أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رضا لاغة - الطريق من الجريمة إلى الأنثروبولوجيا















المزيد.....



الطريق من الجريمة إلى الأنثروبولوجيا


رضا لاغة

الحوار المتمدن-العدد: 4733 - 2015 / 2 / 27 - 11:38
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


قد يكون من اللازم و نحن نناقش مسألة الجذور الأنثروبولوجية للجريمة أن نطرح بعناية الحضور النسقي للجريمة في تاريخ التجربة الإنسانية , التاريخ هنا أزمة للمعنى لأن الإنسان متورّط في حياة لم تبدأ إلا بارتكاب جريمة يبدو أنها تتجدّد كضرورة دائمة و مستمرّة. هكذا هو حال الإنسان ، فهو ككيان له تاريخيّته لا يفعل شيئا سوى أن يدفع بقدره نحو نهايته حيث تجسّد الجريمة في تلازميّتها التناقض التاريخي المرعب بين منطق الاستخلاف في الأرض و بنية الشر التي تجعل من الفعل مشدودا لصنع حياة مغايرة منهكة بتوسيع خيارات مضادة لمعنى الاستخلاف ذاته.
و قد يكون في هذا أعظم انتقام من المثل التنويرية التي تحاشت عن قصد مواجهة التعقيد المفهومي لظاهرة الجريمة . و إذا كان التزامنا الأول في هذه المطارحة هو تعقّب الحضور اللامحدود للجريمة التي استحكمت بشكل غير مألوف في عالمنا المعاصر ، فإن الأهواء أفضل من يكشف لعبة تزيين الذات الإنسانية اعتمادا على تطابقها مع معنى العقل و الإرادة و النفس...فالصلة التي تنعقد بين الإلهي و الإنساني تظهر عبر حقيقة الرّوح أي أن الأسس التي شيّدت عليها فلسفة التنوير ماهية الإنسان بنيت على نسيان الأهواء ؛ وهو ما يسمح بتسويغ الجريمة كتجلّ صيغته الاستباقية تكمن في الأهواء التي تعطيها شكلا محسوسا في الزمان و المكان ، فالمجرم هو من فسد صفاء عقله. و لسوف يترجم هذا في سجلّ علم النفس على أنه سلوك صادي أو فصام أو شيزوفرينيا أو هوس ... و حسبنا هنا أن نرتدّ إلى الجريمة الأولى وفق تصوّر فرويد . إن قتل الأب من قبل الأبناء هو استغراق لنوازع الرغبة و الشعور المزدوج بالحب و الكره ، بدافع الإيروس و التاناتوس. إنه مجرّد آلية دفاعية للتنظيم البيولوجي ؛ و ربما ظنّ البعض أن الفارق بين الإنسان الخيّر و الإنسان الشرير يقاس بمدى تلبّس العاطفة على ملكاته الذهنية في حين أن قالدويل في إطار جهوده العلمية لتطوير نظرية سبيرس بيّن أن الملكات الذهنية هي التي توجّه الغرائز و تقوّي حب التملّك. فكيف يمكن حينئذ أن نعتبر العقل بريء من الفعل الإجرامي؟
مما لا ريب فيه أنه لا يكفي لتفسير ما ، أن يصاغ في شكل نظرية حتى يكون مرضيا و حقيقيا ؛ إذ أن المأزق الذي تضعنا فيه ظاهرة الجريمة لا تنتهي حدوده عند خطّ التقاطع بين الغرائز و الملكات الذهنية. يوجد حقل مغناطيسي مضاف تتضافر فيه عوامل تكوينية عضوية و نفسية و بيئية، فلو أننا ركزنا على سيكولوجية القاتل سنجد تصنيفات لأنماط متنوعة تزوّد شخصيته : الصدفة ، الفطرة ، العادة ، العاطفة...
إن الصعوبة التي تواجهنا للحد من المسار التخريبي الذي يكافح معيار الإحالة العلمية لظاهرة الجريمة لا يختلف عن ذاك الغموض الجذري الذي واجهناه حين أردنا إنارة معنى الأنثروبولوجيا.
و ليست الصعوبة في كيف تعرّف الجريمة و إنما كيف نعلّل اختراقها للوجود الإنساني . و لأننا ارتضينا في المقال السابق تعريفا عاما للأنثروبولوجيا " كأكثر العلوم التي تدرس الإنسان و أعماله شمولا و إطلاقا" سنرتضي أيضا تعريفا فضفاضا للجريمة بالقول أنها كل فعل شرير. بلا شك أن هكذا مجازفة تحتاج إلى تدقيق فنحن ننطلق من هذا التعريف الافتراضي كإجراء منهجي مؤقّت قد يفتح لنا باب الميتافيزيقا على مصراعيه ، و ربما يساور البعض قلق بأن هذا التّمشّي من شأنه أن يفسد المتن العلمي الذي حددناه للإنثروبولوجيا بوصفها تتصل بعلوم متخصصة كالبيولوجيا و اللغة ...
و هكذا نعترف أننا فريسة هجوم خفيّ للسادة العلماء ذوي التخصصات الفرعية لعلم الجريمة و لكننا مع ذلك نذكّر أن قيمة الروح الحجاجية لا تتبلور إلا ضمن آلام المخاض التي تبذر مولودا جديدا. و ما أشد افتتاني بقول ريجيس دوبريه كعزاء لهكذا مطبّ:" لتغترب النظرية و لترتض الذهاب للضياع في هذا العامل الموضوعي حيث تنكر نفسها ، و عندئذ يثبت أحد أمرين: إما أنها قادرة على أن تصبح راشدة ، و إما أنها تستحق الهلاك"1.
على الرغم من الأحكام التي يمكن أن تعصف بهذا الافتراض ، فإننا مع ذلك نحتاج لتحويل وجهة نظر التفكير في الجريمة من كونها ظاهرة مادية مشخصة في الزمان و المكان إلى كونها ظاهرة أنثروبولوجية تأتي من التاريخ الذي تحرر فيه الجاني من هاجس التأصيل الأخلاقي لكينونة القتل كفعل شرير. طبعا إن في ذلك إشارة إلى قصة ابني آدم ، فقد كان قابيل يريد زوجة هابيل لنفسه فدعاهما أبوهما أن يقدّما قربانا لله فتقبّل من هابيل و لم يتقبّل من قابيل الذي أكلته الغيرة و الحسد فأقدم على قتل أخيه.
إن هذا القصص القرآني هو بمثابة التوقيع الأوّل لثنائية الخير و الشر. و لكن السؤال: كيف يمكن أن نؤسس رابطة معقولة بين الخير و الشر، مثلما كان قابيل أخ لهابيل و لم تشفع له هذه الأخوّة لحقن دم أخيه؟
تلك هي الفتحة التي نودّ تجريب أسلوب المخاطرة باقتحامها، بمعنى آخر هل للصحة العقلية لدى الجاني ( قابيل) دور في إلحاق الأذيّة بالضحيّة ( هابيل)؟ في هذه الحالة نحن نتحدث عن فعل مسئول اختار بموجبه الجاني و بمحض إرادته أن يسلك طريق الشر. و هو ما يؤول إلى الاعتراف بالمنزلة الأنطولوجية للشر؛ فكيف نثبت ذلك أنثروبولوجيا؟
فلو قلنا أن الشر له مرتبة عرضيّة فكيف نبرّر تلازميته للتجربة الإنسانية حتى أن المتأمل في التاريخ يكاد يجزم أن حضارة الإنسان هي حضارة دمار.إن من يتدبّر كتاب بول ريكور : "فلسفة الإرادة ، الإنسان الخطّاء" سيجد تأكيدا لهكذا مشغل فلسفي قصد فك لغز الشر أو الخطيئة عبر رحلة عجائبية تنقلنا من " فينومينولوجيا الإرادي و اللاإرادي إلى تأويلية مميّزة تاريخيا.
ينطلق ريكور من اعتقاد مفاده أن إمكانية الشر متجذرة في تكوين الإنسان . إن الشر أفلح في اكتساح عالمنا الإنساني عن طريق الإنسان نفسه، غير أنه يحذّرنا من استتباعات هذه الفكرة الخطرة بقوله:" يجب أن نفهم معنى هذا القرار حتى لا نرفض مبكّرا شرعيته"2 . فأيّ ضرب من الالتزام في تقدير ريكور نكون مطالبين بالامتثال له في ضوء هذا الإقرار الذي يعاند الشرعيّة؟
إننا هنا مطالبون بتفكيك مشكلة الشر انطلاقا من الحرية، فوجودنا الخاص ينكشف كغاية تتوجّه نحو المستقبل لتوسيع إمكانات الحرية ؛ و لكننا نتقبّل الشر كخطأ أخلاقي اقترفته الذات بحرية أو بمعنى أدق بمسؤولية. هنا ينبغي التمييز بين خطأ أخلاقي مستوحى من مرجعية ميتافيزيقية و خطأ أخلاقي مستخلص من الحرية ، لأن الاعتراف بالخطأ هو في نفس الوقت اكتشاف للحرية أي أن تجربتنا المعيشية تقوم في جوهرها على هذا التعارض المستمر بين الخير و الشر ، و تلهّفنا على فعل الخير ليس حجة كافية لكي نحكم نهائيا بأن الشر استخفاف مؤقت بالإرادة التي خارت قواها أثناء مقاومته. فهو بالأحرى من جنسها لأنه فعل مسئول.
ههنا يمكن أن نتحرر من وصاية الخطاب الميتافيزيقي لنتحدث عن لا تناسبية الذات مع ذاتها أو مفهوم اللاعصمة عند ريكور. لنصغ إليه كيف استطاع أن يمارس هذا الانزياح عن ما هو ميتافيزيقي لينشغل بما هو أنثروبولوجي:" عندما لا أفكّر سوى بالله، فإني لا أكتشف في نفسي أي سبب للخطأ أو الإثم ، و لكن بالعودة إلى نفسي تفيدني التجربة بأنني رغم ذلك ، موضوع لما لا نهاية من الأخطاء"3 . إن الشر إذن لا يفسر كحالة إغواء تسلّط على الذات بقدر ما هي إمكانية تصيب وجودنا لمحدودية إرادة الإنسان الخطّاء. باختصار يجب أن نوجّه كل اهتمامنا للماهية الإنسانية لنمتحن هذا القرار الذي قامت عليه مقاربة ريكور و التي تراهن على ما هو أنثروبولوجي و ليس على ما هو ميتافيزيقي.
إن توظيف الأنثروبولوجيا ليس أمرا تختص به فلسفة ريكور بل سبق و أن ضبطنا القواعد العملية لهذا الاستدلال الفلسفي مع هوبز الذي حدد شروط إمكان الفلسفة بالانثروبولوجيا و بالتالي القطع مع الترسّبات الميتافيزيقية. غير أن اختزال تعريف الإنسان ضمن بنية الانفعالات عند هوبز لا يخلو من التباس قد يجرّنا إلى الزلل. فإذا كان وجود الشر من منظور هوبز يتسم بطابع وثوقي يتراءى من خلال ذئبوية الإنسان ليقدم لنا ضربا من التجانس الماهوي للذات ، فإن ريكور سيقوّض ذلك بابتكار مفهوم اللاعصمة أو الهشاشة التكوينية التي تحيل إلى لا تناسبية الذات مع ذاتها التي تشكو من التمزق الداخلي الذي يعتريها ، فلا أحد يكون ذاتا من خلال تمايزه مع الغير بل في اندماجه مع الغيرية و ليس للإنسان أن يصل إلى هذه الغاية إلا عبر هذا التناقض المحايث بوصفه مصدر كل وجود. فثمة ضرب من الاتصال بين الخير و الشر في تشكيل الكينونة؛ و لعل وجاهة هذا الطرح الذي قدمه ريكور تكمن في منهجية تعقّل الحرية التي تأخذ على عاتقها مسؤولية تعليل وجود الشر كمآل ذو طبيعة إنسانية. و من أجل توظيف هذا المدخل الفلسفي للتعرف على الأساس البنيوي للمكوّن للجريمة و الذي لا نكاد حتى اليوم نحصره علميا ، يمكننا فهم بواعث السلوك الإجرامي من مبدأ المتعة . بمعنى آخر كل إنسان مسئول عن ما يختاره من سلوك لنيل متعة ما و للسبب ذاته فهو مسئول عن ما يمكن أن يلحقه من ضرر و ألم لغيره . و لما كان الشر يستمد سلطته من الحرية ، فإنه حيّ فينا . و إذا كان الشر الأخلاقي الميتافيزيقي يكمن في مخالفة أوامر واجب الوجود بلغة ابن سينا ، فإن الشر المعنوي يكتسي منحا إنسانيا.إنه يتنزل في صميم التجربة الإنسانية التي تلحق فيها الذات أذى لذات أخرى. هذا الطرح يكشف عن صعوبة تبرير مصدر الشر بوصفه فعل إرادي ينطوي على قصدية للنيل من حرية الآخر . قد يعترض أحدنا فيقول : إن الشر ناتج عن الجهل. لنصغ إلى البار كامو كيف يحدد سبب الشر:" إن الشر الذي في العالم غالبا ما يتأتّى من الجهل ، و يمكن للإرادة الطيّبة أن تحدث من الأضرار قدر ما يحدثه الخبث إن لم تكن مستنيرة بالعقل".
