|
-ثيلوفا- بيان حكائي. - 7-
سعيدي المولودي
الحوار المتمدن-العدد: 4519 - 2014 / 7 / 21 - 22:05
المحور:
الادب والفن
"ثِيلُوفَا" (بيان حكائي)
-7 – أطلقت موجات الحصاد أنفاسها على المناخ الوطني ودبت حرارة الدفء في أعناق الفلاحين والسنابل الأرجوانية، هي عادة تبدأ من الأسافل للأعالي، من السهول للجبال ولا تخطيء الموعد. و"حوسا" الذي عانق طفولته حصادا ،وتعلم أنها حصاد، قرر هذا الموسم كعادة أبناء الجبل أن يسافر في وفد الحصادين إلى البقاع السهلية في انتظار حلول الموسم الجبلي، وانخرط في حشد من الأقران لرحلة الصيف هذه.. أيام وأيام تمر سراعا، كحبات من سراب غرق فيها "حوسا" في خلجان من مروج وحقول متشحة بصفرة لاهبة، يشتت لحظات العمر، والمنجل بين يديه على شاشة حضنه يستأصل السنابل الذاوية المنهوكة، تلتوي على جذورها قبضة "حوسا" القاسية تعصر مناكبها ثم تقذف بها للوراء،ويستأنف القنص بلذة كاظمة كخليفة مولع بالطرائد. يعلو قرص الشمس فتنفذ هوام العرق من بوابات الدم والجسد تتمرغ على شفتيه أشتات أهازيج تزرع سواقي الشوق وجداول من حنين في ثناياه، ويعلو الصوت المقهور ليملأ الأفق شذى ويضوع الصدى.يذرع الخشوع ذرات الزرع وتسمو سمو الحراب حتى طلوع الذكرى. تمضي رقصة الغزوات هادئة ، من يوم لآخر، ومن حقل لآخر، ومن موقع لآخر،وتتضاءل فرص الشغل، فيغلق حوسا وجماعته باب رحلة الصيد، وينام في شموخهم يقطين حنين إلى نقطة الانطلاق والعودة إلى المنبع الحاني. خرج الوفد في ليلة صاخبة من أطراف الدنيا إلى المدينة القريبة من ديارهم، كانت المدينة بأسوارها بأشيائها بأهوائها بنسائها وأهوالها تغري بالحياة والموت معا، قضوا يوما كاملا في مفاتنها وبراريها، أنفقوا بعض ما رزقوا، وذاقوا بعض ما كانوا يكنزون، تداولوا وجبة غذاء فاخرة على قدِّ الحال، ضربوا دورات استكشافية في أغوار المدينة، ضحكوا من شغفهم من عيون المارة ، تراشقوا فج الكلام مع عابرات كن يرتدن الشوارع بين الفينة والأخرى، لبى بعضهم الرغبة الكامنة في خوذة الجماع، فاستطاروا فرحا وشهبا، ونازعتهم الشيطنة على مداخل المدينة ومخارجها، اهتاجت فيهم حمى الوطن المغتال، وتفرقوا في مسالك المدينة كجنود كتيبة عادت للتو من أفران حرب مهجورة.. التف المساء بأغصان المدينة ، تسرب رذاذ خبر معلق في مجاريها المقلوبة، انقطع العابرون عن السير في بداوات الأرصفة والشوارع الجرداء، وارتجت المدينة تحت قيامة الصمت الراكن إلى الفناء.. لم يجد "حوسا" والوفد مفرا من العودة إلى الساحة الجانبية في ساق المدينة حيث تتكدس أكوام بشرية على غير نظام، ليناموا بعض مسافات الليل. تساقط الجميع كتساقط الأجيال على قارعة الوطن، توسدوا خفايا الرقاع والمناجل ثم استسلموا للموت المؤقت، واغتابوا يقظتهم الوحشية. كان الليل جاثما على صدر المدينة، شبحا تائها تتحرك في ظلاله مفاتيح وأوراق وأحزان وأحلام خضراء، غابت المدينة عنها، واستفاق الحشد النائم في أروقة الفراغ على ضربات وركلات أحذية صلبة، وأصوات رعود ووعيد تشتم الأصول والفروع، وتم