جلوسه عند العصر عن آبائهم الذين نقلوا لهم عن أجدادهم أن محمد الألوسي لم يترك مكانه عند الباب، وكان الأجداد قد رحلوا ومات أيضا نصف الآباء، والمارة الآن تراهم بمرور الزمن يكبرون فيشعرون بوطأة السنين وهم بدورهم ينقلون الحكاية إلى المارة الأصغر سنا، إنها دورة العمر.
لم يكن، في يقين البعض، أنه مصاب بداء الكبر. لكننا لم نعرف الطريقة التي كانت الجدة تستخدمها للتواصل مع الجد. تقوده كل عصر، وتردد تيمة الكلمات التي رددتها منذ سنوات طويلة، فيرفع جدنا قدمه حين يصل عتبة الباب كي لا يعثر. إنه على قيد الحياة، نسمعه يستنشق الهواء برفق، ونلمسه دافئا نديا كلحاء الشجر، لكننا لا نسمعه ولا نفهم حلقة الصمت التي يغيب فيها .. الله يعلم ماذا يدور في خلد جدنا. وحين نسأل جدتنا إن كان، فعلا، الجد ضريرا ولا يسمع، كانت تتحاشى الرد، تتظاهر بأنها لا تفهم. كثير من المرات تقول: أنا يا بني كبيرة في السن واللهجة التي أفهمها لم يعد أحد يستخدمها، كلمات اليوم من معدن وكلماتنا كانت من هواء وماء. فهي لا تفهم السؤال الذي يدور في خلدنا عن حالة الجد.
يذهب بعيدا، وحين يتغلغل في عالم عميق تغيب فيه الشمس ويغلب الموج الريح. نحن بدورنا لا نفهم كلام ماء وهواء، فهو ليس ملفات تحرير.
لم يعد المارة يعيرون اهتماما لجلوس الجد، بل لم يكن ليروه، كانوا يمرون على عجل وفي رؤوسهم مشاغل لا يحلها عصر بكامله، فلم يكن لوجوده المستديم في طريقهم أي أثر. وراح المارة ينسون الجد محمد الآلوسي . لقد نسوه بالفعل، وكانوا يشتطون غيضا إن سألهم أحد عنه، يقولون وفي أسنانهم خراب إن كانوا قد نسوا جدودهم فلماذا لا ينسون الجد محمد، البعض يجيب على عجلة من أمره: اسألني ماذا أكلت البارحة إن كنت أذكر؟ ثم يشق طريقه ويتوارى كأنه لم يكن.
لكن لماذا يبقى الجد هناك؟
عند العصر تحمله الجدة ثم تفتح الباب، إحدى القدمين ترتفع حتى لا تعثر، وكان الجد يبقى هناك على كرسيه يشيع المارة ...



#حسين_سليمان-_هيوستن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إلى الأخت ريتا
- تجميع المياه
- سحر المسافة
- الأدب والحلم في أمريكا- رسالة الى اكرم قطريب
- المشهد السفلي
- بعين التكنولوجيا إلى الأدب العربي المعاصر- الحلقة الأخيرة
- بعين التكنولوجية الى الأدب العربي المعاصر -2
- سعدي يوسف- يطرق ما تجمعه النافذة من فضاء
- تــداخل أمكنــــة - إلى فاطمة ناعوت
- تخفيف اللحظة
- ربما سحر
- تسخين الشمس- فاعلات ليلية للشاعر المصري اشرف عامر
- النبي المسافر
- الأدباء العرب هم اخر المدافعين
- عودة متعب الهذال
- صوت الأبجدية - قراءة في تقويم للفلك لأدونيس
- النيل الذي لا يكف، إلا أن يجري ولو متأخرا - قراءة في قصيدة ك ...
- ليليت لن تعود- قراءة في الثقافة العربية
- كوة الحائط العالي حد الدنيا
- رسالة إيميل- بعدما انتهى عيد الحب


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين سليمان- هيوستن - الجد محمد الآلوسي