لنسلّم في الوقت الحاضر أن الأضرار التي تتولّد من الفعل مردّها غياب العقل المستنير، و ربما كان أبلغ تفسير يفرض نفسه كصيغة منطقيّة تستوحى من هذه المطارحة ، أن الشر نقص في الوعي و غياب القدرة على تمثّل الخير بوصفه غاية قصوى للوجود الإنساني. في الواقع إننا هنا حين نستخدم مفهوم الجهل يحضرنا التصور الأفلاطوني المخالف لتصوّرنا الفلسفي الذي يستند إلى معرفة أنثروبولوجية للشر بوصفه عمل حر نابع من صميم الإرادة. فالصانع المباشر للشر هو الإنسان لذلك ينبغي النظر اليه من زاوية تبرز بعده البنيوي. و هذا يتطلّب التمييز بين دلالتين للحرية: حرية لا عقلية تحمل في جوّانيتها إمكانية تدمير ذاتها و حرية عقلية متضامنة مع الخير و الحقيقة غير أنها ربيبة الضرورة. يبقول نقولاي بيرديائيف :" تنطوي الحرية اللاعقلية على إمكانية الفوضى... إنها لا تختار لنفسها شيئا ، فهي خاملة ، لا مبالية بالحقيقة و الخير"4 ؛ إنها تجرّ الإنسان إلى عبودية الأهواء.معنى ذلك أن عالمنا هو عالم الثنائية : الحرية و العبودية ، المعرفة و الجهل و الخير و الشر...
هذا اللاتناسب يرسم بعدا أنطولوجيا جديدا للإنسان كحيز يخترقه خليط من المتناقضات بين الحياة كما هي و الحياة كما ينبغي أن تعاش. من هنا نفهم مبرر التوصيف الذي سحبه ريكور على الإنسان بوصفه كائنا خطاء": القول بأن الإنسان خطّاء يعني أن المحدودية الخاصة بالكائن الذي لا يتطابق مع نفسه ، هي الضعف الأصلي الذي ينبثق منه الشر".
هكذا أضحت الذات ساحة لدراما تشتمل على تنوّع يصل حدّ التمزّق الداخلي لتغدو الغيرية ليست ما يميّز الأنا عن الآخر بقدر ما هي الفارق بين الأنا و الأنا.
يمكن بناء على ما تقدّم أن نستخلص النتائج التالية:
ــ إن الكشف عن ماهية الشر لا يمكن أن تتم عن طريق التأمل المجرد و إنما بالغوص في كينونة الإنسان.
ـــ إن كل ظاهرة لها نسقها التاريخي الذي يكسبها خصوصيتها و أن الشر هو جماع ما أنتجه الإنسان على هذا الكوكب.
ـــ إن ظاهرة الشر لا تدرس من الناحية الأنثروبولوجية إلا من في إطار الثنائية الكامنة في جوّانية الذات.
ـــ إن السمات الأخلاقية التي تتحكّم في التوجّهات السلوكية ، لا تؤدّي ــ على أهميتهاـ إلى حسم جوهر مشكلة الشر.
ـــ إن لا تناسبية الذات تكشف صعوبة التوفيق بين الكائن الواقعي بنقصه و هشاشته و الكائن المثالي بسموّه و تعالي همّته . يقول كاقين رايلي:" الناس متعاونون و متنافسون في الوقت ذاته ، ودودون و عدوانيون، مسالمون و محبون للحرب على حد السواء. و السؤال عما إذا كان الناس بطبيعتهم محبين للسلام أو الحرب هو أشبه بالسؤال عما إذا كانوا بطبيعتهم أغبياء أو أذكياء"5 .
إن هذه الوجدانية تتيح لنا أن نتعرّف على الخطأ المبدئي الذي ينشأ منه الشر ، فالذات الضامئة للحرية تكتشف أنها حين تحب أو تتألم إنما ترسم من خلال أفعالها ، تاريخ أخطائها .إن هذا الحوار الجوّاني يدفعها إلى نقطة التقاطع الحادة بين المثالية و الواقعية.و لو أختبرنا معنى التقاطع الذي نقصده ربما توجّب علينا أن نترصّد ارهاصات الإيقاع الجدلي بين ما هو انثروبولوجي الذي يتسم بطابعه الأداتي الناجز لفهم الظاهرة الإجرامية و ما هو قيمي أخلاقي يتغلغل بإيحاءاته البلاغية في ثنايا الذات العميقة.
المراجع:
1 ــ ريجيس دوبريه، نقد العقل السياسي ، ترجمة عفيف دمشقية، ص 33 . دار الآداب.
2 ــ فلسفة الإرادة ،الإنسان الخطاء ، ترجمة عدنان نجيب الدين، ص 20 . المركز الثقافي العربي.
3 ــ نفس المرجع، ص 26
4 – Freedom and sprit 1935
5 ــ كاقين رايلي ، الغرب و العالم ، الفصل الخامس : الحرب و السلام ص 123 ، ترجمة عبد الوهاب المسيري و هدى عبد السميع حجازي ،عالم المعرفة.

























































































































































































































قد يكون من اللازم و نحن نناقش مسألة الجذور الأنثروبولوجية للجريمة أن نطرح بعناية الحضور النسقي للجريمة في تاريخ التجربة الإنسانية , التاريخ هنا أزمة للمعنى لأن الإنسان متورّط في حياة لم تبدأ إلا بارتكاب جريمة يبدو أنها تتجدّد كضرورة دائمة و مستمرّة. هكذا هو حال الإنسان ، فهو ككيان له تاريخيّته لا يفعل شيئا سوى أن يدفع بقدره نحو نهايته حيث تجسّد الجريمة في تلازميّتها التناقض التاريخي المرعب بين منطق الاستخلاف في الأرض و بنية الشر التي تجعل من الفعل مشدودا لصنع حياة مغايرة منهكة بتوسيع خيارات مضادة لمعنى الاستخلاف ذاته.
و قد يكون في هذا أعظم انتقام من المثل التنويرية التي تحاشت عن قصد مواجهة التعقيد المفهومي لظاهرة الجريمة . و إذا كان التزامنا الأول في هذه المطارحة هو تعقّب الحضور اللامحدود للجريمة التي استحكمت بشكل غير مألوف في عالمنا المعاصر ، فإن الأهواء أفضل من يكشف لعبة تزيين الذات الإنسانية اعتمادا على تطابقها مع معنى العقل و الإرادة و النفس...فالصلة التي تنعقد بين الإلهي و الإنساني تظهر عبر حقيقة الرّوح أي أن الأسس التي شيّدت عليها فلسفة التنوير ماهية الإنسان بنيت على نسيان الأهواء ؛ وهو ما يسمح بتسويغ الجريمة كتجلّ صيغته الاستباقية تكمن في الأهواء التي تعطيها شكلا محسوسا في الزمان و المكان ، فالمجرم هو من فسد صفاء عقله. و لسوف يترجم هذا في سجلّ علم النفس على أنه سلوك صادي أو فصام أو شيزوفرينيا أو هوس ... و حسبنا هنا أن نرتدّ إلى الجريمة الأولى وفق تصوّر فرويد . إن قتل الأب من قبل الأبناء هو استغراق لنوازع الرغبة و الشعور المزدوج بالحب و الكره ، بدافع الإيروس و التاناتوس. إنه مجرّد آلية دفاعية للتنظيم البيولوجي ؛ و ربما ظنّ البعض أن الفارق بين الإنسان الخيّر و الإنسان الشرير يقاس بمدى تلبّس العاطفة على ملكاته الذهنية في حين أن قالدويل في إطار جهوده العلمية لتطوير نظرية سبيرس بيّن أن الملكات الذهنية هي التي توجّه الغرائز و تقوّي حب التملّك. فكيف يمكن حينئذ أن نعتبر العقل بريء من الفعل الإجرامي؟
مما لا ريب فيه أنه لا يكفي لتفسير ما ، أن يصاغ في شكل نظرية حتى يكون مرضيا و حقيقيا ؛ إذ أن المأزق الذي تضعنا فيه ظاهرة الجريمة لا تنتهي حدوده عند خطّ التقاطع بين الغرائز و الملكات الذهنية. يوجد حقل مغناطيسي مضاف تتضافر فيه عوامل تكوينية عضوية و نفسية و بيئية، فلو أننا ركزنا على سيكولوجية القاتل سنجد تصنيفات لأنماط متنوعة تزوّد شخصيته : الصدفة ، الفطرة ، العادة ، العاطفة...
إن الصعوبة التي تواجهنا للحد من المسار التخريبي الذي يكافح معيار الإحالة العلمية لظاهرة الجريمة لا يختلف عن ذاك الغموض الجذري الذي واجهناه حين أردنا إنارة معنى الأنثروبولوجيا.
و ليست الصعوبة في كيف تعرّف الجريمة و إنما كيف نعلّل اختراقها للوجود الإنساني . و لأننا ارتضينا في المقال السابق تعريفا عاما للأنثروبولوجيا " كأكثر العلوم التي تدرس الإنسان و أعماله شمولا و إطلاقا" سنرتضي أيضا تعريفا فضفاضا للجريمة بالقول أنها كل فعل شرير. بلا شك أن هكذا مجازفة تحتاج إلى تدقيق فنحن ننطلق من هذا التعريف الافتراضي كإجراء منهجي مؤقّت قد يفتح لنا باب الميتافيزيقا على مصراعيه ، و ربما يساور البعض قلق بأن هذا التّمشّي من شأنه أن يفسد المتن العلمي الذي حددناه للإنثروبولوجيا بوصفها تتصل بعلوم متخصصة كالبيولوجيا و اللغة ...
و هكذا نعترف أننا فريسة هجوم خفيّ للسادة العلماء ذوي التخصصات الفرعية لعلم الجريمة و لكننا مع ذلك نذكّر أن قيمة الروح الحجاجية لا تتبلور إلا ضمن آلام المخاض التي تبذر مولودا جديدا. و ما أشد افتتاني بقول ريجيس دوبريه كعزاء لهكذا مطبّ:" لتغترب النظرية و لترتض الذهاب للضياع في هذا العامل الموضوعي حيث تنكر نفسها ، و عندئذ يثبت أحد أمرين: إما أنها قادرة على أن تصبح راشدة ، و إما أنها تستحق الهلاك"1.
على الرغم من الأحكام التي يمكن أن تعصف بهذا الافتراض ، فإننا مع ذلك نحتاج لتحويل وجهة نظر التفكير في الجريمة من كونها ظاهرة مادية مشخصة في الزمان و المكان إلى كونها ظاهرة أنثروبولوجية تأتي من التاريخ الذي تحرر فيه الجاني من هاجس التأصيل الأخلاقي لكينونة القتل كفعل شرير. طبعا إن في ذلك إشارة إلى قصة ابني آدم ، فقد كان قابيل يريد زوجة هابيل لنفسه فدعاهما أبوهما أن يقدّما قربانا لله فتقبّل من هابيل و لم يتقبّل من قابيل الذي أكلته الغيرة و الحسد فأقدم على قتل أخيه.
إن هذا القصص القرآني هو بمثابة التوقيع الأوّل لثنائية الخير و الشر. و لكن السؤال: كيف يمكن أن نؤسس رابطة معقولة بين الخير و الشر، مثلما كان قابيل أخ لهابيل و لم تشفع له هذه الأخوّة لحقن دم أخيه؟
تلك هي الفتحة التي نودّ تجريب أسلوب المخاطرة باقتحامها، بمعنى آخر هل للصحة العقلية لدى الجاني ( قابيل) دور في إلحاق الأذيّة بالضحيّة ( هابيل)؟ في هذه الحالة نحن نتحدث عن فعل مسئول اختار بموجبه الجاني و بمحض إرادته أن يسلك طريق الشر. و هو ما يؤول إلى الاعتراف بالمنزلة الأنطولوجية للشر؛ فكيف نثبت ذلك أنثروبولوجيا؟
فلو قلنا أن الشر له مرتبة عرضيّة فكيف نبرّر تلازميته للتجربة الإنسانية حتى أن المتأمل في التاريخ يكاد يجزم أن حضارة الإنسان هي حضارة دمار.إن من يتدبّر كتاب بول ريكور : "فلسفة الإرادة ، الإنسان الخطّاء" سيجد تأكيدا لهكذا مشغل فلسفي قصد فك لغز الشر أو الخطيئة عبر رحلة عجائبية تنقلنا من " فينومينولوجيا الإرادي و اللاإرادي إلى تأويلية مميّزة تاريخيا.
ينطلق ريكور من اعتقاد مفاده أن إمكانية الشر متجذرة في تكوين الإنسان . إن الشر أفلح في اكتساح عالمنا الإنساني عن طريق الإنسان نفسه، غير أنه يحذّرنا من استتباعات هذه الفكرة الخطرة بقوله:" يجب أن نفهم معنى هذا القرار حتى لا نرفض مبكّرا شرعيته"2 . فأيّ ضرب من الالتزام في تقدير ريكور نكون مطالبين بالامتثال له في ضوء هذا الإقرار الذي يعاند الشرعيّة؟
إننا هنا مطالبون بتفكيك مشكلة الشر انطلاقا من الحرية، فوجودنا الخاص ينكشف كغاية تتوجّه نحو المستقبل لتوسيع إمكانات الحرية ؛ و لكننا نتقبّل الشر كخطأ أخلاقي اقترفته الذات بحرية أو بمعنى أدق بمسؤولية. هنا ينبغي التمييز بين خطأ أخلاقي مستوحى من مرجعية ميتافيزيقية و خطأ أخلاقي مستخلص من الحرية ، لأن الاعتراف بالخطأ هو في نفس الوقت اكتشاف للحرية أي أن تجربتنا المعيشية تقوم في جوهرها على هذا التعارض المستمر بين الخير و الشر ، و تلهّفنا على فعل الخير ليس حجة كافية لكي نحكم نهائيا بأن الشر استخفاف مؤقت بالإرادة التي خارت قواها أثناء مقاومته. فهو بالأحرى من جنسها لأنه فعل مسئول.
