أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - من كافكا إلى غوركي















المزيد.....

من كافكا إلى غوركي


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 4741 - 2015 / 3 / 7 - 01:54
المحور: الادب والفن
    


من كافكا إلى غوركي

الضاحكة في الطابق الأسفل، وكأنها في مجرة كونية أخرى، هي من انتشلته من عزلته في غرفة داخلية معتمة. كانت تنفتح على صالة الضيوف الواسعة، المضيئة بنوافذها الثلاث، قبل أن يقطعها أبوه بحاجزٍ خشبي حجب الضوء والهواء، بعدما عجز رغم كل توسلاته وضربه وصراخه وشكواه في إقناع أمه بمشاركته السرير. تركته وحيدا بمواجهة أشجار الحديقة والضوء، يحتدم بشهوته وصراخه، ويعب الخمرة منذُ بكرة الصباح. وتركه وحيدا في غرفة صارت مثل بئر. تستحيل إلى ليل دامس في عزّ الظهيرة حال إطفاء النور. ليل يضج بلوعة أبيه السكران، ونواحه الخافت، المبرح، كلما أستيقظ من نومه المضطرب. كان يجد في العتمة التي سقط فيها مجبراً توازناً، فحينما يسقط أباه في النوم، ويستحكم الصمت في الظلام يشعر بغبطة عميقة لبروكه ساكناً على سريره المجاور لأدراج مكتبته الشاغلة جدار الغرفة الأيمن. يطوف في غبطة العزلة الواضحة، لا يفكر في شيء. لحظة متأججة في غور السكون يقف فيها خارج الزمن.. لا ماضٍ.. لا حاضرٍ.. لا مستقبل، يتوهج فيها منطلقاً إلى أفق غامض بعيد.. بعيد. مسافة قصيرة يتخلص فيها من كل ألم وإحباط، من كل تبعات الحاضر، مسافة وجد بها سعادة قصوى، تتحطم في استيقاظ والده المتأجج خلف الحاجز الخشبي، وضجة تحضيره لكأس خمرة جديد. أصبح يطيل المكوث في الغرفة، بانتظار الوصول، إلى شعور الغبطة الغامضة ذاك، معرضاً عن الشارع والمقاهي والناس الضاجة في شؤون الدنيا والسياسة. كان يخفي نزعته العدمية اليائسة من الكل.. المتشائمة من غائية الوجود البشري، التي لا يجد فيها سوى الشر ونزعة متأصلة في القتل والعنف، يخفي كل ذلك في حواراته مع أصدقائه الشيوعيين باتخاذ مواقف متطرفة من تحالفهم مع سلطة البعث الحاكمة. هو أصلاً يضيق ذرعاً بكل نظام وترتيب.. بكل سلطة، تائقاً إلى وضع حر، سائب ليس له وجود إلا في نفسه. كان يتعكز على جيفارا، وهوشي منه، والأمام علي بن أبي طالب ساخراً من خنوعهم لجلاد المستقبل القريب. وكان بينه وبين نفسه، يسخر من جمله الثورية، التي كانت ترفع من قدره وقيمته أمامهم. كان يحس بذلك، من نظرات الاهتمام المصوبة نحوه، وذلك الإصغاء العميق لما يفوه بهِ من أراء، حفظها من باطن الكتب، ومن أفواه أصدقائه الشعراء والأدباء اليساريين، الذين كان يسكر معهم في النوادي والبيوت. سيكتشف لاحقاً وبعد مخاضات عسيرة بأنهم لا يختلفون بمقدار ذعرهم وهزيمتهم الداخلية عنه قيد شعره، لا بل يفوقونه أضعاف.. أضعاف. وجد بالعزلة أيضاً وقاية من مشاعر عداء تحتدم بداخله نحو الكل. مشاعر غريبة أخذت تجتاحه في كل الأمكنة، في مكان عمله، المقهى، النادي، الشارع، ووسط العائلة فقد كان ينفصل عما يتحدثون به، محدقاً بوجوه أزواج أخواته الثلاثة عند زيارتهم. يأسره ذقن النسيب المحلوق جيداً، الناعم، المعطر، القريب. يغور في سطحه المهتز عند الكلام، فيجد نفسه على وشك البصاق على نصاعة الخد المتورد، كان يجد عناءً مضنياً في بلع البصاق الذي جمعه على لسانه طوال فترة التحديق. ولا يشغله عن الرغبة تلك شيء، فيحاول التركيز على ما يتحدثون به، لكن بعد جملتين، يجد نفسه متولهاً من جديد بالخد الذي يجده معداً بالحلاقة والعطور للصفع والبصاق. ينهض بغتة وسط ذهول الحضور، يغادر البيت هارباً إلى الحقول المجاورة، يظل سائراً حتى بساتين القرى البعيدة، ولا يعود إلا والمساء يهبط على المدينة. يتسلل إلى بيت صديقه الشاعر، يسر له برغبته الملحة تلك في البصاق وصفع خدود الأقرباء.. مدير دائرته.. جليس في مقهى.. شرطي في الشارع. يسأل صديقه:
ـ هل تحولتُ إلى كلبٍ مسعور؟!.
