رضا لاغة
الحوار المتمدن-العدد: 4744 - 2015 / 3 / 10 - 18:15
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يطالعنا مفهوم الحداثة ، بعدم قبوله لصرامة التدقيق . إنه مفهوم رخوي ، يرتبط بالتباسات تترك المعنى مفتوحا على محاولات توضيح حاضر متصوّر، و وعي تاريخي مفسّر لذاته ضمن منظور تعاقبي لما سبقه من أزمنة . إن هذا التعاقب بين الماضي و الحاضر ( الما قبل ) جذّر أحجية التعاقب المفترض بين الحاضر و المستقبل ( المابعد) . و لا شيء يبدو مخالفا وفق التطور الذي شهدته الحداثة ، أن نتحدث عن ما بعد ــ الحداثة كنمط متصور لوجود ممكن. أو ليست الحادثة متوالية زمنية لزمن ما قبل حداثي.
يتعلق الأمر هنا بإيضاح ما تفترضه الحداثة من وعود و ما تخفيه في الآن نفسه من قدرية ممهدة تشقّ وجودها بطراز محتوم لأفولها.
و في حدود ما يستلزم التفكير النقدي ، باستطاعتنا تبيان الأصل المجهول للصعوبة التي سنزاولها، ضمن هذا التساؤل:
هل النقد بما هو شكل من أشكال العقلنة ، يؤدي إلى إعادة تفعيل العقلانية أم إلى هجرانها؟
و هل انتقلنا حقا من عصر الحداثة إلى عصر ما بعد الحداثة؟
يبرهن يورغن هابرماس ، بمطارحة تفاعلية ، أن المقاربات الماـ بعد حداثوية ، تعزز فكرة غير موجودة، هي عبارة عن مجرد مزاعم معلنة تتجنّب تقوّل الدلالة المباطنة للعقلانية.
إن الغموض المشار إليه يعزى إلى عدم تمثّل الصلة الداخلية بين الحداثة و العقلانية الغربية، و التي صيغت بغرابة مستهجنة غيّبت الإطار المكاني و ألزماني الذي نشأت فيه. بخصوص هذه المفارقة يبين هابرماس كيف انعطف المنحى الفيبري لتنفيذ مثل هذا الفهم الذي غيّب المضمون الواقعي ( المكان و الزمان) الذي تفترضه الحداثة لحظة تأسيسها.يقول:" إن نظرية التحديث عند فيبر تفصل الحداثة عن أصولها ــ أوروبا العصور الحديثةــ و تعرضها بمثابة نموذج عام لسيرورات التطور الاجتماعي. نموذج حيادي يهمل الإطار المكاني ــ الزماني الذي يطلق فيه" 1
ضمن هذا التحديث المرتبط بنسق العلمنة ، الذي استشرى في كل مناحي الحياة، يشدد فيبر على ضرورة إعادة تقييم شاملة للانشقاقات المهمة بين نظامين متداخلين وظيفيا:
ـــ نظام يعمل على تصنيف أنماط النشاط الاجتماعي خدمة للمشروع الرأسمالي.
ــ نظام منسّق يعمل بإستراتيجية بيروقراطية بغرض فرض جهاز الدولة.
إن هذه اللوحة الملتبسة لعملية العقلنة ، رغم كونها محللة ببراعة ملهمة تمحور عليها الشروع النقدي لدى هابرماس في تمييزه بين العقلانية الأداتية و التداولية ، فإنها يجب أن تخضع لبرهنة يعتقد هابرماس أنها ممكنة. يقول " إن إزاحة الحداثة غلاف خاو لتصور ثقافي للحادثة" 2 . معنى ذلك أنه يمكننا إدراك الحداثة و إعادة التفكير فيها ، بالاستفادة من العقلانية التي ينبغي أن تبنى على مرتكزات جديدة تتحيز في حقل التداولية. و إن لمن مقتضيات هذا التأسيس ، الاهتمام بالدور الوظيفي للعقلانية في بعدها التواصلي. و بالتالي التسليم بأن الحداثة مشروع لم يكتمل بعد. يقول هابرماس :" إن المحاولة الأولى التي سعت لتصور الحداثة ، هي نفسها تنقد هذه الحداثة" 3 .