ههنا يمكن أن نتحرر من وصاية الخطاب الميتافيزيقي لنتحدث عن لا تناسبية الذات مع ذاتها أو مفهوم اللاعصمة عند ريكور. لنصغ إليه كيف استطاع أن يمارس هذا الانزياح عن ما هو ميتافيزيقي لينشغل بما هو أنثروبولوجي:" عندما لا أفكّر سوى بالله، فإني لا أكتشف في نفسي أي سبب للخطأ أو الإثم ، و لكن بالعودة إلى نفسي تفيدني التجربة بأنني رغم ذلك ، موضوع لما لا نهاية من الأخطاء"3 . إن الشر إذن لا يفسر كحالة إغواء تسلّط على الذات بقدر ما هي إمكانية تصيب وجودنا لمحدودية إرادة الإنسان الخطّاء. باختصار يجب أن نوجّه كل اهتمامنا للماهية الإنسانية لنمتحن هذا القرار الذي قامت عليه مقاربة ريكور و التي تراهن على ما هو أنثروبولوجي و ليس على ما هو ميتافيزيقي.
إن توظيف الأنثروبولوجيا ليس أمرا تختص به فلسفة ريكور بل سبق و أن ضبطنا القواعد العملية لهذا الاستدلال الفلسفي مع هوبز الذي حدد شروط إمكان الفلسفة بالانثروبولوجيا و بالتالي القطع مع الترسّبات الميتافيزيقية. غير أن اختزال تعريف الإنسان ضمن بنية الانفعالات عند هوبز لا يخلو من التباس قد يجرّنا إلى الزلل. فإذا كان وجود الشر من منظور هوبز يتسم بطابع وثوقي يتراءى من خلال ذئبوية الإنسان ليقدم لنا ضربا من التجانس الماهوي للذات ، فإن ريكور سيقوّض ذلك بابتكار مفهوم اللاعصمة أو الهشاشة التكوينية التي تحيل إلى لا تناسبية الذات مع ذاتها التي تشكو من التمزق الداخلي الذي يعتريها ، فلا أحد يكون ذاتا من خلال تمايزه مع الغير بل في اندماجه مع الغيرية و ليس للإنسان أن يصل إلى هذه الغاية إلا عبر هذا التناقض المحايث بوصفه مصدر كل وجود. فثمة ضرب من الاتصال بين الخير و الشر في تشكيل الكينونة؛ و لعل وجاهة هذا الطرح الذي قدمه ريكور تكمن في منهجية تعقّل الحرية التي تأخذ على عاتقها مسؤولية تعليل وجود الشر كمآل ذو طبيعة إنسانية. و من أجل توظيف هذا المدخل الفلسفي للتعرف على الأساس البنيوي للمكوّن للجريمة و الذي لا نكاد حتى اليوم نحصره علميا ، يمكننا فهم بواعث السلوك الإجرامي من مبدأ المتعة . بمعنى آخر كل إنسان مسئول عن ما يختاره من سلوك لنيل متعة ما و للسبب ذاته فهو مسئول عن ما يمكن أن يلحقه من ضرر و ألم لغيره . و لما كان الشر يستمد سلطته من الحرية ، فإنه حيّ فينا . و إذا كان الشر الأخلاقي الميتافيزيقي يكمن في مخالفة أوامر واجب الوجود بلغة ابن سينا ، فإن الشر المعنوي يكتسي منحا إنسانيا.إنه يتنزل في صميم التجربة الإنسانية التي تلحق فيها الذات أذى لذات أخرى. هذا الطرح يكشف عن صعوبة تبرير مصدر الشر بوصفه فعل إرادي ينطوي على قصدية للنيل من حرية الآخر . قد يعترض أحدنا فيقول : إن الشر ناتج عن الجهل. لنصغ إلى البار كامو كيف يحدد سبب الشر:" إن الشر الذي في العالم غالبا ما يتأتّى من الجهل ، و يمكن للإرادة الطيّبة أن تحدث من الأضرار قدر ما يحدثه الخبث إن لم تكن مستنيرة بالعقل".
لنسلّم في الوقت الحاضر أن الأضرار التي تتولّد من الفعل مردّها غياب العقل المستنير، و ربما كان أبلغ تفسير يفرض نفسه كصيغة منطقيّة تستوحى من هذه المطارحة ، أن الشر نقص في الوعي و غياب القدرة على تمثّل الخير بوصفه غاية قصوى للوجود الإنساني. في الواقع إننا هنا حين نستخدم مفهوم الجهل يحضرنا التصور الأفلاطوني المخالف لتصوّرنا الفلسفي الذي يستند إلى معرفة أنثروبولوجية للشر بوصفه عمل حر نابع من صميم الإرادة. فالصانع المباشر للشر هو الإنسان لذلك ينبغي النظر اليه من زاوية تبرز بعده البنيوي. و هذا يتطلّب التمييز بين دلالتين للحرية: حرية لا عقلية تحمل في جوّانيتها إمكانية تدمير ذاتها و حرية عقلية متضامنة مع الخير و الحقيقة غير أنها ربيبة الضرورة. يبقول نقولاي بيرديائيف :" تنطوي الحرية اللاعقلية على إمكانية الفوضى... إنها لا تختار لنفسها شيئا ، فهي خاملة ، لا مبالية بالحقيقة و الخير"4 ؛ إنها تجرّ الإنسان إلى عبودية الأهواء.معنى ذلك أن عالمنا هو عالم الثنائية : الحرية و العبودية ، المعرفة و الجهل و الخير و الشر...
هذا اللاتناسب يرسم بعدا أنطولوجيا جديدا للإنسان كحيز يخترقه خليط من المتناقضات بين الحياة كما هي و الحياة كما ينبغي أن تعاش. من هنا نفهم مبرر التوصيف الذي سحبه ريكور على الإنسان بوصفه كائنا خطاء": القول بأن الإنسان خطّاء يعني أن المحدودية الخاصة بالكائن الذي لا يتطابق مع نفسه ، هي الضعف الأصلي الذي ينبثق منه الشر".
هكذا أضحت الذات ساحة لدراما تشتمل على تنوّع يصل حدّ التمزّق الداخلي لتغدو الغيرية ليست ما يميّز الأنا عن الآخر بقدر ما هي الفارق بين الأنا و الأنا.
يمكن بناء على ما تقدّم أن نستخلص النتائج التالية:
ــ إن الكشف عن ماهية الشر لا يمكن أن تتم عن طريق التأمل المجرد و إنما بالغوص في كينونة الإنسان.
ـــ إن كل ظاهرة لها نسقها التاريخي الذي يكسبها خصوصيتها و أن الشر هو جماع ما أنتجه الإنسان على هذا الكوكب.
ـــ إن ظاهرة الشر لا تدرس من الناحية الأنثروبولوجية إلا من في إطار الثنائية الكامنة في جوّانية الذات.
ـــ إن السمات الأخلاقية التي تتحكّم في التوجّهات السلوكية ، لا تؤدّي ــ على أهميتهاـ إلى حسم جوهر مشكلة الشر.
ـــ إن لا تناسبية الذات تكشف صعوبة التوفيق بين الكائن الواقعي بنقصه و هشاشته و الكائن المثالي بسموّه و تعالي همّته . يقول كاقين رايلي:" الناس متعاونون و متنافسون في الوقت ذاته ، ودودون و عدوانيون، مسالمون و محبون للحرب على حد السواء. و السؤال عما إذا كان الناس بطبيعتهم محبين للسلام أو الحرب هو أشبه بالسؤال عما إذا كانوا بطبيعتهم أغبياء أو أذكياء"5 .
إن هذه الوجدانية تتيح لنا أن نتعرّف على الخطأ المبدئي الذي ينشأ منه الشر ، فالذات الضامئة للحرية تكتشف أنها حين تحب أو تتألم إنما ترسم من خلال أفعالها ، تاريخ أخطائها .إن هذا الحوار الجوّاني يدفعها إلى نقطة التقاطع الحادة بين المثالية و الواقعية.و لو أختبرنا معنى التقاطع الذي نقصده ربما توجّب علينا أن نترصّد ارهاصات الإيقاع الجدلي بين ما هو انثروبولوجي الذي يتسم بطابعه الأداتي الناجز لفهم الظاهرة الإجرامية و ما هو قيمي أخلاقي يتغلغل بإيحاءاته البلاغية في ثنايا الذات العميقة.
المراجع:
1 ــ ريجيس دوبريه، نقد العقل السياسي ، ترجمة عفيف دمشقية، ص 33 . دار الآداب.
2 ــ فلسفة الإرادة ،الإنسان الخطاء ، ترجمة عدنان نجيب الدين، ص 20 . المركز الثقافي العربي.
3 ــ نفس المرجع، ص 26
4 – Freedom and sprit 1935
5 ــ كاقين رايلي ، الغرب و العالم ، الفصل الخامس : الحرب و السلام ص 123 ، ترجمة عبد الوهاب المسيري و هدى عبد السميع حجازي ،عالم المعرفة.




































































































































قد يكون من اللازم و نحن نناقش مسألة الجذور الأنثروبولوجية للجريمة أن نطرح بعناية الحضور النسقي للجريمة في تاريخ التجربة الإنسانية , التاريخ هنا أزمة للمعنى لأن الإنسان متورّط في حياة لم تبدأ إلا بارتكاب جريمة يبدو أنها تتجدّد كضرورة دائمة و مستمرّة. هكذا هو حال الإنسان ، فهو ككيان له تاريخيّته لا يفعل شيئا سوى أن يدفع بقدره نحو نهايته حيث تجسّد الجريمة في تلازميّتها التناقض التاريخي المرعب بين منطق الاستخلاف في الأرض و بنية الشر التي تجعل من الفعل مشدودا لصنع حياة مغايرة منهكة بتوسيع خيارات مضادة لمعنى الاستخلاف ذاته.
و قد يكون في هذا أعظم انتقام من المثل التنويرية التي تحاشت عن قصد مواجهة التعقيد المفهومي لظاهرة الجريمة . و إذا كان التزامنا الأول في هذه المطارحة هو تعقّب الحضور اللامحدود للجريمة التي استحكمت بشكل غير مألوف في عالمنا المعاصر ، فإن الأهواء أفضل من يكشف لعبة تزيين الذات الإنسانية اعتمادا على تطابقها مع معنى العقل و الإرادة و النفس...فالصلة التي تنعقد بين الإلهي و الإنساني تظهر عبر حقيقة الرّوح أي أن الأسس التي شيّدت عليها فلسفة التنوير ماهية الإنسان بنيت على نسيان الأهواء ؛ وهو ما يسمح بتسويغ الجريمة كتجلّ صيغته الاستباقية تكمن في الأهواء التي تعطيها شكلا محسوسا في الزمان و المكان ، فالمجرم هو من فسد صفاء عقله. و لسوف يترجم هذا في سجلّ علم النفس على أنه سلوك صادي أو فصام أو شيزوفرينيا أو هوس ... و حسبنا هنا أن نرتدّ إلى الجريمة الأولى وفق تصوّر فرويد . إن قتل الأب من قبل الأبناء هو استغراق لنوازع الرغبة و الشعور المزدوج بالحب و الكره ، بدافع الإيروس و التاناتوس. إنه مجرّد آلية دفاعية للتنظيم البيولوجي ؛ و ربما ظنّ البعض أن الفارق بين الإنسان الخيّر و الإنسان الشرير يقاس بمدى تلبّس العاطفة على ملكاته الذهنية في حين أن قالدويل في إطار جهوده العلمية لتطوير نظرية سبيرس بيّن أن الملكات الذهنية هي التي توجّه الغرائز و تقوّي حب التملّك. فكيف يمكن حينئذ أن نعتبر العقل بريء من الفعل الإجرامي؟
مما لا ريب فيه أنه لا يكفي لتفسير ما ، أن يصاغ في شكل نظرية حتى يكون مرضيا و حقيقيا ؛ إذ أن المأزق الذي تضعنا فيه ظاهرة الجريمة لا تنتهي حدوده عند خطّ التقاطع بين الغرائز و الملكات الذهنية. يوجد حقل مغناطيسي مضاف تتضافر فيه عوامل تكوينية عضوية و نفسية و بيئية، فلو أننا ركزنا على سيكولوجية القاتل سنجد تصنيفات لأنماط متنوعة تزوّد شخصيته : الصدفة ، الفطرة ، العادة ، العاطفة...
إن الصعوبة التي تواجهنا للحد من المسار التخريبي الذي يكافح معيار الإحالة العلمية لظاهرة الجريمة لا يختلف عن ذاك الغموض الجذري الذي واجهناه حين أردنا إنارة معنى الأنثروبولوجيا.
و ليست الصعوبة في كيف تعرّف الجريمة و إنما كيف نعلّل اختراقها للوجود الإنساني . و لأننا ارتضينا في المقال السابق تعريفا عاما للأنثروبولوجيا " كأكثر العلوم التي تدرس الإنسان و أعماله شمولا و إطلاقا" سنرتضي أيضا تعريفا فضفاضا للجريمة بالقول أنها كل فعل شرير. بلا شك أن هكذا مجازفة تحتاج إلى تدقيق فنحن ننطلق من هذا التعريف الافتراضي كإجراء منهجي مؤقّت قد يفتح لنا باب الميتافيزيقا على مصراعيه ، و ربما يساور البعض قلق بأن هذا التّمشّي من شأنه أن يفسد المتن العلمي الذي حددناه للإنثروبولوجيا بوصفها تتصل بعلوم متخصصة كالبيولوجيا و اللغة ...