فيكشف له صديقه عن مشاعرٍ مشابهة، أصابته في السجن عندما أعتقل في 1963 لسرقته مطبعة مدرسة وطبع بيانات تحرض ضد السلطة وتوزيعها.
ـ هنالك هذا الشعور يخنقك خنقاً وأنت وسط رفاقك، فتجتاحك الرغبة في أن تبصق وتصفع الغالبية الغبية المرددة مثل الببغاء ما يقوله مسئولٌ تافه. كنتُ أخمد رأسي بمنشفة طوال أيام. أو أعتزل في المرافق الصحية وأظل أبصق.. وأبصق على الجدران حتى تهدئ نفسي. أحمد ربك.. لست سجيناً، بل تعيش في غرفة لوحدك، وتستطيع الذهاب إلى أي مكان.
وبعد عدة كؤوس يقول له:
ـ هيا بنا!.
ـ إلى أين؟.. لا رغبة لي برؤية أي كائن!.
ـ هيا.. هيا.. إلى حيث نتداوى!.
يخرجان إلى ظاهر المدينة.. وهنالك وسط الظلام والخلاء يصرخان، ويعفطان باصقين ما طاب لهما، وهما يعددان أسماء من يبصقان عليهم وسط بهجة عارمة وضحك هستيري. أصبح هذا تقليداً جديداً يجد به؛ غبطة تشبه غبطة ظلام الغرفة حينما يسكن ويحلق نحو النقطة الغامضة التي تُمْحى فيها الأزمنة والأعمار.
بين الغرفة ومكان العمل في دائرة زراعية نائية وبيت صديقه والخمرة ليلاً كان يقضي يومه، وما عدا ذلك يبحر في بطون الكتب والروايات. يجد في بشرها، ومدنها، وحقولها، وشؤونها أمكنة عيش بديلة، سهلة، يلج عالمها ما أن يفتح صفحات كتاب في خلوة غرفته. تلك العزلة المدروسة خففت كثيراً من سخطه وثورته على وضعه البشري الهش، والمركب بطريقة لا تمت بصله إلى ما يطمح إليه. ومما زاد من بؤس وجوده، هو فشله في كل قصة حب مرَّ بها، فاللواتي كان يتعلق بهن أجمل الجميلات، وكن أما مشغولات بغيره أو يجبرنَّ على الزواج بعد أشهر. مما دفعه إلى الوصول في لحظة غبطة إلى قناعة بأن الحياة رحلة عبثية.. لا معنى لها، فيصرخ بلذة وسط العتمة الرطبة:
ـ خرط.. خرط.. الحياة خرط!.
وصارت هذه الجملة تعويذته السرية.
أصبحتْ علاقته بأهله واهية، يبكر إلى عمله، وعند عودته إلى البيت يقضي وقته بالقراءة في غرفته المغلقة. يخرج في الغروب ولا يعود إلا في ساعة متأخرة من الليل مخموراً.
نبرتها القادمة من الغرفة المجاورة، أيقظته من حيرة المتحول إلى صرصارٍ منزوٍ بركن منسي في بيت أهله، وجعلته ينهض مغادراً أمكنة كافكا الخانقة، ملقياً بالكتاب من بين يديه. ويخطو نحو الباب الخشبي المسدود الفاصل، مفتوناً.
ـ من تكون؟.
أحس بالصوت الناعم يلملم أشتاته المبعثرة، وهو يلصق أذنه بثقب المفتاح مخدراً بالنبرة دون أن يفهم ما تنطق بهِ.
ـ ما هذا الصوت الملائكي يا إلهي؟!.
