أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رضا لاغة - العمل النقابي و التحزب: تسامح أم تنافس؟















المزيد.....


العمل النقابي و التحزب: تسامح أم تنافس؟


رضا لاغة

الحوار المتمدن-العدد: 4785 - 2015 / 4 / 23 - 18:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


إن التذكير بمقاصد المؤسسين للاتحاد العام التونسي للشغل في صيرورته التاريخية يتضمن وعيا أصيلا بالاستقلالية كطموح تأسس في عهد لا يزال المستعمر الفرنسي الآثم يرفل في تراب الأجداد، فالأحداث لا تضعنا في محفل ما هو مطلبي بل تخرج من فوهة البنادق فامتزج النضال النقابي بالجهاد الوطني .و تتأكد اليوم الضرورة لانجاز حوار بيني حول معنى الاستقلالية و توظيفها المشبوه لتركيع الإرادة النقابية للتعاطي مع ما هو مطلبي محض فصرنا نسمع بتجريم العمل السياسي و كأنه سبة ، من طالته حلّت به لعنة التجريد من الصفة . و التهمة إضمار نوايا كيدية للمنظمة و للبلاد . و لا ننسى هنا الجدل السخيف الذي صاحب قرار النقابة العامة للتعليم الثانوي بإضراب احتجاجي على الزيارة التي كان سيزمع القيام بها الكلب شارون إلى تونس في سنة 2006 .حينها أطلقت الشتائم و النعوت الفاجرة من المركزية النقابية نفسها فتبرأت من القرار و أدانته أيما إدانة جازمة أن الاتحاد لا يجب أن يحشر انفه في السياسة .
إن معنى الاستقلالية يتواشج مع مفهوم الديمقراطية بما هي ركن أساسي في الممارسة النقابية ولكن ضمن وجود سياسي لا ديمقراطي . و إن كنا سنستعرض معالم هذا التناقض فلا بأس من ذكر التوضــيحات التالية :
ــ لا ننوي أن ننساق في هذا الفصل إلى ضرب من التحقيب التاريخي حول ملابسات نشأة الاتحاد العام التونسي للشغل على ما في هذا التاريخ من أهمية بالغة وذلك لان المقاربة التاريخية تتطلب تخصصا بارعا يقوم على التقصّي فضلا على كون المادة التاريخية هي لا محالة موضع سجال ، يضاف إلى ذلك سبب واقعي، فمفهومي الاستقلالية و الديمقراطية يحظيان بأولوية في معيشنا الراهن؛ دون أن يفوتنا ذكر ما تمثله الديمقراطية للمنظمة بوصفها أداة الفرز الهيكلي لتقلد المسؤوليات و ما تعنيه الاستقلالية من جهة كون القرارات تكون نابعة من إرادة الأغلبية و بمعزل عن أي وصاية من الداخل أو الخارج .
لكل هذه الاعتبارات يمكننا أن نطرح الأسئلة التالية :كيف تبدو العلاقة بين الاستقلالية و الديمقراطية ضمن الأطر النقابية ؟
هل توجد استقلالية حقيقية بين الشركاء الاجتماعيين أثناء الحوار الاجتماعي ؟
هل تشجع العولمة و النظام السياسي في تونس على خلق شروط التفاعل الديمقراطي المستقل داخل المنظمة أم يراد تركيز قطاع عمومي فاقد للاستقلالية و لا ديمقراطي ؟
سأكتفي هنا بتقديم حجتين دامغتين لتأكيد راهنية هذه المعاني .الأولى تخص العولمة التي تنشد ابتلاع العالم و هو ما يشكل خطرا لا يهدد وجود السيادة الوطنية فحسب و إنما الاستقلالية بالمعنى الفردي و أقصد إنتاج وعي مشوه يرتكز على ثقافة التطبيع ؛ و الثانية أمركة الاستحقاق الديمقراطي إذ صممت البرامج التلفزية بإيقاع ديمقراطي شكلاني فتابعنا المبارزة الانتخابية لأوباما ضد هلاري كلينتون و ساركوزي ضد روايال ... لأجل هذه الاعتبارات و غيرها ارتأينا أن نستحضر هذين المعنيين .على أن الموضوعية تملي علينا أن ننصف المرحوم الحبيب عاشور حين استقال من اللجنة المركزية للحزب و اختار الاتحاد كمنظمة عمالية مستقلة عن أملاءات الدولة و خيارها الحزبي . لا شك أن هكذا سلوك قد عزز وعي العمال في كونهم ينتسبون إلى منظمة أشمل من أي حزب يريد احتوائها .