و هكذا نعترف أننا فريسة هجوم خفيّ للسادة العلماء ذوي التخصصات الفرعية لعلم الجريمة و لكننا مع ذلك نذكّر أن قيمة الروح الحجاجية لا تتبلور إلا ضمن آلام المخاض التي تبذر مولودا جديدا. و ما أشد افتتاني بقول ريجيس دوبريه كعزاء لهكذا مطبّ:" لتغترب النظرية و لترتض الذهاب للضياع في هذا العامل الموضوعي حيث تنكر نفسها ، و عندئذ يثبت أحد أمرين: إما أنها قادرة على أن تصبح راشدة ، و إما أنها تستحق الهلاك"1.
على الرغم من الأحكام التي يمكن أن تعصف بهذا الافتراض ، فإننا مع ذلك نحتاج لتحويل وجهة نظر التفكير في الجريمة من كونها ظاهرة مادية مشخصة في الزمان و المكان إلى كونها ظاهرة أنثروبولوجية تأتي من التاريخ الذي تحرر فيه الجاني من هاجس التأصيل الأخلاقي لكينونة القتل كفعل شرير. طبعا إن في ذلك إشارة إلى قصة ابني آدم ، فقد كان قابيل يريد زوجة هابيل لنفسه فدعاهما أبوهما أن يقدّما قربانا لله فتقبّل من هابيل و لم يتقبّل من قابيل الذي أكلته الغيرة و الحسد فأقدم على قتل أخيه.
إن هذا القصص القرآني هو بمثابة التوقيع الأوّل لثنائية الخير و الشر. و لكن السؤال: كيف يمكن أن نؤسس رابطة معقولة بين الخير و الشر، مثلما كان قابيل أخ لهابيل و لم تشفع له هذه الأخوّة لحقن دم أخيه؟
تلك هي الفتحة التي نودّ تجريب أسلوب المخاطرة باقتحامها، بمعنى آخر هل للصحة العقلية لدى الجاني ( قابيل) دور في إلحاق الأذيّة بالضحيّة ( هابيل)؟ في هذه الحالة نحن نتحدث عن فعل مسئول اختار بموجبه الجاني و بمحض إرادته أن يسلك طريق الشر. و هو ما يؤول إلى الاعتراف بالمنزلة الأنطولوجية للشر؛ فكيف نثبت ذلك أنثروبولوجيا؟
فلو قلنا أن الشر له مرتبة عرضيّة فكيف نبرّر تلازميته للتجربة الإنسانية حتى أن المتأمل في التاريخ يكاد يجزم أن حضارة الإنسان هي حضارة دمار.إن من يتدبّر كتاب بول ريكور : "فلسفة الإرادة ، الإنسان الخطّاء" سيجد تأكيدا لهكذا مشغل فلسفي قصد فك لغز الشر أو الخطيئة عبر رحلة عجائبية تنقلنا من " فينومينولوجيا الإرادي و اللاإرادي إلى تأويلية مميّزة تاريخيا.
ينطلق ريكور من اعتقاد مفاده أن إمكانية الشر متجذرة في تكوين الإنسان . إن الشر أفلح في اكتساح عالمنا الإنساني عن طريق الإنسان نفسه، غير أنه يحذّرنا من استتباعات هذه الفكرة الخطرة بقوله:" يجب أن نفهم معنى هذا القرار حتى لا نرفض مبكّرا شرعيته"2 . فأيّ ضرب من الالتزام في تقدير ريكور نكون مطالبين بالامتثال له في ضوء هذا الإقرار الذي يعاند الشرعيّة؟
إننا هنا مطالبون بتفكيك مشكلة الشر انطلاقا من الحرية، فوجودنا الخاص ينكشف كغاية تتوجّه نحو المستقبل لتوسيع إمكانات الحرية ؛ و لكننا نتقبّل الشر كخطأ أخلاقي اقترفته الذات بحرية أو بمعنى أدق بمسؤولية. هنا ينبغي التمييز بين خطأ أخلاقي مستوحى من مرجعية ميتافيزيقية و خطأ أخلاقي مستخلص من الحرية ، لأن الاعتراف بالخطأ هو في نفس الوقت اكتشاف للحرية أي أن تجربتنا المعيشية تقوم في جوهرها على هذا التعارض المستمر بين الخير و الشر ، و تلهّفنا على فعل الخير ليس حجة كافية لكي نحكم نهائيا بأن الشر استخفاف مؤقت بالإرادة التي خارت قواها أثناء مقاومته. فهو بالأحرى من جنسها لأنه فعل مسئول.
ههنا يمكن أن نتحرر من وصاية الخطاب الميتافيزيقي لنتحدث عن لا تناسبية الذات مع ذاتها أو مفهوم اللاعصمة عند ريكور. لنصغ إليه كيف استطاع أن يمارس هذا الانزياح عن ما هو ميتافيزيقي لينشغل بما هو أنثروبولوجي:" عندما لا أفكّر سوى بالله، فإني لا أكتشف في نفسي أي سبب للخطأ أو الإثم ، و لكن بالعودة إلى نفسي تفيدني التجربة بأنني رغم ذلك ، موضوع لما لا نهاية من الأخطاء"3 . إن الشر إذن لا يفسر كحالة إغواء تسلّط على الذات بقدر ما هي إمكانية تصيب وجودنا لمحدودية إرادة الإنسان الخطّاء. باختصار يجب أن نوجّه كل اهتمامنا للماهية الإنسانية لنمتحن هذا القرار الذي قامت عليه مقاربة ريكور و التي تراهن على ما هو أنثروبولوجي و ليس على ما هو ميتافيزيقي.
إن توظيف الأنثروبولوجيا ليس أمرا تختص به فلسفة ريكور بل سبق و أن ضبطنا القواعد العملية لهذا الاستدلال الفلسفي مع هوبز الذي حدد شروط إمكان الفلسفة بالانثروبولوجيا و بالتالي القطع مع الترسّبات الميتافيزيقية. غير أن اختزال تعريف الإنسان ضمن بنية الانفعالات عند هوبز لا يخلو من التباس قد يجرّنا إلى الزلل. فإذا كان وجود الشر من منظور هوبز يتسم بطابع وثوقي يتراءى من خلال ذئبوية الإنسان ليقدم لنا ضربا من التجانس الماهوي للذات ، فإن ريكور سيقوّض ذلك بابتكار مفهوم اللاعصمة أو الهشاشة التكوينية التي تحيل إلى لا تناسبية الذات مع ذاتها التي تشكو من التمزق الداخلي الذي يعتريها ، فلا أحد يكون ذاتا من خلال تمايزه مع الغير بل في اندماجه مع الغيرية و ليس للإنسان أن يصل إلى هذه الغاية إلا عبر هذا التناقض المحايث بوصفه مصدر كل وجود. فثمة ضرب من الاتصال بين الخير و الشر في تشكيل الكينونة؛ و لعل وجاهة هذا الطرح الذي قدمه ريكور تكمن في منهجية تعقّل الحرية التي تأخذ على عاتقها مسؤولية تعليل وجود الشر كمآل ذو طبيعة إنسانية. و من أجل توظيف هذا المدخل الفلسفي للتعرف على الأساس البنيوي للمكوّن للجريمة و الذي لا نكاد حتى اليوم نحصره علميا ، يمكننا فهم بواعث السلوك الإجرامي من مبدأ المتعة . بمعنى آخر كل إنسان مسئول عن ما يختاره من سلوك لنيل متعة ما و للسبب ذاته فهو مسئول عن ما يمكن أن يلحقه من ضرر و ألم لغيره . و لما كان الشر يستمد سلطته من الحرية ، فإنه حيّ فينا . و إذا كان الشر الأخلاقي الميتافيزيقي يكمن في مخالفة أوامر واجب الوجود بلغة ابن سينا ، فإن الشر المعنوي يكتسي منحا إنسانيا.إنه يتنزل في صميم التجربة الإنسانية التي تلحق فيها الذات أذى لذات أخرى. هذا الطرح يكشف عن صعوبة تبرير مصدر الشر بوصفه فعل إرادي ينطوي على قصدية للنيل من حرية الآخر . قد يعترض أحدنا فيقول : إن الشر ناتج عن الجهل. لنصغ إلى البار كامو كيف يحدد سبب الشر:" إن الشر الذي في العالم غالبا ما يتأتّى من الجهل ، و يمكن للإرادة الطيّبة أن تحدث من الأضرار قدر ما يحدثه الخبث إن لم تكن مستنيرة بالعقل".
لنسلّم في الوقت الحاضر أن الأضرار التي تتولّد من الفعل مردّها غياب العقل المستنير، و ربما كان أبلغ تفسير يفرض نفسه كصيغة منطقيّة تستوحى من هذه المطارحة ، أن الشر نقص في الوعي و غياب القدرة على تمثّل الخير بوصفه غاية قصوى للوجود الإنساني. في الواقع إننا هنا حين نستخدم مفهوم الجهل يحضرنا التصور الأفلاطوني المخالف لتصوّرنا الفلسفي الذي يستند إلى معرفة أنثروبولوجية للشر بوصفه عمل حر نابع من صميم الإرادة. فالصانع المباشر للشر هو الإنسان لذلك ينبغي النظر اليه من زاوية تبرز بعده البنيوي. و هذا يتطلّب التمييز بين دلالتين للحرية: حرية لا عقلية تحمل في جوّانيتها إمكانية تدمير ذاتها و حرية عقلية متضامنة مع الخير و الحقيقة غير أنها ربيبة الضرورة. يبقول نقولاي بيرديائيف :" تنطوي الحرية اللاعقلية على إمكانية الفوضى... إنها لا تختار لنفسها شيئا ، فهي خاملة ، لا مبالية بالحقيقة و الخير"4 ؛ إنها تجرّ الإنسان إلى عبودية الأهواء.معنى ذلك أن عالمنا هو عالم الثنائية : الحرية و العبودية ، المعرفة و الجهل و الخير و الشر...
هذا اللاتناسب يرسم بعدا أنطولوجيا جديدا للإنسان كحيز يخترقه خليط من المتناقضات بين الحياة كما هي و الحياة كما ينبغي أن تعاش. من هنا نفهم مبرر التوصيف الذي سحبه ريكور على الإنسان بوصفه كائنا خطاء": القول بأن الإنسان خطّاء يعني أن المحدودية الخاصة بالكائن الذي لا يتطابق مع نفسه ، هي الضعف الأصلي الذي ينبثق منه الشر".
هكذا أضحت الذات ساحة لدراما تشتمل على تنوّع يصل حدّ التمزّق الداخلي لتغدو الغيرية ليست ما يميّز الأنا عن الآخر بقدر ما هي الفارق بين الأنا و الأنا.
يمكن بناء على ما تقدّم أن نستخلص النتائج التالية:
ــ إن الكشف عن ماهية الشر لا يمكن أن تتم عن طريق التأمل المجرد و إنما بالغوص في كينونة الإنسان.
ـــ إن كل ظاهرة لها نسقها التاريخي الذي يكسبها خصوصيتها و أن الشر هو جماع ما أنتجه الإنسان على هذا الكوكب.
ـــ إن ظاهرة الشر لا تدرس من الناحية الأنثروبولوجية إلا من في إطار الثنائية الكامنة في جوّانية الذات.
ـــ إن السمات الأخلاقية التي تتحكّم في التوجّهات السلوكية ، لا تؤدّي ــ على أهميتهاـ إلى حسم جوهر مشكلة الشر.
ـــ إن لا تناسبية الذات تكشف صعوبة التوفيق بين الكائن الواقعي بنقصه و هشاشته و الكائن المثالي بسموّه و تعالي همّته . يقول كاقين رايلي:" الناس متعاونون و متنافسون في الوقت ذاته ، ودودون و عدوانيون، مسالمون و محبون للحرب على حد السواء. و السؤال عما إذا كان الناس بطبيعتهم محبين للسلام أو الحرب هو أشبه بالسؤال عما إذا كانوا بطبيعتهم أغبياء أو أذكياء"5 .
إن هذه الوجدانية تتيح لنا أن نتعرّف على الخطأ المبدئي الذي ينشأ منه الشر ، فالذات الضامئة للحرية تكتشف أنها حين تحب أو تتألم إنما ترسم من خلال أفعالها ، تاريخ أخطائها .إن هذا الحوار الجوّاني يدفعها إلى نقطة التقاطع الحادة بين المثالية و الواقعية.و لو أختبرنا معنى التقاطع الذي نقصده ربما توجّب علينا أن نترصّد ارهاصات الإيقاع الجدلي بين ما هو انثروبولوجي الذي يتسم بطابعه الأداتي الناجز لفهم الظاهرة الإجرامية و ما هو قيمي أخلاقي يتغلغل بإيحاءاته البلاغية في ثنايا الذات العميقة.
المراجع:
1 ــ ريجيس دوبريه، نقد العقل السياسي ، ترجمة عفيف دمشقية، ص 33 . دار الآداب.
2 ــ فلسفة الإرادة ،الإنسان الخطاء ، ترجمة عدنان نجيب الدين، ص 20 . المركز الثقافي العربي.
3 ــ نفس المرجع، ص 26
4 – Freedom and sprit 1935
5 ــ كاقين رايلي ، الغرب و العالم ، الفصل الخامس : الحرب و السلام ص 123 ، ترجمة عبد الوهاب المسيري و هدى عبد السميع حجازي ،عالم المعرفة.
































































































































قد يكون من اللازم و نحن نناقش مسألة الجذور الأنثروبولوجية للجريمة أن نطرح بعناية الحضور النسقي للجريمة في تاريخ التجربة الإنسانية , التاريخ هنا أزمة للمعنى لأن الإنسان متورّط في حياة لم تبدأ إلا بارتكاب جريمة يبدو أنها تتجدّد كضرورة دائمة و مستمرّة. هكذا هو حال الإنسان ، فهو ككيان له تاريخيّته لا يفعل شيئا سوى أن يدفع بقدره نحو نهايته حيث تجسّد الجريمة في تلازميّتها التناقض التاريخي المرعب بين منطق الاستخلاف في الأرض و بنية الشر التي تجعل من الفعل مشدودا لصنع حياة مغايرة منهكة بتوسيع خيارات مضادة لمعنى الاستخلاف ذاته.