دور مقبض الباب وسحبها قليلا.. قليلا. ظهرت قليلا.. قليلا جالسة على الأريكة قبالته تماما؛ سمراء.. تلعاء تشخص نحوه بعينين واسعتين جريئتين لمس قاعيهما وهو يلقي التحية. تعانقت العيون واحتدمت. شعر منذ تلك اللحظة أنه يلج في أحشائها، وكأنه وجد ما كان يسعى إليه في بطون الروايات والليالي والأحلام.
التحية كانت مدخلاً أفضي به إلى عالمٍ مختلف تماماً. بعد دقائق اقتحمت عزلته، وبادلته حديثاً عن الكتب واستعارت بعضها. كان طوال الحديث، لا يجرؤ على التحديق المباشر في عينيها اللتين كانتا تلتهمانه بشغف. أدركا لحظتها أنهما وقعا في شرك الغرام. يومان أو ثلاثة فقط، وكانت خلوتهما الأولى على سطح الدار. كان المساء قد هبط منذُ حين. وكانت تجلس على كرسي، تفصل بينهما طاولة صغيرة. لم يجرؤ على لمسها، لا بل كان يزوغ بعينيه من عينيها المترعتين بالرغبةً.
ـ من أين يجيء بالجرأة وهو محشودٌ بالحرمان والأسرار، وبما تخلفه ممارسة العادة السرية يومياً من مشاعر دونية مركبة؟!.
خاض في كل ما هو عامٍ من الحديث، بعد أن أستشف شدة تعلقها بالسياسة والدفاع عن حرية المرأة. وعلم بأنها قرأت كل مؤلفات - نوال السعداوي - . لم يجرؤ على تقبيلها، ساعة مغادرتها في عتمة السلم رغم أنها أدنت وجهها منه حد أن أنفاسها اللاهثة أرعشته، فأبعد وجهه ماداً كفه المبسوطة. أطبقت بأصابعها الناعمة الطويلة، وضغطت كفه ضغطاً شديداً. عندما غيبها بئر السلم لعن ارتباكه وخجله صارخاً:
ـ وين الوجودية.. وكولن ولسن.. والجرأة.. والحياة خرط.
وعفط في مساء السطح ساخراً من نفسه. في نفس المساء أخبرته أخته بشكواها من برودته وعدم تقبيلها. حضّرَ فراشاً على السطح في اليوم التالي، وعندما ظهرت من السلالم ووجدته ينتظر على الفراش ابتهجت، وهبطت جواره. لم يُطل الحديث، بل ارتمى نحوها كالمجنون. ومن يومها أرته طعماً فريداً للجسد والروح.. أرته حناناً مختلفاً.. حنو جسدٍ غض جريء، راح يتفتح بالمس والعصر واللهاث، ويعب من الحبيب في خلوة الغرفة المظلمة العابقة برائحة الكتب. أي فحولة جعلها الحرمان شرسةً استيقظت في جسده الذي أخمل اليأس والعادة السرية مناحيه. سطعت في داخله وأخذته إلى أمكنة في الروح لا ألذ منها. أصبح يشم رائحتها البرية في كل ما يحيط به. في الكتب، السرير، القمصان، هواء الغرفة، الجدران وبشرته. الخلوة عادت شبه يومية، تطورت إلى عري غير كامل. وتداخل عصي، صارخ، لم يهتز إلا لفترة وجيزة، وهي تكتشف بعد إطلاق سراحه كونه مجرد يساري لا ارتباط له بالحزب الشيوعي، ومحاولتها الفاشلة في الاختفاء ببغداد، التي عادت منها إلى أحضانه بلهفة أشد، وجنون أعظم. وقتها أصبح لا يهمه كل ما يجري. نفض عنه غبار الليالي وذلك العالم السري الذي نسجه في حلكة الحرمان. خاض تجارب لم يتخيل يوماً أنه سوف يخوضها، لم يخضها فحسب بل خرج منها حياً. دفعه سطوعها المبين إلى التطرف في كل شيء في المواقف والأخلاق.. ولمعني التطرف هذه المرة غير معناه قبلها. خاض المخاطر كي يثبت لنفسه ولها أنه جدير بقصة الغرام. راح يتسلل خفيةً إلى العاصمة، ليلتقي بأخيه وأصدقائه المختفين. يساعدهم بتوفير بعض المستلزمات وقت الضيق؛ مكان منام ليوم أو أثنين، قراءة صحيفة سرية، تزويدهم بمعلومات ووثائق، بطاقات شخصية مزورة، دفاتر خدمة صالحة. كان يظن أنه أكتشف جانب الشجاعة في نفسه.. فغرف من ملذات مركبة.. لذة خلوة الحبيب.. لذة ذهولها وهو يسرُّ لها عما يقوم به في سفراته المنتظمة إلى بغداد رغم سوقه للجيش عام 1980 كجندي أحتياط.. لذة المخاطرة.. لذة وجوه المختفين الممتنين لفعله.. لذة تجليها في الفراش، واتقادها بعد سماع أخبارهم من شفتيه الدانيتين من شفتيها.. لذة الشعور بالزهو وأحترم الذات التي كانت تتأرجح على حافة المَسْخِ. إلى أن أخُتُطِفَ ليلاً من بار في شارع أبي نؤاس في يوم الجمعة 6ـ6ـ1980. كان وصديقة السكير بصحبة مختفٍ، يعب الزحلاوي مأخوذاً بشجاعة ذو النظرات الطبية، الضاوي الجسم، الناعم البشرة، المدورعينيه الواسعتين بحذر في وجوه رواد البار. كان يحس كأنه في باطن رواية من روايات الكفاح السياسي السري.. في باطن أمكنة ـ قدر الإنسان ـ لمالرو، ما ألذ ذلك الإحساس وهو يجالس هذا المقدام الذي لا يهاب أجهزة الدولة الأمنية المتناسلة، أمن، مخابرات، استخبارات، أمن خاص، شرطة إجرام، شرطة عسكرية، شرطة محلية، شرطة نجدة، جيش شعبي، أمن قومي، يضاف إلى الحزبين وملايين من المخبرين الصغار الذين يقدمون خدماتهم بالمجان خوفاً أو بالتهديد، الساعين خلفه. ما ألذه والأسئلة تتزاحم في صمته وهو يصغي لكلامه الواثق.. غير المبالي بهم، وبما تضمره اللحظة القادمة.. هل من المعقول أن تخاف السلطة من هذا الإنسان المهذب، خافت النبرة، الذي عرف من سياق الحديث أن أسمه ميثم جواد، من أهالي كربلاء، خريج كلية إدارة واقتصاد، كان موظفاً في بغداد قبل اضطراره إلى الاختفاء بسبب اعتراف مسئوله الحزبي؟!. كانت الأسئلة تعمق من نشوته متخيلاً تقاطيعها الساحرة المأخوذة بمغامرته التي سيقصها غداً لها، فيمعن في أخيلة الخمرة منشغلاً عما يتحدثان به في التحديق برواد البار المنتشرين في الحديقة الخلفية للفندق، الغارقين بالدخان والضجيج، بأشجار الحديقة الشاهقة، بالمصابيح الملونة المنتشرة بين أغصان الأشجار. وبمصابيح فجرية دائرية موضوعة على رؤوس قامات أعمدة خشبية قصيرة، موزعة على ثلاث خطوط مستقيمة، تفصل بين صفوف المناضد والكراسي.
كان يرغب في النوم متخيلاً في مشيته المترنحة؛ وجهها الأسمر اللامع الفتي، لحظة انقضاضهم في مسلك البار الضيق الطويل المؤدي إلى الشارع. ظل يتذكر بوضوح جملة الشاب الضخم الطابق عليه من جهة اليمين وهو يقول:
ـ أخوات القحبة.. مو قتلنه الجوع!.
فأدرك أنهم كانوا في انتظارهم وقتاً طويلاً. تبخرت النشوة ولذة المغامرة، فشعر كأنه ينزلق من حافة العالم نحو المجهول. حاول بما تبقى لديه من قوة التشبث بالعالم المحيط، فدفع دفعة يأس، الشرطيين جوار السيارات الثلاث المنزوية في فرع جانبي، مما سمح للمختفي بفتح باب السيارة الأخر والركض صوب الشارع الرئيسي. كانوا يلقون به فوق مقدمة السيارة وقبل أن ينهال كعب المسدس على فكه، شاهد المختفي يُسقطهُ أرضاً شرطي مرور كان يقف بباب دائرته في زاوية الشارع. استسلم واجداً بمقعد السيارة الوثير فسحةً لاستيعاب ما جرى لهم بشكلٍ خاطف.