يبدو أن الحديث عن الاتحاد العام التونسي للشغل يصبح حديثا حيا عندما يكون متصلا بمسألة الديمقراطية و الاستقلالية ،فمن منا ينكر أن انتصار الشعوب في معارك التحرير هو مقدمة لبناء حياة حرة .
هذا الاقتران بين نشأة الاتحاد و مفهومي الاستقلالية و الديمقراطية يمكن تتبع مظاهره و بضرب من الاختزال في انضواء العمال التونسيين ضمن الكنفدرالية الفرنسية للشغل و ما تمخضت عنه هذه التجربة من وعي عمالي بحتمية التأسيس المستقل للعمل النقابي ليس فقط لدى الشهيد حشاد و إنما أيضا لدى محمد علي الحامي و بلقاسم القناوي ... غير أن المستعمر ما كان ليسمح بأن تفهم الديمقراطية في تواشجها مع الاستقلالية ،فقد كان يسمح بتفعيل الشرط الديمقراطي على ألا يناقض الوجود الاستعماري ذاته . أنظروا إلى قول فيكتور دي كارنيار مؤسس اتحاد العمال الفرنسيين و رئيس الحجرة الفلاحية : " أن نجعل من العرب عمالا مثل إخوانهم الأوروبيين نقبله لكننا لا نتحمل أن يكونوا بنفس الدرجة في الأجر . فأهل البلاد ما زالوا في وضع لا يمكنهم من الدخول في النقابات . من أجل هذا عليهم أن يمضوا سنوات حتى يتمرسوا "
نلتمس من هذه الإفادة أن س ج ت ليست إطارا نقابيا فاشلا فحسب بل يتضمن مخاطر تبرير الاستــعمار و بالتالي نسف معنى الاستقلالية كخيار وطني مبدئي .
ووفاء لهذه الوطنية دعا حشاد إلى الانسلاخ عن النقابات الفرنسية و تأسيس نقابات يمكن أن تعلّق عليها آمال العمال في الرّفاه و التحرر . فاستبداد الاستعمار و استباحته للأرض و غياب التمثيل الديمقراطي المتكافئ كلها عوامل أسهمت في ولادة الاتحاد العام التونسي للشغل . هذه المنظمة التي شقت طريق مجدها بكنس الاستعمار الفرنسي الغاشم في الماضي و كنس نظام بن علي في الهنا و الآن .
لا شك أن هذا التقريظ ضليع في تكثيف المفارقة التي لم نفتح إلى حد الآن منفذا للولوج إليها ، فنحن لا نزال نتمسك بازدواجية الدور الذي تناسل من الاتحاد في حقبة بن علي المخلوع و ما يعنيه ذلك من مراوحة بين امتصاص الثـــورة و إذكائها ،مصادرتها و مساندتها .