و قد يكون في هذا أعظم انتقام من المثل التنويرية التي تحاشت عن قصد مواجهة التعقيد المفهومي لظاهرة الجريمة . و إذا كان التزامنا الأول في هذه المطارحة هو تعقّب الحضور اللامحدود للجريمة التي استحكمت بشكل غير مألوف في عالمنا المعاصر ، فإن الأهواء أفضل من يكشف لعبة تزيين الذات الإنسانية اعتمادا على تطابقها مع معنى العقل و الإرادة و النفس...فالصلة التي تنعقد بين الإلهي و الإنساني تظهر عبر حقيقة الرّوح أي أن الأسس التي شيّدت عليها فلسفة التنوير ماهية الإنسان بنيت على نسيان الأهواء ؛ وهو ما يسمح بتسويغ الجريمة كتجلّ صيغته الاستباقية تكمن في الأهواء التي تعطيها شكلا محسوسا في الزمان و المكان ، فالمجرم هو من فسد صفاء عقله. و لسوف يترجم هذا في سجلّ علم النفس على أنه سلوك صادي أو فصام أو شيزوفرينيا أو هوس ... و حسبنا هنا أن نرتدّ إلى الجريمة الأولى وفق تصوّر فرويد . إن قتل الأب من قبل الأبناء هو استغراق لنوازع الرغبة و الشعور المزدوج بالحب و الكره ، بدافع الإيروس و التاناتوس. إنه مجرّد آلية دفاعية للتنظيم البيولوجي ؛ و ربما ظنّ البعض أن الفارق بين الإنسان الخيّر و الإنسان الشرير يقاس بمدى تلبّس العاطفة على ملكاته الذهنية في حين أن قالدويل في إطار جهوده العلمية لتطوير نظرية سبيرس بيّن أن الملكات الذهنية هي التي توجّه الغرائز و تقوّي حب التملّك. فكيف يمكن حينئذ أن نعتبر العقل بريء من الفعل الإجرامي؟
مما لا ريب فيه أنه لا يكفي لتفسير ما ، أن يصاغ في شكل نظرية حتى يكون مرضيا و حقيقيا ؛ إذ أن المأزق الذي تضعنا فيه ظاهرة الجريمة لا تنتهي حدوده عند خطّ التقاطع بين الغرائز و الملكات الذهنية. يوجد حقل مغناطيسي مضاف تتضافر فيه عوامل تكوينية عضوية و نفسية و بيئية، فلو أننا ركزنا على سيكولوجية القاتل سنجد تصنيفات لأنماط متنوعة تزوّد شخصيته : الصدفة ، الفطرة ، العادة ، العاطفة...
إن الصعوبة التي تواجهنا للحد من المسار التخريبي الذي يكافح معيار الإحالة العلمية لظاهرة الجريمة لا يختلف عن ذاك الغموض الجذري الذي واجهناه حين أردنا إنارة معنى الأنثروبولوجيا.
و ليست الصعوبة في كيف تعرّف الجريمة و إنما كيف نعلّل اختراقها للوجود الإنساني . و لأننا ارتضينا في المقال السابق تعريفا عاما للأنثروبولوجيا " كأكثر العلوم التي تدرس الإنسان و أعماله شمولا و إطلاقا" سنرتضي أيضا تعريفا فضفاضا للجريمة بالقول أنها كل فعل شرير. بلا شك أن هكذا مجازفة تحتاج إلى تدقيق فنحن ننطلق من هذا التعريف الافتراضي كإجراء منهجي مؤقّت قد يفتح لنا باب الميتافيزيقا على مصراعيه ، و ربما يساور البعض قلق بأن هذا التّمشّي من شأنه أن يفسد المتن العلمي الذي حددناه للإنثروبولوجيا بوصفها تتصل بعلوم متخصصة كالبيولوجيا و اللغة ...
و هكذا نعترف أننا فريسة هجوم خفيّ للسادة العلماء ذوي التخصصات الفرعية لعلم الجريمة و لكننا مع ذلك نذكّر أن قيمة الروح الحجاجية لا تتبلور إلا ضمن آلام المخاض التي تبذر مولودا جديدا. و ما أشد افتتاني بقول ريجيس دوبريه كعزاء لهكذا مطبّ:" لتغترب النظرية و لترتض الذهاب للضياع في هذا العامل الموضوعي حيث تنكر نفسها ، و عندئذ يثبت أحد أمرين: إما أنها قادرة على أن تصبح راشدة ، و إما أنها تستحق الهلاك"1.
على الرغم من الأحكام التي يمكن أن تعصف بهذا الافتراض ، فإننا مع ذلك نحتاج لتحويل وجهة نظر التفكير في الجريمة من كونها ظاهرة مادية مشخصة في الزمان و المكان إلى كونها ظاهرة أنثروبولوجية تأتي من التاريخ الذي تحرر فيه الجاني من هاجس التأصيل الأخلاقي لكينونة القتل كفعل شرير. طبعا إن في ذلك إشارة إلى قصة ابني آدم ، فقد كان قابيل يريد زوجة هابيل لنفسه فدعاهما أبوهما أن يقدّما قربانا لله فتقبّل من هابيل و لم يتقبّل من قابيل الذي أكلته الغيرة و الحسد فأقدم على قتل أخيه.
إن هذا القصص القرآني هو بمثابة التوقيع الأوّل لثنائية الخير و الشر. و لكن السؤال: كيف يمكن أن نؤسس رابطة معقولة بين الخير و الشر، مثلما كان قابيل أخ لهابيل و لم تشفع له هذه الأخوّة لحقن دم أخيه؟
تلك هي الفتحة التي نودّ تجريب أسلوب المخاطرة باقتحامها، بمعنى آخر هل للصحة العقلية لدى الجاني ( قابيل) دور في إلحاق الأذيّة بالضحيّة ( هابيل)؟ في هذه الحالة نحن نتحدث عن فعل مسئول اختار بموجبه الجاني و بمحض إرادته أن يسلك طريق الشر. و هو ما يؤول إلى الاعتراف بالمنزلة الأنطولوجية للشر؛ فكيف نثبت ذلك أنثروبولوجيا؟
فلو قلنا أن الشر له مرتبة عرضيّة فكيف نبرّر تلازميته للتجربة الإنسانية حتى أن المتأمل في التاريخ يكاد يجزم أن حضارة الإنسان هي حضارة دمار.إن من يتدبّر كتاب بول ريكور : "فلسفة الإرادة ، الإنسان الخطّاء" سيجد تأكيدا لهكذا مشغل فلسفي قصد فك لغز الشر أو الخطيئة عبر رحلة عجائبية تنقلنا من " فينومينولوجيا الإرادي و اللاإرادي إلى تأويلية مميّزة تاريخيا.
ينطلق ريكور من اعتقاد مفاده أن إمكانية الشر متجذرة في تكوين الإنسان . إن الشر أفلح في اكتساح عالمنا الإنساني عن طريق الإنسان نفسه، غير أنه يحذّرنا من استتباعات هذه الفكرة الخطرة بقوله:" يجب أن نفهم معنى هذا القرار حتى لا نرفض مبكّرا شرعيته"2 . فأيّ ضرب من الالتزام في تقدير ريكور نكون مطالبين بالامتثال له في ضوء هذا الإقرار الذي يعاند الشرعيّة؟
إننا هنا مطالبون بتفكيك مشكلة الشر انطلاقا من الحرية، فوجودنا الخاص ينكشف كغاية تتوجّه نحو المستقبل لتوسيع إمكانات الحرية ؛ و لكننا نتقبّل الشر كخطأ أخلاقي اقترفته الذات بحرية أو بمعنى أدق بمسؤولية. هنا ينبغي التمييز بين خطأ أخلاقي مستوحى من مرجعية ميتافيزيقية و خطأ أخلاقي مستخلص من الحرية ، لأن الاعتراف بالخطأ هو في نفس الوقت اكتشاف للحرية أي أن تجربتنا المعيشية تقوم في جوهرها على هذا التعارض المستمر بين الخير و الشر ، و تلهّفنا على فعل الخير ليس حجة كافية لكي نحكم نهائيا بأن الشر استخفاف مؤقت بالإرادة التي خارت قواها أثناء مقاومته. فهو بالأحرى من جنسها لأنه فعل مسئول.
ههنا يمكن أن نتحرر من وصاية الخطاب الميتافيزيقي لنتحدث عن لا تناسبية الذات مع ذاتها أو مفهوم اللاعصمة عند ريكور. لنصغ إليه كيف استطاع أن يمارس هذا الانزياح عن ما هو ميتافيزيقي لينشغل بما هو أنثروبولوجي:" عندما لا أفكّر سوى بالله، فإني لا أكتشف في نفسي أي سبب للخطأ أو الإثم ، و لكن بالعودة إلى نفسي تفيدني التجربة بأنني رغم ذلك ، موضوع لما لا نهاية من الأخطاء"3 . إن الشر إذن لا يفسر كحالة إغواء تسلّط على الذات بقدر ما هي إمكانية تصيب وجودنا لمحدودية إرادة الإنسان الخطّاء. باختصار يجب أن نوجّه كل اهتمامنا للماهية الإنسانية لنمتحن هذا القرار الذي قامت عليه مقاربة ريكور و التي تراهن على ما هو أنثروبولوجي و ليس على ما هو ميتافيزيقي.
إن توظيف الأنثروبولوجيا ليس أمرا تختص به فلسفة ريكور بل سبق و أن ضبطنا القواعد العملية لهذا الاستدلال الفلسفي مع هوبز الذي حدد شروط إمكان الفلسفة بالانثروبولوجيا و بالتالي القطع مع الترسّبات الميتافيزيقية. غير أن اختزال تعريف الإنسان ضمن بنية الانفعالات عند هوبز لا يخلو من التباس قد يجرّنا إلى الزلل. فإذا كان وجود الشر من منظور هوبز يتسم بطابع وثوقي يتراءى من خلال ذئبوية الإنسان ليقدم لنا ضربا من التجانس الماهوي للذات ، فإن ريكور سيقوّض ذلك بابتكار مفهوم اللاعصمة أو الهشاشة التكوينية التي تحيل إلى لا تناسبية الذات مع ذاتها التي تشكو من التمزق الداخلي الذي يعتريها ، فلا أحد يكون ذاتا من خلال تمايزه مع الغير بل في اندماجه مع الغيرية و ليس للإنسان أن يصل إلى هذه الغاية إلا عبر هذا التناقض المحايث بوصفه مصدر كل وجود. فثمة ضرب من الاتصال بين الخير و الشر في تشكيل الكينونة؛ و لعل وجاهة هذا الطرح الذي قدمه ريكور تكمن في منهجية تعقّل الحرية التي تأخذ على عاتقها مسؤولية تعليل وجود الشر كمآل ذو طبيعة إنسانية. و من أجل توظيف هذا المدخل الفلسفي للتعرف على الأساس البنيوي للمكوّن للجريمة و الذي لا نكاد حتى اليوم نحصره علميا ، يمكننا فهم بواعث السلوك الإجرامي من مبدأ المتعة . بمعنى آخر كل إنسان مسئول عن ما يختاره من سلوك لنيل متعة ما و للسبب ذاته فهو مسئول عن ما يمكن أن يلحقه من ضرر و ألم لغيره . و لما كان الشر يستمد سلطته من الحرية ، فإنه حيّ فينا . و إذا كان الشر الأخلاقي الميتافيزيقي يكمن في مخالفة أوامر واجب الوجود بلغة ابن سينا ، فإن الشر المعنوي يكتسي منحا إنسانيا.إنه يتنزل في صميم التجربة الإنسانية التي تلحق فيها الذات أذى لذات أخرى. هذا الطرح يكشف عن صعوبة تبرير مصدر الشر بوصفه فعل إرادي ينطوي على قصدية للنيل من حرية الآخر . قد يعترض أحدنا فيقول : إن الشر ناتج عن الجهل. لنصغ إلى البار كامو كيف يحدد سبب الشر:" إن الشر الذي في العالم غالبا ما يتأتّى من الجهل ، و يمكن للإرادة الطيّبة أن تحدث من الأضرار قدر ما يحدثه الخبث إن لم تكن مستنيرة بالعقل".
لنسلّم في الوقت الحاضر أن الأضرار التي تتولّد من الفعل مردّها غياب العقل المستنير، و ربما كان أبلغ تفسير يفرض نفسه كصيغة منطقيّة تستوحى من هذه المطارحة ، أن الشر نقص في الوعي و غياب القدرة على تمثّل الخير بوصفه غاية قصوى للوجود الإنساني. في الواقع إننا هنا حين نستخدم مفهوم الجهل يحضرنا التصور الأفلاطوني المخالف لتصوّرنا الفلسفي الذي يستند إلى معرفة أنثروبولوجية للشر بوصفه عمل حر نابع من صميم الإرادة. فالصانع المباشر للشر هو الإنسان لذلك ينبغي النظر اليه من زاوية تبرز بعده البنيوي. و هذا يتطلّب التمييز بين دلالتين للحرية: حرية لا عقلية تحمل في جوّانيتها إمكانية تدمير ذاتها و حرية عقلية متضامنة مع الخير و الحقيقة غير أنها ربيبة الضرورة. يبقول نقولاي بيرديائيف :" تنطوي الحرية اللاعقلية على إمكانية الفوضى... إنها لا تختار لنفسها شيئا ، فهي خاملة ، لا مبالية بالحقيقة و الخير"4 ؛ إنها تجرّ الإنسان إلى عبودية الأهواء.معنى ذلك أن عالمنا هو عالم الثنائية : الحرية و العبودية ، المعرفة و الجهل و الخير و الشر...