ـ شدْ عيونه.. أخ القحبة هذا.
سمع السائق يأمر الجالس جواره على مقعد السيارة الخلفي. كان يتصنع فقدان الوعي:
ـ وين يشوف.. عميته سيدي بالضربة.
كان يقيس المسافة بين البار والباب الحديدية العريضة التي فتحها الحارس المسلح للسيارة المسرعة. عندها أدرك أنه في - الأمن العامة - المكان الذي طالما تخيل ما يجري في أقبيته عند مروره في الحافلة رقم 4 في طريقه إلى الجامعة التكنولوجية لرؤية فتاة تعلقت به وزُوجَتْ بعد أشهر من التعارف قسراً.
أنزلوهم شدو وثاقه وكمموا عينيه بقماشة، قادوهم من أيديهم. شعر بأنهم يهبطون بهم ممر ينزل إلى باطن الأرض. وهنالك أمروهم بالجلوس. راح يرتعش بعنف لا يدري مم.. أمن الرعب أم من تيار هواء الأوركندشن الموضوع تحت مجراه؟!. ظن أنه وحيداً، لكنه سمع حفيف حركة إلى جواره. جاب بأصابعه على جسد الجامعة الحديدية فوجدها تشد يديه إلى شيء مدور صلب، نجح في رفع حافة القماشة فتبين أنه قنينة غاز مليئة، وإلى جواره صديقه. أما ميثم جواد ثالثهما فلم يكن موجوداً. سرح جسده لصق الجدار مما أتاح له رؤية نهاية الممر، والكاميرا المعلقة في الزاوية، المتحركة بين الممر الذي هم فيه،
وممر أخر ينعطف يساراً. أستغل انحراف الكاميرا وندس صاحبه هامساً:
ـ لا أعرفك.. ولا تعرفني..التقينا صدفة في الشارع.
ـ أنا مستقل!
ردَّ صاحبه بصوت بالكاد سمعه.
أذاقوه مرَّ العذاب. عُلِقَ بالمقلوب بما لا يدريه. ضُرِبَ ضرباً مبرحاً على أخمص قدميه العاريين. غرزت أشياء حادة في مؤخرته. نتلوه في خصيتيه فتحة قضيبه.. كان يتلوى متأرجحا في باطن الجحيم..صارخا.. ناحبا، ناكراً علاقته بالسياسة وبصاحبه الحميم، الذي كان بدوره يسمع صراخه وتوسلاته عندما يأتي دوره. تكثف كيانه إلى معنى واحد.. أن يقاوم.. ويقاوم كي يشم الهواء ورائحتها من جديد. ظل يدعو السماء كل لحظة حتى لا ينطق صديقه بما يعرف من أسرار.
كان يقاوم بدافعين، الأول؛ أي كلمة منه تشي بعلاقة مرتبه مع أي من المختفين ستؤدي هذه المرة إلى إعدامه لا محالة، خصوصا بعد إمضائه في أخر اعتقال، قبل عام مادة رقم 200 التي تتضمن أعدام كل من يعمل في حزب عدا حزب البعث العراقي. والثاني؛ الحلم بلقائها ولو لمرة واحدة في غرفته المظلمة وسط خليط من رائحتها البرية ورائحة الكتب.
في تلك اللحظات الشبيهة بمن يودع الحياة، في تلك اللحظة المعلقة بين الوجود وعدمه حضرته في الليلة الثانية عارية بجسدها المحكم في صبه. أكثر كمالاً من أدق لوحة فنية أو تمثال، مصقولة البشرة.. مبهرة. أحاطته فاكة قيد يديه، وكمامة عينيه. فوجد نفسه يغوص في بحرها الطري الفريد، ليستيقظ مبتل الوسط. وظلت تظهر له في كل غفوة. حضورها الباهر جعله يبدي المزيد من العناد إلى أن أدخلوه في مرة إلى مكان غير المكان الذي كان يضرب فيه. أحس بذلك من السجاد الوثير الذي أجلسوه عليه وحسن إضاءة المكان بحيث تمكن عبر القماش رؤية ظلال مكتبٍ كبير يجلس خلفه شخص وجهه غارق في العتمة. وأبتدأ يستجوبه ويكتب. أدراك أنه يقترب من لحظة إطلاق السراح إذا أحسن الإجابة. كان يتمهل في الجواب، مما جعل المحقق يصرخ بغضب، ثم يقوم من مكانه حال جوابه عن سؤال يتعلق باتجاه صديقه السياسي:
- مستقل ما نحب السياسة نحكي بالنسوان ونشرب عرق!