يمكن في هذا الصدد أن نبني مجالا خصبا في معالجة مفهوم الاستقلالية .كيف تمّ التلاعب بها و تحوّلت إلى قوة تبرّر وجود فئة نقابية و ترسّخ شرعية زائفة لأفعالها ؟
لنتفق أولا أن التجربة النقابية في تونس تكشف عن نمط وجود ملتبس لمعنى الاستقلالية من حيث تداخلها مع الحرفيّة السياسية أو ما يسمى بالتحزب السياسي إلى حد ينذر بوجود تماثل بينهما ؛ فالاستقلالية في المدلول الساذج هي أن يحمل المرء مواقف تتعارض مع نهج الحزب الرسمي للدولة . و هو في اعتقادنا تأويل مبرر في الساحة النقابية باعتبار أن هناك محاولات للانقضاض على المؤسسة ، وهو أمر مثبت تاريخيا .
في الواقع رغم ملامح ما عرفناه في الماضي من أنواع الاستيلاء على المنظمة إلا أن هذا التحديد الذي انطبع مع مفهوم الاستقلالية يبدو مربكا لان السؤال الأصلي لم يحسم بعد إذ ما الفرق بين الاســــــتقلالية و التحزب السياسي ؟ و هل كل تحزب يلحق ضرر بالمنظمة ؟ ألا يمكن للحزبية التي تحترم سلطة القرار الداخلية للمنظمة أن تنعش الوعي العمالي ؟
هل حقا يعتبر التحصّن بمرجعية سياسية كبيرة في حقل الممارسة النقابية ؟
رغم الإطلالة التي أوردناها حول ملابسات نشأة الاتحاد العام التونسي للشغل فان ماضي الحركة النقابية ليس حجة كافية نحكم على أساسها على المستقبل إذ أن كل فعل إنساني يقاوم دوما قدرية الماضي عبر ما يظهر من تمثّلات قابلة للتحقق في الواقع . نحن إذن نريد إرساء رؤية إستشرافية ، تصحيحية مستقبلية للشأن النقابي و لا غرابة لو قلنا مع برغسون " إن كل وعي هو استباق للمستقبل " .
إن الطريقة الأمثل لمعرفة مضمون هذه العلاقة هو أن نبحث عن دلالة كل من الاستقلالية و التحزب .
تنبثق الاستقلالية من فعل استقل وهي تنطوي على شحنة دلالية موجبة فنقول مثلا استقل برأيه أي امتنع أن يرضخ لوصاية الغير بمعنى إن الفعل ينبع من الإرادة دون تبعية أو إكراه و نقول استقلال أي انعــتاق و تحرر من نير الاستعمار و حق الشعوب في تقرير مصيرها .أما عبارة التحزب فتعني الانتساب إلى توجه إيديولوجي يناضل من اجل جملة من المبادئ ذات علاقة بما هو سياسي و اجتماعي و اقتصــــادي و ثقافي ضمن أطر تنظيمية لها صبغة إلزامية .و هو ما يعرف بالانضباط الحزبي ،غير أن العناية بهذا المفهوم تحملنا على أن نعيش التاريخ من جديد و إن كنا نعرف أن هذا الطموح تتقاسمه العديد من العقائد الإيديولوجية ، و نحن قد ألينا على أنفسنا في التقديم ألا نتحيّز ضمن خط إيديولوجي محدد .و لو كنا نرغب في تعليل ذلك لقلنا طالعوا الــتاريخ الم تلاحظوا التــــضارب بين المـدح و الذم لرواد الحركة النقابية :ألم تتراء لكم تلك الشبهة التي تطفو على المنجز التاريخي للمؤرخ ؟ إنّه يخفي دوما مآرب إيديولوجية فيما يسرد من وقائع في اتجاه يكون فيه إما مناصرا للسلطة الرسمية ،وفي هذه الحالة يوصف بالرجعية أو بالانتهازية ، أو مناوئا لها ، وفي هذه الحالة يوصف بالتقدمية و النضالية . طبعا نحن هنا لا نودّ من وراء ذلك أن نقدّم صورة سلبية لجهود المؤرخ ، على العكس تماما ،نحن لا نريد أن نتعامل مع التاريخ و كأنه اختلاق لأحداث تكشف عن أشواق إيديولوجية للذات الدارسة و إنما لبيان أن التاريخ، متى استنفذ ذاته في التأمل و ارتمى في أحضان الذرائعية السياسية، سجن نفسه في مضمار التوظيف المصلحي فيستحيل بذلك إلى لا تاريخ .