هذا اللاتناسب يرسم بعدا أنطولوجيا جديدا للإنسان كحيز يخترقه خليط من المتناقضات بين الحياة كما هي و الحياة كما ينبغي أن تعاش. من هنا نفهم مبرر التوصيف الذي سحبه ريكور على الإنسان بوصفه كائنا خطاء": القول بأن الإنسان خطّاء يعني أن المحدودية الخاصة بالكائن الذي لا يتطابق مع نفسه ، هي الضعف الأصلي الذي ينبثق منه الشر".
هكذا أضحت الذات ساحة لدراما تشتمل على تنوّع يصل حدّ التمزّق الداخلي لتغدو الغيرية ليست ما يميّز الأنا عن الآخر بقدر ما هي الفارق بين الأنا و الأنا.
يمكن بناء على ما تقدّم أن نستخلص النتائج التالية:
ــ إن الكشف عن ماهية الشر لا يمكن أن تتم عن طريق التأمل المجرد و إنما بالغوص في كينونة الإنسان.
ـــ إن كل ظاهرة لها نسقها التاريخي الذي يكسبها خصوصيتها و أن الشر هو جماع ما أنتجه الإنسان على هذا الكوكب.
ـــ إن ظاهرة الشر لا تدرس من الناحية الأنثروبولوجية إلا من في إطار الثنائية الكامنة في جوّانية الذات.
ـــ إن السمات الأخلاقية التي تتحكّم في التوجّهات السلوكية ، لا تؤدّي ــ على أهميتهاـ إلى حسم جوهر مشكلة الشر.
ـــ إن لا تناسبية الذات تكشف صعوبة التوفيق بين الكائن الواقعي بنقصه و هشاشته و الكائن المثالي بسموّه و تعالي همّته . يقول كاقين رايلي:" الناس متعاونون و متنافسون في الوقت ذاته ، ودودون و عدوانيون، مسالمون و محبون للحرب على حد السواء. و السؤال عما إذا كان الناس بطبيعتهم محبين للسلام أو الحرب هو أشبه بالسؤال عما إذا كانوا بطبيعتهم أغبياء أو أذكياء"5 .
إن هذه الوجدانية تتيح لنا أن نتعرّف على الخطأ المبدئي الذي ينشأ منه الشر ، فالذات الضامئة للحرية تكتشف أنها حين تحب أو تتألم إنما ترسم من خلال أفعالها ، تاريخ أخطائها .إن هذا الحوار الجوّاني يدفعها إلى نقطة التقاطع الحادة بين المثالية و الواقعية.و لو أختبرنا معنى التقاطع الذي نقصده ربما توجّب علينا أن نترصّد ارهاصات الإيقاع الجدلي بين ما هو انثروبولوجي الذي يتسم بطابعه الأداتي الناجز لفهم الظاهرة الإجرامية و ما هو قيمي أخلاقي يتغلغل بإيحاءاته البلاغية في ثنايا الذات العميقة.
المراجع:
1 ــ ريجيس دوبريه، نقد العقل السياسي ، ترجمة عفيف دمشقية، ص 33 . دار الآداب.
2 ــ فلسفة الإرادة ،الإنسان الخطاء ، ترجمة عدنان نجيب الدين، ص 20 . المركز الثقافي العربي.
3 ــ نفس المرجع، ص 26
4 – Freedom and sprit 1935
5 ــ كاقين رايلي ، الغرب و العالم ، الفصل الخامس : الحرب و السلام ص 123 ، ترجمة عبد الوهاب المسيري و هدى عبد السميع حجازي ،عالم المعرفة.





















































قد يكون من اللازم و نحن نناقش مسألة الجذور الأنثروبولوجية للجريمة أن نطرح بعناية الحضور النسقي للجريمة في تاريخ التجربة الإنسانية , التاريخ هنا أزمة للمعنى لأن الإنسان متورّط في حياة لم تبدأ إلا بارتكاب جريمة يبدو أنها تتجدّد كضرورة دائمة و مستمرّة. هكذا هو حال الإنسان ، فهو ككيان له تاريخيّته لا يفعل شيئا سوى أن يدفع بقدره نحو نهايته حيث تجسّد الجريمة في تلازميّتها التناقض التاريخي المرعب بين منطق الاستخلاف في الأرض و بنية الشر التي تجعل من الفعل مشدودا لصنع حياة مغايرة منهكة بتوسيع خيارات مضادة لمعنى الاستخلاف ذاته.
و قد يكون في هذا أعظم انتقام من المثل التنويرية التي تحاشت عن قصد مواجهة التعقيد المفهومي لظاهرة الجريمة . و إذا كان التزامنا الأول في هذه المطارحة هو تعقّب الحضور اللامحدود للجريمة التي استحكمت بشكل غير مألوف في عالمنا المعاصر ، فإن الأهواء أفضل من يكشف لعبة تزيين الذات الإنسانية اعتمادا على تطابقها مع معنى العقل و الإرادة و النفس...فالصلة التي تنعقد بين الإلهي و الإنساني تظهر عبر حقيقة الرّوح أي أن الأسس التي شيّدت عليها فلسفة التنوير ماهية الإنسان بنيت على نسيان الأهواء ؛ وهو ما يسمح بتسويغ الجريمة كتجلّ صيغته الاستباقية تكمن في الأهواء التي تعطيها شكلا محسوسا في الزمان و المكان ، فالمجرم هو من فسد صفاء عقله. و لسوف يترجم هذا في سجلّ علم النفس على أنه سلوك صادي أو فصام أو شيزوفرينيا أو هوس ... و حسبنا هنا أن نرتدّ إلى الجريمة الأولى وفق تصوّر فرويد . إن قتل الأب من قبل الأبناء هو استغراق لنوازع الرغبة و الشعور المزدوج بالحب و الكره ، بدافع الإيروس و التاناتوس. إنه مجرّد آلية دفاعية للتنظيم البيولوجي ؛ و ربما ظنّ البعض أن الفارق بين الإنسان الخيّر و الإنسان الشرير يقاس بمدى تلبّس العاطفة على ملكاته الذهنية في حين أن قالدويل في إطار جهوده العلمية لتطوير نظرية سبيرس بيّن أن الملكات الذهنية هي التي توجّه الغرائز و تقوّي حب التملّك. فكيف يمكن حينئذ أن نعتبر العقل بريء من الفعل الإجرامي؟
مما لا ريب فيه أنه لا يكفي لتفسير ما ، أن يصاغ في شكل نظرية حتى يكون مرضيا و حقيقيا ؛ إذ أن المأزق الذي تضعنا فيه ظاهرة الجريمة لا تنتهي حدوده عند خطّ التقاطع بين الغرائز و الملكات الذهنية. يوجد حقل مغناطيسي مضاف تتضافر فيه عوامل تكوينية عضوية و نفسية و بيئية، فلو أننا ركزنا على سيكولوجية القاتل سنجد تصنيفات لأنماط متنوعة تزوّد شخصيته : الصدفة ، الفطرة ، العادة ، العاطفة...
إن الصعوبة التي تواجهنا للحد من المسار التخريبي الذي يكافح معيار الإحالة العلمية لظاهرة الجريمة لا يختلف عن ذاك الغموض الجذري الذي واجهناه حين أردنا إنارة معنى الأنثروبولوجيا.
و ليست الصعوبة في كيف تعرّف الجريمة و إنما كيف نعلّل اختراقها للوجود الإنساني . و لأننا ارتضينا في المقال السابق تعريفا عاما للأنثروبولوجيا " كأكثر العلوم التي تدرس الإنسان و أعماله شمولا و إطلاقا" سنرتضي أيضا تعريفا فضفاضا للجريمة بالقول أنها كل فعل شرير. بلا شك أن هكذا مجازفة تحتاج إلى تدقيق فنحن ننطلق من هذا التعريف الافتراضي كإجراء منهجي مؤقّت قد يفتح لنا باب الميتافيزيقا على مصراعيه ، و ربما يساور البعض قلق بأن هذا التّمشّي من شأنه أن يفسد المتن العلمي الذي حددناه للإنثروبولوجيا بوصفها تتصل بعلوم متخصصة كالبيولوجيا و اللغة ...
و هكذا نعترف أننا فريسة هجوم خفيّ للسادة العلماء ذوي التخصصات الفرعية لعلم الجريمة و لكننا مع ذلك نذكّر أن قيمة الروح الحجاجية لا تتبلور إلا ضمن آلام المخاض التي تبذر مولودا جديدا. و ما أشد افتتاني بقول ريجيس دوبريه كعزاء لهكذا مطبّ:" لتغترب النظرية و لترتض الذهاب للضياع في هذا العامل الموضوعي حيث تنكر نفسها ، و عندئذ يثبت أحد أمرين: إما أنها قادرة على أن تصبح راشدة ، و إما أنها تستحق الهلاك"1.
على الرغم من الأحكام التي يمكن أن تعصف بهذا الافتراض ، فإننا مع ذلك نحتاج لتحويل وجهة نظر التفكير في الجريمة من كونها ظاهرة مادية مشخصة في الزمان و المكان إلى كونها ظاهرة أنثروبولوجية تأتي من التاريخ الذي تحرر فيه الجاني من هاجس التأصيل الأخلاقي لكينونة القتل كفعل شرير. طبعا إن في ذلك إشارة إلى قصة ابني آدم ، فقد كان قابيل يريد زوجة هابيل لنفسه فدعاهما أبوهما أن يقدّما قربانا لله فتقبّل من هابيل و لم يتقبّل من قابيل الذي أكلته الغيرة و الحسد فأقدم على قتل أخيه.
إن هذا القصص القرآني هو بمثابة التوقيع الأوّل لثنائية الخير و الشر. و لكن السؤال: كيف يمكن أن نؤسس رابطة معقولة بين الخير و الشر، مثلما كان قابيل أخ لهابيل و لم تشفع له هذه الأخوّة لحقن دم أخيه؟
تلك هي الفتحة التي نودّ تجريب أسلوب المخاطرة باقتحامها، بمعنى آخر هل للصحة العقلية لدى الجاني ( قابيل) دور في إلحاق الأذيّة بالضحيّة ( هابيل)؟ في هذه الحالة نحن نتحدث عن فعل مسئول اختار بموجبه الجاني و بمحض إرادته أن يسلك طريق الشر. و هو ما يؤول إلى الاعتراف بالمنزلة الأنطولوجية للشر؛ فكيف نثبت ذلك أنثروبولوجيا؟
فلو قلنا أن الشر له مرتبة عرضيّة فكيف نبرّر تلازميته للتجربة الإنسانية حتى أن المتأمل في التاريخ يكاد يجزم أن حضارة الإنسان هي حضارة دمار.إن من يتدبّر كتاب بول ريكور : "فلسفة الإرادة ، الإنسان الخطّاء" سيجد تأكيدا لهكذا مشغل فلسفي قصد فك لغز الشر أو الخطيئة عبر رحلة عجائبية تنقلنا من " فينومينولوجيا الإرادي و اللاإرادي إلى تأويلية مميّزة تاريخيا.
ينطلق ريكور من اعتقاد مفاده أن إمكانية الشر متجذرة في تكوين الإنسان . إن الشر أفلح في اكتساح عالمنا الإنساني عن طريق الإنسان نفسه، غير أنه يحذّرنا من استتباعات هذه الفكرة الخطرة بقوله:" يجب أن نفهم معنى هذا القرار حتى لا نرفض مبكّرا شرعيته"2 . فأيّ ضرب من الالتزام في تقدير ريكور نكون مطالبين بالامتثال له في ضوء هذا الإقرار الذي يعاند الشرعيّة؟
إننا هنا مطالبون بتفكيك مشكلة الشر انطلاقا من الحرية، فوجودنا الخاص ينكشف كغاية تتوجّه نحو المستقبل لتوسيع إمكانات الحرية ؛ و لكننا نتقبّل الشر كخطأ أخلاقي اقترفته الذات بحرية أو بمعنى أدق بمسؤولية. هنا ينبغي التمييز بين خطأ أخلاقي مستوحى من مرجعية ميتافيزيقية و خطأ أخلاقي مستخلص من الحرية ، لأن الاعتراف بالخطأ هو في نفس الوقت اكتشاف للحرية أي أن تجربتنا المعيشية تقوم في جوهرها على هذا التعارض المستمر بين الخير و الشر ، و تلهّفنا على فعل الخير ليس حجة كافية لكي نحكم نهائيا بأن الشر استخفاف مؤقت بالإرادة التي خارت قواها أثناء مقاومته. فهو بالأحرى من جنسها لأنه فعل مسئول.
ههنا يمكن أن نتحرر من وصاية الخطاب الميتافيزيقي لنتحدث عن لا تناسبية الذات مع ذاتها أو مفهوم اللاعصمة عند ريكور. لنصغ إليه كيف استطاع أن يمارس هذا الانزياح عن ما هو ميتافيزيقي لينشغل بما هو أنثروبولوجي:" عندما لا أفكّر سوى بالله، فإني لا أكتشف في نفسي أي سبب للخطأ أو الإثم ، و لكن بالعودة إلى نفسي تفيدني التجربة بأنني رغم ذلك ، موضوع لما لا نهاية من الأخطاء"3 . إن الشر إذن لا يفسر كحالة إغواء تسلّط على الذات بقدر ما هي إمكانية تصيب وجودنا لمحدودية إرادة الإنسان الخطّاء. باختصار يجب أن نوجّه كل اهتمامنا للماهية الإنسانية لنمتحن هذا القرار الذي قامت عليه مقاربة ريكور و التي تراهن على ما هو أنثروبولوجي و ليس على ما هو ميتافيزيقي.
