أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حياوي المبارك - لواكة لبّي















المزيد.....

لواكة لبّي


عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)


الحوار المتمدن-العدد: 4666 - 2014 / 12 / 19 - 23:29
المحور: الادب والفن
    



كان ياما كان في آخر أيام الألفية الثانية بعد الميلاد، كلبة عرجاء بشارع النهر، كان أسمها (كوادة لبّي) وقد أطلقه عليها المراهقون عمال معامل الأحذية الذين يشمّون عبوات (السيكوتين) الفارغة فتسطرهم وتسكرهم وتقوم بتعطيل أدمغتهم الفتيّة، ليهيموا في درابين الشارع ودهاليزه.

ويبدو أنهم استخدموا الاسم تيمناً ببطلة مسلسل مكسيكي مدبلج كان تلفزيون الشباب يبثه يومياً، الغرض منه آنذاك إطلاق سيل دعايات لأجل المردود المادي، كان بعنوان ... (غودا لوبي).

أما نحن أصحاب المحلات المتجاورين، فقد قمنا بتحوير الاسم الى (لواكة لـُبّي) تجنباً للإحراج أمام الزبائن، وهذه التسمية لم تأتِ أيضاً من فراغ، فقد كانت هذه الكلبة فعلاً ودودة وصدوقة (فرندلي) جداً، باختصار ... لوكيّة !

هذه الأنثى ربما تكون أماً لنصف كلاب شارع النهر السائبة، ففي كل عام تحبل ثلاث مرات، وتولد في كل مرة عدّة جراء.
كانت تنام ليلاً خلسة بجامع (الباجة جي) وتهرب في النهار بحثاً عن الطعام وتجنباً لمطاردة المصلين لها، كونها (نجسة) وغير مرغوب او مرحب بها في مسجد، فتذهب خلفه بجوار مطعم أبو العباس السفري تحت شجرة السدر لتتلقى منه بعض الشحمات حين يشيّش التكة.

أما غدائها فتتلقاه إما منا بما يتيسّر من عظام وفائض الدجاج والسمك حين نتغدى، أو وبشكل دوري وبانتظام من الصائغ المرحوم أبو فراس (ماجد بطي) وكان عبارة عن بقايا كباية وفتات صمون يضعه لها بصحن فافون خصصه لها.
وهي تعرف توقيت غداءه بدقة فتقترب تراقب جدره الصغير بكبايته (يومياً) على نار جهاز اللحيم لبرهة، وبعد إنتهائه من وجبته، يناديها فتذهب بكل ممنونية لصحنها وهي تعرف الوجبة التي تنتظرها.

هذه الكلبة هي الوحيدة الأليفة، فتتجول بين المتبضّعين والزبائن بكل هدوء ورشاقة ومودة (لواكة) دون إثارتهم، بل بالعكس تكسب ودّهم وعطفهم ورفقهم بها، سيما أنها عرجاء وغالباً ما تكون أما حُبلى أو ترضع جراء لا تقوى على العيش دونها.

كانت حدود منطقة (عملياتها) قرب محلات الصاغة وسط الشارع، فمحلنا أنا وأخي صلاح وبجانبنا ابن عمنا أياد المبارك ثم أدور النقاش والعم الراحل أبو سعد (هاني الحلي) وأمامه ولديه رعد ونجم وبجوارهم كريم كوكو وحليم السبتي ونجاح مبارك والجوهرجي عدنان ربيعة وأبنه وسام، وكان من جهة الجامع محل المرحوم ماجد بطي (أبو فراس) والرجل الودود سداوي (أبو سعد) ومحل غاندي برأس الفرع، وما يميز الجميع حُسن العلاقة وعدم إثارة أية مشاكل طيلة سنوات، ويبدو أن ذلك كان نتيجة لطيبة الجميع وانشغالهم برزقهم.
وكان يتواجد بباب الجامع، أبو حنان يبيع (الداطلي) وهو رجل متقاعد بسيط أسمر البشرة أكل فيه الزمن وشرب، ويتواجد خلال فترات الصلاة عدد من المتسولين.