قصدنا إذن لا يخلو من مؤازرة لعمل المؤرخ و تحفيزه على الابتكار الموضوعي في قراءة الأحداث التاريخية ؛ وما يهمنا هنا هو رواد الحركة النقابية الوطنية و منشأ التعالق الحاصل بين التحزب و العمل النقابي و مبررات الانفصال ؛ و إن كنا نتفق مع ما أشار إليه برغسون" إن وثبة الفكر لا تحصل بداهة سوى في إتقان هو أقرب إلى الايدولوجيا منه إلى الحقيقة" .
بناء على ما سبق تبدو محاولة استقراء التاريخ أمرا صعبا إذ هو يعبّر عن عالم زاخر بالعطاء و التنوع في المعنى و الدلالة ، فلا عجب أن نتخلى عن تدوين الأخبار في عملنا هذا . و على العموم قد يكون ذلك جهدا مجد للمؤرخ المختص و نحسبه كذلك أما نحن فلن ندّعي القدرة في مثل هذه الحالة أن نطلق أحكاما على حقب تاريخية دون ضبط أو تمحيص .
و بما أن المؤرخ ينشد من جهته تمثّل الأحداث التاريخية في وضوحها و نقاوتها فالمتفلسف يملك بدوره القدرة على إعادة كتابة التاريخ ،دون محاولة إحيائه إذاك يسقط في المثالية و يكون ذلك ولو بهدم بعض ما استقر فيه من بداهات خادعة.
و لكي لا ندخل في جدل تعوزه الرصانة حول من تكون له الغلبة ، المؤرخ أم المتفلسف؟ نحتاج فقط أن نشير إلى وجود ضروب مختلفة لكتابة التاريخ و إذ نصرح بذلك ليس رغبة في جني مفاضلة بقدر ما نسعى إلى توضيح مقتضيات التوجه الذي سنسلكه . على هذا الأساس يمكن أن نقسم المقاربات التاريخية إلى ثلاثة أصناف :
1 ـ التاريخ الأصلي :هو ما يكتبه المؤرخ وهو يعيش أصل الحدث .
2 ـ التاريخ النظري : هو ما يدونه المؤرخ مستخدما الاستقراء و المنهج المقارن و ما شابه من وسائط الاستدلال دون أن يكون ذلك مشروطا بمعايشته لأصل الحدث .
3 ـ التاريخ الفلسفي : و يعنى بدراسة التاريخ من خلال الفكر لذلك ليس غريبا أن يجزم هيقل بان التاريخ الفعلي لا يبدأ إلا مع ظهور الوعي . انطلاقا من هذا الاختيار الذي يشدد على التاريخ من زاوية فلسفية ،دون أن نرتهن طبعا لموقف هيقل ،سنحاول استشراف شروط التحقق الفعلي لوحدة الصف النقابي . و لأن المفهوم يعد صنو الممارسة الفلسفية لا يسعنا سوى أن نقبل و بشكل مقصود على تقوّل دلالة المفاهيم. إذ هي غالبا ما تضللنا و تسحق فينا كل طاقة للمعرفة . إنها تشتت قوانا و تمحقها في تجاويف لا حد لها من عدم الإيضاح و الإيهام المبهم و المشوّه أحيانا .