إن الإفصاح الفعلي عن معالم هذه المفارقة يقود إلى الاعتراف بتفرّد المرجعية الهيغلية التي فرضت على الحداثة أن تفهم ذاتها بوصفها عصرا تاريخيا. صحيح أن الذاتية بما هي حرية ، هي " ما يصنع عظمة عصرنا " 4 ، و لكن ثقافة الحرية الذاتية من شأنه أن يفضي إلى إسقاط الكلية لتبدو الروح غريبة عن ذاتها. يقول هابرماس:" إن نقد المثالية الذاتية ، هو في حد ذاته نقد لحداثة لا تملك أية وسيلة أخرى للتأكد من المفهوم الذي يعرّفها، أو لبلوغ التوازن.و بناء على ذلك ، لا يمكن للنقد و ليس له أن يستعمل أية وسيلة أخرى غير التأمل الفعلي حيث يتعرف على التعبير الأكثر نقاء لمبدأ الأزمنة الحديثة"5 . و بالفعل ، لئن كانت الحداثة مدعوّة لأن تؤسس نفسها ، فإن المقاربة الهيغلية تشرع في تنمية المفهوم النقدي للحداثة من داخل الحداثة ذاتها.
رغم هذه المساهمة الهيغلية التي تصدت للذاتية المزهوة بذاتها فقد بدت قابلة لان تخترقها مفارقة جديدة ، بسبب الموضعة التي سنحت للذات " أن تطرح نفسها بوصفها مطلقا" 6 لتقلب المشهد من ، احتجاز العقلانية ضمن أسوار الذاتية ، إلى حبسها ضمن ترسيمات فكر تاريخي شمولي و مطلق يحمل رقابة استرجاعية لما قبل اللحظة الكانطية ، ضد كل ممارسة نقدية، بما هي نظرة مدعوة لمناهضة الكلية التي توسطت النظرية و الممارسة في الحاضر التاريخي.
إن الحل ، في نظر هابرماس ، يستلزم إعادة تنظيم العلاقة بين المعرفة التي تنشد الاحتفاظ بمصداقية العقل مع مقولاته الذاتية و الواقع الموضوعي و التاريخي الذي يتحيز فيه. وهي غاية لا تتحقق إلا عبرهدم المرتكز الفلسفي الوضعي و النظر للعقل على أنه ملكة مزدوجة يؤم بداخلها منزع أداتي و آخر تواصلي.
أن نمدد روابطنا مع الحداثة ، يعني أن نجازف بتحرير فكرة التواصلية من هيمنة العقل الأداتي، و بالتالي تأكيد البعد المعياري للحداثة. و لو أردنا تبويب هذه المحاجّة النقدية لهابرماس لقلنا: إن انعتاق الحداثة عن نرجسية الذات، و ما أسفر من تبدل طرأ على بنيتها ( إشارة لهيغل)، لم يصنها من أن يتسرّب إليها خطر جديد ألا وهو الكلية.
إن تخليص الفلسفة من الوثوقية و التزامها بدرب النقد يدعونا إلى الاهتمام ، لا فقط ، بنيتشه و ماركس و ماكس فيبر و هوركهايمر و أدرنو.. و لكن أيضا بهوسرل و باشلار و قبل ذلك بكانط . فبفضل هؤلاء نجحت الفلسفة في " استعادة كفاءتها في نقد العصر" 7 .
لكل هذه الاعتبارات يطرح هابرماس التساؤل التالي:" كيف يتسنى للحداثة أن تفهم ذاتها بشكل صحيح؟ " 8 .
إن التعاطي مع هذه المسألة يستدعي ، بلا ريب ، معرفة الأسس المعيارية لفلسفة البراكسيس، و بالتالي فإن الوقوف عند إسهامات الفلسفة الماركسية هو أمر مفيد في كل الأحوال، رغم كونها تبدو في نظره " أسس غائمة" 9 . يقول:" إن تاريخ الماركسية الغربية يقدم تمثيلا جيدا للصعوبات التي تواجهها فلسفة البراكسيس و مفهومها عن العقل على مستوى المقولات. هذه الصعوبات تنبثق ، من قصور في وضوح الأسس المعيارية للنقد"10
يرتب هابرماس هذه الصعوبات ضمن ثلاث مستويات:
ــ عفوية فاعلية العمل الاجتماعي. فعندما يقر ماركس بأن البنية التحتية هي المحدد الأساسي للبنية الفوقية، و أن الوعي هو مجرد انعكاس ، فإننا نسجل حجب لكل مبادرة إبداعية.