كانت (لواكة لبي) عزيزة على الجميع، وهي كحالنا تُعتبر (أحد) ساكني الشارع الذين كانوا يقضون معظم نهارهم فيه، ولمّا قام فريق من أمانة العاصمة بمطاردة الكلاب السائبة في الشارع، هرع الجميع لأجل حمايتها منهم خوفاً معليها لأنها لن تهرب كالبقية، فأرشدنا الفريق لجادة أخرى، حتى زال خطر (الغارة) المباغتة !

كان يجاور محلاتنا، مدخل ضيق لسوق السعادة، في نهاية هذا السوق الذي تشغِل معظم محلاته ورش الصياغة ومعامل سحب الذهب، ويوجد نجار يضع أكوام من الخشب المستعمل خارج محله، فيوفر بذلك المكان المناسب والمفضل لولاداتها المتتالية ولتربية جِراءها !

عاشت هذه الكلبة المسكينة حياتها البسيطة والسعيدة كلها بين حيطان هذه المنطقة، وماتت موتها (المأساوي) بيننا أيضاً !

في العام 1999 أستأجر شابان محل بيننا، وكان أحدهما يتذمر منها باستمرار، ولم يتقبلها كأحد ساكني المنطقة القدماء، فكان يطردها ويطاردها وينعتها وينهرها، ومع أنها كانت لا تهتم له، إلا أنها آثرت عدم التجوال أو الاقتراب من محله.

وفي عصر آخر يوم من حياتها، خرج الشاب من محله وهو يحمل بالملقط ذيل سمكة نيئ، ناداها فلم تستجب، كرر عليها ولم تكترث به أيضاً لأنها لم تتعود منه إلا الكلام النابي والشتائم، فتَحَمَّلَ الرجل (مَشقة) الذهاب إليها لتقديم الطعام ـ عفواً الطـُعُم ـ فإبتعدتْ عنه لتضعه بموقف حرج أمامنا، وبينما كنا مشدوهين (لعربون) صلْحه معها، دعوناها وشجعناها على قبوله، فليس من اللائق عدم مبالاتها به ... لم يكن يدور بفكرنا ولو للحظة واحدة أنه كان يحمل لها ... العذاب والموت !

× × ×

يعتبر مركب (سيانيد البوتاسيوم) من أشد المواد سُمية على الإطلاق، حتى أن مدرس مادة الكيمياء (اُستاذ عبد الخالق) كان يحذرنا منه في كل مرة ندخل المختبر، ولمّا اكتشفنا بنهاية العام أنه ـ خوفاً علينا ـ كان في الوعاء مجرد (خبطة) طباشير ونشاء، ضحكنا من استغفاله لنا، لكنه برر ذلك بقوله، أنّ غرامات قليلة منه كافية (تكوّم) أي تقتل جمل، حيث أن أول ما يمتصه الجسم، ييقوم بتحليل الدم وفصل البلازما منه خلال دقائق قليلة !

كما وأتذكر أنه عندما كنتُ أعمل بمعمل المرحوم طيب الذكر خليل مال الله للزناجيل، كنا نستخدمه نحن عماله في تحضير طلاء السلاسل عيار 12 الخفيفة جداً والتي يصعب جليها بالنار، كان يراقب أظفارنا ويُحذرنا من خطرهِ بشدة ويكرر (يومياً) مقولته التي درخناها ...
ـ عمّي، لو تدخل ذرّة جوّة أضافركم، تكفي تسممكم لو بعد أسبوع !
× × ×

تناولت المسكينة الطـُعم برغم الشك والريبة التي كانت تُسايرها، ويبدو أن اللقمة لذيذة لدرجة أنها ابتلعتها بشراهة دون أن تمضغها، ثم تشكرتْ للجميع وأرادت أن تمضي بطريقها، لكنها سرعان ما كحّت وعطست واحمرتْ عيناها وازرق أنفها ...
كانت اللقمة المسمومة ظالمة كصاحبها، فأبت أن تخرج من فمها مهما حاولتْ تقيؤها !