هذا الإلغاز في ضبط دلالة المعنى إما أنه ناتج عن عجز و جهل أو عن قصد و إضمار . في الحالة الأولى تكون الكلمة محطاّ لأفئدة لا يؤلف بينها إلا التطاحن و النزاع ، فهي محمّلة بمعنى مستهلك لا يرقى إلى مطلوب الفلسفة بما هي فن للتفكير فنحصل على خطاب تفاصيله لا متآلفة فتركن النفوس اللاهثة في عمق السطح ؛ أما في الحالة الثانية تكون الكلمة مكتنزة بفخاخ عجيبة فتتهرّب و تظل القراءة غوصا في سواحل لا تنضب و إبحارا محفوفا بالمخاطر في عالم متلاطم ثماره التمذهب و التعصب و الولاء للقراءة الواحدية . وهو ما يمهد لتأثيم الآخر و بيان تآكله و عرضيته . في هذا السياق نرى أن مفهوم التحزب يستحق نظرة تأمل و استجلاء .
إذا تتبعنا المنهج القذر لسياسة بن علي من خلال ذراعه الحزبية لاكتشفنا أن التحزب أي الانضواء في التجمع كان في الغالب ينسف المبادئ العامة التي تقوم عليها فكرة التحزب و نعني بذلك غياب الوازع الذاتي و الطوعي ، فالمعاينة الواقعية للانتساب كانت تتم على قاعدة " كان ما خذيتش بايك مع الناس على الأقل إحمي روحك " . هناك إذن إكراه أو إن شئنا حذر من أن يطالك خطر ما كأن تتهم بالمـــــعارضة . و هو المعنى الضمني للدلالة السلبية للتحزب التي يراد ترويجها بل يمكننا الجزم أن المؤسسة الأمنية التجمعية كانت تفرض حتى على القوى الأكثر وعيا الدخول في وحدة اندماجية طفيلية معها . و ليس مقبولا لهذه القوى أن تسنّ قرارات ســــــوى تلك التي تحقــق التــوازن الذي تفرضه الشروط المبدئية لنــظام الحكم. و العجيب التافه أن جل القوى التي لبست عباءة المعارضة ترعرعت على أسلوب وعظي تبريري ، فهي مثلا لم تجد حرجا في مناشدة الدكتاتور بن علي لسنة 2014 والشعب يعاني ما يعانيه من جلد و لصوصية تكاد تزهق روحه .
أن تكون المعارضة كارهة لجوهرها بما يعنيه ذلك من التزام أخلاقي و سياسي إزاء الشعب ،مع تنزيه المعارضة غير الرسمية ،فذلك يؤكد أن حياكة الأحزاب في حقبة بن علي لا يزيد عن كونه مطيّة لتجميل الوجه القبيح للنظام . إن هذا يذكرني بجانوس اله الرومان ذي الوجهين .أحدهما يشير إلى الخير فهو مشرق و الآخر إلى الشر فهو عابس لا بل مكتئب .
وقد يكون من اللازم أن نفرد بعض التوضيح لمظاهر الولادة المشوّهة للظاهرة الحزبية في تاريخ تونس الحديث حتى نتمكن من إدارة موفقة لحياتنا السياسية الحزبية في غمار هذه الثورة.
إن صورة الأحزاب السياسية كظاهرة ارتبطت بنظم استبدادية ، هي صورة متخلّفة . يقول دـ أسامة الغزالي حرب إن :" التخلف يلقي بظلاله على الظاهرة الحزبية فيطبــعها بطابــعه و يحــد من فعاليتها . و تدهور الأحزاب في بلدان العالم الثالث و انعدام فعاليتها يسهم في تكريس التخلف أكثر مما يسهم في التخلص منه" . لا شك أن ذلك يعزى إلى كونها لا تستطيع أن تتمتع بإرادة ذاتية كجماعة موحّدة لتحقيق تميّزها و تاريخيّتها. إنها تفتقر إلى مرجعية خاصة مستقاة من تطلعات قواعدها . إضافة إلى أن منظومة الحزب هي أصلا منظومة زائفة تتحول في كثير من الأحيان إلى قيمة تبريرية تعمل على تثبيت بنية الاستبداد بدل تقويضه، حتى أن"العديد مما يسمى أحزابا سياسية في العالم الثالث عموما ليست أحزابا بالمعنى الاصطلاحي للكلمة حتى وفق أكثر مضامينها عمومية" . كيف ذلك؟
يعرف سارتوري الحزب في معناه الأكثر عمومية بـ " الجماعة السياسية التي تتقدم للانتخابات من خلال مرشحين للمناصب العامة" . غير أن قراءة سريعة لتاريخ علاقة الأحزاب بالنظم الحاكمة في حقبة بورقيبة أو بن علي تظهر لنا كيف أن اهتمام قادة الأحزاب ينحصر في حشد التأييد الشعــبي للرئيس و تتجلى هذه الصفة في المناشدة .