في رمشة عين مسح الشتات البشري من المكان، محمولا إلى باطن الأرض، تحت سيل من الصفع والسب والقذف والسخرية والإذلال. وقضى ذلك الشتات بقية الليل تحت نير الرعب المستطير، وانتهى الصباح بالاحتفاظ بعشرة رؤوس، تناقل الجميع ملامحهم وأصولهم واحدا واحدا، وكان بينهم "حوسا" الفتى المقهور، المهووس بالندى ومحبة الأرض القاسية. حين امتثل "حوسا" أمامهم وهو لا يكاد يفهم ما جرى، داهموه بأسئلة غامضة ، غائمة، وأحس برعشة من الخوف الرهيب تحاصره، ضاق صدره كسفينة نوح، ولم يقْوَ على الرد أو الجواب. - هل تعرف....؟ - هذا الوجه، لا أعرفه، لا يعرفني. باسم الجراح الظمأى في عروقي، باسم الأرض التي علمتني الحب، باسم الآلهة التي خذلتنا على طول الطريق، باسم البحر الذي لا أراه، والنهر الذي يغمرني، والسماء التي تهرب منا..لا أعرف(ـــه)... - هل أنت منتم إلى نقابة ...؟ - أي نقابة، أي حصاة، أنا لا أفهم، أنا أنتمي إلى جبل مكسور، إلى قبيلة ترتشف موتها البطيء، تمر الغابات من قربي ويسكن الحلم خطوي، وفي كل مرة ألوذ بالضياع ويتسع صدري لكل الآلام... - هل تعرف القراءة والكتابة؟ - ما أنا بقاريء.. لست إلا عابر سبيل معلق على الطريق، أكتب سيرتي العمياء، تغريني هذه الأرض البيداء، تضاريسها الغراء تغويني، ساحر هذا الأفق، المرفأ البعيد. أقرأ تعاستي، وأكتب تاريخ الرماد الذي يغريني بحضن النار.. - عثرنا على هذ المنشور في جيبك، هل تذكره؟. - أي منشور؟ أنا المنشور، غسيل هذه الأزمنة السوداء. أي جيب تعنون؟ أنا جيب المآسي العريقة، ما زلت أحدق في غمرة الظلام، وعمري كأنما يرحل في رغوة النسيان... - ماذا تعرف عن "نقابة الحصادين الشعبية"؟ - لا أعرف من الحصادين غير رفاقي أبناء قبيلتي المتعبين. لا أعرف.. غير أني من عمق هذا الشعب الصارخ، يواصل الزحف نحو السراب.. (وإثر التحريات الدقيقة الكبرى التي قام بها الأخصائيون في الفراسة والوراثة والشراسة، تأكد تبعا للمعطيات المتوقدة أن منظمة تخريبية معادية اكتشفت في مهدها، ذات امتدادات خارجية وتقوم جيوب أجنبية وعميلة على تمويلها، وقف رجالنا الأكفاء على بعض خلاياها الموبوءة في اسم " نقابة الحصادين الشعبية". أمام هذه التحديات صدر قرار أمني وحكومي يبدأ سريان مفعوله من تاريخه، باعتبار المناجل المعقوفة ، النصف دائرية التقليدية المعروفة، سلاحا لا يجوز حمله إلا برخصة استثنائية من الجهات المختصة، وعلى كل المواطنين الذين يوجد في حوزتهم مثل هذا السلاح تسليمه لأقرب مركز سلطة في أجل لا يتعدى ثلاثة أيام، وكل من خالف هذا الإعلام سيعاقب طبقا للقوانين الجاري بها العمل. وتلافيا لكل الادعاءات المغرضة فإن الحكومة الساهرة على رعاية حقوق المواطنين، وتحسبا للنقص الذي سيحدثه القرار في مادة " المناجل"، ستعمل على قدم وساق لصك مناجل جديدة مستقيمة، وذات طابع أصيل ستعرض في السوق عما قريب..) ثلاثة أيام معدنية قضاها "حوسا" تحت السوط، خرج بعدها شاحبا كحي صفيحي، تشتم منه رائحة القسوة العريقة، صادروا منه منجله الرقيق الحاد وتوجوا