كل ما فعله هذا الحيوان المسالم الوديع، أنها زحفت بقرب محل أبو فراس حيث تشعر بالأمان والأطمأنان، فألقتْ نظرة عتاب علينا، وكأنها تُحملنا وزر الجريمة، نظرات دفعتنا أن نوجه الاتهام للشاب، فأنكر، ثم برر، وأخيراً ... أعتذر !

كانت سكرات الموت تتغلب عليها لبرهة، لكنها تصمد وتُصارعها، فتتحرك بعنف ثم رويداً، أدمعت عيناها وهي تلوم الجميع، وأدمعت عيوننا طالبة منها الصفح، ركض الجميع بحثاً عن قنينة حليب، حيث أنه ـ كما قال احد المارة ـ سيُخفف شدة السُميّة، فمَسكها أبو فراس وأرضعها (زقها) شيئاً منه، لكنها ردّته من فمها ومن أنفها.

بعد فترة أغلقت المحلات أبوابها وغادرها معظم أصحابها، وبقي ينتظر عدداً قليلاً ممن ترجى أن تتعافى المسكينة، ومع أني من بين المتبقين لكنني كنت أحد متشائمين أثنين، فاعتراف (الشاب) بأنه دسّ سيانيداً، قد أعادني لمخاطره ومحاذيره، بينما المتشائم الثاني فقد كان أبو فراس، وقف باكياً أمام مشهد احتظارها لا حول له ولا قوة، وقد غطاها بقطعة قماش.

استسلمتْ المسكينة لأمرها بهدوء، مُودّعة صديقها بنظرة محبة وعتاب، ومضى البقية ولم يبقَ سوانا، واختلفنا كيف نتخلص منها، هل نرميها على كوم الأزبال خلف الجامع أم نلقيها بالنهر، لكن كان لأبو فراس رأياً آخر، فقد جاء (بكونية) وطلب أدخالها كي ينقلها بسيارته القريبة لمكان يمكنه دفنها فيه.
× × ×

في صباح اليوم التالي، وبينما قصتها على كل لسان، تأخر شخصان عن موعدهما بفتح محليهما، الشاب وأبو فراس، الأول كان مشغولاً باستحصال (فيزا) لهجرته، والثاني أبو فراس الذي قام فعلاً بدفنها.
إلا أن صبياً جاء أكثر من مرة يسأل عن أبو فراس، وحين وصل تقدم منه ليقول ...
(عمو آني عامل النجار، وأعرف أنك تعتني بـ (كوادة لبي) فجئت أسألك عنها، لأنها مختفية منذ الصباح، وجراءما تعوي عليها).
دخل الرجل محله ليحضر صحنها وبقية قنينة الحليب، وقال للصبي ...
(صب هذا الحليب بالماعون لهن ثم أحتفظ به لأن علينا ملئه يومية حتى يكبرن، خلي بالك عليهن فهن ... آخر العنقود) !
× × ×

ربما حكايتها محزنة، لكنها على أية حال حيوان (لا ماما له ولا دادا) يمكن أن يبكي عليه أو يسأل عنه، فما بالنا بألوف البشر أسوء حكاياتهم وأفضع ...

وعلى رأي المثل القائل (من خلف لن يموت) وككلمة حق تقال، فقد كانت المرحومة أنثى (خصبة) ولم تقصر في الخلفة، حتى أن ذريتها اليوم ربما قد بلغوا ألوف مؤلفة، وأنتشروا في الصوبين ... كرخ ورصافة !

عماد حياوي المبارك ـ شارع النهر ـ 1999



#عماد_حياوي_المبارك (هاشتاغ)       Emad_Hayawi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حكايا وبغايا
- لازوردي
- كالكوووون
- قه شقولي
- فلس ... وسبع كازكيتات
- البعد الرابع حقيقة أم خيال
- الأخوات السبعة
- أعز أولادي
- حمادة سجادة
- طابة
- البوابة الذهبية
- صلاة ... وأنفجارات
- سوق (حانون)
- سالميات
- رقصة الموت
- خروف العيد وخرفان أخرى
- السيد فايف بيرسنت
- واحد سبعة
- حين لا ينفع اليمين !
- سقف العالم


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حياوي المبارك - لواكة لبّي