و الواقع أن تهميش الحياة السياسية و تبخيس العمل الحزبي يتحمل مسؤوليته الأولى بورقيبة أثناء صراعه مع اليوسفية . فقد كان بورقيبة يخشى خصمه الشهيد صالح بن يوسف إلى أقصى حد . و تثبت التجارب التاريخية أن حدوث الثورات في الأنظمة الدكتاتورية لا يتم إلا في حالة الانقلابات العسكرية ( لذلك تعتبر الثورة التونسية على غير منوال فهي قوّضت نظاما استبداديا باحتجاج سلمي ). وهو المنهج الذي فرض على اليوسفيين فرضا من قبل بورقيبة فجاءت أحداث 61 ـــ 62 وسلسلة الإعدامات التي مورست في حق نخبة من المناضلين من ذلك لزهر الشرايطي و محمد الرحموني ....
إن النظام الاستبدادي لا يعبأ بالأحزاب إلا بالقدر الذي تدجّن فيه الذكاء الجماعي و تحويل الاستبداد إلى نموذج مرغوب . و من المهم هنا البحث في مفهوم الاستبداد ، لأن المفاهيم " هي صور نبني بها العلاقات" على حد قول ماكس فيبر. فإلى ما تحيل كلمة الاستبداد ؟
الاستبداد لغة هو اسم لفعل استبدّ ، يصدر عن فاعل مستبد قصد تحويل الذات الأخرى إلى مــــــوضوع و من ثمة السيطرة عليها. و ورد في لسان العرب :" استبد فلان بكذا أي انفرد به ، و استبد الأمر بفلان أي غلبه. و لما كان الاستبداد لغة يحيل إلى معنى الانفراد ، صح بالقياس أن يكون الانفراد بالحكم استبدادا. و في قناعتنا أن الاستبداد له مكونات سياسية و فكرية و نفسية و اقتصادية لا يسعنا في هذا البحث المحدود أن نأتي على ذكرها . و لعل ما كتبه أرسطو في كتاب السياسيات حول أصل السيادة مرورا بماكيفلي و هوبز و روسو و فوكو تشكّل نماذج لمناقشة فكرة الاستبداد. و إنه لأمر يثير السخط أن يتمادى الحاكم المستبد في التحكم المطلق بمفاهيمه المنحرفة و أجهزته البيروقراطية و البوليسية في مصائر شعب برمته و كأنه ينبغي للرعية أن تتحول إلى مرعى لمجرد أنها تأكل رغيف الخبز.