سمع وقع خطاه يقترب، وأتته الرفسة قوية، جعلت خده يلتصق بالسجادة، ثم حذاء المحقق تسحق رأسه بالحذاء وصراخه الحاقد:
ـ اللعنة على روح فهد!*.
فأدرك أن أقواله تطابقت مع أقوال صاحبه. فكرة خلاصه من مجهول تلك الأمكنة خففت من وطأة شعور الذل والحذاء تدوس رأسه. عاد إلى الغرفة الضيقة الجانبية التي مكثوا فيها قرابة الشهر. أزاح عصابة العينين وتفرس في الأجساد الخمسة الهامدة لصق الجدران، على الجدار المقابل أطل من صورة ملونة قديمة وجه أحمد حسن البكر، الرئيس الذي تنازل قبل سنة لصدام حسين. كان صاحبه يجلس جواره هامداً همود الحجر، ممزق القميص همس له:
ـ سنخرج!
ـ..!
تطوطم لاحقاً في ذهنها، وفي أذهان المعارف والمدينة. كان هو نفسه غير مصدقٍ صموده لحظة دفعهم إياه معصوب العينين من سيارة إلى خلاء مظلم بأطراف بغداد. وقتها أحس بتحولٍ فريد في داخله، فمن إنسان هش باح بأسماء رفاقه في أول تجربة وهو بعمر السادسة عشر إلى كائن شديد البأس قاوم ببسالة موصلاً الجلاد إلى اليأس.
يتذكر في جلسته المخذولة على السرير الخاوي. لهفة عناقها في عتمة غرفته، نبضها المسرع، الخارق كل ركن من أنحائه. صوت لهاثها اللافح عنقه وهي تبتعد قليلاً بصدرها عنه مبقيةً على تلاصقهما المحكم بنقطة السرة. صفاء عينيها الناظرتين إليه وكأنه وليٌ من أولياء الله.. ذلك ما جعله يذهب بعيداً.. ليخوض بصحبتها عسير التجربة إلى أن رست بهما الأيام في هذه البقعة النائية على جزيرة تطفو على بحر الشمال البارد، الموحش.
ـــــــــــــــــ
* يوسف سلمان يوسف "فهد" مؤسس الحزب الشيوعي العراقي



#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كّتاب قادسية صدام 9- جاسم الرصيف
- كتاب قادسية صدام 8- الكتابة المضادة.
- كتاب قادسية صدام 8- بثينة الناصري
- كتاب قادسية صدام 6- محمد مزيد
- كتاب قادسية صدام 5- المغني حسين نعمة
- كتاب قادسية صدام خضير عبد الأمير-4-
- كتاب قادسية صدام 3- حنون مجيد
- كتاب قادسية صدام 2- وارد بدر السالم
- أدباء قادسية صدام -1- عبد الخالق الركابي
- -مثل طفل يقفز من الرحم إلى العالم. قلب أبيض. عالم أبيض وصرخة ...
- من حصاد زيارتي إلى العراق الشهر الماضي 12-2014 1- حمود الخيا ...
- بمناسبة صدور -حياة ثقيلة- في القاهرة الأدهم 2015 سلام إبراهي ...
- في مديح المهبل
- لا تموت من وقت
- عددت مساوئي وهي خير من يعرفها
- صائد العصافير
- الواقع كوحدة حية والنص الروائي
- شوقٌ مستحيل
- ليش.. ليش.. ليش؟!
- حصار وتبعثر


المزيد.....




- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟
- “جميع ترددات قنوات النايل سات 2024” أفلام ومسلسلات وبرامج ور ...
- فنانة لبنانية شهيرة تتبرع بفساتينها من أجل فقراء مصر
- بجودة عالية الدقة: تردد قناة روتانا سينما 2024 Rotana Cinema ...
- NEW تردد قناة بطوط للأطفال 2024 العارضة لأحدث أفلام ديزنى ال ...
- فيلم -حرب أهلية- يواصل تصدّر شباك التذاكر الأميركي ويحقق 11 ...
- الجامعة العربية تشهد انطلاق مؤتمر الثقافة الإعلامية والمعلوم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - من كافكا إلى غوركي