إن توظيف الأنثروبولوجيا ليس أمرا تختص به فلسفة ريكور بل سبق و أن ضبطنا القواعد العملية لهذا الاستدلال الفلسفي مع هوبز الذي حدد شروط إمكان الفلسفة بالانثروبولوجيا و بالتالي القطع مع الترسّبات الميتافيزيقية. غير أن اختزال تعريف الإنسان ضمن بنية الانفعالات عند هوبز لا يخلو من التباس قد يجرّنا إلى الزلل. فإذا كان وجود الشر من منظور هوبز يتسم بطابع وثوقي يتراءى من خلال ذئبوية الإنسان ليقدم لنا ضربا من التجانس الماهوي للذات ، فإن ريكور سيقوّض ذلك بابتكار مفهوم اللاعصمة أو الهشاشة التكوينية التي تحيل إلى لا تناسبية الذات مع ذاتها التي تشكو من التمزق الداخلي الذي يعتريها ، فلا أحد يكون ذاتا من خلال تمايزه مع الغير بل في اندماجه مع الغيرية و ليس للإنسان أن يصل إلى هذه الغاية إلا عبر هذا التناقض المحايث بوصفه مصدر كل وجود. فثمة ضرب من الاتصال بين الخير و الشر في تشكيل الكينونة؛ و لعل وجاهة هذا الطرح الذي قدمه ريكور تكمن في منهجية تعقّل الحرية التي تأخذ على عاتقها مسؤولية تعليل وجود الشر كمآل ذو طبيعة إنسانية. و من أجل توظيف هذا المدخل الفلسفي للتعرف على الأساس البنيوي للمكوّن للجريمة و الذي لا نكاد حتى اليوم نحصره علميا ، يمكننا فهم بواعث السلوك الإجرامي من مبدأ المتعة . بمعنى آخر كل إنسان مسئول عن ما يختاره من سلوك لنيل متعة ما و للسبب ذاته فهو مسئول عن ما يمكن أن يلحقه من ضرر و ألم لغيره . و لما كان الشر يستمد سلطته من الحرية ، فإنه حيّ فينا . و إذا كان الشر الأخلاقي الميتافيزيقي يكمن في مخالفة أوامر واجب الوجود بلغة ابن سينا ، فإن الشر المعنوي يكتسي منحا إنسانيا.إنه يتنزل في صميم التجربة الإنسانية التي تلحق فيها الذات أذى لذات أخرى. هذا الطرح يكشف عن صعوبة تبرير مصدر الشر بوصفه فعل إرادي ينطوي على قصدية للنيل من حرية الآخر . قد يعترض أحدنا فيقول : إن الشر ناتج عن الجهل. لنصغ إلى البار كامو كيف يحدد سبب الشر:" إن الشر الذي في العالم غالبا ما يتأتّى من الجهل ، و يمكن للإرادة الطيّبة أن تحدث من الأضرار قدر ما يحدثه الخبث إن لم تكن مستنيرة بالعقل".
لنسلّم في الوقت الحاضر أن الأضرار التي تتولّد من الفعل مردّها غياب العقل المستنير، و ربما كان أبلغ تفسير يفرض نفسه كصيغة منطقيّة تستوحى من هذه المطارحة ، أن الشر نقص في الوعي و غياب القدرة على تمثّل الخير بوصفه غاية قصوى للوجود الإنساني. في الواقع إننا هنا حين نستخدم مفهوم الجهل يحضرنا التصور الأفلاطوني المخالف لتصوّرنا الفلسفي الذي يستند إلى معرفة أنثروبولوجية للشر بوصفه عمل حر نابع من صميم الإرادة. فالصانع المباشر للشر هو الإنسان لذلك ينبغي النظر اليه من زاوية تبرز بعده البنيوي. و هذا يتطلّب التمييز بين دلالتين للحرية: حرية لا عقلية تحمل في جوّانيتها إمكانية تدمير ذاتها و حرية عقلية متضامنة مع الخير و الحقيقة غير أنها ربيبة الضرورة. يبقول نقولاي بيرديائيف :" تنطوي الحرية اللاعقلية على إمكانية الفوضى... إنها لا تختار لنفسها شيئا ، فهي خاملة ، لا مبالية بالحقيقة و الخير"4 ؛ إنها تجرّ الإنسان إلى عبودية الأهواء.معنى ذلك أن عالمنا هو عالم الثنائية : الحرية و العبودية ، المعرفة و الجهل و الخير و الشر...
هذا اللاتناسب يرسم بعدا أنطولوجيا جديدا للإنسان كحيز يخترقه خليط من المتناقضات بين الحياة كما هي و الحياة كما ينبغي أن تعاش. من هنا نفهم مبرر التوصيف الذي سحبه ريكور على الإنسان بوصفه كائنا خطاء": القول بأن الإنسان خطّاء يعني أن المحدودية الخاصة بالكائن الذي لا يتطابق مع نفسه ، هي الضعف الأصلي الذي ينبثق منه الشر".
هكذا أضحت الذات ساحة لدراما تشتمل على تنوّع يصل حدّ التمزّق الداخلي لتغدو الغيرية ليست ما يميّز الأنا عن الآخر بقدر ما هي الفارق بين الأنا و الأنا.
يمكن بناء على ما تقدّم أن نستخلص النتائج التالية:
ــ إن الكشف عن ماهية الشر لا يمكن أن تتم عن طريق التأمل المجرد و إنما بالغوص في كينونة الإنسان.
ـــ إن كل ظاهرة لها نسقها التاريخي الذي يكسبها خصوصيتها و أن الشر هو جماع ما أنتجه الإنسان على هذا الكوكب.
ـــ إن ظاهرة الشر لا تدرس من الناحية الأنثروبولوجية إلا من في إطار الثنائية الكامنة في جوّانية الذات.
ـــ إن السمات الأخلاقية التي تتحكّم في التوجّهات السلوكية ، لا تؤدّي ــ على أهميتهاـ إلى حسم جوهر مشكلة الشر.
ـــ إن لا تناسبية الذات تكشف صعوبة التوفيق بين الكائن الواقعي بنقصه و هشاشته و الكائن المثالي بسموّه و تعالي همّته . يقول كاقين رايلي:" الناس متعاونون و متنافسون في الوقت ذاته ، ودودون و عدوانيون، مسالمون و محبون للحرب على حد السواء. و السؤال عما إذا كان الناس بطبيعتهم محبين للسلام أو الحرب هو أشبه بالسؤال عما إذا كانوا بطبيعتهم أغبياء أو أذكياء"5 .
إن هذه الوجدانية تتيح لنا أن نتعرّف على الخطأ المبدئي الذي ينشأ منه الشر ، فالذات الضامئة للحرية تكتشف أنها حين تحب أو تتألم إنما ترسم من خلال أفعالها ، تاريخ أخطائها .إن هذا الحوار الجوّاني يدفعها إلى نقطة التقاطع الحادة بين المثالية و الواقعية.و لو أختبرنا معنى التقاطع الذي نقصده ربما توجّب علينا أن نترصّد ارهاصات الإيقاع الجدلي بين ما هو انثروبولوجي الذي يتسم بطابعه الأداتي الناجز لفهم الظاهرة الإجرامية و ما هو قيمي أخلاقي يتغلغل بإيحاءاته البلاغية في ثنايا الذات العميقة.
المراجع:
1 ــ ريجيس دوبريه، نقد العقل السياسي ، ترجمة عفيف دمشقية، ص 33 . دار الآداب.
2 ــ فلسفة الإرادة ،الإنسان الخطاء ، ترجمة عدنان نجيب الدين، ص 20 . المركز الثقافي العربي.
3 ــ نفس المرجع، ص 26
4 – Freedom and sprit 1935
5 ــ كاقين رايلي ، الغرب و العالم ، الفصل الخامس : الحرب و السلام ص 123 ، ترجمة عبد الوهاب المسيري و هدى عبد السميع حجازي ،عالم المعرفة.























































































































يكون من اللازم و نحن نناقش مسألة الجذور الأنثروبولوجية للجريمة أن نطرح بعناية قد الحضور النسقي للجريمة في تاريخ التجربة الإنسانية , التاريخ هنا أزمة للمعنى لأن الإنسان متورّط في حياة لم تبدأ إلا بارتكاب جريمة يبدو أنها تتجدّد كضرورة دائمة و مستمرّة. هكذا هو حال الإنسان ، فهو ككيان له تاريخيّته لا يفعل شيئا سوى أن يدفع بقدره نحو نهايته حيث تجسّد الجريمة في تلازميّتها التناقض التاريخي المرعب بين منطق الاستخلاف في الأرض و بنية الشر التي تجعل من الفعل مشدودا لصنع حياة مغايرة منهكة بتوسيع خيارات مضادة لمعنى الاستخلاف ذاته.
و قد يكون في هذا أعظم انتقام من المثل التنويرية التي تحاشت عن قصد مواجهة التعقيد المفهومي لظاهرة الجريمة . و إذا كان التزامنا الأول في هذه المطارحة هو تعقّب الحضور اللامحدود للجريمة التي استحكمت بشكل غير مألوف في عالمنا المعاصر ، فإن الأهواء أفضل من يكشف لعبة تزيين الذات الإنسانية اعتمادا على تطابقها مع معنى العقل و الإرادة و النفس...فالصلة التي تنعقد بين الإلهي و الإنساني تظهر عبر حقيقة الرّوح أي أن الأسس التي شيّدت عليها فلسفة التنوير ماهية الإنسان بنيت على نسيان الأهواء ؛ وهو ما يسمح بتسويغ الجريمة كتجلّ صيغته الاستباقية تكمن في الأهواء التي تعطيها شكلا محسوسا في الزمان و المكان ، فالمجرم هو من فسد صفاء عقله. و لسوف يترجم هذا في سجلّ علم النفس على أنه سلوك صادي أو فصام أو شيزوفرينيا أو هوس ... و حسبنا هنا أن نرتدّ إلى الجريمة الأولى وفق تصوّر فرويد . إن قتل الأب من قبل الأبناء هو استغراق لنوازع الرغبة و الشعور المزدوج بالحب و الكره ، بدافع الإيروس و التاناتوس. إنه مجرّد آلية دفاعية للتنظيم البيولوجي ؛ و ربما ظنّ البعض أن الفارق بين الإنسان الخيّر و الإنسان الشرير يقاس بمدى تلبّس العاطفة على ملكاته الذهنية في حين أن قالدويل في إطار جهوده العلمية لتطوير نظرية سبيرس بيّن أن الملكات الذهنية هي التي توجّه الغرائز و تقوّي حب التملّك. فكيف يمكن حينئذ أن نعتبر العقل بريء من الفعل الإجرامي؟
مما لا ريب فيه أنه لا يكفي لتفسير ما ، أن يصاغ في شكل نظرية حتى يكون مرضيا و حقيقيا ؛ إذ أن المأزق الذي تضعنا فيه ظاهرة الجريمة لا تنتهي حدوده عند خطّ التقاطع بين الغرائز و الملكات الذهنية. يوجد حقل مغناطيسي مضاف تتضافر فيه عوامل تكوينية عضوية و نفسية و بيئية، فلو أننا ركزنا على سيكولوجية القاتل سنجد تصنيفات لأنماط متنوعة تزوّد شخصيته : الصدفة ، الفطرة ، العادة ، العاطفة...
إن الصعوبة التي تواجهنا للحد من المسار التخريبي الذي يكافح معيار الإحالة العلمية لظاهرة الجريمة لا يختلف عن ذاك الغموض الجذري الذي واجهناه حين أردنا إنارة معنى الأنثروبولوجيا.
و ليست الصعوبة في كيف تعرّف الجريمة و إنما كيف نعلّل اختراقها للوجود الإنساني . و لأننا ارتضينا في المقال السابق تعريفا عاما للأنثروبولوجيا " كأكثر العلوم التي تدرس الإنسان و أعماله شمولا و إطلاقا" سنرتضي أيضا تعريفا فضفاضا للجريمة بالقول أنها كل فعل شرير. بلا شك أن هكذا مجازفة تحتاج إلى تدقيق فنحن ننطلق من هذا التعريف الافتراضي كإجراء منهجي مؤقّت قد يفتح لنا باب الميتافيزيقا على مصراعيه ، و ربما يساور البعض قلق بأن هذا التّمشّي من شأنه أن يفسد المتن العلمي الذي حددناه للإنثروبولوجيا بوصفها تتصل بعلوم متخصصة كالبيولوجيا و اللغة ...
و هكذا نعترف أننا فريسة هجوم خفيّ للسادة العلماء ذوي التخصصات الفرعية لعلم الجريمة و لكننا مع ذلك نذكّر أن قيمة الروح الحجاجية لا تتبلور إلا ضمن آلام المخاض التي تبذر مولودا جديدا. و ما أشد افتتاني بقول ريجيس دوبريه كعزاء لهكذا مطبّ:" لتغترب النظرية و لترتض الذهاب للضياع في هذا العامل الموضوعي حيث تنكر نفسها ، و عندئذ يثبت أحد أمرين: إما أنها قادرة على أن تصبح راشدة ، و إما أنها تستحق الهلاك"1.
على الرغم من الأحكام التي يمكن أن تعصف بهذا الافتراض ، فإننا مع ذلك نحتاج لتحويل وجهة نظر التفكير في الجريمة من كونها ظاهرة مادية مشخصة في الزمان و المكان إلى كونها ظاهرة أنثروبولوجية تأتي من التاريخ الذي تحرر فيه الجاني من هاجس التأصيل الأخلاقي لكينونة القتل كفعل شرير. طبعا إن في ذلك إشارة إلى قصة ابني آدم ، فقد كان قابيل يريد زوجة هابيل لنفسه فدعاهما أبوهما أن يقدّما قربانا لله فتقبّل من هابيل و لم يتقبّل من قابيل الذي أكلته الغيرة و الحسد فأقدم على قتل أخيه.