صدره بأكاليل الرهبة القادمة من مشاهد القيامة. هذا صوتك أيها العشب البري. تقف الآن على مدارج الوطن المر، ولا لوْحَ يلقاك. أيها الوادي القارس ، من أين تأتيك الريح لا تقترب من هاتيك الأنواء أيها الوطن المهجور لا تقتل فينا هذا الهتاف الأبدي إن الصلاة تهذي باسمك، والزكاة تغشى الماء باسمك، والشهادة منك إليك.. فاقترب من النار. في طريق العودة إلى الجبل فكر "حوسا" في أشياء من هذا القبيل وغير هذا القبيل، وانتابته نوبات من انهيار وتوتر وجنون لا يطاق وبدأ يطلق سهام غضبه في كل اتجاه: - تْفُو .. عليكم ، علينا .. عليهم.. لماذا يكتبنا السلف الصالح في سراديب العي، ويمارس علينا هذا اللواط الأبدي.. كفانا كيّاً يا "أولاد سيدي حماد الوثنيين"، لقد طابت منا الجلود.. ومضت سنوات طويلة و"حوسا" يزاول محبته وتعلقه بالأرض، والهواء وشجر الأعالي، وتوفر لأبيه بعض المال فقرر تقديمه كقربان، انتظر "حوسا" بعدها ستين يوما ، لتقذفه الأهواء في ثكنة للقوات المساعدة، تلقى فيها بعض التمارين العسكرية، واستعمال بعض الأسلحة، ويتخرج من عناء التداريب بعد ذلك ليستعرض بداوته وبراءته في الشوارع المهزومة، تتدلى من منطقة حزامه لمشارف الركبتين عصا مطاطية نافرة.. هو والعصا إذ هما في القعر، يتعانقان، يجتمعان، ولا يرتفع الآن سوى العصا وحدها.
سعيدي المولودي
#سعيدي_المولودي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
- البرد والسلام-
-
بكائية للقامة العتيدة
-
رسالة مفتوحة إلى وزير التعليم العالي (2)
-
رسالة مفتوحة إلى وزير التعليم العالي
-
-ثيلوفا-- بيان حكائي- - 6-
-
- ثيلوفا- ( بيان حكائي) -5 -
-
- ثيلوفا- ( بيان حكائي) -4 -
-
إدارة كلية الآداب بمكناس والتحريض على العنف
-
وزارة التعليم العالي: الإجهاز على حق الأساتذة الباحثين في ال
...
-
- مغاربة العراء-
-
- المستنقع الميداني-
-
التعليم العالي : خبطة الإصلاح البيداغوجي الجديد
-
- هولاند بن عبد العزيز-
-
نقد- مفاهم حضارية- في الأدب العربي
-
وزارة التعليم العالي: حافات الارتباك.
-
كيمياء العدوان
-
-ثيلوفا- ( بيان حكائي) -3-
-
-ثيلوفا-.2.
-
-ثيلوفا- (بيان حكائي) 1
-
( الرجيع العربي)
المزيد.....
-
وفاة المنتج المصري وليد مصطفى زوج الفنانة اللبنانية كارول سم
...
-
الشاعرة ومغنية السوبرانوالرائعة :دسهيرادريس ضيفة صالون النجو
...
-
في عيد التلفزيون العراقي... ذاكرة وطن تُبَثّ بالصوت والصورة
-
شارك في -ربيع قرطبة وملوك الطوائف-، ماذا نعرف عن الفنان المغ
...
-
اللغة الروسية في متناول العرب
-
فلسطين تتصدر ترشيحات جوائز النقاد للأفلام العربية في دورتها
...
-
عُمان تعيد رسم المشهد الثقافي والإعلامي للأطفال
-
محمد نبيل بنعبد الله الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية يع
...
-
-الحب والخبز- لآسيا عبد الهادي.. مرآة لحياة الفلسطينيين بعد
...
-
بريطانيا تحقق في تصريحات فرقة -راب- ايرلندية حيّت حماس وحزب
...
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|