إن انزلاق الأحزاب المستمر نحو الانتهازية و الاندماج المتعاظم بالنظام القائم
قد يفضي إلى توسيع دائرة اهتمامنا لمعرفة بلاغة الرفض الثوري الذي اجتاح شباب الثورة و الثقة الساذجة في التفاوض التي تآكلت لا فقط بتحقير أحزاب الكرتون و إنما أيضا بعدم الرضا على مسلكية التفاوض التي انتهجتها منظمة الاتحاد العام التونسي للشغل.و حيال الحوادث المثيرة و المؤسفة التي اندلعت في الحوض المنجمي و بنقردان نفهم لماذا تمتد أصابع اتهام المحتجين إلى إدانة البيروقراطية النقابية التي سقطت في عقد مساومات سياسية تتعارض مع البنى القيمية لتاريخ المنظمة .و لعل تجريد المسؤولية النقابية لبعض المناضلين كمقدمة لسجنهم هو أبرز معا لم هذا التواطؤ. و الذي لا شك فيه أن التثاقل و التعاطي الأعرج مع أهالينا ينبع من كون الاحتجاج هو مضلة خطرة للقيادة النقابية ممثلة في السيد عبد السلام جراد و حاشيته التي يتركب منها المجلس الوطني الموسع، مع بعض الاستثناءات ، فالرجل من المناشدين و الاحتجاج قافية مفجعة و تعبير متطرّف يتباين مع حبكة التفاوض . لقد تعلمت البيروقراطية كيف تفضل السطح المستوي فكثفت لصالحها الاعتبارات الزخرفية الواهية فسقطت نضاليا و أضحت عبئا على المنظمة . و سأغامر بالقول أن المواطن البسيط قد أصاب المرمى حين أعلن سخطه على الاتحاد أثناء الثورة .وإذ يفعل ذلك لا يميز بين الأشخاص التي تضمحل في ذاكرة التاريخ و المنظمة كينبوع هائل يروي تونس بالعزة على الدوام . وهو ما سننصرف لمعالجته لاحقا.
المراجع:
1 ــ الحركة النقابية العمالية في الوطن العربي ، التهامي الهاني ، ص 106 .
2 ــ الطاقة الروحية ، برغسون ، ص 5 ، ترجمة علي مقلد ، ط1 ، المؤسسات الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع.
3 ــ نفس المرجع
4 ــ الأحزاب السياسية في العالم الثالث، أسامة الغزالي حرب، سلسلة عالم المعرفة.
5 ــ نفس المرجع ، ص 9
6 ــ نفس المرجع



#رضا_لاغة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القوى الناصرية : مستلزمات البناء و مهام عاجلة
- حرب اليمن و الغموض الإستراتيجي
- التقاطعية و جسر الهويّات
- شقوة مخبّأة في قفا خربشة جريئة
- هابرماس و اجتراح مكانة لسوسيولوجيا ذات معنى
- يمنيّ حانق أنا
- الإرهاب و استدرارالطاعة بين - إدارة التوحّش - أو الهيمنة و - ...
- من قانون الدول إلى قانون الشعوب، جون رولز نموذجا
- هجوم باردو بين المنطق و اللامنطق
- الاغتيال السياسي : تنظيم داخل التنظيم
- أضواء ساطعة حول الإغتيال السياسي: الرفيق شكري بلعيد و الأخ م ...
- قتل بإستيطيقا غامظة
- حيز يقطن فيه الأمل : تبيئة للفضاء العمومي الهابرماسي
- إلي أيقونة القلب: فلسطين
- احتمالات معاكسة لليقين و اللايقين
- تفجير الحداثة من الداخل : نقد لها أم تضحية بالحداثة؟
- هو ذا طريقنا
- الحداثة المعطوبة بعيون هابرماسية و الدور الملهم للإرث الديني ...
- يشرعن و يقمعون ، و المرأة تبلغ نهاية مصيرها العادل
- ثقافة فينومينولوجية لاختراع الجسد و تنابذ مع الكوجيتو المقلو ...


المزيد.....




- قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا ...
- أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق ...
- الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي ...
- موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق ...
- الرئاسة الفلسطينية تحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية أي اقتحام ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: وعود كييف بعدم استخدام صواريخ ATAC ...
- بعد جولة على الكورنيش.. ملك مصر السابق فؤاد الثاني يزور مقهى ...
- كوريا الشمالية: العقوبات الأمريكية تحولت إلى حبل المشنقة حول ...
- واشنطن تطالب إسرائيل بـ-إجابات- بشأن -المقابر الجماعية- في غ ...
- البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رضا لاغة - العمل النقابي و التحزب: تسامح أم تنافس؟