إن هذا القصص القرآني هو بمثابة التوقيع الأوّل لثنائية الخير و الشر. و لكن السؤال: كيف يمكن أن نؤسس رابطة معقولة بين الخير و الشر، مثلما كان قابيل أخ لهابيل و لم تشفع له هذه الأخوّة لحقن دم أخيه؟
تلك هي الفتحة التي نودّ تجريب أسلوب المخاطرة باقتحامها، بمعنى آخر هل للصحة العقلية لدى الجاني ( قابيل) دور في إلحاق الأذيّة بالضحيّة ( هابيل)؟ في هذه الحالة نحن نتحدث عن فعل مسئول اختار بموجبه الجاني و بمحض إرادته أن يسلك طريق الشر. و هو ما يؤول إلى الاعتراف بالمنزلة الأنطولوجية للشر؛ فكيف نثبت ذلك أنثروبولوجيا؟
فلو قلنا أن الشر له مرتبة عرضيّة فكيف نبرّر تلازميته للتجربة الإنسانية حتى أن المتأمل في التاريخ يكاد يجزم أن حضارة الإنسان هي حضارة دمار.إن من يتدبّر كتاب بول ريكور : "فلسفة الإرادة ، الإنسان الخطّاء" سيجد تأكيدا لهكذا مشغل فلسفي قصد فك لغز الشر أو الخطيئة عبر رحلة عجائبية تنقلنا من " فينومينولوجيا الإرادي و اللاإرادي إلى تأويلية مميّزة تاريخيا.
ينطلق ريكور من اعتقاد مفاده أن إمكانية الشر متجذرة في تكوين الإنسان . إن الشر أفلح في اكتساح عالمنا الإنساني عن طريق الإنسان نفسه، غير أنه يحذّرنا من استتباعات هذه الفكرة الخطرة بقوله:" يجب أن نفهم معنى هذا القرار حتى لا نرفض مبكّرا شرعيته"2 . فأيّ ضرب من الالتزام في تقدير ريكور نكون مطالبين بالامتثال له في ضوء هذا الإقرار الذي يعاند الشرعيّة؟
إننا هنا مطالبون بتفكيك مشكلة الشر انطلاقا من الحرية، فوجودنا الخاص ينكشف كغاية تتوجّه نحو المستقبل لتوسيع إمكانات الحرية ؛ و لكننا نتقبّل الشر كخطأ أخلاقي اقترفته الذات بحرية أو بمعنى أدق بمسؤولية. هنا ينبغي التمييز بين خطأ أخلاقي مستوحى من مرجعية ميتافيزيقية و خطأ أخلاقي مستخلص من الحرية ، لأن الاعتراف بالخطأ هو في نفس الوقت اكتشاف للحرية أي أن تجربتنا المعيشية تقوم في جوهرها على هذا التعارض المستمر بين الخير و الشر ، و تلهّفنا على فعل الخير ليس حجة كافية لكي نحكم نهائيا بأن الشر استخفاف مؤقت بالإرادة التي خارت قواها أثناء مقاومته. فهو بالأحرى من جنسها لأنه فعل مسئول.
ههنا يمكن أن نتحرر من وصاية الخطاب الميتافيزيقي لنتحدث عن لا تناسبية الذات مع ذاتها أو مفهوم اللاعصمة عند ريكور. لنصغ إليه كيف استطاع أن يمارس هذا الانزياح عن ما هو ميتافيزيقي لينشغل بما هو أنثروبولوجي:" عندما لا أفكّر سوى بالله، فإني لا أكتشف في نفسي أي سبب للخطأ أو الإثم ، و لكن بالعودة إلى نفسي تفيدني التجربة بأنني رغم ذلك ، موضوع لما لا نهاية من الأخطاء"3 . إن الشر إذن لا يفسر كحالة إغواء تسلّط على الذات بقدر ما هي إمكانية تصيب وجودنا لمحدودية إرادة الإنسان الخطّاء. باختصار يجب أن نوجّه كل اهتمامنا للماهية الإنسانية لنمتحن هذا القرار الذي قامت عليه مقاربة ريكور و التي تراهن على ما هو أنثروبولوجي و ليس على ما هو ميتافيزيقي.
إن توظيف الأنثروبولوجيا ليس أمرا تختص به فلسفة ريكور بل سبق و أن ضبطنا القواعد العملية لهذا الاستدلال الفلسفي مع هوبز الذي حدد شروط إمكان الفلسفة بالانثروبولوجيا و بالتالي القطع مع الترسّبات الميتافيزيقية. غير أن اختزال تعريف الإنسان ضمن بنية الانفعالات عند هوبز لا يخلو من التباس قد يجرّنا إلى الزلل. فإذا كان وجود الشر من منظور هوبز يتسم بطابع وثوقي يتراءى من خلال ذئبوية الإنسان ليقدم لنا ضربا من التجانس الماهوي للذات ، فإن ريكور سيقوّض ذلك بابتكار مفهوم اللاعصمة أو الهشاشة التكوينية التي تحيل إلى لا تناسبية الذات مع ذاتها التي تشكو من التمزق الداخلي الذي يعتريها ، فلا أحد يكون ذاتا من خلال تمايزه مع الغير بل في اندماجه مع الغيرية و ليس للإنسان أن يصل إلى هذه الغاية إلا عبر هذا التناقض المحايث بوصفه مصدر كل وجود. فثمة ضرب من الاتصال بين الخير و الشر في تشكيل الكينونة؛ و لعل وجاهة هذا الطرح الذي قدمه ريكور تكمن في منهجية تعقّل الحرية التي تأخذ على عاتقها مسؤولية تعليل وجود الشر كمآل ذو طبيعة إنسانية. و من أجل توظيف هذا المدخل الفلسفي للتعرف على الأساس البنيوي للمكوّن للجريمة و الذي لا نكاد حتى اليوم نحصره علميا ، يمكننا فهم بواعث السلوك الإجرامي من مبدأ المتعة . بمعنى آخر كل إنسان مسئول عن ما يختاره من سلوك لنيل متعة ما و للسبب ذاته فهو مسئول عن ما يمكن أن يلحقه من ضرر و ألم لغيره . و لما كان الشر يستمد سلطته من الحرية ، فإنه حيّ فينا . و إذا كان الشر الأخلاقي الميتافيزيقي يكمن في مخالفة أوامر واجب الوجود بلغة ابن سينا ، فإن الشر المعنوي يكتسي منحا إنسانيا.إنه يتنزل في صميم التجربة الإنسانية التي تلحق فيها الذات أذى لذات أخرى. هذا الطرح يكشف عن صعوبة تبرير مصدر الشر بوصفه فعل إرادي ينطوي على قصدية للنيل من حرية الآخر . قد يعترض أحدنا فيقول : إن الشر ناتج عن الجهل. لنصغ إلى البار كامو كيف يحدد سبب الشر:" إن الشر الذي في العالم غالبا ما يتأتّى من الجهل ، و يمكن للإرادة الطيّبة أن تحدث من الأضرار قدر ما يحدثه الخبث إن لم تكن مستنيرة بالعقل".
لنسلّم في الوقت الحاضر أن الأضرار التي تتولّد من الفعل مردّها غياب العقل المستنير، و ربما كان أبلغ تفسير يفرض نفسه كصيغة منطقيّة تستوحى من هذه المطارحة ، أن الشر نقص في الوعي و غياب القدرة على تمثّل الخير بوصفه غاية قصوى للوجود الإنساني. في الواقع إننا هنا حين نستخدم مفهوم الجهل يحضرنا التصور الأفلاطوني المخالف لتصوّرنا الفلسفي الذي يستند إلى معرفة أنثروبولوجية للشر بوصفه عمل حر نابع من صميم الإرادة. فالصانع المباشر للشر هو الإنسان لذلك ينبغي النظر اليه من زاوية تبرز بعده البنيوي. و هذا يتطلّب التمييز بين دلالتين للحرية: حرية لا عقلية تحمل في جوّانيتها إمكانية تدمير ذاتها و حرية عقلية متضامنة مع الخير و الحقيقة غير أنها ربيبة الضرورة. يبقول نقولاي بيرديائيف :" تنطوي الحرية اللاعقلية على إمكانية الفوضى... إنها لا تختار لنفسها شيئا ، فهي خاملة ، لا مبالية بالحقيقة و الخير"4 ؛ إنها تجرّ الإنسان إلى عبودية الأهواء.معنى ذلك أن عالمنا هو عالم الثنائية : الحرية و العبودية ، المعرفة و الجهل و الخير و الشر...
هذا اللاتناسب يرسم بعدا أنطولوجيا جديدا للإنسان كحيز يخترقه خليط من المتناقضات بين الحياة كما هي و الحياة كما ينبغي أن تعاش. من هنا نفهم مبرر التوصيف الذي سحبه ريكور على الإنسان بوصفه كائنا خطاء": القول بأن الإنسان خطّاء يعني أن المحدودية الخاصة بالكائن الذي لا يتطابق مع نفسه ، هي الضعف الأصلي الذي ينبثق منه الشر".
هكذا أضحت الذات ساحة لدراما تشتمل على تنوّع يصل حدّ التمزّق الداخلي لتغدو الغيرية ليست ما يميّز الأنا عن الآخر بقدر ما هي الفارق بين الأنا و الأنا.
يمكن بناء على ما تقدّم أن نستخلص النتائج التالية:
ــ إن الكشف عن ماهية الشر لا يمكن أن تتم عن طريق التأمل المجرد و إنما بالغوص في كينونة الإنسان.
ـــ إن كل ظاهرة لها نسقها التاريخي الذي يكسبها خصوصيتها و أن الشر هو جماع ما أنتجه الإنسان على هذا الكوكب.
ـــ إن ظاهرة الشر لا تدرس من الناحية الأنثروبولوجية إلا من في إطار الثنائية الكامنة في جوّانية الذات.
ـــ إن السمات الأخلاقية التي تتحكّم في التوجّهات السلوكية ، لا تؤدّي ــ على أهميتهاـ إلى حسم جوهر مشكلة الشر.
ـــ إن لا تناسبية الذات تكشف صعوبة التوفيق بين الكائن الواقعي بنقصه و هشاشته و الكائن المثالي بسموّه و تعالي همّته . يقول كاقين رايلي:" الناس متعاونون و متنافسون في الوقت ذاته ، ودودون و عدوانيون، مسالمون و محبون للحرب على حد السواء. و السؤال عما إذا كان الناس بطبيعتهم محبين للسلام أو الحرب هو أشبه بالسؤال عما إذا كانوا بطبيعتهم أغبياء أو أذكياء"5 .
إن هذه الوجدانية تتيح لنا أن نتعرّف على الخطأ المبدئي الذي ينشأ منه الشر ، فالذات الضامئة للحرية تكتشف أنها حين تحب أو تتألم إنما ترسم من خلال أفعالها ، تاريخ أخطائها .إن هذا الحوار الجوّاني يدفعها إلى نقطة التقاطع الحادة بين المثالية و الواقعية.و لو أختبرنا معنى التقاطع الذي نقصده ربما توجّب علينا أن نترصّد ارهاصات الإيقاع الجدلي بين ما هو انثروبولوجي الذي يتسم بطابعه الأداتي الناجز لفهم الظاهرة الإجرامية و ما هو قيمي أخلاقي يتغلغل بإيحاءاته البلاغية في ثنايا الذات العميقة.
المراجع:
1 ــ ريجيس دوبريه، نقد العقل السياسي ، ترجمة عفيف دمشقية، ص 33 . دار الآداب.
2 ــ فلسفة الإرادة ،الإنسان الخطاء ، ترجمة عدنان نجيب الدين، ص 20 . المركز الثقافي العربي.
3 ــ نفس المرجع، ص 26
4 – Freedom and sprit 1935
5 ــ كاقين رايلي ، الغرب و العالم ، الفصل الخامس : الحرب و السلام ص 123 ، ترجمة عبد الوهاب المسيري و هدى عبد السميع حجازي ،عالم المعرفة.

























































































































































#رضا_لاغة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحرب: أزمة قيم أم أنثروبولوجيا؟
- التصوف تحت مجهر علم النفس خال ينمّ عن عقدة بلوغ أوج القمّة
- الإرهاب و الثورة : أزمة عصر أم ميلاد عصر جديد؟
- نوابض خفيّة للصورة


المزيد.....




- رمى المقص من يده وركض خارجًا.. حلاق ينقذ طفلة صغيرة من الدهس ...
- مسيّرة للأمن الإيراني تقتل إرهابيين في ضواحي زاهدان
- الجيش الأمريكي يبدأ بناء رصيف بحري قبالة غزة لتوفير المساعدا ...
- إصابة شائعة.. كل ما تحتاج معرفته عن تمزق الرباط الصليبي
- إنفوغراف.. خارطة الجامعات الأميركية المناصرة لفلسطين
- مصر.. ساويرس يرد على مهاجمة سعد الدين الشاذلي وخلافه مع السا ...
- تصريحات لواء بالجيش المصري تثير اهتمام الإسرائيليين
- سيدني.. اتهامات للشرطة بازدواجية المعايير في تعاملها مع حادث ...
- ليبيا وإثيوبيا تبحثان استئناف تعاونهما بعد انقطاع استمر 20 ع ...
- بحضور كيم جونغ أون.. احتفالات بيوم الجيش في كوريا الشمالية ع ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رضا لاغة - الطريق من الجريمة إلى الأنثروبولوجيا