ــ التباس معنى العمل الذي يحيل إلى دلالتين: دلالة ميتة و أخرى حية ، وهو ما يجعل الشبكة النظامية التي يشكلها النظام الرأسمالي للمجتمع " محض وهم " لأن " إلغاء علاقات الإنتاج يحيلها (هي ذاتها) إلى عدم" 11
ـــ إن فلسفة البراكسيس تنظّر لحل مثالي لا يختلف عن الحل الهيغلي ، لأنها تعيد إنتاج مفهوم الكلية ضمن عصر ذهبي بلغة مرلوبنتي هو العصر الشيوعي.
و لعل براعة ماكس فيبر تكمن ، في تفطنه إلى أن " إلغاء الرأسمالية لن يؤدي إلى اختفاء القفص الفولاذي للعمل الصناعي الحديث"12 .
فهل يؤول ذلك إلى تفجير أطر العقلانية على نحو ما زعمت النيتشوية؟
يعتبر هابرماس أن فلسفة نيتشه تضعنا في مفترق طرق : إما أن نشكك في مكتسبات الحداثة و نوجه لها الإدانة، لنعلن عن انسداد المشروع العقلاني الغربي الذي وقع ضحية وهم اللوغوس ؛ أو التفاخر بمنتجاتها و عدم التفريط فيها بما يحتمله ذلك من إعادة موضعة تقوم على الفعالية التقويمية و التوجيهية للنقد.
عند هذا المفترق ، يستعرض هابرماس النقد الذي سلطه كل من هوركهايمر و أدرنو في كتابهما " جدل التنوير" ، ضد الحداثة. يقول:" إن القضية التي يقدمها مؤلفانا ، ليست أقل تهوّرا من قضية نيتشه التي تنتهي إلى العدمية عبر دروب مشابهة" 13 .
وفق هذا التقدير ، يعتنق هابرماس رؤية نقدية، غير أنها ترسم حدودها بوضوح . فهي لا تنوي تعطيل و رفض الحداثة مثلما هو الحال عند هوركهايمر و أدرنو اللذان لم ينصفا المضمون العقلاني للحداثة، بل ستعمل على تخطيط درب جديد للخروج من فلسفة الذاتية ؛ انطلاقا من مقولة التفاعل التي تتيح للأنا أن تدخل في علاقة بين ــ شخصية . إن هذه العلاقة المولّدة بين الأنا و الآخر تنقلنا من مجال العقل الأداتي بما هو عقل قائم على السيطرة على العالم و الطبيعة الإنسانية إلى مجال العقل التواصلي بما يرمز إليه من اندماج حي بين الذوات .
إن هذا الانفتاح على النظرية التواصلية عند هابرماس يدعونا إلى قراءة نظرية التفاعلية التواصلية و ما يؤول إليه ذلك من مرور إلى نظرية تتعلق بصلاحية أو مقبولية الملفوظات. وهي نقلة موجودة في بنية اللغة ذاتها بما تزخر به من احراجات فلسفية لا حد لها.
المراجع:
1 ـ القول الفلسفي للحداثة. يورغن هابرماس ، ترجمة الجيوشي فاطمة. ص 9 ، منشورات وزارة الثقافة ، دمشق
2 ـ نفس المرجع، ص 10 .
3 ـ نفس المرجع ، ص 30 .
4 ـ أصول فلسفة الحق . هيغل ، ترجمة الإمام عبد الفتاح،دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت.
5ـ القول الفلسفي للحداثة، ص 70
6 ـ نفس المرجع، ص 70
7 ــ نفس المرجع ، ص 86 .
8 ـ نفس المرجع ، ص 86 .
9 ــ نفس المرجع ، ص 109
10 ــ نفس المرجع ، ص 105
11 ــ نفس المرجع ى، ص 108
12 ــ نفس المرجع ، ص 108
13 ــ نفس المرجع ، ص 176 .
#رضا_لاغة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